«غضب الملك الحسن الثاني كثيرا من تدخل فرنسا في الشأن المغربي، عندما علقت الصحف الفرنسية على سن الملك الحسن الثاني لحالة الاستثناء سنة 1965. ولم يتقبل أن تتدخل فرنسا في شأن مغربي خالص، اعتبره الملك الراحل الحسن الثاني قرارا سياديا. إذ إن ضعف أداء البرلمان وضعف الأداء الحكومي وعدم استجابتهما لمتطلبات المرحلة، جعلا الملك الحسن الثاني يلجأ حسب صلاحياته الدستورية إلى حل البرلمان والحكومة، والنزول بنفسه إلى الأرض لمباشرة مراقبة الوزارات والقطاعات العمومية. وقبل حالة الاستثناء، سبق للمعارضة، ممثلة في حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي كان المهدي بن بركة من قيادييه البارزين، قد اختار سنة 1964، أي سنة قبل اختفاء المهدي بن بركة، أن يدفع ملتمسا للرقابة في البرلمان مطالبا بحل الحكومة.
أي إن قرار الملك الراحل الحسن الثاني بتفعيل حالة الاستثناء كان في الحقيقة يتماشى مع مطالب المعارضة سابقا، التي كانت تصف الحكومة بالعاجزة وتدق ناقوس الخطر.
تطلب الأمر قرابة خمس سنوات، لكي تعود المياه إلى مجاريها بين فرنسا والمغرب. إذ إن الملك الراحل الحسن الثاني لم يتقبل الأخطاء الدبلوماسية التي سقطت فيها فرنسا في علاقتها بالمغرب، خلال السنوات الأولى لحكم الملك الحسن الثاني».
الحسن الثاني رفض اتصالات السفيرين الفرنسي والأمريكي مع وزارة الدفاع
عندما كان منصب وزير الدفاع لا يزال شاغرا، في بداية عهد الملك الراحل الحسن الثاني، وهو المنصب الذي تولاه مقربون من الملك الراحل أبرزهم المحجوبي أحرضان، ثم حدو الشيكر ما بين سنوات 1963 ونهاية الستينيات، كان السفيران الأمريكي ثم الفرنسي في الرباط، يتصلان بين الفينة والأخرى بالوزيرين المغربيين، لتقصي معلومات عن صفقات مزعومة بين الرباط والاتحاد السوفياتي. هذا المعطى توثقه وثائق «ويكيليكس» التي أصبحت في متناول العموم منذ سنة 2012، والتي توثق لمحادثات بين السفير الأمريكي وبعض المسؤولين المغاربة، خلال بداية الستينيات من القرن الماضي.
المثير أن وثيقة تطرقت إلى مكالمة كان موضوعها استدعاء المحجوبي أحرضان وهو وزير للدفاع، إلى السفارة الأمريكية في الرباط. لكن اللقاء لم يتم واعتذر عنه أحرضان، لأن الملك الراحل الحسن الثاني دخل على الخط، ومنع أحرضان من الخوض في تفاصيل مع السفير الفرنسي أيضا.
الموضوع كان هو حصول المغرب على طائرات مقاتلة متطورة، من نوع «الميغ» من الاتحاد السوفياتي. وكانت تلك الصفقة تقلق الأمريكيين، خصوصا وأنها تزامنت مع الحرب الباردة بين القوتين العالميتين.
ولم يكن أحرضان يتوفر على معلومات كافية ليفضي بها إلى السفير الأمريكي، أو هذا ما قاله معتذرا عن الإدلاء بأي معلومات في الموضوع.
بعض الوثائق الأخرى التي تعود لأرشيف السفارة الأمريكية في الرباط تحدثت عن الواقعة من جهة أخرى، وكتب السفير في الوثيقة التي توجد اليوم في أرشيف وزارة الخارجية الأمريكية، أن محادثة بينه وبين الملك الحسن الثاني بخصوص مستقبل علاقته بالسوفيات وحقيقة صفقة الطائرات التي منحها الاتحاد السوفياتي للمغرب، وبدأ الطيارون المغاربة في التحليق بها من قاعدة مكناس الجوية، التي ورثها المغرب من الحماية الفرنسية سنة 1956. لكن جواب الملك الراحل كان غاية في الدبلوماسية والغموض. إذ إن السفير الأمريكي اضطر إلى متابعة الموضوع شهورا أخرى، لكي يخرج باستنتاج وخلاصات حول طبيعة تلك المنحة السوفياتية وأبعادها. ولم يتنفس الأمريكيون الصعداء، إلا عندما اعتمد المغرب رسميا طائرات أمريكية وتخلى عن طائرات السوفيات بموجب اتفاقية.
