من بين ما أكدته وثائق أرشيف السفارة الأمريكية في الرباط أن الحسن الثاني عندما كان وليا للعهد قال في اجتماع مع الوزراء إنه لا يريد أبدا أن يسمع في الراديو أمورا لا يعرفها. وكان يقصد أنه يريد أن يطلع على كل التقارير المتعلقة بعمل وزرائه والمشاكل التي تفد إليهم وكل ما يصادفهم من عقبات بدل أن يسمعها في الراديو على شكل أخبار في نشرة الظهيرة أو المسائية.
علاقة ولي العهد بالراديو عندما كان يشرف على تدبير العمل الحكومي، كانت متذبذبة، فقد اقترح عليه مرة صديقه إدريس الشرادي، وهو أحد زملاء الملك في المدرسة المولوية وقضى معه طفولته الأولى وربطتهما علاقة وطيدة خلال الخمسينيات والستينيات، أن يقيم برنامجا لوزرائه بحيث يترددون على الراديو لمناقشة الشأن السياسي وإخبار المغاربة أولا بأول بعمل حكومة ولي العهد حتى يرى المغاربة كيف أن ترأس ولي العهد للحكومة قد أنهى الخلافات الضيقة بين الأحزاب. لكن ولي العهد رفض الفكرة، وفضّل أن تبقى مضامين الاجتماعات الحكومية بعيدة عن الإعلام.
سوف يكون للراديو دور كبير في احتواء الأزمات. مع حكومة عبد الله إبراهيم الذي اضطر لكي يخاطب المغاربة عبر الأثير في حملة نزع سلاح قدماء المقاومة. ثم مع عبد الهادي بوطالب الذي وجد نفسه مذيعا بدوام كامل، وهو يشرح كل مساء للمغاربة مضامين دستور سنة 1962 قبل التصويت عليه.
قصص خفية وراء لازمة: «هنا الرباط»..
روى محمد بن ددوش، أقدم وأكبر موسوعة في تاريخ الإذاعة المغربية، في مذكراته: «حياتي وراء الميكروفون»، قصصا من كواليس ميلاد الإذاعة في المغرب. كان هو الصحافي المغربي الوحيد الذي قام بتغطية إعلامية لمحادثات «إكس ليبان» التي مهدت لعودة الملك الراحل محمد الخامس من المنفى سنة 1955. المفاوضات جرب قبلها بسنة، وكان وقتها الفرنسيون يُشرفون على الإذاعة ويمنحون المغاربة قسما صغيرا خاصا بالبث للمغاربة.
لكن مع بداية الاستقلال كان الملك محمد الخامس مركزا على تأسيس إذاعته الخاصة المغربية بامتياز، وأن يتم استعمال كفاءة وتجربة الأطر المغربية الأولى للعمل على هذا التأسيس.
المعروف أن المهدي المنجرة، وكان وقتها شابا في الخامسة والعشرين، كان من الشباب المغاربة الأوائل الذين اختاروا الانفتاح على اللغة الإنجليزية لتوسيع آفاق الدراسة، بدل تكريس الفرنسية التي لجأ إليها كل أبناء الأعيان وغيرهم من الذين تمكنوا من استكمال دراستهم العليا. ولأن المنجرة تم تقديمه للملك الراحل محمد الخامس كبروفايل استثنائي وسط الشباب وقتها، فقد فكر الملك الراحل في تعيينه على رأس الإذاعة المغربية وتكليفه بإعداد إذاعة ببصمة مغربية على شاكلة إذاعة لندن الموجهة إلى العالم العربي.
وُلدت إذن «هنا الرباط» التي سوف يكون لها ارتباط كبير بمرحلة حكم الملك الراحل محمد الخامس ثم مع الملك الحسن الثاني، إلى أن جاء التلفزيون في مرحلة أخرى ليقاسم الإذاعة السيادة على مهمة «إخبار» المغاربة، التي كانت في كثير من المناسبات «عدم إخبارهم». لكن تجربة الراديو والسلطة، كانت جديرة حقا بالتأمل، خصوصا وأن الوزراء كانوا في كثير من المرات يصبحون مذيعين وإعلاميين، يتولون بأنفسهم مهمة إخبار المغاربة ووضعهم في الصورة، خلال محطات مفصلية من تاريخ المغرب.
