«حكت الصحافية الأمريكية «مارفين هاو» (من أقدم صحافيي «نيويورك تايمز» إذ لم تتقاعد منها إلا في 2008 بعد 55 سنة من العمل الصحافي) أنها اشتغلت في «راديو ماروك» ما بين سنوات 1951 و1953، حيث أنجزت لقاء مع الباشا الكلاوي في إقامته وبُث على أمواج هذا الراديو، وقالت إن الباشا كان خائفا، ولم يتقبل أن تزوره سيدتان أمريكيتان لأجل العمل، واحتاج لساعات لكي يتقبل إجراءهما للحوار الصحافي معه.
قالت «مارفين هاو» إن ابن الباشا، لم يسمح لها بالمغادرة إلا بعد أن أعاد الاستماع للتسجيل أكثر من مرة، قبل أن يعطي موافقته الكاملة على بث الحوار على أمواج «راديو ماروك» والذي تناول مشكل القواعد الأمريكية في المغرب.
قصة هذا الراديو، تستحق فعلا أن تُروى.. لقد كان البوابة الوحيدة التي تفوقت فيها فرنسا على الحركة الوطنية. إذ كانت تحركاتها على الأرض يواجهها الوطنيون بتوزيع المنشورات السرية. بينما حربها ضد المغرب على الأثير، لم يكن ممكنا لأي وطني أن يمنعها من البث.. وهنا بالضبط تجلت قوة هذا الراديو الذي جُمع أرشيفه ليطوي سنوات طويلة من الحوارات واللقاءات والاستطلاعات عن الوجود الفرنسي في المغرب، وكأنه لم يكن».
هل انهزم الوطنيون المغاربة أمام «الميكروفون»؟
لم يكن ممكنا للحركة الوطنية التي كان يتجاذب قيادتها كل من محمد بن الحسن الوزاني وعلال الفاسي، تمويل مشروع راديو مغربي لمخاطبة المغاربة في منازلهم والوصول إليهم بعيدا عن مخاطر وعقوبات توزيع المنشورات.
كان إنشاء الراديو في ذلك الوقت ولو بصورة خارجة عن القانون الفرنسي، حلما مستحيلا بالنسبة للمغاربة.
انفرد الفرنسيون إذن بإنشاء أول راديو في المغرب، وأطلقوا عليه اسم «راديو ماروك» بالضبط يوم 15 فبراير 1928.
قبل الإعلان الرسمي عن تأسيسه، كانت الأشغال مستمرة لأشهر طويلة منذ 1927، سنة وصول محمد بن يوسف إلى الحكم بالضبط. تناقلت أوساط الرباط وقتها أخبار عن تأسيس الراديو في المغرب، بل وتنافست كبريات الشركات الفرنسية على صفقة تزويد المغرب بأجهزة الراديو التي سوف يقتنيها الأعيان المغاربة وقبلهم الرعايا الفرنسيون التابعون للإقامة العامة.
لم يكن المشروع ترفيهيا، بل كان آلة دعاية تضاهي العمل العسكري الفرنسي في المغرب. وعند انتشار الخبر في أبريل، بات الأمر محققا وتجاوز مرحلة الإشاعة.
لكن انطلاق البث لم يتم إلا في يوم 13 أبريل من نفس السنة دائما. فسنة 1928 كانت سنة الراديو بامتياز.
أقيمت لاقطات الراديو فوق سقف بناية البريد في قلب العاصمة الرباط. وحج المغاربة الفضوليون إلى المكان متناقلين الخبر. ساعات من البث باللغة الفرنسية تتناول أنشطة الفرنسيين في المغرب سرعان ما تحولت إلى برامج وفقرات مدروسة للتأثير في الرأي العام بالمغرب. وطيلة سنوات «ثلاثينيات» القرن الماضي كانت الإقامة العامة الفرنسية تدعم الفرنسيين المقيمين في المغرب نفسيا ومعنويا من خلال برامج وأخبار وحوارات ومقابلات مع الضباط الذين قادوا حروب فرنسا في الأطلس، خصوصا بعد استسلام عسو باسلام سنة 1933 وانضمام الأعيان المغاربة وجل القياد إلى صف الإقامة العامة.