عبد الرحيم بوعبيد ذوب الجليد بين القصر وباريس بعد فشل سفير فرنسا
كان سياسيون مثل علال الفاسي، عبد الرحيم بوعبيد، عبد الهادي بوطالب ورضا اكديرة محط اهتمام عدد من ممثلي التمثيليات الأجنبية في المغرب، لاستقاء المعلومات منهم واستعمالها في التقارير التي تعد عن المغرب. كانت هذه الأسماء هي مفتاح قراءة الأجواء السياسية في المغرب. وهكذا أصبحت الدردشات العادية معهم مصدرا مهما لعدد من السفراء، خصوصا سفير الولايات المتحدة الأمريكية في المغرب، لقراءة الخارطة السياسية في المغرب.
كان هذا في وقت كانت فيه السياسة الداخلية للمغرب، تدخل في نطاق الممنوع من التداول في الخارج. كان التوجه العام يقتضي مراعاة عدم تدخل المنابر الأجنبية في الشأن الداخلي للمغرب، خصوصا وأن الأصوات المعارضة كانت تنتقد المغرب بشدة، وتتهم بعض الجهات في الدولة باستغلال النفوذ لتصفية الحسابات السياسية، سيما مع المعارضة.
إلى جانب الأسماء السياسية، كانت هناك أيضا أسماء عسكرية لم يكن يخفى على أحد علاقاتها الواسعة مع الدبلوماسيين الأجانب بالمغرب. كان الجنرال المذبوح أهم هؤلاء جميعا، فقد كانت علاقاته بالسفير الأمريكي محط تساؤلات كثيرة، خصوصا وأنه قام برحلات كثيرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وكان أيضا يلتقي بمسؤولين وأثرياء أمريكيين كانوا يتجهون نحو تأسيس شركات استثمارية بالمغرب، واشتكوا له مرات كثيرة من صعوبة التواصل مع الجهات المغربية، لإتمام الإجراءات الإدارية وتراخيص الاستثمار في عدد من الوزارات.
في سوريا، كان بعض الطلبة المغاربة على اتصال بتنظيم المعارض اليساري محمد الفقيه البصري، الذي لم يكن يخفي نواياه التي تستهدف النظام في المغرب، وكان يدلي بتصريحات، سيما للصحافة الفرنسية، يكشف فيها مواقفه المعارضة للنظام في المغرب وإيمانه بالاختيار الثوري كبديل. وهكذا كان الطلبة المغاربة في سوريا موضوع متابعة أمنية لصيقة داخل المغرب وخارجه أيضا، خصوصا في الفترة التي كانت فيها العلاقات بين الملك الحسن الثاني وحافظ الأسد متوترة للغاية.
أفردنا هذا التبسيط لوضع الأمور في سياقها. فملف الطلبة المغاربة في سوريا كان موضوع بحث من طرف السفير الفرنسي في المغرب، سيما وأن بعض هؤلاء الطلبة كانوا متهمين بتهمة حمل السلاح في الأراضي الفلسطينية، وكان بعضهم يستغلون ظرفية دراستهم في سوريا للتسلل إلى الأراضي الفلسطينية، ثم يعودون إلى المغرب عبر باريس. وكانت فرنسا تتخوف من نشاط مسلح على أراضيها، بحكم أن هؤلاء الطلبة كانوا يقضون فترة في باريس، قبل أن يعودوا إلى المغرب برا وبحرا.
السفير الفرنسي فتح محادثات في الموضوع مع مسؤولين أمنيين مغاربة، لكن الملك الراحل الحسن الثاني كان ينظر إلى الموضوع من خلال منظار القضايا السيادية، التي كان يرحب بالتعاون في حلها مع دول أخرى، لكنه لا يقبل تدخلها المباشر أو إملاء التعليمات على المغرب. وهو ما عبر عنه عبد الهادي بوطالب، عندما تحدث في مذكراته عن غضبات الملك الراحل على الدبلوماسيين، رغم تمثيلهم لدول كبرى وقوى اقتصادية عظمى في العالم.