مما رواه بن ددوش أيضا أن الملك الراحل كان يأتي إلى الإذاعة بشكل دائم، بل وكان يأتي مصطحبا ابنته الصغيرة الأميرة لالة أمينة، ويدلف باب الإذاعة ويجلس في كرسي لمتابعة النشرات عن قرب، وقد تسبب الأمر مرات كثيرة في ارتباك بعض المذيعين على المباشر، حيث لم يكونوا يتوقعون أن يأتي الملك الراحل شخصيا إلى مقر الإذاعة.
عندما تأسس التلفزيون في ستينيات القرن الماضي، كان التحدي الأول هو عدم توفر المغاربة على أجهزة في المنازل وعدم قدرة السواد الأعظم من المغاربة على اقتنائه. أما الراديو فقد كان قطعة ضرورية داخل المنازل بل وحتى في الخيام ورفيقا لرعاة الأغنام كما كبار المسؤولين.
تطورت «هنا الرباط» لتصبح لازمة مفصلية في عدد من الأزمات الأمنية التي مر بها المغرب. أول دستور للبلاد كان الراديو مهدا لإطلاقه من خلال بث يومي لمضامينه مع شرحها من طرف وزير العدل شخصيا بأمر من الملك الحسن الثاني سنة 1962. وخلال حرب الرمال لعب الراديو المغربي دورا كبيرا في التصدي للمعلومات الكاذبة القادمة من الجزائر، بخصوص خسائر الجيش المغربي. وقبل ذلك، كان الراديو خلال السنتين الأخيرتين من حكم الملك الراحل محمد الخامس الوسيلة الوحيدة لتأطير المغاربة أمنيا للتعامل مع أزمة إخلاء الشوارع من أسلحة المقاومين السابقين.
في مملكة الحسن الثاني.. الأثير كان شديد الحساسية
نقل قدماء العاملين في الإذاعة أن الملك الحسن الثاني كان يتابع الأخبار أولا بأول. وعندما تأسس التلفزيون المغربي كان المحتوى الإعلامي موحدا بين الراديو والتلفزيون. بل إن جهابذة الراديو وخبراء صناعة الأخبار في المغرب، نُقلوا لكي يعملوا على إطلاق النشرات الإخبارية في الإذاعة، وكان محمد بن ددوش، الذي راكم تجربة كبيرة في الراديو مع الفرنسيين، أول من تم استدعاؤهم لتأسيس خلية الأخبار للتلفزيون.
هؤلاء كانوا يعرفون أن الملك الراحل كان يحب أن يسمع الموسيقى التي يحب على أمواج الراديو وهو في سيارته أثناء جولاته التفقدية في الرباط والدار البيضاء. وأنه استدعى في عدد من المناسبات مذيعين في الراديو، ليسلمهم جديد أسطوانات كبريات شركات التسجيلات عبر العالم لكي يعززوا بها مكتبة الراديو ووصلاتهم بين البرامج.
لكن في نفس الوقت، وبعيدا عن الجو الترفيهي للراديو، فقد كان الملك الراحل الحسن الثاني يأمر بفتح تحقيقات عندما يبث خبر يرى فيه أنه مس بسرية اشتغال بعض الوزراء.
المثال هنا من سنة 1975، ستة أشهر تقريبا قبل المسيرة الخضراء التي جرت أطوارها في نونبر من نفس السنة، عندما توجه وفد سري بتكليف من الملك الراحل شخصيا إلى إسبانيا لبحث ملف انسحاب الإسبان من الصحراء المغربية. كان وقتها وزير الداخلية هو الطيبي بنهيمة، وفي غمرة انشغال الملك الراحل بتلك المهمة السرية التي أعطى تعليماته حتى لا تُدرج في الأخبار الرسمية لعمل الحكومة، إلا أنه أخبر في نفس اليوم أن الراديو بث خبر سفر الوفد المغربي إلى إسبانيا. وهنا أمر الملك على الفور بفتح تحقيق لمعرفة من سرب الخبر، وتحميل وزير الداخلية المسؤولية لأن المهمة سرية بالأساس. اتضح في الأخير أن الخبر لم يُسرب وأن وشاية كاذبة كانت وراء محاولة إغراق مسؤولين في الإعلام ولم يتم التأكد من الأمر إلا بعد مراجعة تسجيل النشرة أكثر من مرة، وبإشراف أمنيين كلفوا خصيصا بالتحقيق في الواقعة.
