كان باحماد يتضايق، حسب ما نقله عنه الكثيرون إذا سمع أحدا ينعت جده بـ«مول أتاي»، وكان يفضل أن يوصف بسيدي أحمد بن مبارك، رغم أنه كان في الأصل من عبيد البخاري، الذين تم اختيارهم أساسا للحجابة وخدمة السلطان بجناحه الخاص داخل القصر الملكي.
ولعل أبرز المراجع التي تحدثت عن سيرة الرجل في التاريخ المغربي، نجد «معلمة المغرب» لصاحبها أحمد التوفيق. يقول: «إن أحمد بن مبارك من عبيد البخاري، سوسي الأصل، برز كوصيف مرموق في عهد السلطان مولاي سليمان، وتدرج في السلم العسكري إلى الرتب السياسية شأنه في ذلك شأن من ظهروا من أهله طيلة قرن من الزمن. كان هو وأبوه مبارك من وصفاء السلطان سيدي محمد بن عبد الله وفوتهما لابنه مولاي سليمان. وتقلد الحجابة والصدارة واستمر في الخدمة مدة تلاثين سنة كان في وقت منها يعرف بـ«مول أتاي»، أي إنه كان من الموظفين الداخليين المقربين. وكان الشاي في ذلك العهد غير معروف إلا لدى الخاصة.. واتسعت مهامه حتى أنه كان لا يبرم أمر إلا بعلمه، ولا يفارق السلطان في سفره».
سر لعنة أصابت وزراء القرن الماضي وحطمت الرقم القياسي في العقوبات الوزارية
قبل أن يولد المجلس الأعلى للحسابات، وقبل أن تولد للدولة أجنحة المراقبة والآليات الدستورية لمتابعة المسؤولين الفاسدين وكشفهم، كان كل شيء يسير في المغرب بطريقة «مخزنية» بالغة التعقيد، لا بد أن نيرانها أصابت بعض «الأبرياء» من تهمة خيانة الدولة.
كانت تهمة الفساد الأبرز في المغرب القديم، تتعلق باستغلال النفوذ الوزاري للتلاعب بالضريبة، وهكذا كان القصر لا يتساهل نهائيا مع هؤلاء الوزراء.
لا بأس أن نُذكر هنا بموضوع وزير مغربي قديم اسمه الحاج المختار. أثرنا قصته في ملف خاص، نُشر على صفحات «الأخبار» سنة 2016، واتصل وقتها أستاذ باحث مباشرة بعد نشر الموضوع كشف أن موضوع رسالة الدكتوراه التي يحضرها في التاريخ، هو هذا الرجل بالذات. لكن وإلى حدود كتابة هذه الأسطر، لم تُكشف بعد أية معلومات لا أكاديميا ولا في الصحافة، تتعلق بجديد عن قصة هذا الرجل، الذي عرفه الأجانب وتداولوا قصته أكثر مما عرفه المغاربة.
وقتها، أوردنا هذه الشهادة: بعض الجواسيس الذين كانوا يأتون إلى المغرب طيلة هذه الفترة، فطنوا بسرعة إلى أن المغرب يعاني من فوضى كبيرة في مجال الضرائب، وهكذا سارعوا إلى خلق صداقات مع بعض المخزنيين، ووصلوا إليهم بسهولة، حتى أن الوزير الحاج المختار كان هدفا لبعض هؤلاء الجواسيس، وكتب أحدهم يقول في مذكرات نادرة تعود لسنة 1901 توجد نسخة منها في أرشيف جامعة كاليفورنيا الأمريكية: «الحاج المختار كان رجلا بدينا، لكنه كان يهتم كثيرا بمظهره. كانت لحيته نظيفة ومصففة بعناية. إذا رأيته من بعيد تظن أنه يغالب النوم، لكنه في الحقيقة كان في كامل يقظته. كل الذين يحيطون به يهابونه. قليل الكلام، وبإشارة واحدة من يده يقف عنده كل موظفي وزارته في انتظار تعليماته. كانت تصله رسائل كل يوم من السلطان شخصيا، يخبره فيها بالحرص على استخلاص الضرائب، لكن يبدو لي أنه لم يكن يحملها على محمل الجد. سألني مرة: سيد جيمس هلاّ أخبرتني كيف تنظمون الضريبة في بلدكم؟ أخبرته أنني مجرد كاتب يهوى السفر واستكشاف المشرق، لكنه لم يصدق أنني لم أكن أعرف أي شيء عن الضرائب في بلدي. لقد جئت من أمريكا سنوات قليلة بعد أن استقر والدي بها، ورغبت في الاستقرار في أوربا لكن لم يحالفني الحظ في العثور على سلالتي، لذلك فضلت استكمال المغامرة التي بدأتها قبل عشر سنوات، وهذا الأمر جعلني مغيبا تماما عن مجريات الأمور.