عبد الرحيم بوعبيد الذي كان صديقا ومعارضا للملك الحسن الثاني، نجح مرة في تذويب الجليد بين فرنسا والمغرب، بعد أزمة كانت وراءها زوجة الرئيس فرانسوا ميتران. فقد كانت العلاقات بين المغرب وفرنسا فاترة، بسبب تدخل فرنسا في ملفات منها ما هو حقوقي، ومارس الإعلام الفرنسي بعض الضغط على المغرب في هذا الإطار. وهو ما جعل العلاقات بين البلدين تعرف بعض الفتور.
لكن زوجة ميتران حلت في المغرب بصفتها الحقوقية، وكانت تنوي التوجه صوب المخيمات لاستقراء وضعية المغاربة داخلها، والتي يسيطر عليها انفصاليون. لكن المثير في الموضوع أن مرافقي زوجة الرئيس الفرنسي خلال فترة الثمانينيات، كانوا من الداعمين لأطروحة الانفصال، وكان واضحا أن تدخلهم وتقاريرهم لن تكون موضوعية.
حاول وقتها السفير الفرنسي في الرباط احتواء الوضع، لكنه عجز تماما أمام رفض الملك الحسن الثاني لذلك التدخل.
لكن عبد الرحيم بوعبيد تدخل بحكم الصداقة التي كانت تربطه بميتران شخصيا، وشرح له وجهة نظر الملك الحسن الثاني، الذي لم يكن يقبل المساومة في تلك المواضيع، خصوصا أن أغلب أعضاء الوفد كانوا يدعمون الانفصال، وعبروا صراحة عن الأمر في لقاءات سابقة. وهو ما جعل ميتران يتحرك لإفشال المخطط الذي كان يستفز سيادة المغرب. تلك الواقعة أذابت الجليد، سيما وأن ميتران فهم من عبد الرحيم بوعبيد أن الأمر يتعلق بسيادة المغرب وأي تدخل يعتبر تدخلا مباشرا في الشأن الداخلي للبلاد.
بلسان السفير «هاي».. استقبال في قصر مراكش سنة 1845 انتهى ببرود دبلوماسي
يبقى السيد «ريموند هاي» الذي كان يمثل الوجود البريطاني في المغرب، أكثر ممثل دبلوماسي أجنبي عمر طويلا بين المغاربة وعرف «المخزن» جيدا. كان نشيطا جدا في عهد المولى الحسن الأول، وكانت سنة 1880 إلى حدود 1894، فترة ذهبية جنت خلالها بريطانيا ثمار التحركات الدبلوماسية التي كان يقوم بها السيد «هاي»، وهو الاسم الذي اشتهر به دبلوماسيا، منذ سنة 1844.
وربما يكون، حسب بعض الإفادات، أهمها إفادة الباحث الأمريكي «روجرز»، صاحب «العلاقات المغربية البريطانية إلى حدود سنة 1900»، أقدم دبلوماسي أوربي تعامل مع المغاربة والتقى الوزراء والسلاطين، المولى عبد الرحمان ثم الحسن الأول على الأخص، وممثليهم واشتغل معهم عن قرب.
يقول «روجرز» في هذا الخصوص: «في 3 مارس 1846 غادر هاي طنجة قاصدا زيارة السلطان، ووصل إلى مراكش في 8 أبريل. وبعد ذلك بأربعة أيام تم استقباله استقبالا عاما كتب عنه ما يلي:
«تم إرسال القايد مدني، قائد الحرس الملكي، وبصحبته قائد شرف ليقودني إلى البقعة التي تقرر استقبالي بها. وبعد المرور بميدان كبير، حيث اصطف نحو ألفي رجل تم اقتيادي إلى كشك صغير، حيث وجدت السلطان المولى عبد الرحمان جالسا على مقعد، بينما وقف عند المدخل وزيرا الدولة سيدي بن إدريس وسيدي العربي مختار. وقد دعاني المستشار الرئيسي، قائد المشور، وبناء على رغبة السلطان، إلى التقدم وحدي على بعد خطوات قليلة من جلالته. وعندئذ وعلى قدر ما تعيه ذاكرتي، ألقى سيدي عبد الرحمان الكلمة التالية:
«مرحبا بك. إن روابط السلام والصداقة التي ربطت بين أسلافنا وأسلاف مولاتكم ستبقى وتتدعم. إننا ننظر لملكتكم وأمتكم باعتبارهما أكثر الملوك والأمم صداقة لذاتنا الملكية. لقد عرفنا أباكم وكان ميالا إلينا، وقد برهن على أنه الخادم الأمين للحكومتين، ومن ثم فقد حظي بالرعاية التي يحظى بها الرجال الملحوظون في الإمبراطورية، ولقد تعرفنا عليكم الآن، وسوف ترثون ما حظي به أبوكم من صداقة ووداد من جانبنا».