كانت أزمة الصحراء المغربية دائما ملفا مصيريا بالنسبة للملك الراحل الحسن الثاني، ولم يكن يريد لكواليس تدبيره للملف أن تكون موضوعا للراديو، رغم المكانة الكبيرة التي يحتلها هذا الجهاز في عدد من الأزمات التي مرت في عهده.
الحسن الثاني (وزيرا أول): لا أريد سماع خبر لا أعرفه في الراديو
لم يكن القصر، ممثلا في ولي العهد الأمير مولاي الحسن في نهاية الخمسينيات، يتدخل إلا عندما تفشل الأطراف المتصارعة في تسيير الحكومة بالشكل الذي يبقي القصر بعيدا عن الصراعات الحزبية الداخلية. أقل من سنتين على حكومة عبد الله إبراهيم الذي غادر التجربة السياسية وهو ناقم تماما على الأوضاع، قرر الملك محمد الخامس أن يسير الحكومة بنفسه وهكذا تأسست الحكومة الخامسة في ربيع 1960. كان غير طبيعي أن يحظى المغرب بخمس حكومات في تلك المدة القصيرة، وهذا الأمر يشرح لماذا قرر الملك محمد الخامس أن يجلس في كرسي الوزير الأول بنفسه.
هل كان السياسيون راضين عن ترؤس القصر للحكومة؟ لم يكن بمقدورهم إلا مباركة الخطوة ما دامت قد أنهت خلافاتهم الحادة حول الأسماء التي تصل إلى كرسي الوزارة الأولى. انتقل المنصب إلى الحسن الثاني عندما كان وليا للعهد، وقد كتب الكثيرون عن هذه التجربة من بينهم عبد الرحيم بوعبيد الذي حكى عن اجتماعات مغلقة بينه وبين الحسن الثاني ولي للعهد عندما ترأس الحكومة المغربية. وكان والده يتابع كل شيء عن كثب، فيما كان الحسن الثاني يجتمع بوالده ليخبره عن مجريات الأمور وكواليس اجتماعاته بالوزراء. كان الحسن الثاني وقتها يرمي إلى الإشراف على القطاعات الحساسة لأن المغرب كان قد تأخر كثيرا في النهوض بالوزارات التي تصنع اقتصاد البلاد وقطاعاته الاجتماعية.
من بين ما أكدته وثائق أرشيف السفارة الأمريكية في الرباط أن الحسن الثاني عندما كان وليا للعهد قال في اجتماع مع الوزراء إنه لا يريد أبدا أن يسمع في الراديو أمورا لا يعرفها. وكان يقصد أنه يريد أن يطلع على كل التقارير المتعلقة بعمل وزرائه والمشاكل التي تفد إليهم وكل ما يصادفهم من عقبات بدل أن يسمعها في الراديو على شكل أخبار في نشرة الظهيرة أو المسائية.
كان الملك الراحل محمد الخامس متعلقا بالراديو ويواظب على سماع النشرات بشكل دائم.
علاقة ولي العهد بالراديو عندما كان يشرف على تدبير العمل الحكومي، كانت متذبذبة، فقد اقترح عليه مرة صديقه إدريس الشرادي، وهو أحد زملاء الملك في المدرسة المولوية وقضى معه طفولته الأولى وربطتهما علاقة وطيدة خلال الخمسينيات والستينيات، أن يقيم برنامجا لوزرائه بحيث يترددون على الراديو لمناقشة الشأن السياسي وإخبار المغاربة أولا بأول بعمل حكومة ولي العهد حتى يرى المغاربة كيف أن ترؤس ولي العهد للحكومة قد أنهى الخلافات الضيقة بين الأحزاب. لكن ولي العهد رفض الفكرة، وفضّل أن تبقى مضامين الاجتماعات الحكومية بعيدة عن الإعلام.