مع بداية الأربعينيات انخرط «راديو ماروك» في جملة من البرامج الاجتماعية التي وثقت لحياة الفرنسيين في المغرب. برامج تتناول الثقافة المغربية والإرشادات، بل وأخبار تمرير فرنسا لقوانين تجعل إقامة الفرنسيين في المغرب أكثر من مريحة.
في مقابل كل هذا كانت الأوضاع في المغرب شديدة الغليان، وواصل «راديو ماروك» تطمين رعاياه في المغرب حتى بعد تأسيس الحركات السرية المسلحة التابعة للحركة الوطنية.
وخلال الأزمة مع محمد بن يوسف وامتناعه عن المصادقة على مشاريع القوانين الفرنسية في المغرب، كانت فرنسا تدعي دائما أن الأجواء في المغرب صافية تماما.
أمام هذه الآلة الإعلامية على الراديو، كان المغاربة، الحركة الوطنية تحديدا، عاجزين تماما عن اقتسام الأثير مع فرنسا. لقد كانت تتحكم فيه بشكل مطلق!
الحسين السلاوي.. أول عربي سجل أسطوانة في فرنسا ومُنع من الأثير
من سوء حظ الحسين السلاوي أنه توفي قبل أن يقول كل شيء عن مقص الرقيب الذي استهدف أغانيه. فبعد أن أصبحت كلماتها سياسية («حضي راسك» التي قيل أنه خاطب بها الملك الراحل محمد الخامس، ثم «الميريكان» التي تناول فيها تحول حياة جيران القواعد الأمريكية) تعرض الحسين السلاوي لمنع كبير في الراديو خلال أربعينيات وبداية خمسينيات القرن الماضي، رغم أن أغانيه كانت تحظى بشعبية كبيرة، إلى درجة أنه توجه إلى باريس، ليكون على رأس المطربين العرب والمسلمين، الذين تمكنوا من تسجيل أسطوانات في أوربا، وتحقيق مبيعات كبيرة في ذلك التاريخ.
لماذا لم يسمح للحسين السلاوي بالغناء في «راديو ماروك» رغم أن الإقامة العامة الفرنسية كانت تراهن على بث محتوى مغربي لاستقطاب آذان المغاربة وشغلها عن معرفة محتوى المنشورات التي توزعها الحركة الوطنية المعادية للمقيم العام والوجود الفرنسي في المغرب عموما؟
الجواب على هذا السؤال سيبقى معلقا لأن كل أطرافه قد طواها الزمن. حتى أن التنقيب في الأرشيف، على ندرته، لا يحمل جوابا واضحا على السؤال.
قد تكون كلمات أغانيه هي السبب، لكن قبل حتى أن يغني عن الواقع المغربي أيام «البون» والتحولات السياسية التي عرفها المجتمع المغربي، لم يكن مسموحا للحسين السلاوي بالحصول على حيز في «راديو ماروك» رغم تعاقد شركة كبرى للتسجيلات معه في باريس.
السر وراء انتشار أغاني الحسين السلاوي، وجيله بطبيعة الحال، كان هو انتشار «الفونو» في أوساط المغاربة الميسورين والمقاهي التي كانت تطرب المرتادين عليها، حتى في الأماكن الشعبية والنائية، بأغاني الحسين السلاوي القادمة في أسطوانات تحمل عنوان شركة ب»باريس». ورغم ذلك فإن الحركة الوطنية لم تسجل أي موقف ضد الحسين السلاوي.
غير أن العلماء المغاربة، حسب الباحث المغربي عبد الله رشد، الذي ألف كتاب «صفحات من تاريخ الاستبداد» أشار إلى الفتاوى التي حرمت استعمال التلفون وآلة التسجيل التي تشغل الأسطوانات، حيث حرّم العالم المغربي محمد بن الخياط، وزميله محمد بن المدني كنون، استعمال هذه الأجهزة، إلا أن الأمر لم ينقص من شعبيتها، على اعتبار أن الأصوات التي حرمت الهاتف والحاكي وحتى السيارة من قبل، خفتت بعد صدور فتاوى أخرى تجيز استعمالها للمغاربة، خصوصا عندما تم الوقوف على منافعها وصنفت في خانة التقدم العلمي بعد أن كان العلماء الأوائل يصنفونها في صنوف السحر والأرواح الشريرة والخوارق.