وقد أكد هاي في مباحثته مع وزراء السلطان على الضرورة القصوى، ومن أجل صالح المغرب نفسه، بمراعاة المعاهدات المعقودة مع سائر القوى الأوربية بدقة. كما أنه أكد على ضرورة تحرير التجارة المغربية بتخفيض تعريفة الرسوم العالية التي فرضت على الواردات سنة 1845. وتم آخر لقاء لهاي بالسلطان في 18 أبريل، حيث استقبله المولى عبد الرحمان استقبالا وديا، وأعرب عن اعتقاده في حصافة هاي، وبأنه سوف يعير مطالبه ما تستحقه من اهتمام، إلا أنه في حاجة إلى بعض الوقت لبحث كافة النقاط التي أثيرت»».
هنا فتح الباحث البريطاني الشهير السيد روجرز بابا من الأرشيف، استعان فيه بمذكرات السيد هاي التي كتبها، بعد تقاعده في بداية عهد المولى عبد العزيز، أي بعد سنة 1894، وعودته النهائية إلى بريطانيا. تلك المذكرات كان جزء مهم منها مخصصا للعلاقات المغربية البريطانية، وعلاقة هاي بشخصيات مغربية.
هذه الحقائق التاريخية، تؤرخ لبداية علاقة القصر بالدبلوماسيين الأجانب، خلال بداية التمهيد لاستعمار المغرب. صحيح أن العلاقات الدبلوماسية بين المغرب وبريطانيا تعود إلى عهد المرينيين أيضا، لكن العلاقات بمفهوم السفارات والقنصليات وتعيين الموظفين لم تبدأ إلا في هذه الفترة.
بعد لقاء السيد «هاي» واستقباله في القصر الملكي بمراكش، قُدر للعلاقات المغربية البريطانية أن تشهد بعض البرود. والسبب أن القصر كان يرى في التدخل البريطاني محاولة «وقحة» للي يد المغرب، بفرض التخلي عن قوانين سيادية بخصوص الضرائب المفروضة لإنعاش الاقتصاد المغربي. وكان «هاي» رغم خبرته الكبيرة في المفاوضات، عاجزا تماما عن محاولة إصلاح العلاقة، إلا بعد أن قرر المغرب فتح الباب من جديد.
دبلوماسيو فرنسا الذين لم يستقبلهم أحد!
بعد وفاة المولى عبد الرحمان، جاء عهد ابنه الأكبر المولى الحسن الأول. وكان قد ورث هذا السلطان، الذي حكم المغرب سنة 1873 عن والده مجموعة من الخصال، والمشاكل أيضا.
تبنى المولى الحسن الأول، وهو في عز شبابه، خطاب والده القديم، ورجال المخزن القدامى الذين كانوا يرون في السيد «هاي» ممثل بريطانيا في المغرب، أو في منطقة طنجة تحديدا، كانوا لا يزالون في السلطة ويحتفظون بذكريات التشنج في العلاقات، أكثر مما يحفظون ذكرى الانفراجات والزيارات الودية.
عرف عهد المولى الحسن الأول عموما بالانغلاق التام على الأجانب، خصوصا في سنوات حكمه الأولى. فقد كان هذا السلطان العلوي «الثائر» مشغولا بالقيام بجولات في جل ربوع المغرب، وتوحيد القبائل التي كانت في حرب مع الدولة، أو التي تتمرد بين الفينة والأخرى على بعضها البعض. حتى أنه عندما توفي سنة 1894، مات على ظهر جواده كما يقول المؤرخون، وأعيد جثمانه إلى القصر بدون علم الجنود، الذين كانوا خارجين معه في إحدى جولاته إلى الأقاليم لفض التمردات.