قلت مرة للحاج المختار، وهذا اللقب حصل عليه لأنه زار المشرق المقدس، إنه يجب عليه أن يعفي الفقراء من أداء الضريبة ويضع رسوما في الموانئ على كل البضائع التي تدخل أو تغادر المغرب، وهكذا سيجني الكثير من الأموال لخزينة الدولة. صمت قليلا وكأنه يدرس الفكرة، وعاد ليقول لي إن الضرائب واجبة على الجميع، والسلطان وحده هو من يأمر باستخلاصها. كانت عيناه مركزتين نحو الأرض كالعادة. استأذنته للانصراف لأن الوقت كان متأخرا جدا».
لم تكن سنة 1880 لتمر هكذا مرور الكرام، فقد تكرست فيها أزمة الضريبة بشكل كبير. كان الأمر شبيها بأيام المولى محمد الرابع، لكنه ازداد سوءا مع آخرين أصبحوا من خدام المخزن. عشرون سنة، كانت هي المدة التي تحتاجها الأمور لتتفاقم أكثر. بدأت الدولة تتجه نحو فرض المزيد من الضرائب، دون أن تواجه النزيف الذي حدث في الضرائب السابقة، رغم التحذيرات التي تلقاها بعض خدام المخزن، خصوصا سنة 1885، وعلى رأسهم الوزير سليمان، حيث أخبره بعض التجار أنه يتم إجبارهم على دفع الضرائب في كل مرة، في حين أن تجارا آخرين لم يكونوا يدفعون قطعة نقدية واحدة للدولة، بل كانوا يُنشئون تجارة أخرى بأموال الضرائب التي لا يدفعونها للضريبة، وهو ما جعل الحاج المختار، وهو الذي كان وزيرا مكلفا بالإشراف على الضريبة وجاء من بعده الوزير غريط خليفة له سنة 1901، يراجع بعض موظفي المخزن، لكنه في الحقيقة لم يقم بأي إجراء لخلق توازن في مداخيل الضرائب، وهو ما جعل الأزمة تتفاقم.
عندما صاح والد محمد الخامس في وزرائه: «عهد السيبة انتهى»
مع المولى يوسف، كان المغرب يسير بسرعة كبيرة نحو إطلاق مؤسسات الدولة الأولى. فرنسا كانت تضع خطة دستورية بعد أن أجهضت منذ بداية القرن، محاولات مغربية لوضع اللبنة الأولى لأول دستور مغربي حالت بيننا وبينه معاهدة الحماية لسنة 1912.
كانت الخطة تقضي بترك نفوذ رجال المخزن على حاله، والتفرغ لإعداد دولة «مدنية» يديرها الفرنسيون ويوقع السلطان على ظهائر قوانين تقترحها فرنسا. وهنا مربط الفرس.
كان بعض الوزراء المغاربة في عهد المولى يوسف، أمثال الحاج المقري، الذي أصبح أهم وزير مغربي رغم أنه قدم من الجزائر إلا أنه تغلب على عائلات مخزنية عريقة في الاستوزار، وأصبح هو سيد المشهد بدون منازع.
بالإضافة إلى مخزنيين كانوا على علاقة وطيدة بالفرنسيين الأوائل، الذين هندسوا الإدارة مع المقيم العام ليوطي.