ففي سنة 1922، استغل الاستعمار تلك الحملات «التحريمية» التي قادها العلماء، حسب الباحث عبد الله رشد، ووجهوا ضربة موجهة للمجاهد محمد عبد الكريم الخطابي. هذا الأخير تمكن من تأسيس شبكة عصرية للهاتف، استعان به خلال الحرب لتوجيه قواته لضرب الإسبان والتنسيق بين القبائل التابعة له. فقامت الإدارة الفرنسية باستغلال الفتاوى التي اعتبرت التلفون محرما، وأعادت الترويج لها بين الناس، والنتيجة كانت استغلال المتعصبين الذين قاموا بإتلاف خطوط الهاتف وبالتالي قطع الاتصال على قوات محمد عبد الكريم الخطابي. وعندها فقط، فطن المغاربة إلى أهمية خطوط التلفون، وأصبحت الفتوى متجاوزة تماما.
ومع انتشار فهم ثورة الاتصال، لم تعد تلك الفتوى تؤثر في نفسية المتدينين المغاربة، وهو ما يفسر ارتفاع شعبية الحسين السلاوي وانتشار أسطواناته رغم تحفظ الإدارة الفرنسية عليه، خوفا من شعبيته الكبيرة وإمكان تحويله إلى بطل قومي لو أن أغانية بُثت بانتظام على «راديو ماروك».
قصة الغرفة رقم 4 في بناية البريد والتيليغراف
برامج باللغة الفرنسية طيلة ساعات البث الأولى، تنبعث من داخل بناية البريد والتيليغراف في قلب مدينة الرباط.
ثم في الأربعينيات من القرن الماضي، خصصت ساعات بث باللغة الإنجليزية، تزامنا مع الإنزال الأمريكي في الدار البيضاء ونقاط أخرى على المحيط الأطلسي، بعد أن كانت اللغة العربية قد بُرمجت هي الأخرى قبلها بفترة.
وهكذا أصبحت البرمجة غنية مقارنة مع السنوات الأولى لانطلاق الراديو خلال نهاية عشرينيات القرن الماضي.
الصحافيون الأوائل الذين عملوا في الراديو، كانوا مرشحين من وسط الجالية الأولى للمتطوعين للانتقال إلى المغرب بعد وعود الحكومة الفرنسية بتعويضات لكل من رغب في الاستقرار في المغرب.
ثم بعد ذلك، خلال سنة 1934، فتح باب الإذاعة «راديو ماروك» على تجارب صحافية لمذيعين فرنسيين اشتغلوا في الراديو بفرنسا، وجاؤوا إلى المغرب من أجل «تقاعد مريح».
حدث في سنة 1938، أن فتح تحقيق بعد اتهام أحد ضباط الجيش الفرنسي، باستعمال وساطته لتوظيف أحد أفراد عائلته في «راديو ماروك» رغم أنه لم يكن يتوفر على الكفاءة المطلوبة ولم تكن لديه أية خبرة في الصحافة. وبناء على شكاية من صحافيين في الراديو، تم فتح تحقيق للوقوف على تلك الملابسات، واتضح فعلا أن المُرشح المحمي من طرف ضابط الجيش الفرنسي، حصل على منصب حُرم منه مرشحون كانوا يتمتعون بالكفاءة. وقد أشارت صحيفة «كازابلانكا» الفرنسية في أبريل 1938 لتلك الفضيحة التي انتهت بفتح المنصب من جديد.
كيف كان يوظف الصحافيون الفرنسيون في «راديو ماروك»؟ حسب ما يسجله الأرشيف الفرنسي في الموضوع، فإن الراديو كان تابعا كليا للإقامة العامة الفرنسية ولا يتبع بأي شكل من الأشكال لوزارة الإعلام الفرنسية بشكل مستقل، وإنما يشرف عليه المقيم العام ويعين في الإدارة مكلفا بقضايا الراديو الإعلامية والإدارية، وتسري عليه القوانين التنظيمية التي تضعها وزارة الإعلام الفرنسية في ذلك التاريخ. ومنذ سنة 1928، وإدارة الراديو تسير وفق قوانين الإعلام الفرنسي، لكن بتدبير من الإقامة العامة.