كان المولى الحسن الأول يتقن القيام بـ«الحْركات» المخزنية ويمارس السياسة على الأرض، وهو ما جعله محط اهتمام من طرف الفرنسيين والبريطانيين والألمان على حد السواء. ثم انضم إليهم الإيطاليون في وقت لاحق. وكان المولى الحسن الأول، حسب اعترافات السيد «هاي» نفسه، غير مهتم نهائيا بلقاء أحد منهم. كل ما كان يهمه هو سجلات الضرائب التي ترفع له من الموانئ، بشأن الشراكات بين مغاربة، خصوصا يهود الصويرة، وبين الأجانب. وكان يعلم أن لقاءاته مع ممثلي الدول الأجنبية، لن تكون إلا بهدف خفض الضرائب. في وقت كانت فيه خزينة الدولة تحتاج إلى موارد إضافية لسد النفقات، سيما في سنوات الجفاف، وما أكثرها في ذلك الوقت.
رغب وفد دبلوماسي فرنسي في لقاء المولى الحسن الأول. حل في طنجة، ثم انتقل أعضاؤه إلى الدار البيضاء، وتم إخبارهم أن السلطان لن يستقبلهم في فاس، لأنه كان مشغولا بزيارة إلى مراكش، حيث كان يقيم بها لفترة في السنة، حتى يكون بمقدوره أن يزور قبائل منطقة الأطلس، وهناك برزت علاقته مع المدني الكلاوي ووالده، حيث كانا ممثلين للسلطان ويجمعان له القبائل، لكي يتواصل مع زعمائها ويعينهم ممثلين رسميين للمخزن في تخوم الأطلس.
كان على ممثلي فرنسا أن ينتظروا لأزيد من شهرين، إلى أن اتضح موعد عودة المولى الحسن الأول إلى قصر فاس، لكي يطلبوا موعدا معه. لكن اللقاء جرى بينهم وبين وزير الخارجية في عهد المولى الحسن الأول وكان باردا. وجدوا أنفسهم أمام فقيه في مكتب لم تكن به أي كراس نهائيا. كان الوزير يفترش الأرض، ويجلس على حصير من الدوم مفترشا «هيضورة» كبش مخزني، إلى جانبه كاتب شاب يتولى تسجيل ما يتلفظ به الوزير على ورق تقليدي فوق مائدة خشبية على ضوء شمعة، دون أن يفترش شيئا فوق حصير «وزارة الشؤون البرانية».
فهم قائد الوفد الدبلوماسي الفرنسي أن وزير خارجية المولى الحسن الأول لم يكن في نيته أصلا ترك انطباع جيد لدى الوفد، وعادوا أدراجهم من حيث أتوا.
لم ينجحوا في لقاء المولى الحسن الأول، الذي تحاشى خلال فترة حكمه لقاء الأوربيين، حيث إن أبرز اللقاءات التي تمت بينه وبين ممثلي السفارات الأجنبية، لم تتم إلا في السنوات الخمس الأخيرة تقريبا من فترة حكمه، وبإيعاز من مستشاره ورجل ثقته «باحماد»، الذي كان يستقبل بعض ممثلي السفارة البريطانية والفرنسية والألمان أيضا في قصره بفاس، الذي لم يكن يبعد كثيرا عن القصر الملكي.
حسب بعض الإفادات التاريخية، التي صاغها مغاربة وأجانب اعتمادا على أرشيف أوربي يعود لهذه الفترة، فإن المغرب أدى ضريبة مرتفعة جدا، ماديا ومعنويا أيضا، على فترة الركود الدبلوماسي التي عرفها عهد المولى الحسن الأول. إذ إن سنة 1900 كانت منعطفا كبيرا في أداء الدبلوماسية المغربية.
ففي سنة 1907، ضربت فرنسا مدينة الدار البيضاء في أعنف عملية عسكرية في بداية القرن الماضي. وأدى المغرب ضريبة تلك الضربة غالية، فبالإضافة إلى الخسائر الكبيرة في الأرواح، تكبد المغرب خسائر أخرى تمثلت في الشلل الاقتصادي. القصف سهل تغلغل فرنسا في المغرب لاحقا.
بعد سنة 1912 أصبح المغرب أمام الأمر الواقع بخصوص الوجود الفرنسي في المغرب. ومن وقتها، كان يتعين على ممثلي السلطان والإدارة المخزنية عموما التعاطي مع فرنسا باعتبارها دولة حامية للمغرب بموجب اتفاقية موقعة.
