كان والدا شيراك يأخذانه في احتفالات الميلاد نهاية ثلاثينيات القرن الماضي إلى الكنيسة لكي يتلو الترانيم ومنها إلى مقبرة صغيرة وسط تارودانت خاصة بالنصارى طبعا لكي يقف دقيقة تأمل أمام قبور أجداده الذين ماتوا في تارودانت ولم يتسن للعائلة نقل جثامينهم إلى فرنسا في سنوات الأربعينيات انتقل شيراك في ظروف متضاربة إلى فرنسا وكانت تلك المرة الأولى التي يحط فيها الرحال في موطن أجداده وربما لا أحد توقع أن ذلك الطفل الذي كبر في بيت صغير وسط الفلاحين والبسطاء في تارودانت جنوب المغرب سيصبح الرئيس المستقبلي للجمهورية الفرنسية
بعد زيارته الأولى إلى المقبرة بعد سنوات من القطيعة توجه إلى حيث الحي القديم الذي أصبح شبه مهدم بفعل السنين والمطر ودخل في رحلة بحث طويلة عن الجيران المفترضين لعائلته أيام كان يعيش في المغرب وفي الأخير عثر على «رجل» والده المفضل صاحب مهمة صنع الشاي المميز لضيوف العائلة الفرنسيين وجده شيراك مُسنا طاعنا لكنه كان لا يزال قادرا على صناعة الشاي
ابتداء من الآن، سيصير الكرسي الخشبي يتيما في الشتاء المقبل. لا أحد بعد «جاك شيراك» سيتمدد مستمتعا بدفء تارودانت في عزّ البرد داخل أسوار «الغزالة الذهبية».
مات جاك شيراك، السياسي والرئيس الفرنسي الأسبق الذي عاش حياة حافلة بالأحداث، واحتك بأبرز صانعي تاريخ فرنسا الحديث خلال السنوات الخمسين الأخيرة. وبوفاته، يفقد المغرب أحد أقدم العارفين بخبايا العلاقات الدبلوماسية المغربية- الفرنسية.
صديق مشترك
في الحقيقة كان لدى «جاك شيراك» أصدقاء مغاربة كُثر. علاقته بمدينة تارودانت تعود إلى السنوات الأولى من حياته، ولديه أحباء مدفونون في مقبرة عائلية صغيرة هادئة تتوسط المدينة، بالكاد يعرف الناس بوجودها، وجلّ المحليين الذين يتذكرون الفرنسيين الذين كانوا يزورونها في المناسبات الدينية المسيحية، انتقلوا بدورهم إلى دار البقاء.
في 29 نونبر من سنة 1932، فتح جاك «رينيه» شيراك، وهذا اسمه كاملا، عينيه في مصحة بالمقاطعة الخامسة في مدينة باريس، وأمسكته الممرضة الفرنسية لتقدمه إلى بقية أفراد العائلة الفرنسيين الذين كانوا من الجيل الأول للرعايا الفرنسيين الذين قرروا الاستقرار في الجنوب المغربي بعد إخماد الانتفاضات في وجه الفرنسيين مع بداية الثلاثينيات. وهكذا انتقل جاك إلى تارودانت ليقضي بها سنوات طفولته الأولى، قبل أن يعود من جديد إلى فرنسا. سنوات قليلة قضاها هناك، إلا أنها كانت كافية جدا لكي يتعلق بها طيلة حياته، ليس فقط لأن أعز أفراد عائلته دُفنوا تحت ترابها، ولكن لأن وجوها من طفولته بقيت جامدة هناك.
في حي ضيق وسط المدينة العتيقة، تعلم شيراك أن يخطو أولى خطواته. فتحَ عينيه على المغاربة، فقد كان في منزل والده عدد لابأس به من العاملات والعمال المغاربة الذين يشتغلون لصالح عائلة شيراك وجيرانهم. كان يتذكر بوضوح ملامح رجل في منتصف العمر كانت مهمته الوحيدة إعداد الشاي لضيوف العائلة.
كان والدا شيراك يأخذانه في احتفالات الميلاد، نهاية ثلاثينيات القرن الماضي، إلى الكنيسة لكي يتلو الترانيم، ومنها إلى مقبرة صغيرة وسط تارودانت، خاصة بالنصارى طبعا، لكي يقف دقيقة تأمل أمام قبور أجداده الذين ماتوا في تارودانت ولم يتسن للعائلة نقل جثامينهم إلى فرنسا.
في سنوات الأربعينيات، انتقل شيراك في ظروف متضاربة إلى فرنسا. وكانت تلك المرة الأولى التي يحط فيها الرحال في موطن أجداده، وربما لا أحد توقع أن ذلك الطفل الذي كبر في بيت صغير وسط الفلاحين والبسطاء في تارودانت جنوب المغرب، سيصبح الرئيس المستقبلي للجمهورية الفرنسية.
