هل كان من الضروري أن يقول الوزير السابق وعمدة فاس، إدريس الأزمي كلمة «بيليكي» أمام نواب الأمة؟ الكلمة لا تناسب الفضاء، الذي قيلت داخله ولا تنتمي إليه، ولا ينبغي لمسؤول أن يتلفظ بها لأنها تنتمي أساسا إلى حقل دلالي لا علاقة له بنقاش الأفكار ولا تدبير الشأن العام ولا حتى إحداث توصيف لحالة ما.
ليست هذه المرة الأولى التي يتحول فيها النقاش العمومي إلى «سيرك» من الانفعالات المختلطة لأصحابها بصورة تجعلها تبدو بعيدة تماما عن صلب اهتمامات الناس وانتظاراتهم.
وحدث مرة أن بلغ إلى علم وزارة الداخلية، أيام كان على رأسها الوزير بنهيمة، أي أواسط السبعينات، أن أحد الذين نجحوا في الانتخابات خلال الستينات، قد عُرف بتوزيع وعود على الفلاحين الفقراء بمنحهم أراضي فلاحية على حساب الدولة وبشكل مجاني، وهو ما جعل وزارة الداخلية وقتها تعطي الأمر فورا بتوبيخه، لأن الطريقة التي علمت بها وزارة الداخلية بالأمر لم تكن عبر الوشاية وإنما عبر مراسلات من إحدى العمالات تفيد بأن بعض سكان القرى يعتزمون القيام بوقفات احتجاجية وقد ينزلون من الجبال، حيث يسكنون إلى مقر العمالة ويطلبوا لقاء العامل ليشتكوا إليه مرشح منطقتهم الذي تأخر في تنفيذ وعده كثيرا، بتوزيع أراض عليهم، خصوصا وأنه قد أخبرهم في وقت سابق أن «الأوامر» قد أعطيت من «فوق» لتوزع أراض فلاحية على كل من يصوت عليه في الانتخابات.
لم يكن هذا المرشح بطبيعة الحال مدركا لعمق الكذبة التي أطلقها ولا دلالة الوعد الانتخابي الذي قدمه، لأنه بحسب الرواية المتوفرة لم يكن يتوفر على أي مستوى تعليمي وكان يترشح للانتخابات إيعازا من بعض الأعيان المحسوبين على أحزاب كبرى، كانوا يحتاجون إلى من يتولى تمويل حملتهم الانتخابية في المداشر البعيدة والقرى التي يعرف الجميع وقتها أنها لم تكن تتوفر حتى على طرق ومسالك توصل إليها، فما بالك بمسيرات الحملات الانتخابية التي كانت تستعمل فيها السيارات والملصقات الدعائية.
هذا البرلماني، بعد أن نجح في الوصول فعلا إلى قبة البرلمان ممثلا للأغلبية البرلمانية، دافع عن نفسه بكل ما أوتي من قوة رغم أنه لم يكن يتوفر على مستوى تعليمي يخول له خوض النقاش، واعتبر أن الانزلاقة التي وقع فيها، والتي تطعن في مشروعيته سياسيا، حق مشروع، على اعتبار أن البرلمان في تلك الفترة كان يناقش خطوة توزيع الأراضي التي كانت ترعاها وزارة الفلاحة وأيضا التجهيز وحتى الداخلية.
عندما وُصف البرلمان بـ»السيرك» وأغلقه الملك الراحل الحسن الثاني تطبيقا لبند دستوري يخول له حل الحكومة والبرلمان سنة 1965، فلأن الحياة السياسية، حسب شهادات كثيرة واكبت تلك الفترة، بلغت حدا لم يعد معه البرلمان يقوم بالمهام التي وُجد من أجلها.
وحتى بعد عودة الحياة إلى كراسي النواب مع بداية السبعينيات، استمر الوضع على حاله، وفي كل فترة، تتجدد انزلاقات الوزراء والبرلمانيين، كما لو أنها تقفز من كرسي لآخر.
إدريس الأزمي.. وجه «البيجيدي» الذي يظهر ويختفي
رغم أنه حاصل على شهادة جامعية عليا في الكيمياء، إلا أن بعض «الخلطات» أبانت فشله في الإمساك بسوط الملاسنات السياسية التي تتطلب أساسا أن تكون أعصاب صاحبها من حديد. فشل إدريس الأزمي في تدبير سؤال تحت القبة هذه الأيام، وانفعل بصورة لم يسبق ربما للمغاربة أن رأوه فيها، حتى عندما كان وزيرا مكلفا بالميزانية. وها هو اليوم عمدة لمدينة فاس التي تتكاثر فيها المشاكل التدبيرية أكثر من حفر شوارعها العتيقة يتهاوى أمام ارتداد انفعاله غير المبرر.