في الرباط كانت عائلات مثل آل بركاش، وهم ورثة تاريخ كامل من الاستوزار والمسؤوليات داخل الدولة العلوية، من الرباط التي أشرفوا على تسييرها في زمن الأزمات. إلا أن هذه العائلات لم تصمد طويلا في وجه اللعبة الجديدة.
جاء الحاج المقري مرة إلى المولى يوسف، وهي واقعة مذكورة في أرشيف الاستعلامات العامة الفرنسية عن طريق التقارير الرسمية لممثليها الأوائل في المغرب، في سنة 1919 وأخبره أن وزيرا سابقا لدى والده المولى الحسن الأول يتحالف مع بعض الأثرياء المغاربة في مدينة فاس، لكي يعود إلى الوزارة بالقوة وأن يفرض اقتراح اسمه على المولى يوسف لكي يمنحه وزارة يديرها من فاس وليس من الرباط، وأن بعض الأعيان الفاسيين الذين يحترمهم السلطان سوف يقترحون عليه هذا الأمر.
وقتها كتب إليهم المولى يوسف رسالة مخزنية أرسلها مع مبعوث خاص، أكد لهم فيها أنه يرفض استوزار أحد يتم اقتراحه عليه بتلك الطريقة، وأوضح لهم بلغة صارمة أشار إليها التقرير دون أن يُترجم مضمونها إلى الفرنسية، أن عهد «السيبة» قد انتهى باستقرار الحكم بين يديه وأنه لن يسمح بمزيد من إراقة الدماء في سبيل الوصول إلى المناصب المخزنية. واستشهد المولى يوسف بالشريعة الإسلامية، وقال لأثرياء فاس إن الشرع يحرم الذين يستعجلون الميراث بقتل الورثة ويحرمهم من الإرث، وإن قياس الحكم على الوزراء جائز أيضا، ولا بد أنه سوف يحرم الوزراء المستقبليين من الوزارة إن هم استعجلوها أو استعملوا «الدسائس» للوصول إليها.
لا بد أن الوزير الحاج المقري كان سعيدا بهذا الأمر، فمع وفاة المولى يوسف سنة 1927 بشكل مفاجئ، جعله يصبح أقوى وزراء الدولة في عهد المولى يوسف، ولم ينته مساره السياسي إلا عند نفي السلطان خارج المغرب سنة 1953.
عندما كان لدينا وزير اسمه «مول أتاي».. وإشاعة كادت أن تعدمه
كان هذا الرجل الذي اشتهر في عهد المولى سليمان من ركائز القصر الملكي بفاس. اشتهر اسمه لدى الفرنسيين سنة 1817، عندما شارك في اجتماع استقبل فيه المولى سليمان وفدا فرنسيا. وانتبه هؤلاء الفرنسيون إلى أن الرجل الذي يوجد ضمن ممثلي السلطان بل ومرافقيه في سفره، لم يكن في الحقيقة سوى «خادم» سابقا في القصر. وكان ينتمي بالضبط إلى فرقة «أصحاب الأتاي» كما يعرفهم مؤرخو البلاط، الذين شرحوا بالتفصيل وظائف مختلف فرق خدمة سلاطين الدولة العلوية.
وظيفة أصحاب الأتاي، والذين يتزعمهم «مول أتاي»، كانت تتمثل في حراسة والتكلف بكل تجهيزات إعداد الشاي في جلسات السلطان واستقبالاته والمناسبات الدينية، سواء داخل القصر الملكي بمختلف أجنحته، وأيضا في سفريات الملك.