في سنوات الثمانينيات، وعندما كان شيراك في منصب عمدة مدينة باريس، كان يأتي إلى «تارودانت» لإحياء أعياد الميلاد والاحتفال بقداس رأس السنة الميلادية، مستحضرا شريطا طويلا من ذكريات سنوات الطفولة التي قضاها في تارودانت. وبُحكم أنه كان وقتها، أي خلال الثمانينيات، سياسيا فرنسيا بارزا، فإن الملك الراحل الحسن الثاني كان يأمر باستقباله من طرف رجال وزارة الداخلية على عهد إدريس البصري وتخصيص إقامة «الغزالة الذهبية» لكي تكون تحت تصرفه طيلة مدة إقامته في المغرب.
كان الرجل يغادر الغرفة المخصصة له، وينتقل في موكب صغير إلى حيث المقبرة المنسية التي صدرت أوامر بطلائها بالأبيض حتى تزول عنها معالم النسيان، لكي يزور قبور أحبائه وأقاربه المدفونين هناك. رجحت بعض المصادر أن المقبرة تضم قبري جدّي جاك شيراك فيما أكدت مصادر أخرى أن الأمر يتعلق بجده فقط واثنين من أعمامه.
بعد زيارته الأولى إلى المقبرة بعد سنوات من القطيعة، توجه جاك شيراك إلى حيث الحي القديم الذي أصبح شبه مهدم بفعل السنين والمطر. ودخل في رحلة بحث طويلة عن الجيران المفترضين لعائلته أيام كان يعيش في المغرب. وفي الأخير عثر على «رجل» والده المفضل، صاحب مهمة صنع الشاي المميز لضيوف العائلة الفرنسيين. وجده شيراك مُسنا طاعنا، لكنه كان لا يزال قادرا على صناعة الشاي. جلس عمدة باريس القرفصاء، في تواضع شديد بعيدا عن أضواء الكاميرات، وانتظر لدقائق إلى أن أعدّ الشاي. تداول مع الشيخ ذكريات من زمن ثلاثينيات القرن الماضي. ووعد بالعودة.
من تارودانت إلى “الإليزي”
سيكتبون على قبر الرئيس الفرنسي الأسبق، الذي دخلت فرنسا الآن في حداد رسمي على وفاته، أنه عاش من 29 نونبر 1932، وتوفي يوم 26 شتنبر 2019. سبع وثمانون سنة تقريبا كانت طويلة وحافلة بالأحداث والأماكن والذكريات، لكنها كانت أطول من ذلك.
في آخر زيارة سنوية له للمغرب، والتي تتزامن دائما مع احتفالات رأس السنة الميلادية، تناقل المقربون من إقامته في «الغزالة الذهبية» التي خصصها له الملك الراحل الحسن الثاني لكي ينزل بها كلما أراد زيارة تارودانت، ما مفاده أن الرجل لم يعد قادرا على المشي كثيرا، وأنه ربما لن يستطيع في تلك السنة زيارة الكنيسة الصغيرة ومقبرة العائلة، وأنه سيكتفي بالتمدد فوق الكرسي الخشبي وشرب القهوة من الشرفة متأملا الامتداد العجيب لأشجار البرتقال المثمرة حول الإقامة.
أما خبر إصابته بالزهايمر فقد صار واقعا تناقله سكان المدينة القديمة بأسف. الرئيس الفرنسي الأسبق كان يمر بحالات ينسى فيها الجميع، ولا يتذكر الأماكن التي ترسخت في ذهنه منذ سنوات طفولته الأولى بتارودانت، ولم تمحها مشاغل السياسة وصرامة البروتوكول. لقد أصبح الرئيس بذاكرة مؤقتة.
ترعرع شيراك في حي «ولد حدة» الذي هُدمت جل منازله القديمة التي كانت مبنية على الطراز الفرنسي والمغربي أيضا، وقامت مكانه منازل عشوائية وأخرى بقيت مهملة تماما، وهو الأمر الذي كان يحز في نفس شيراك.
عندما أصبح شيراك الابن المدلل للزعيم الفرنسي الراحل «جورج بومبيدو» كان قد وصل فعلا إلى الصف الأول للسياسيين الفرنسيين خلال بداية سبعينيات القرن الماضي. كانت خلفه زوجته التي تزوجها سنة 1956، وهو في قمة «فورانه» السياسي محاولا البحث لنفسه عن ظل وسط الساحة التي تتضارب فيها الأسماء والكفاءات. لم يكن سهلا أبدا الوصول إلى مقدمة الحياة السياسية الفرنسية في تلك الفترة. في سنة 1976 سيؤسس جاك شيراك حزب التجمع من أجل الجمهورية ليكون بذلك قد بدأ مسار الوصول إلى الرئاسيات الفرنسية بعدما صنع لنفسه اسما إلى جانب «بومبيدو» حيث تعرف عليه الفرنسيون كمعارض شرس ثم كعمدة لمدينة باريس منذ سنة 1977. وقتها أصبح اسمه متداولا كثيرا في الصحافة بحكم أنه كان يدخل في سجالات كثيرة مع المعارضة، مدافعا عن حصيلة فترة «جورج بومبيدو»، وكمسير لواحدة من أشهر المدن في العالم.