المشكلة أن الموت لم يمهل الملك محمد الخامس كثيرا، وقيل إنه في الوقت الذي كان فيه يشرف على الحكومة بدون وساطة وزير أول، كان يستمع بدون وساطة أيضا إلى مقترحات قيمة من مجموعة من الشباب الذين كانوا قد أنهوا للتو دراستهم بفرنسا، عندما كان يستقبلهم في القصر الملكي، وهكذا كان الملك الراحل محمد الخامس يفكر في سن دستور متقدم للبلاد منذ نهاية الخمسينات، وكان يحاول التأسيس فعليا للأمر، خصوصا وأنه آمن أن أزمة الحكومة قد انتهت.
أول ما قام به الملك الراحل الحسن الثاني عندما وصل إلى الحكم، أنه نجح في احتواء الأحزاب السياسية بعد أن أمضى ما سبقه أيام أبيه متفرجا على صراعها، الذي كان «طفوليا» في بعض الأحيان حول المناصب الوزارية. والملاحظ أن أول حكومة مغربية في عهد الملك الحسن الثاني كانت بدون وزير أول! وفُوت المنصب بشكل غير رسمي إلى بلافريج، كمنسق بين الوزراء والملك، في الوقت الذي كان فيه الحسن الثاني يهيئ البيت الداخلي أياما بعد وصوله إلى الحكم.
لكن انفراجا كبيرا في علاقة الملك الحسن الثاني بالراديو كان على وشك أن يقع، فقد كان للراديو دور كبير في التواصل بين الملك الجديد ومكونات الشعب خلال محطات مهمة أولها الدستور سنة 1962.
حرب الإعلام التي خرجت من رحِم «حرب الرمال»
في الأسبوع الأخير من شهر يوليوز سنة 2017، نشرنا في «الأخبار» ملفا كاملا عن مضامين اجتماعات بين السفير الأمريكي في الرباط وبين الملك الحسن الثاني في قلب القصر الملكي في الدار البيضاء. المناسبة أن السرية رفعت عن حزمة أخرى من وثائق أرشيف الخارجية الأمريكية في واشنطن، وتطرقت في تلك المرة إلى كواليس حرب الرمال بين المغرب والجزائر سنة 1963.
كان الجميع يرتدي البياض. المكان، ساحة المشور في القصر الملكي بالرباط. سنة واحدة بعد انتخابات 1963. كان الواقفون من وزراء وأعيان ومستشارين وموظفين سامين، وحتى معارضة، يرتدون الجلابيب البيضاء، وينحنون أمام الملك الحسن الثاني في حفل الولاء.
كان الراديو ينقل الحدث على الأثير. وفي الوقت نفسه كان السفير الأمريكي في الرباط، يخطط لقضاء عطلته السنوية خارج المغرب، وفي اعتقاده أن الأمور في المغرب «هادئة» ولا تستحق دبج التقارير على خلفية كل لقاء رسمي أو غير رسمي مع شخصية مغربية.
في مساء ذلك اليوم، أحس السفير أن عطلته يمكن أن تؤجل إلى وقت لاحق إذا ما حدثت مناوشات جديدة بين المعارضة والدولة. الملك الحسن الثاني لم يكن مستعدا لاستقبال السفير الأمريكي، والأخير، كان قد ألح على الجنرال المذبوح وأحد الكولونيلات، لم يفصح التقرير عن اسمه، لكي يرتب له لقاء مع الملك الحسن الثاني، للدردشة في أمور خاصة.
ما كان يبحث عنه السفير الأمريكي كان يتجاوز الوزراء وحتى المستشارين. لقد كان يعلم، بحكم لقاءاتهم المتكررة بالملك الحسن الثاني، أن الأخير لم يكن يبوح بما يفكر فيه إلا لقلة، أو لا يبوح به لأحد نهائيا. لكنه كان يريد أن يظفر منه ولو بإشارة تترجم مواقفه المقبلة مما يحدث في المنطقة.
