«عندما تسقط الأنظمة فإنها تسقط فوق رؤوسنا»
أدلين ميدي، صحافي
إذا كان من معلومة صحيحة جاءت في تقرير منصة BBC الرقمية حول «هل سيعرف المغرب مصير الجزائر والسودان»، فهي أن حكومة سعد الدين العثماني فاقدة للمصداقية.
ففي الوقت الذي يقول فيه المندوب السامي للتخطيط أحمد لحليمي إنه من المرتقب أن تسجل السنة الحالية معدل نمو يقدر بـ2,9 في المائة مقابل 3 في المائة التي سجلها خلال 2018، نرى رئيس الحكومة يشرف على مناقشة أطروحة دكتوراه لطالب جامعي بكلية الآداب في «القراءات القرآنية وأثرها في فهم القرآن الكريم وتدبره».
ولو أن العثماني كان فعلا يفهم القرآن ويتدبره لاستوعب حجم المسؤولية الملقاة على عاتقه وجلس يبحث عن حلول لمشكل تراجع معدل النمو والذي بسببه ستتراجع جميع المؤشرات الأخرى.
أَعتقد أن مشكلة السياسيين بشكل عام هي أنهم لا يقرؤون، وإذا حدث وقرؤوا فإن قراءاتهم لا تتعدى أرقام الإحصائيات التي تتحدث عن صعود أو هبوط شعبيتهم، ومنهم من لا يقرأ سوى أرقام المبالغ التي يحصل عليها كدعم لحزبه أو جمعيته.
ولأنهم لا يقرؤون الكتب والروايات والحوارات العميقة مع المثقفين والفنانين، فإنهم يمرون جنب نصائح مهمة يقدمها هؤلاء المثقفون للسياسيين بالمجان.
ومؤخرا قرأت حوارين مهمين، الأول سبق أن أجرته مجلة ليكسبريس الفرنسية مع الروائي والفنان التشكيلي المغربي ماحي بنبين بمناسبة سنة المغرب بباريس، والثاني أجرته مجلة جون أفريك مؤخرا مع الصحافي والروائي الجزائري كمال داوود، أحد أكثر كتاب الجيل الحديث بالفرنسية انتشارا وتأثيرا، كما لو أردت أن تقول الطاهر بنجلون «ديالنا»، لكن مع شيء من العمق ولا شيء تقريبا من التزلف والتملق لدوائر ومافيات الأدب والصحافة الفرنسية.
الفنان التشكيلي والروائي ماحي بنبين في حواره مع ليكسبريس لخص في جملة واحدة مشكلة البلد عندما أجاب الصحافي الذي سأله بأن الفشل الكبير للمغرب هو التعليم والصحة.
ومن خلال حواره، يرسم بنبين لوحتين متقاطعتين لمغرب الحسن الثاني ومغرب محمد السادس. مغرب تازمامارت الذي عاش فيه كطفل موزعا بين والده الذي كان مؤنسا للحسن الثاني وبين أخيه الأكبر الذي كان معتقلا في تازمامارت الرهيب، ومن جهة أخرى مغرب محمد السادس الذي بمجرد ما اعتلى العرش أطلق مسلسلا لتحديث المغرب من خلال مشاريع كبرى في كل المجالات، معولا على أن المجتمع سيلتحق بالركب وسينخرط في الحداثة من تلقاء نفسه، لكن المجتمع للأسف لم يجار السرعة المطلوبة بسبب طابعه المحافظ، فحدث هناك ما يشبه الهوة بين الطبقات وظهر ذلك جليا في فشل التعليم والصحة.
يحكي بنبين أن أخاه لما أطلق سراحه بعد 18 سنة من الاعتقال في تازمامارت طلب منه أن يأخذه لرؤية والده، رغم أن هذا الأخير كان بمجرد علمه بتورط ابنه في المحاولة الانقلابية على الحسن الثاني تنكر له علانية وقال إنه لم يعد ابنه، فعل ذلك لكي يحافظ على مهنته جنب الملك.
وبمجرد ما التقى الابن عزيز والده غرقا باكيين في أحضان بعضهما البعض، وعندما سأل ماحي أخاه عزيز كيف استطاع أن يغفر ما حدث معه قال له «وحدهم الذين تعلموا ألا يحقدوا خرجوا أحياء من جحيم تازمامارت».
الدرس العميق الذي يمكن استخلاصه من هذا الحوار هو أن خلاص المغرب يكمن في تخلص شعبه وساسته من الحقد لكي ينخرطوا بشكل جماعي في مستقبل مبني على تعليم سليم وتربية خالية من العنف.
أما حوار الصحافي والروائي كمال داوود فتشع بين سطوره جملة ظلت عالقة في ذهني تذكرتها وأنا أقرأ تقرير BBC تقول نسبة إلى الصحافي أدلين ميدي
«عندما تسقط الأنظمة فإنها تسقط فوق رؤوسنا».
يحكي كمال داوود أنه سأل أحد أقطاب النظام هل سيترشح بوتفليقة لولاية خامسة، فقال له «طبعا حتى لو رشحنا حصانا سيصوّتون عليه».