اسمه الحقيقي أحمد بن مبارك، وهو جد الحاجب الملكي «باحماد» الذي اشتهر مع السلطان المولى الحسن الأول، واستطاع إزالة أسرة الجامعي من الوزارة وانتقل من صفة الحاجب إلى الوزير سنة 1894 عندما أصبح الضامن الوحيد لانتقال العرش إلى أصغر أبناء المولى الحسن الأول. وكان باحماد يتضايق، حسب ما نقله عنه الكثيرون إذا سمع أحدا ينعت جده بـ«مول أتاي»، وكان يفضل أن يوصف بسيدي أحمد بن مبارك، رغم أنه كان في الأصل من عبيد البخاري، الذين تم اختيارهم أساسا للحجابة وخدمة السلطان بجناحه الخاص داخل القصر الملكي.
غادر «مول أتاي» الحياة العسكرية التي انتمى إليها بحكم أن أجداده كانوا من عبيد البخاري، ودخل إلى السياسة من باب الخدمة داخل القصر، أو بالأحرى من صفة «الوصيف»، الذي كان من صلاحياته تنظيم استقبالات السلطان للوزراء، ولم يكن أحد ليستطيع الدخول إلى قاعة العرش بدون إذن من الحاجب.
ولعل أبرز المراجع التي تحدثت عن سيرة الرجل في التاريخ المغربي، نجد «معلمة المغرب» لصاحبها أحمد التوفيق. يقول: «إن أحمد بن مبارك من عبيد البخاري، سوسي الأصل، برز كوصيف مرموق في عهد السلطان مولاي سليمان، وتدرج في السلم العسكري إلى الرتب السياسية شأنه في ذلك شأن من ظهروا من أهله طيلة قرن من الزمن. كان هو وأبوه مبارك من وصفاء السلطان سيدي محمد بن عبد الله وفوتهما لابنه مولاي سليمان. وتقلد الحجابة والصدارة واستمر في الخدمة مدة تلاثين سنة، كان في وقت منها يعرف بـ«مول أتاي»، أي إنه كان من الموظفين الداخليين المقربين. وكان الشاي في ذلك العهد غير معروف إلا لدى الخاصة.. واتسعت مهامه حتى إنه كان لا يبرم أمر إلا بعلمه، ولا يفارق السلطان في سفره».
تعرف عليه الفرنسيون كما قلنا لأول مرة سنة 1817، عندما حضر بصفته على رأس الوزارة كصدر أعظم، وهو أرقى لقب وزاري في المغرب، وكان حاضرا أثناء المفاوضات وقتها بشأن بيع القمح المغربي إلى الفرنسيين وهي القضية التي لم يسلط عليها الضوء كثيرا بسبب قدمها، إذ إنها حدثت في عهد المولى سليمان بن محمد بن عبد الله. والمثير أن «مول أتاي» هذا، سبق له توجيه رسائل رسمية إلى عدد من القناصلة الأجانب ممثلي الحكومات الأجنبية في المغرب، خصوصا القنصل الفرنسي الذي استقر لفترة بطنجة، والمثير أنه كان يوقع تلك الرسائل بطابع من القصر الملكي ويلقب نفسه بـ«وصيف المقام العالي بالله»، وليس «الوزير».
لكن واقعة حدثت سنة 1818 كادت أن تودي بمساره كله، وسببها بعض الوزراء الغيورين من مكانته لدى القصر الملكي، وكان يتزعمهم وزير كان يلقب بالدمناتي، رغم أنه لم يكن ينحدر من دمنات، بل كان فاسي الأصل. هذا الوزير الذي توفي بمرض غامض وبطريقة مفاجئة، دبر أمر التخلص من «مول أتاي» كما كان يلقبه سخرية منه ومن أصوله العائلية، ورفع به شكاية إلى السلطان أخبره فيها أن وصيفه أحمد بن مبارك التقى سرا مع مترجم الوفد الفرنسي بشكل سابق واستقبله في داره، وحصل منه على هدايا ثمينة جدا من الفرنسيين مقابل أن يتحكم في المفاوضات لصالحهم، وألا يرفع سقف شروط السلطان لتوقيع الاتفاقية. وهي تهمة مباشرة بالخيانة كان سيوقف على إثرها، لولا أن بعض علماء القرويين أقسموا على المصحف الشريف وأكدوا أن الوزير في تلك الليلة بالذات لم يكن في داره وإنما معهم في حفل ديني دُعي إليه، وهكذا استطاع الخروج من داره التي حبس فيها نفسه أسبوعا مخافة أن يلحق به أي أذى، إلى أن استدعاه السلطان إلى القصر لاستئناف مهامه. وتعرض أيضا لمحاولة قتل في مكناس بعد تلك الواقعة بسنة واحدة، أي سنة 1819، بسبب انهزام جيش الدولة المغربية على يد بعض المتمردين. وبسبب كل المكائد والتربصات التي لاحقته فإنه عندما توفي، أشرف السلطان مولاي سليمان على جنازته وبلغه أن الذين غسّلوا جثمان وصيف القصر لم يجدوا به حتى ثمن الكفن، وأمر السلطان بالتكلف بجنازته وقضى عنه دينا عجز عن تسديده لصاحبه قيد حياته، أي إنه مات فقيرا في النهاية رغم أنه مارس صلاحيات وزارية بين الداخلية والخارجية.