فالحرب مع الجزائر، نقصد هنا حرب الرمال التي جرت أطوارها سنة 1963، جعلت الأمريكيين يتخوفون بشأن العلاقات المغربية الجزائرية، وما إن كان الاتحاد السوفياتي سيتدخل في الموضوع. لأن تقارير أخرى رصدت تحركات سوفياتية في الجزائر، بدا من خلالها أن المستفيد الوحيد من أزمة الجيران لن يكون إلا الروسيين.
المثير أن الإذاعة الجزائرية كانت قد مارست حملة إعلامية ضد المغرب بواسطة الراديو لإخبار المغاربة بأمور غير حقيقية، وهو ما جعل الملك الراحل الحسن الثاني يأمر على الفور بفتح الراديو أمام مسؤولي الجيش، بشكل غير مباشر، لنقل الأخبار الحقيقية عن هزيمة الجزائريين التي لم يكن يعلم بها في الحقيقة سوى الجنود المغاربة في الميدان وتقارير المخابرات الأجنبية التي تابعت تلك الحرب أولا بأول. لقد لعب الراديو دورا كبيرا في إفشال «البروباغاندا» الجزائرية، وأخبر الملك الحسن الثاني المغاربة عبر الراديو، بشكل مباشر، أن الحرب حُسمت لصالح المغرب وأن الغرض منها قد تحقق بنجاح، وهو التأكيد على سيادة المغرب على ترابه وأراضيه وعدم التساهل مع أي اختراق مستقبلي للحدود.
بوطالب.. وزير يشرح الدستور للمغاربة يوميا عبر الأثير
رغم أن الراحل عبد الهادي بوطالب لم يكن يتحدث كثيرا عندما كان مستشارا للملك الحسن الثاني وسفيرا خاصا له إلى الرؤساء والملوك، بحكم حساسية المنصب، إلا أنه قضى فترة مهمة وحساسة من مساره السياسي يمارس دورا إعلاميا سواء من خلال المقالات التي نشرها عندما كان ينتمي إلى حزب الشورى والاستقلال وصولا إلى الدور الإعلامي الكبير الذي لعبه للتعريف بأول دستور في تاريخ المملكة المغربية.
لقد دخل عبد الهادي بوطالب التاريخ من هذه النقطة بالذات رغم أن المعارضة، ممثلة على الخصوص في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، سنة 1962، استهدفته شخصيا وسخرت من الجلسات الإذاعية التي كان يقوم بها بشكل شخصي كل مساء لكي يُبسط للمغاربة فكرة أول دستور للمملكة وبنوده تمهيدا للاستفتاء.
لم تكن هذه المهمة سهلة، لأن عبد الهادي بوطالب، وزير العدل في أول حكومة في عهد الملك الراحل الحسن الثاني الذي جلس على العرش سنة 1961، كانت تتمثل في الاطلاع على مسودة الدستور الأولى، ثم التعديلات التي اقترحها الملك الحسن الثاني واللجنة التي كانت تعمل معه في صياغة الدستور والتي كان يترأسها الملك شخصيا ويستشير فيها علال الفاسي على وجه الخصوص وبعض الأسماء الأخرى..
مئات الصفحات كلها تفاصيل عن البنود والفصول التي تم رصّها في نسخة أول دستور مغربي لتنظيم الحياة السياسية والمدنية والعسكرية في المغرب، كان على عبد الهادي بوطالب أن يشرحها لكل الفئات. فقد كانت توصية الملك الحسن الثاني تشدد على ضرورة تبسيط اللغة.
كانت خلفية جامع القرويين حاضرة لدى عبد الهادي بوطالب، ولاحقا أخبره الملك الحسن الثاني إنه اختاره شخصيا للقيام بتلك المهمة لأنه كان يعلم حضور خلفية الخطابة لديه باعتباره تلميذا سابقا في القرويين.