اعتاد حزب العدالة والتنمية أيام المعارضة أن يطرح أسئلة حارقة على وزراء الحكومات السابقة، خصوصا خلال تجربة التناوب ثم مع حكومتي جطو وعباس الفاسي، ما بين سنوات 2002 و2010، خصوصا الأسئلة التي تتعلق بتعويضات الوزراء والبرلمانيين وتقاعدهم وامتيازاتهم التكميلية وحتى التقاعد. واشتهر وقتها كل من الرميد وعبد الإله بنكيران وحتى سعد الدين العثماني، وهم يطوقون وزير المالية السابق فتح الله ولعلو، ويطلبون منه في جلسات تابعها ملايين المغاربة، مدهم بتفاصيل طرق وشروط صرف المعاشات والمعاشات التكميلية للنواب والوزراء، ونصحوا الحكومة بعدم تبديد الأموال العمومية على امتيازات مدبري الشأن العام المنتخبين والمُعينين.
وها هو عضو الأمانة العامة، وأحد أقرب وجوه القيادات إلى مربع قيادة المجلس الوطني للحزب، ينفعلُ بصورة جرت عليه الكثير من الانتقادات والسخرية اللاذعة أيضا، أمام مداخلة واضحة بشأن تلك الامتيازات نفسها التي بنى الحزب حملته الانتخابية على مراقبة طرق صرفها، حيث احتج وسأل بدوره المنتقدين ما إن كانوا يرغبون في أن يعمل نواب الأمة ووزراؤها «بيليكي»؟ وهي كلمة دارجة تُحيل على المجانية.
الأزمي، حتى أثناء التجربة الحكومية التي قادها عبد الإله بنكيران، كان متحفظا في التعامل مع الصحافة، لكنه كان يُظهر طاقة خطابية في اللقاءات الداخلية للحزب والتي كان يؤطر بعضها من موقعه في المجلس الوطني. واستحق أن يكون ذلك الوجه الذي لا يظهر إلا ليختفي من جديد.
عبد الإله بنكيران.. صاحب رقم قياسي في «ملاسنات» أنبتت «زلات» للتاريخ
كانت جلسة المساءلة الشهرية لرئيس الحكومة السابق عبد الإله بنكيران، تتحول في مرات كثيرة إلى حلبة تراشق بالاتهامات وصلت حد التشكيك في الشرف، وأحيانا أخرى حملت كلمات «فضفاضة» اختلف المغاربة في تأويلها.
ما بين سنوات 2012 و2015، كانت الصفحات المخصصة في الجرائد الوطنية لمتابعات وقائع جلسة المساءلة الشهرية، تعج كلها بأسطر تجعل القراء يخلطون بين الركن الساخر للجريدة وبين صفحات التقارير السياسية.
كان عبد الإله بنكيران «بطل» انزياحات كثيرة، حيث سقط مرات كثيرة في ملاسنات اتخذت طابعا شخصيا. وأشهر أمثلتها تلك التي جمعته مع برلمانية من المعارضة انفعل فيها رئيس الحكومة كثيرا ولم يقبل أن تقاطعه رغم أن تدبير النقاش كان من مسؤولية مسير الجلسة.
ثم سرعان ما راح عبد الإله بن كيران يمارس دور المعارض ناسيا أنه رئيس حكومة لديه صلاحيات دستورية، وأخذ يفرق اتهامات بالفساد على أحزاب سياسية وبرلمانيين، حتى أن فريقا من المعارضة رفع طلبا لكي تتم متابعة رئيس الحكومة لأنه يعرف مفسدين وناهبين للمال العام ويتوفر على لوائح بأسمائهم كما يقول، ويتستر عليهم، لأنه قال حرفيا أمام النواب والوزراء والفرق الحزبية: «أنا أعرفهم واحدا واحدا لكنني لن أكشف أسماءهم». وأعاد رئيس الحكومة السابق نفس الخطاب مرة بالدارجة ومرات أخرى بالعربية الفصيحة.
كانت شعبية عبد الإله بنكيران تتأرجح دائما بسبب تلك الجلسات، لأن البعض كانوا يرون فيها كلاما يسهل فهمه، على عكس كلام معظم رؤساء الحكومات السابقين، بينما الأغلبية كانت ترى في الأمر كله لونا من ألوان التهريج السياسي الغارق في الشعبوية.
محمد الوفا.. وزير التعليم الذي شغل البرلمان والشعب بانزلاقاته
ربما لا تذكر الأجيال الجديدة، للاستقلالي محمد الوفا، حضوره القديم في جلسات برلمان السبعينيات والثمانينيات. إذ رغم الشراسة التي كان يبين عنها أيام سنوات الرصاص، إلا أنه، باعتبار تكوينه ومكانته في صفوف شبيبة حزب الاستقلال أيام الحركة الطلابية، كان من أبرز مرشحي الحزب الذين توقع لهم الجالسون في القيادة مستقبلا سياسيا ما.