سي عزيز العبدي.. الوزارة قتلت والده والدسائس منعته من دخول القصر
سنة 1907 كان هو شابا طموحا بالكاد يقترب من عقده الرابع، كان لديه عدد من الأصدقاء الأجانب الذين تعرف عليهم بمدينة فاس. كان لديه حلم، جاء من أجله إلى العاصمة السياسية للمملكة، وهو لقاء السلطان شخصيا لكي يعرض عليه خدماته. جاء أساسا بناء على وعد تلقاه بشكل مباشر من وزير الخارجية عبد الكريم بن سليمان، في عهد المولى الحسن الأول، ثم في عهد المولى عبد العزيز أيضا، والذي قلبت وفاته الغامضة كل شيء.
بلغت شهرة عزيز العبدي مداها، عندما صدر اسمه في مقال طويل بصحيفة «التايمز»، والتي تم إحضار بعض أعدادها أساسا من طنجة لكي يطلع عليها السلطان عبد الحفيظ. لكن التقلبات السياسية وقصر مدة حكم المولى عبد الحفيظ لم تساعد العبدي على تحقيق حلم الوزارة، الذي حُرم منه جده رغم أنه بذل كل شيء لكي يصل إليه.
عندما ذكر العبدي في «التايمز»، صدر بعدها كتاب عن المغرب بعنوان «خلف الكواليس مع المولى عبد الحفيظ»، جمعت فيه المقالات المنشورة باللغة الإنجليزية طبعا، وتحدث فيه صاحبه السيد لاورنس، عن عزيز العبدي قائلا: «سي عزيز ينحدر من قبيلة عبدة، واحدة من أقوى قبائل الجنوب المغربي، قريبا من ميناء آسفي.
قبيلة عبدة تنحدر من أصول عربية خالصة، ويعرفون بالخيول، كما أنهم يعرفون بالإضافة إلى قبائل دكالة، بإنتاج الحبوب في البلاد كلها. الرجال الذين ينتمون إلى هاتين القبيلتين مشهورون بقوتهم البدنية، لذلك كان يلجأ إليهم السلطان ليضمهم إلى صفوف المخزن.
قايد عبدة، واسمه موسى بن عمر، عرف بأنه من أقوى الرجال النافذين في المغرب. حتى أن مولاي حفيظ جعله أخيرا وزيرا.
سي عزيز، وهو للإشارة صديق قديم زرته قبل سنوات خلت في منطقة عبدة. عندما زرته كان بيته عبارة عن كومة من الخراب، وشيد جدرانا طويلة من التراب والتبن ليحمي زوجاته وأبنائه وإخوته ليلا. وسبب تحول إقامته إلى خراب، كانت حرب السلطان مولاي عبد العزيز الذي استدعاه رفقة إخوته لخوضها ضد «بوحمارة»، ولما رجع وجد إقامته هدت عن آخرها ونهبت محتوياتها وأسرت عائلته التي كانت تقطن بها، وزج بوالده في السجن».