كانت مهمة الراديو في البداية تنحصر على نقل الأخبار الرسمية لأنشطة المقيم العام، دون وجود أي برامج ترفيهية للجالية الفرنسية المقيمة في الدار البيضاء والرباط على وجه الخصوص. خصصت نشرات الأخبار الأولى لأنشطة المقيم العام وعلاقته بالسلطان محمد بن يوسف، ونقلت أخبار الجبهات، حيث كانت الحرب دائرة بين الجيش الفرنسي برئاسة الجنرالات الذين تألقوا وعرفهم الرأي العام الفرنسي بعد الحرب العالمية الأولى. وفي سنة 1928 تحولوا إلى أبطال حرب أخرى في الأطلس المغربي أمثال الجنرال «دوغان». كان الراديو ينقل انتصاراتهم، والتي كانت محل تشكيك من طرف الحركة الوطنية المغربية، ويشهد أرشيف صحيفة الرأي العام، ثم العلم، بهذا الموضوع، حيث توجد مقالات تشكك في صحة ودقة الأخبار التي ينقلها راديو ماروك عن الأنشطة العسكرية في الجنوب المغربي خصوصا في منطقة الأطلس وجنوب ورزازات وصولا إلى مغرب الجنوب الشرقي.
هذه «البروباغاندا» كانت تنبعث كلها من قاعة في قلب شارع بناية البريد في الرباط. وظلت مقدسة إلى أن دخلت في مشاكل كبيرة من الحركة الوطنية ومع القصر أيضا.
الحركة الوطنية اعتبرت مغاربة الراديو «خونة»
عندما خصصت ساعات بث قليلة لقضايا المغرب، باللغتين العربية والفرنسية، خلال بداية الأربعينيات، كان هناك عدد قليل من مغاربة الإدارة، كلفوا بتنشيط محتوى في الراديو يتحدث عن إنجازات الإقامة العامة الفرنسية في المغرب، ويدافع عن سياستها. بينما همش الوطنيون تماما، ومنعوا من المشاركة بأصواتهم في راديو يحمل اسم بلادهم.
من بين القضايا التي تطرق لها الراديو، مسألة التعويضات التي فرضت في بداية عهد محمد بن يوسف سنة 1927، أي قبل ميلاد الراديو بفترة قصيرة، تعويضا عن أضرار أحداث الدار البيضاء التي وقعت سنة 1907، لكنها بقيت متداولة لفترة طويلة، وتم استعمالها سياسيا للضغط على المغرب، حيث طالب اليمين الفرنسي بقوة، استخلاص تعويضات مالية من المغرب، لتسديد تعويضات لعائلات القتلى في الأحداث التي كانت سببا في قصف الدار البيضاء والتدخل عسكريا في المغرب.
كان «راديو ماروك»، المنصة الأساسية التي اعتمد عليها بوق الدعاية الفرنسي للتأكيد على تلك المطالب.
وفي بداية الأربعينيات بدأ يظهر جليا التصدع في العلاقات بين الإقامة العامة الفرنسية والسلطان محمد بن يوسف. فبعد ميلاد الحركة الوطنية سنة 1937 وبداية ظهور النشاط السياسي الوطني في المغرب، بدأ القصر الملكي يرجح كفة الوطنيين ويميل إلى مساندتهم. وهو ما نتج عنه تشنج في العلاقات بين السلطان محمد بن يوسف والإقامة العامة الفرنسية. خصوصا أن السلطان بعد سنة 1945 بدأ يمتنع عن التوقيع على مشاريع قوانين وظهائر تقترحها الإدارة العامة الفرنسية وتروج لها على أمواج الراديو. لكن السلطان في الأخير يعارض تمريرها لأنها كانت تمارس التضييق على الوطنيين وتلتهم المزيد من السيادة الوطنية المغربية على الشأن العام في البلاد.
كان موظفو الإدارة العامة الفرنسية، المغاربة على وجه الخصوص، معنيين بمراقبة محتوى الراديو خلال فقرات البث العربية التي كانت موجهة للمغاربة للتأثير عليهم ضدا على أنشطة الحركة الوطنية.