عندما كان عبد الهادي بوطالب ينزل من سيارته ليتجه إلى باب الإذاعة، كان موظفوها وبينهم رجل الراديو الشهير محمد بن ددوش، يستقبلونه كأنه يأتي إليها لأول مرة رغم أن تردده عليها أصبح مألوفا في تلك الفترة، إلا أن التعليمات التي أعطيت للجميع واهتمام الملك الحسن الثاني شخصيا بفقرة الدستور في الراديو وإنصاته لمضمونها بإمعان، كانت كلها عوامل جعلت الإذاعة تدخل في حالة تأهب أقصى حتى لا يقع أي خطأ من شأنه أن يخلخل دور الإذاعة وحضورها في مملكة الحسن الثاني الجديدة التي كانت على وشك أن تولد.
ليس التحدي هنا ما إن نجح عبد الهادي بوطالب في تلك المهمة أم لا، فقد كان الرهان على حشد موافقة المغاربة على أول دستور للمملكة بصيغته التي كانت مُرضية جدا للملك الحسن الثاني وأغلب الفرقاء السياسيين، فقد كان وزير الداخلية وقتها، رضا اكديرة، يشتغل بآليات الوزارة لتعميم الأفكار بطريقة المقدمين والقياد في كافة ربوع البلاد، رغم أن الراديو الذي تحدث منه عبد الهادي بوطالب إلى المغاربة، كان يُغطي أيضا كل تراب المملكة. إلا أن كلمة وزير الداخلية الذي قام بحملة دعائية للدستور عن طريق أعوان السلطة و «خدام المخزن» القدامى، كانت هي التي أحدثت التوازن وعكست في الحقيقة الصراع الدائم بين التيار المحافظ والمتجدد داخل أقطاب المخزن.
سابقة لم تتكرر في تاريخ المغرب
من هو الوزير الأول الذي طالب عبر الإذاعة بوضع السلاح؟
تجربة حكومة عبد الله إبراهيم أسالت الكثير من المداد. وهناك من اعتبرها أول حكومة حقيقية في تاريخ المغرب. بل أفردت دراسات تاريخية وأطروحات صنفت الدكتور عبد الله إبراهيم بصفته أول وآخر رئيس حكومة مغربي قام فعلا بدور رئاسة الحكومة. في سنة 1959 كانت هناك اعتراضات داخلية على عمل حكومة عبد الله إبراهيم التي قدمت مجموعة من الإصلاحات للملك الراحل محمد الخامس تمس جوانب جوهرية من الاقتصاد والإدارة. الحرس القديم لم يكونوا راضين على اشتغال عبد الله إبراهيم على هذه الأوراش.
عموما، ليس موضوعنا هو تقييم حكومة عبد الله إبراهيم، لأن مؤلفات كثيرة تخصصت في الموضوع، أبرزها مذكرات عبد الله إبراهيم نفسه التي خطها الباحث محمد لومة، واستخرجها من جلسات له مع عبد الله إبراهيم في السنوات الأخيرة من حياته.
لكن هذا الوزير الاستثنائي الذي حظي بتقدير ملكي كبير في عهد الملك الراحل محمد الخامس قبل أن يُبعد من الحياة السياسية نهائيا، خاض تجربة مهمة قلما تكررت مع وزير أول غيره.
كان المغرب في نهاية الخمسينيات يعيش على إيقاع تحدي احتواء جيش التحرير وجمع سلاح المقاومة. حتى أن الإدارة العامة للأمن الوطني التي كان يشرف عليها الجنرال أوفقير شخصيا كانت تضع أول هدف لها هو نزع سلاح قدماء المقاومة وجعل المغرب دولة خالية تماما من السلاح في صفوف المدنيين.
في هذا السياق، كان عبد الله إبراهيم، الوزير الأول المغربي الذي يصارع تيارا خفيا أراد أن تُخفى عنه بعض الملفات الحساسة. لم يكن ممكنا أن يضع يده عليها، بحكم أن علاقاته كانت وطيدة مع قدماء المقاومة بحكم انتمائه القديم إلى حزب الاستقلال وأيضا لأن علاقة صداقة كانت تجمعه بمقاومين سابقين من أيام الاعتقالات التي شنتها فرنسا ضد المطالبين بعودة الملك الراحل محمد الخامس من المنفى.