هذا الجواب لوحده يلخص مدى احتقار حزب بوتفليقة لذكاء الناس، ولذلك جاء شعار «يتنحاو كاملين»، الذي يقول عنه كمال داوود إنه شعار لم ينتجه حزب أو مثقف أو سياسي بل هو شعار اخترعه المواطن العادي، وطبعا فالشعار جميل، لكنه للأسف لا يصنع برنامجا سياسيا، يقول كمال داوود، وكم هو محق في ذلك، ودرس عشرين فبراير ما زال ماثلا أمامنا في المغرب، بحيث رأى حملة شعارات الحركة كيف تم الركوب على شعاراتهم من طرف محترفي السياسة والمال وتحول الحراك إلى مصعد أوصل الباحثين عن السلطة إلى مناصبهم، وفِي الأخير طلبوا من الشباب أن يطوي لافتاته ويبتلع شعاراته وأن يعود إلى بيته وإلا سينتهي في السجن.
علينا ألا نستهين بقدرة المتحكمين في مواقع التواصل الاجتماعي على التلاعب بعقول الناس وبالتالي توظيفهم في معارك لا تظهر دوافعها إلا بعد فوات الأوان.
لقد صوت الأمريكيون على ترامب واكتشفوا أنهم كانوا ضحية تلاعب مالك فيسبوك بمعطياتهم الخاصة، وصوت البريطانيون لقرار الخروج من الاتحاد الأوربي واكتشفوا بعد ذلك أن مواقع التواصل الاجتماعي كانت وراء الترويج لهذا القرار الذي بدأت تظهر للبريطانيين سلبياته.
هذا يعني أنه حتى الشعوب المتقدمة تقع ضحية التلاعب بالرأي العام وصناعته حسب الطلب.
إن الحل الوحيد لكي يتجنب المواطن الوقوع ضحية التلاعب بمواقفه هو القراءة. يجب أن يتعلم المغربي البحث عن المعلومات بالقراءة ومقارنة ما يقرأ بالواقع والمنطق للخروج بموقف شخصي بعيدا عن حشو الأدمغة بالأخبار والشعارات الزائفة.
ومن بين الجمل المضيئة في حوار كمال داوود قوله إنه لا يريد سقوطا للدولة وانهيارا للإدارة، بل يريد انهيار النظام وليس انهيار الدولة، لأن الثورة جميلة كرغبة ملحة لكن بعد زوال الشعور بالرغبة تجب ممارسة السياسة.
والحل بنظره يوجد في مساعدة هذا الجيل العتيق، أو من يسمون أنفسهم المجاهدين، (الآباء المؤسسين)، على الرحيل، ووضع الجيل الجديد في السلطة.
بعبارة أوضح يجب إنجاح عملية انتقال السلطة من جيل إلى جيل، ويجب أن يتم ذلك بشكل سلمي لأنه إذا تم القيام بها بطريقة راديكالية سيدفع الشعب الثمن غاليا، وعندها سيمنح الشعب النظام فرصة العودة لفرض النظام بسبب الفوضى التي ستحدث.
وحسب كمال داوود ففشل الثورات في بلدان الربيع العربي أعطاهم في الجزائر درسا، وإذا كان النظام قد رباهم على الخوف فإن الخوف انتهى بإنجاب مولود هو الثورة.
بحسب كمال داوود فالجزائريون استعادوا رايتهم، وجسدهم، ولغتهم، استعادوا الشارع وسقط شعار النظام الذي ظل يقول لهم «أنا هنا من أجل أن ألعب دور الحكم في صراعاتكم أنا هنا لكي أضمن لكم الملبس والمأكل أن أفكر وأقرر مكانكم».
لذلك فما تحتاجه الجزائر هو استقلال جديد، انطلاقة جديدة، لأن الاستقلال الأول تم اختطافه من طرف المقاومين الذين يمثل بوتفليقة آخر نماذجهم، هؤلاء ظلوا يرفضون أن يمر الزمن أو أن تتحقق الديمقراطية أو أن يحدث انتقال للسلطة، بوتفليقة جسد هذه التراجيديا بجسده، فهو ليس له ولد ومعه كانت تعيش الجزائر التجسيد الأسمى لاستحالة التوالد والاستمرار.
بنظر كمال داوود بوتفليقة عاد إلى الجزائر من أجل نفسه فقط، من أجل ضغينته الداخلية والخاصة، ومن أجل رغبة دفينة في الانتقام، فهو لم يكن له رابط مادي لا مع أرض الجزائر ولا مع شعبها، ذات مرة قال إنه ليس هنا من أجل صنع سعادة الجزائريين رغما عنهم وأنه مستعد للعودة إلى بلده حيث كان، مما يعني أنه لا يعتبر الجزائر بلده.
والحل بالنسبة لكمال داوود في الجزائر هو محاكمة بوتفليقة، لأن محاكمته ستكون بداية طَي النظام السابق.
ولتجنب ظهور بوتفليقة جديد يجب تقليص صلاحيات الرئيس وخلق مجلس دستوري مستقل وصحافة مستقلة تراقب اختيار ممثلين حقيقيين للشعب.
أي هناك حاجة لشخص لديه الشجاعة لكي ينظر نحو المستقبل دون أن يقع في فخ المحاكم الشعبية، وأن يصنع مثلما صنع الملك خوان كارلوس عندما مات فرانكو حين عين سياسيا شابا اسمه أدولفو شواريس استطاع إنجاح الانتقال الديمقراطي والخروج من ظلمات الديكتاتورية.