حدث كل هذا في وقت كانت بريطانيا تحاول طيلة سنوات إبعاد فرنسا عن الساحة، لكي تفوز بالأولوية في المغرب، لكن تلك الخطة لم تكلل بالنجاح. وتبقى الفترة التي كان خلالها المغرب منغلقا دبلوماسيا، أكبر فرصة استغلتها فرنسا لكي تعزز وجودها وتقوي حظوظها على حساب الدول الأوربية الأخرى. ومن تلك الواقعة، أصبح الواقع المغربي مغايرا، لكن هذا لا يعني أن المغرب، سيما خلال عهد الملك الراحل الحسن الثاني، استمر على النهج القديم. بل على العكس، فقد اضطر في مرات كثيرة إلى مراجعة علاقته الدبلوماسية بفرنسا على وجه الخصوص، وتبليغ سفرائها في الرباط بعدم تقبل جلالته لبعض مواقفها، أو ممارساتها الدبلوماسية في العلاقة مع المغرب.
سنة 1966.. عندما غير الحسن الثاني طريقة تعامله مع فرنسا
علاقات شبه مقطوعة. في عز أزمة اختطاف واختفاء المعارض المغربي المهدي بن بركة. كان الملك الراحل الحسن الثاني مستاء جدا، وبلغ السفير الفرنسي في المغرب عدم موافقته على مواقف بعض السياسيين الفرنسيين الذين تدخلوا في الشأن المغربي بشكل ضر بصورة المغرب، حسب رؤية الملك الراحل.
خصوصا أن الأسماء التي أثيرت في التحقيق وطلب الدفاع حضورها إلى المحكمة، كان أبرزها هو الجنرال الدليمي، وقد ذهب طواعية إلى المحكمة في باريس سنة 1966، رغم أنه كان يشغل منصبا أمنيا حساسا.
ورغم أن المحكمة أخلت سبيله ليتم استقباله في الرباط استقبال الأبطال، إلا أن بعض الصحف الفرنسية ظلت تلاحقه وتنشر صوره، باعتباره متورطا في القضية.
كان الملك الراحل الحسن الثاني قد عبر للسفارة الفرنسية في الرباط، وللرئيس الفرنسي بشكل مباشر، عن غضبه، وهو ما كشفت عنه وثائق «ويكيليكس» التي تسربت سنة 2014. تلا ذلك برود كبير في العلاقات المغربية الفرنسية.
جمد الملك الحسن الثاني حرفيا علاقته بفرنسا، ولم يعد يزورها، إلا بعد أن تراجعت الصحافة الفرنسية عن هجومها على الملك، بسبب قضية اختفاء المهدي بن بركة، رغم أن المحكمة لم تستطع إدانة الدليمي بالرغم من أنه كان مسؤولا كبيرا في الأمن. بينما الجنرال أوفقير رفض الذهاب إلى المحاكمة، وبقي اسمه مثارا ومطلوبا لدى الدوائر الأمنية في مطارات فرنسا. وكان موقفه، حسب عدد من المصادر شخصيا.
لكن قبل أن تعود العلاقات بين الملك الحسن الثاني وفرنسا إلى سابق عهدها، فقد كانت فترة نهاية الستينيات جليدية بين البلدين.
غضب الملك الحسن الثاني كثيرا من تدخل فرنسا في الشأن المغربي، عندما علقت الصحف الفرنسية على سن الملك الحسن الثاني لحالة الاستثناء سنة 1965. ولم يتقبل أن تتدخل فرنسا في شأن مغربي خالص، اعتبره الملك الراحل الحسن الثاني قرارا سياديا. إذ إن ضعف أداء البرلمان وضعف الأداء الحكومي وعدم استجابتهما لمتطلبات المرحلة، جعلا الملك الحسن الثاني يلجأ حسب صلاحياته الدستورية إلى حل البرلمان والحكومة، والنزول بنفسه إلى الأرض لمباشرة مراقبة الوزارات والقطاعات العمومية. وقبل حالة الاستثناء، سبق للمعارضة، ممثلة في حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي كان المهدي بن بركة من قيادييه البارزين، قد اختار سنة 1964، أي سنة قبل اختفاء المهدي بن بركة، أن يدفع ملتمسا للرقابة في البرلمان مطالبا بحل الحكومة.