وكان عبد الكريم التلمساني، أحد هؤلاء الإداريين المغاربة، حيث جاء في بعض المصادر، منها أرشيف الصحافية الأمريكية مارفين هاو، التي تقاعدت بعد مسيرة شهيرة في نيويورك تايمز، اشتغلت في راديو «ماروك» ما بين سنوات 1951 و1952. جاء أن التلمساني كان من بين الوجوه التي راهن عليها الراديو لتمرير خطاب الإقامة العامة ردا على حملات الوطنيين التوعوية وردا أيضا على موافقة السلطان محمد بن يوسف للحركة الوطنية في مواقفها.
كان المطلوب، حسب الصحافية مارفين هاو، أن يخاطب التلمساني المغاربة البسطاء ويقنعهم أن فرنسا توجد في المغرب لأجلهم ولأجل بناء المغرب وتحديث الدولة. وردا على دعواته كانت الحركة الوطنية تروج مقالات ومنشورات تتهمه فيها بالخيانة، هو ومن يشتغلون معه في آلة الدعاية داخل «راديو ماروك». حتى أن علال الفاسي اعتبره من الخونة، وبناء على تلك الحملة، كان الوطنيون أواخر الأربعينيات وبداية الخمسينيات، مع انطلاق الكفاح المسلح، يدعون إلى اغتيال الشخصيات التي تربطها علاقة بالإقامة العامة.
قصة مثيرة لعداوة تاريخية بين الراديو ومحمد الخامس سنة 1950
من بين البرامج التي أطلقها «راديو ماروك» مجموعة من الحوارات والاستطلاعات الصوتية مع شخصيات مؤثرة في المغرب.
في سنة 1950 كان الراديو يتناول أنشطة الجيش الأمريكي في القواعد المنتشرة على المغرب، والتي احتفظ بها الأمريكيون خلال الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي، نظرا للموقع الاستراتيجي للمغرب، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية التي من أجلها أساسا بنيت تلك القواعد الأمريكية في المغرب.
كان هناك سوء فهم بين أمريكا وفرنسا بخصوص الانتشار العسكري، وهو ما جعل عددا من الوطنيين المغاربة يطالبون الولايات المتحدة الأمريكية بمساندة المغرب للحصول على الاستقلال من فرنسا.
أول الشخصيات المغربية التي تأثرت بهذا الموضوع هو الباشا الكلاوي. تروي الصحافية الأمريكية «مارفين هاو» التي اشتغلت في راديو ماروك في تلك الفترة، حيث أنجزت لقاء مع الباشا الكلاوي في إقامته وبُث على أمواج «راديو ماروك»، أن الباشا كان خائفا، ولم يتقبل أن تزوره سيدتان أمريكيتان لأجل العمل، واحتاج لساعات لكي يتقبل إجراءهما للحوار الصحافي معه. الحوار كان مخصصا لموضوع موقف الباشا من القواعد الأمريكية في المغرب. وفي الوقت الذي كان فيه السلطان محمد بن يوسف يرغب في الضغط على فرنسا من خلال مفاتحة الأمريكيين في الوعد الأمريكي أيام اتفاق آنفا، على عهد روزفلت، والقاضي بمساعدة المغرب للحصول على الاستقلال من فرنسا، كان الباشا الكلاوي راعيا وفيا للمصالح الفرنسية في المغرب.
إذ أنه أجاب على سؤال الصحافية «مارفين هاو» بخصوص القواعد الأمريكية بالقول إنه واثق أن فرنسا تعرف جيدا كيف تحافظ على علاقتها بالمغرب وأنه راع موثوق للمصلحة المغربية، وجعل الكرة في ملعب فرنسا وحدها رغم أن الأمر يتعلق بالسيادة المغربية. قالت «مارفين هاو» في مقالاتها عن المغرب، حيث عرفت باهتمامها بالعلاقات الأمريكية مع شمال إفريقيا خصوصا المغرب والجزائر، إن الباشا الكلاوي لم يسمح لها بالمغادرة إلا بعد أن أعاد الاستماع للتسجيل أكثر من مرة، قبل أن يعطي موافقته الكاملة على بث الحوار على أمواج «راديو ماروك».