والده هذا كان قد تلقى وعدا بأن يصبح وزيرا سنة 1900، وهو الوعد الذي قدمه له باحماد، حتى أنه منح له صلاحيات وزير عندما وضع فرقة من الجيش تحت تصرفه بشكل مباشر. لكن الغيرة التي اشتعلت في صدور بعض الوزراء جعلتهم يرتاحون منه بتدبير الانتقام عن طريق أعوان المخزن، بما في ذلك هدم داره وقتل بعض أبنائه. حتى أن هناك بعض الإشارات التاريخية إلى أن الرجل لم يكن يفصل بينه وبين التعيين الرسمي في الوزارة من طرف السلطان سوى ساعات قليلة.
عاد عزيز العبدي إلى ممارسة التجارة بوساطة من بعض الفاسيين، حتى يضمن حظوة في المغرب الجديد (مغرب 1907)، وكان هدفه هو لقاء المولى عبد الحفيظ لكي يمنحه وزارة كترضية عن ثروته التي فقدها بسبب وصول والده إلى الوزارة، في زمن عدم الاستقرار السياسي بالبلاد. لكن ما كاد أن يضمن له مكانا في المجالس الخاصة للسلطان حتى جاءت سنة 1912 التي وقعت فيها معاهدة الحماية، ووصل المولى يوسف إلى السلطة، والذي رفض استوزار أي شخص كانت له علاقات متشعبة برجال الدولة السابقين المغضوب عليهم الذين أذكوا الفتن الداخلية. وهكذا انتهى العبدي، رغم أنه كان من الرجال المخلصين، وكاد اعبابو، صديق المولى يوسف، أن يصفيه جسديا عندما رفع التماسا للقصر يطلب فيه أن يُمنح منصبا مخزنيا مقابل الأموال التي صرفها لكي لا تقوم فتنة أخرى في العاصمة.
عندما كان وزراء الدولة يعاقبون بسبب استخلاص الضرائب
قبل أن تتأسس الدولة العلوية، كانت العادة أن يتولى وزراء السعديين أنفسهم استخلاص الضرائب بتكليف مباشر. مثلما حدث لوزير اسمه حمو بن عمر سنة 1617، أي في آخر عهد السعديين. كان هذا الوزير مكلفا باستخلاص الضرائب من رجال بعض القبائل، لكن وصول أخبار عن بعض تجاوزاته وعدم امتثاله لما طلب منه بالحرف، جعل القصر يصدر أمرا بعقابه، لكن المكلفين أرادوا التخلص منه لكي يصبح منصبه شاغرا فتمادوا في تنفيذ التعليمات وقتلوه وتركوا جثمانه ممددا فوق الأرض.
وفي عهد المولى إسماعيل، أي ما بين 1672 و1727، تكرر السيناريو نفسه بعد تكليف بعض الوزراء باستخلاص الضرائب وفرض النظام في عدد من الجهات المغربية، التي تمردت على المولى إسماعيل عندما كان يبني أسوار مدينة مكناس الشاهقة، وهو ما كلف ميزانية الدولة أموالا طائلة تزامنت مع الجفاف الشديد في بعض الجهات.
أثناء ذلك التمرد كان المولى إسماعيل يرسل بعض الوزراء، لكن كان يتم التخلص منهم من طرف بعض أعوان السلطان عندما كانوا يلمسون منهم خيانة ما للمولى إسماعيل، إذ كان بعض هؤلاء الوزراء أو الشيوخ يتحالفون مع الجهة المتمردة ضد الدولة طمعا في الامتيازات. وهو ما جعل المولى إسماعيل يقرر إرسال أبنائه بشكل مباشر. وقد حدث أن أرسل ابنه المأمون، وهو أحد أشهر أبنائه لكي يؤدب بعض القبائل التي تمردت ضده. لكن الأمور لم تجر دائما كما خطط لها المولى إسماعيل، إذ حدث أن أحد أبنائه تحالف مع بعض قبائل سوس بعد أن رحل أساسا لفرض النظام، فإذا به يعلن من هناك تمرده ضد سلطة والده، فما كان منه إلا أن أرسل إليه أخا له لكي يعود به إلى القصر بعد سحق ذلك التمرد.