في سنة 1995، شعر شيراك بأن وقت حصد ثمار شعبيته الكبيرة في الساحة السياسية قد حلّ. وهكذا وضع ترشيحه ليصبح الرجل الأول بعد أن كان الثاني في الصف. ويعلن رغبته في خوض غمار الرئاسيات. حصد شيراك أغلب الأصوات ومر بمبارزة انتخابية شرسة للغاية، لكنه استطاع اجتياز خط النهاية ووصل إلى الإليزي، وفي سنة 2002، أي ثلاث سنوات بعد وفاة الملك الراحل الحسن الثاني الذي كانت لشيراك علاقة مميزة به، جدد الفرنسيون لشيراك ولاية رئاسية أخرى ليستمر رئيسا لفرنسا إلى سنة 2007، ليتقاعد بعدها وتلاحقه تهم جرته إلى المثول أمام المحكمة حيث تابع الفرنسيون أطوار الاستماع لرئيسهم السابق بخصوص قضايا تتعلق بالنفوذ عندما كان رئيسا للجمهورية. لكنه تقاعد بسلام بعد ذلك وابتعد عن الأضواء ليعيش حياة هادئة كان يزور خلالها المغرب بانتظام.
ولم يكن يخفى على الفرنسيين أن شيراك كان «شبه» مغربي بحكم ارتباطه الكبير بالجنوب المغربي، حيث كان يحل في تارودانت وهو رئيس للجمهورية، وكان مواظبا على تفقد الحي القديم الذي نشأ به، وسجل حالات إنسانية كثيرة لمعاقين تعاطف شيراك معهم وخصص لهم إعانات وعمل على تسهيل انتقال بعضهم إلى فرنسا للحصول على العلاج.
حُمّى السبعينيات المجيدة
لن نوفي شيراك حقه إذا لم نتحدث عن معاركه السياسية لسنوات السبعينيات والثمانينيات. فالرجل كان مشاغبا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وجر على معارضيه متاعب كثيرة أمام الرأي العام الفرنسي. لقد كتب عنه مرة إن اليسار يصعب أن يثقوا به لأنه كان يقف مزهوا أمام الكاميرا بشعره الممشوط بعناية إلى الخلف وكأنه يحضر سهرة خاصة برجال الأعمال. والحقيقة أن الرجل كان يتقن لغة «الأرض» أكثر من بقية السياسيين الفرنسيين، وهو ما جعل الزعيم الفرنسي «جورج بومبيدو» يلتقطه خلال عنفوان شبابه ويعلمه أصول الخطابة والتأثير في العامة.
ولحقته معارضة واسعة لطريقة تدبيره لمدينة باريس، لكنه كان يخرج في كل مرة من العاصفة ويبتسم للكاميرا قبل أن يوجه ضرباته لمعارضيه. حتى أن الصحفيين في باريس كانوا يسارعون إلى إخراج مفكراتهم وآلات التسجيل كلما رأوه خارجا من اجتماع لأنهم كانوا يُدركون جيدا أن كلماته سوف تكون موجهة لتصنع الصفحة الأولى من جديد. وهكذا صنع لنفسه صورة عند الفرنسيين، سهل معها وصوله إلى رئاسيات فرنسا مع منتصف التسعينيات.
عودة الابن..
المعلومات التي حصلنا عليها تقول إن شيراك يمتلك عقارات بمنطقة «لاسطاح» التي توجد في أقصى تارودانت بعيدا عن الأحياء السكنية، وكان يبدي في مناسبات كثيرة تعلقه بالمدينة ككل. وأن واحدة من أخوات الرئيس جاك شيراك، تقيم في إقامة خاصة بمنطقة «الزرايب»، ويتداول أنها فضلت الإقامة في تارودانت بشكل دائم، وتلتقي بأخيها شيراك كلما جاء في زيارة إلى المغرب لإحياء فترة احتفالات رأس السنة معا. لكن مكان إقامتها الحالي، تتضارب بشأنه الأقاويل، لأنها تعيش بعيدا عن الأضواء.
وحده صهره، زوج ابنته «كلود» المسمى «فالا بارو» خرج إلى الإعلام أول أمس معلنا نعي صهره «العزيز» ومؤكدا للفرنسيين الأخبار الأولى التي تداولت وفاة رئيس الجمهورية الذي أقنع الفرنسيين بالتصويت له مرتين متتاليتين، ومعه دخلت فرنسا إلى الاتحاد الأوربي، وعارضت غزو العراق وصرّح رئيسها بأنه كان يعارض سياسات أمريكا وإسرائيل في الشرق الأوسط، ورغم أن موقفه ذاك كان مرتبطا باعتبارات أخرى تتعلق بسياق التسعينيات، إلا أن تلك التصريحات، جعلت جاك شيراك أشبه بـ”بطل مؤقت” في الشرق، سرعان ما طوته السياسة.
لا أحد سيجلس في الكرسي مستمتعا بدفء شتاء دجنبر، وسط شتاء تارودانت وبردها القارس. حتى أن حفيف الأشجار، والأزقة الضيقة المتربة ستنعي ابنها القديم الذي لم يُنسه «الإليزي» ولا أضواء برج إيفل، من يكون. لقد كان شيراك فرنسيا على الطريقة المغربية.