هذه الصحافية طلبت إجراء مقابلة مع السلطان محمد بن يوسف، في نفس الوقت، إلا أن الأمير مولاي الحسن اعتذر لها عن إجراء المقابلة للإذاعة، وفهمت وقتها أن الملك الراحل احتج بطريقته الراقية على المواقف التي يبثها الراديو والتي تعارض كليا السيادة المغربية.
المثير أيضا أن نفس الصحافية اشتغلت في نفس الوقت الذي كانت فيه بالمغرب، ما بين سنوات 1950 و1953، لصالح «تريبين» المجلة الشهيرة الناطقة بالإنجليزية حيث كانت تكتب بها عمودا أسبوعيا عن الأوضاع في المغرب، وحجبت مقالاتها مرات كثيرة لأنها كانت تعارض مصالح فرنسا في المغرب. تقول أيضا إنها اشتغلت متعاونة مع راديو «BBC» في لندن وتسبب لها الأمر في مشاكل جمة مع الإقامة العامة. حتى أن المقيم العام استدعاها مرة لإقامته بشكل ودي على أساس إجراء حوار لصالح «راديو ماروك» مع زوجته وأنشطتها «الخيرية» في المغرب، لتفاجأ بأن اللقاء الهدف منه هو ثنيها عن صياغة التقارير لراديو لندن. حيث تقول إنها استعملت كلمة «Troubles»، بحكم ثقافتها الإنجليزية، لكنها كانت تحمل مدلولا على «المشاكل» باللغة الفرنسية، وجاء التقرير متحاملا على فرنسا وسياستها في المغرب. ورغم أنها حاولت تبرير الأمر بمشاكل الترجمة التي تعرض لها التقرير من الإنجليزية إلى الفرنسية، إلا أن الإقامة العامة أبلغتها عن عدم رضا المقيم العام على التقارير التي تسجلها للندن.
أما في «راديو ماروك» فلم يكن أمامها خيار سوى بث مواد مسجلة عن أنشطة الأمريكيين في المغرب، حيث كان عددهم تقريبا في بداية الخمسينيات بالآلاف، جلهم موظفون في القاعدة الأمريكية، وباحثون جامعيون استقروا في المغرب وقتها لأهداف أكاديمية.
كان «راديو ماروك» يبث بانتظام حصصا بالإنجليزية يخاطب فيها المسؤولون الفرنسيون، المواطنين الأمريكيين في المغرب، في محاولة لتمرير «البروباغاندا» الفرنسية عن المغرب. في وقت كان فيه هؤلاء الأمريكيون يربطون علاقات مع وطنيين مغاربة، ومواطنين بسطاء، يستشفون منهم عكس ما كان يدعو إليه الراديو تماما.
هكذا استُعمل «راديو ماروك» لإجبار المغاربة على التلقيح والتمدرس
وصلات إشهارية من زمن بداية الخمسينيات، يصعب اليوم الوصول إليها. وهنا يجب أن نطرح السؤال عن مصير آلاف من ساعات البث الفرنسية في المغرب والتي أرشفت لفترة ساخنة من تاريخ المغرب الحديث.
هذه الوصلات الإشهارية كانت تعكس السياسة الفرنسية الحقيقية في المغرب. ففي الوقت الذي كان فيه أعوان السلطة المغاربة، المتهمون بالخيانة والذين كان مصيرهم مأساويا سنة 1956، يحاولون حشد المواطنين البسطاء وإجبارهم على حضور حملات الإقامة العامة، كان الراديو هو وسيلة الإجبار الأكثر قوة، إذ كانت الحملات التحسيسية تبث على مدار الساعة، باللغتين الفرنسية والعربية، للدعاية إلى مقررات الإقامة العامة، خصوصا في ما يتعلق بالتلقيح ضد الأمراض والأوبئة وحصص توزيع الأدوية والطعام، ثم جمع المتطوعين في الأشغال العمومية كتشييد الطرق والقناطر، بالإضافة إلى تسجيل الأبناء في سجلات الحالة المدنية وغيرها من المحطات التاريخية التي عاشها المغاربة للمرة الأولى في ظل الاستعمار.