لم يكن من حل أمام عبد الله إبراهيم سوى أن يخاطب المغاربة عبر الراديو، وهو ما سمح به الملك الراحل محمد الخامس، وتحفظ عنه في البداية ولي العهد الأمير مولاي الحسن الذي اقترح أن تنزل شخصية أمنية إلى الراديو لكي تطالب المغاربة بالتآزر والتبليغ عن الرافضين تسليم أسلحتهم للدولة.
أورد محمد لومة، اعتمادا على أرشيف عبد الله إبراهيم الشخصي نص الخطاب الذي كان يُبث في الراديو، والذي ألقاه عبد الله إبراهيم على المباشر في إحدى مساءات الرباط الباردة، وصل صوته فيها إلى كل نواحي المغرب: «أيها المواطنون أيتها المواطنات
تسعون يوما مرت منذ تفضل صاحب الجلالة فأسند إليّ رئاسة الحكومة. في الظروف الصعبة التي تعلمون.
تأسست الحكومة، وكان عليها أن تواجه تحت قيادة صاحب الجلالة الملك محمد الخامس وبإرشاداته النيرة، أخطر حالة انزلقت إليها بلادنا منذ الاستقلال. فقد كان فريق من الشعب المغربي في حالة تمرد ضح حكومة صاحب الجلالة. وكان السلاح الأجنبي سلاح الخيانة، يشهره مواطنون ضد إخوانهم المواطنين بدون رحمة ولا حياء.
لذلك كان تثبيت الأمن هو النقطة الأولى في البرنامج الذي حدده صاحب الجلالة للحكومة الجديدة وتلك حقيقة مؤلمة بالنسبة لأمة لم يمض على تحريرها سوى ثلاث سنين. وقد انكبت الحكومة منذ الأسبوع الأول لتأسيسها على مواجهة الحالة بما تستحقه من جد. ووجدت في العاهل الكريم في كل لحظة الرجل الذي يعرف كيف يجابه مسؤولياته بذكاء وحزم. كما وجدت في سمو ولي العهد رجل الواجب كيفما كانت الأخطار ومهما كانت المصاعب.
ومن واجبي هنا أن أنوه بالجيش الملكي وشهامة وحداته، ومن واجبي أيضا أن أنوه بالقوات الاحتياطية التي أبلت البلاء الحسن في ظروف صعبة بالنسبة إليها. فقد قام هؤلاء وأولئك بواجبهم الوطني أحسن قيام وبأقل ما يمكن من الخسارات.
(..) أيتها المواطنات، أيها المواطنون
من واجبي أن أقول لكم والألم يحز في نفسي أن الحكومة عندما تأسست وجدت جهاز الدولة تتلاعب به الأهواء والنزاعات. فقد كانت حوادث التمرد المفجعة ناتجة في جوهرها عن سوء تفاهم بين الإدارة والسكان الذين كانوا يتهمونها بأنها إدارة مسخرة بين أيدي أفراد لا علاقة لهم بالإدارة.
وقد كان هم الحكومة الأول ضمانا للمصالح العليا، هو إضفاء صبغة النزاهة والحياد على جهاز الدولة، حتى يصبح جميع المواطنين أمامه سواء. وحتى لا يطمع طامع في تحيز السلطة، ولا يخشى آمن من جورها. والحكومة بالمرصاد لمن يخرج من رجالها عن سواء السبيل. ذلك هو الشرط الأساسي لحرية المواطنين، ولا شيء أعبث هنا من البكاء والتظلم مادام من الممكن محاكمة أي ظالم والاستنصاف منه حتى لو كان رجل سلطة..».
كان هذا الخطاب يتكرر على أمواج الإذاعة حتى يتسنى للمغاربة سماعه، بنبرة عبد الله إبراهيم التي كانت مستعطفة تارة، ومؤكدة على جدية الوضع تارة أخرى.