أي إن قرار الملك الراحل الحسن الثاني بتفعيل حالة الاستثناء كان في الحقيقة يتماشى مع مطالب المعارضة سابقا، التي كانت تصف الحكومة بالعاجزة وتدق ناقوس الخطر.
تطلب الأمر قرابة خمس سنوات، لكي تعود المياه إلى مجاريها بين فرنسا والمغرب. إذ إن الملك الراحل الحسن الثاني لم يتقبل الأخطاء الدبلوماسية التي سقطت فيها فرنسا في علاقتها بالمغرب، خلال السنوات الأولى لحكم الملك الحسن الثاني.
مجزرة الصخيرات.. عندما تساقط سفراء دول كبرى فوق العشب
في العاشر من يوليوز سنة 1971، كان المغرب ليس فقط على موعد مع التاريخ، وإنما أيضا في موعد مع امتحان دبلوماسي عسير قاده الملك الراحل الحسن الثاني بكثير من الحنكة. هذا رأي سفير الولايات المتحدة وقتها في المغرب، ورأي خارجية دول أخرى فقدت موظفيها الدبلوماسيين، عندما كانوا ضيوفا في القصر احتفالا بعيد ميلاد الملك الراحل.
لم يكن هؤلاء الدبلوماسيون، الذين كان من بينهم أوربيون، عرب، وأفارقة، يعلمون أن الأمور سوف تؤول إلى الأسوأ. لم يكن أحد يتوقع هذا الأمر، حتى أنهم عندما رأوا شاحنات الجنود ورشاشاتهم تخترق العشب صوب الحضور، شرع بعضهم في التصفيق بابتهاج، ظنا منهم أن الملك الحسن الثاني يقدم لضيوفه عرضا ترفيهيا ما، خلال احتفالات عيد ميلاده.
كان الملك الحسن الثاني حريصا بعد استعادة السلطة والسيطرة على الأمور من جديد، على أداء الواجب الدبلوماسي مع دول فقدت موظفيها. دول من أوربا الشرقية، خصوصا أوكرانيا واليونان، ثم دول ربطت سفاراتها بالمغرب علاقات تاريخية، كلها فقدت موظفيها الذين كانوا يمثلون سفراء تلك الدول أو يرافقونهم في تلك الاحتفالات.
كان التعرف على جثامينهم صعبا، سيما وأن بعض الجثث في ذلك المساء قد تضررت بسبب الطلقات الكثيرة والأعيرة النارية.
حتى أن زوجة دبلوماسي من اسكتلندا، استطاعت التعرف على زوجها من سلسلة كان يضعها في عنقه، بعد أن استحال لون قميصه إلى حمرة قانية. ولأن الجثث كانت منتشرة في كل مكان وبعضها فوق بعض، فقد استغرق أمر تجهيزها والتعرف عليها وتسليمها أياما، كانت خلالها عدد من الأسر الأجنبية في المغرب على أعصابها.
حتى أن الدكتور الخطيب، صديق الملك الحسن الثاني، وصديق سفراء أجانب في المغرب، كان ينسق بين عائلات الدبلوماسيين ومصالح المستشفى، حيث كانت الثلاجات عاجزة عن استقبال الجثامين في ذلك الصيف الحارق، لتمكينهم من نقل أحبائهم ودفنهم في أقرب وقت. بالإضافة إلى عبد الرحيم بوعبيد، الذي كان بدوره على اتصال بسفارات أجنبية في المغرب ساعد كثيرا على التنسيق بينها وبين المصالح الإدارية، لكي تتمكن من نقل جثامين موظفين وسفراء قضوا في انقلاب الصخيرات.
عكف الملك الحسن الثاني شخصيا، بعد ذلك، على الاتصال بعدد من الدول التي فقدت سفراءها ودبلوماسييها في انقلاب الصخيرات، بينها دول عربية وإسلامية ودول عظمى. كما أن الملك أرسل بعض ممثليه، منهم علال الفاسي وعبد الهادي بوطالب والدويري وامحمد بوستة، إلى عدد من الدول لكي يقدموا التعازي نيابة عنه في وفاة سفراء وممثلي تلك الدول موظفي السلك الدبلوماسي الذين سقطوا في الصخيرات. وكانت تلك من أنشط الفترات الدبلوماسية، التي انفتح فيها الملك الحسن الثاني على صداقات قديمة مع دول كبرى، أحياها خروجه سالما من أعنف الانقلابات التي هددت حياة الملك الراحل.