في وقت كانت فيه الحركة الوطنية تحرم التعاطي مع كل ما هو فرنسي في المغرب، وتتوعد الذين اتبعوا التعليمات بالاغتيال والعقاب، كان «راديو ماروك» يمارس دوره في الجوقة الإعلامية الفرنسية ويخاطب المغاربة بكلام يفهمونه، عكس الحركة الوطنية التي كانت توزع منشورات باللغة العربية، في وقت كان فيه أغلب المغاربة أميين لا يعرفون القراءة ولا الكتابة، وحتى الذين كانوا يعرفونها، كانوا يجدون صعوبة في إقناع البسطاء بمحتوى تلك المنشورات، خصوصا أنها كانت تصاغ بعربية فصيحة لا يفهمها إلا الذين بلغوا مستويات متقدمة في مدارس الحركة الوطنية أو من خريجي المدارس العتيقة، وقلة تلقت تعليمها في الشرق، أيام كان الميسورون المغاربة يرسلون أبناءهم إلى مصر وسوريا للدراسة، حماية لهم من المد الاستعماري الفرنسي في المدارس بالمغرب.
كان «راديو ماروك» ينتصر على الميدان، ويصل إلى البيوت أكثر من المنشورات التي كان العامة يخافون أصلا من تداولها لأن عقوبة حيازتها كانت تصل إلى الإعدام.
وفي الوقت الذي كانت فيه أحكام الإعدام ضد الوطنيين المغاربة تنفذ في السجن المركزي بالقنيطرة، كان «راديو ماروك» لا يتوقف عن إذاعة وصلات غنائية لـ «تهذيب» الذوق المغربي العام، وخلق ألفة موسيقية بين المغاربة، خصوصا الذين كانوا يحتكون بالفرنسيين في حياتهم اليومية، وبقية الفرنسيين الذين اختاروا الإقامة في المغرب.
غزو ثقافي إذن، كان في طريقه إلى المغرب خلال أربعينيات القرن الماضي، حمله الأثير ليدخل إلى كل بيت مغربي يتوفر على الراديو، حيث نقلت برامج «راديو ماروك» محتوى عن مغرب هندس له المقيم العام في مكتبه بالرباط، وواجه به من خلال حرب غير معلنة، رموز الحركة الوطنية مثل محمد الوزاني ومعنينو وبن الصديق، حيث كان كل هؤلاء ممنوعين تماما من المشاركة في أية وصلات أو برامج في الراديو، في وقت كان الميكرو يُفتح لمغاربة انفتحوا على الفرنسيين، خصوصا العائلات المغربية الميسورة، حيث كانت تبث مقاطع لمغاربة نجحوا في «الاندماج» ويدافعون، على أمواج الراديو، عن الوجود الفرنسي في المغرب. بين هؤلاء نجد صوت «زينب الرشيد» التي قالت عنها الصحافية «مارفين هاو» إنها كانت تنحدر من أسرة رباطية مرموقة، وكان والدها التونسي صديقا للملك الراحل محمد الخامس، وبحكم أنها كانت تتقن الإنجليزية فقد اقترح اسمها لكي تشارك في فقرة أسبوعية تخاطب فيها الأمريكيين في المغرب وتعرفهم على حياتها اليومية باعتبار أنها مغربية متحررة تأثرت بالثقافة الفرنسية وتدافع عنها. لكن هذه الأخيرة اعتذرت لإدارة «راديو ماروك» عن المشاركة، بحكم أن أسرتها لم تتقبل أن تكون ابنتها على الأثير وتخاطب الجميع، رغم أن والدها كان متحررا. ورغم أن الإدارة الفرنسية كانت تحتاج إلى هذه النماذج للترويج إعلاميا للمد الاستعماري، إلا أنها فشلت تماما في استقطاب أصوات نسائية مغربية لهذا الغرض. وظل «راديو ماروك» المنصة التي اعتمدتها فرنسا منذ 1928 إلى 1956 لإقناع الفرنسيين، ثم الأمريكيين، أنها كانت تمارس دورا «ملائكيا» في المغرب.