أما بخصوص الوزراء، فقد كانت العقوبات الناجمة عن التهاون لا تقل وطأة عن عقوبة الخيانة. فقد كان عهد المولى إسماعيل معروفا بعدم التسامح في أخطاء السلطة. حتى أن «موضة» إنزال العقاب بالوزراء من طرف منافسيهم ظهرت بشكل جلي في عهد المولى إسماعيل، واستمرت إلى حدود سنة 1912. وقد كان اختلاس أموال الضرائب أو الاحتيال أثناء جمعها، أبرز تهمة تسببت في النهايات المأساوية لوزراء الدولة المغاربة.
«الجوامعية» و«المنبهي».. وزراء نجوا من العقاب وماتوا إما منسيين أو مكبلين
قبل سنة 1894، توفي أبرز وزراء أسرة الجامعي الشهيرة وأحرقت منازلهم أو صودرت في مدينة فاس، ومنزل لأحد وزراء الجامعي تحول إلى اسطبل للخيول، انتقاما من سيرة الوزير الذي كان يشرف على ملفات حساسة في عهد المولى الحسن الأول. وسبب ما وصل إليه وزراء الجامعي هو منافسهم الشرس باحماد بن موسى، الذي ورث مهنة الحاجب عن والده، لكنه كان يرغب في توسيع نفوذ العائلة وأراد الوصول إلى الوزارة أيضا، لكنه تجاوزها بكثير بعد ذلك.
الانتقام الذي لحق أسرة وزراء الجامعي، جعل الوزراء الآخرين يضعون أيديهم على قلوبهم، خصوصا منهم الذين كانوا يعلمون أن أداءهم في الوزارات لم يكن مشرفا. لكن انشغال باحماد بأسرة الجامعي، جعل بقية الوزراء يحسون أنهم لا يزالون في مأمن على الأقل.
المثير أن بعض أبناء الجامعي حكم عليهم أن يبقوا في منازلهم كعقوبة بعد إعفائهم مكبلين بالسلاسل، وحدث أن نجح أحدهم في قطع السلسلة واحتفظ بجزء منها في معصمه ورفض كسرها رغم إلحاح بعض أصدقائه، وكان يرد عليهم بالقول إنه يريد أن يبقيها مربوطة إلى معصمه وطلب أن يدفن بها لكي يلقى بها ربه ويخبره ماذا فعل به منافسه على الوزارة.
أما المنبهي، فهو تلميذ باحماد، ووصل إلى السلطة سنة 1900 عندما مات معلمه باحماد.
المنبهي انتقم من عدد من الوزراء وأمر شخصيا بسحب وزير بالخيول وجره من بيته إلى ساحة عامة بفاس، لكي يشاهد الفاسيون كيف أن الوزير المنبهي، وكان وقتها وزير الحرب، يستطيع أن يعاقب وزيرا بتلك الطريقة المهينة. وهو ما جعل الوزراء الآخرين يفهمون الرسالة.
لكنهم رغم ذلك لاحقوه سرا وخططوا للإطاحة به بشكل هادئ. اتهموه في البداية بتلقي الأموال من الإنجليز على عهد إدوارد السابع، لكن الخطة فشلت عندما وصلت إلى علم المنبهي وهو في الباخرة عائدا إلى المغرب، فانتقل سرا إلى القصر وأفشل مخطط الوزراء المتحالفين عليه وانتقم منهم جميعا.
لكن ما سيطيح به هو فشله في احتواء الأوضاع الأمنية سنة 1906، واهتمامه بمشاريعه الخاصة وقصوره التي كان يبنيها في أكثر من مدينة. وصدر قرار إعفائه مع نشوب تمردات وانفلاتات أمنية في عدد من المدن المغربية، لينتقل إلى طنجة ويتقاعد فيها وينفق ثروته التي تبددت مباشرة بعد وفاته، بسبب انتقام بعض الوزراء السابقين من أبنائه.