لكن الحقيقة أن محمد الوفا أُبعد عن الحياة السياسية عندما تم تعيينه سفيرا للمغرب، واضطر إلى مغادرة عالم البرلمان والجلسات الساخنة. ولم يعد إلا مع حكومة عبد الإله بنكيران لكي يتعرف عليه الجدد، ويتذكره من نسوه، وهكذا أصبح الوزير الجديد في حكومة بنكيران سنة 2011، أحد أهم الوزراء المتدخلين في جلسات الأسئلة الكتابية والشفهية التي ترفع إلى الوزراء.
وعندما أصبح الوفا وزيرا للتعليم، كان يأخذ وقته كاملا، تاركا مشاكل القطاع، ويتفرغ لمقارعة النواب والرد في الجلسات المنقولة على الهواء، حتى أن الوفا كان يلقب وقتها بوزير «البيجيدي» رغم أنه كان وزيرا استقلاليا، واضطر إلى أداء ضريبة انحيازه إلى رئيس الحكومة الذي لا ينتمي إلى حزبه، مفضلا البقاء في منصبه الوزاري رغم أن حزب الاستقلال قد اتخذ قرارا بالانسحاب من الحكومة والرجوع إلى المعارضة، وهو ما اعتبره المحللون السياسيون «بلوكاج» لعمل حكومة عبد الإله بنكيران الأولى.
الزلات التي سقط فيها محمد الوفا عديدة، لكن أبرزها تلك التي تتعلق بمساءلة البرلمانيين له بخصوص ما تفوه به وهو وزير للتعليم مخاطبا فتاة في منطقة نائية كانت تحدث الوزير في إحدى جولاته التفقدية إلى المدارس العمومية، عن مشاكل التمدرس، لكي ينصحها بالزواج. هفوة جرت على المغرب انتقادات كثيرة في الداخل والخارج، حتى أن صورته أصبحت متداولة في برامج ساخرة في قنوات أجنبية تناولت تصريحه بالصوت والصورة. وكانت تلك بداية نهاية الوزير الوفا في عالم الاستوزار.
قالها أحرضان تحت القبة: «الفلاّحة كلهم فجيبنا»
قالها المحجوبي أحرضان في قلب البرلمان عندما كان وزيرا في حكومة سنة 1964 مشرفا على قطاع الفلاحة. المناسبة كانت جلسة برلمانية يُساءَل خلالها الوزراء من طرف البرلمانيين.
مقر البرلمان المغربي بالرباط كان وقتها مسرحا حقيقيا يتبارى خلال جلساته نواب من حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الذين كانوا يمثلون نسبيا نخبة مثقفي السياسة، في مقابل الأعيان الذين عُينوا في الوزارات أو حصلوا على مقاعد في البرلمان نتيجة انتمائهم لحزب رضا اكديرة أو حزب الاستقلال.
هؤلاء النواب والوزراء كانوا ينفعلون بشكل تلقائي أثناء أجوبتهم في جلسة الأسئلة المرفوعة من طرف النواب.
في واحدة من الجلسات الساخنة، اتهم برلماني من الفريق الاستقلالي، حيث إن الحزب وقتها لم يكن في حالة وفاق مع الحركة الشعبية، المحجوبي أحرضان باستعمال منصبه لإجبار الفلاحين على التسجيل في لوائح المنخرطين في حزبه.
اتهام ثقيل كهذا أثار غضب الوزير أحرضان الذي بادر إلى تفجير تصريح مدو أمام النواب، حيث قال إن الفلاحين جميعا في «جيبنا»، معتبرا أنهم مغاربة وأن من حقه استقطابهم سياسيا.
كان معروفا وقتها أن مسألة تزوير الانتخابات كانت تلقى قَبولا سياسيا لدى أغلب المنتخبين، وهو ما اعترف به أحرضان نفسه في مذكراته حيث أقر بحصوله على أموال لكي يمول حملته الانتخابية، وأن الداخلية، أيام إدريس البصري وقبله بنهيمة سنة 1977، قد ساعدته في تزوير نتائج بعض المناطق، خصوصا «ولماس» لصالح حزبه.
وهنا نفهم أن «الفلاحة كلهم في جيبنا»، يمكن أن تُفهم وقتها في ذات السياق، لكنها أثارت ضده حربا كلامية كبيرة في صحافة المعارضة، حيث خصصت مقالات طويلة لمناضلين اتحاديين وبرلمانيين من نفس الحزب لمساءلة الوزير ووصفوا تصريحه بالفضيحة.
زلات إدريس البصري.. غلطة الشاطر بألف
رغم أنه كان رجل الضوء، وسيد الجلسات البرلمانية، وأنه لم يكن يجلس في المنصة، إلا أن إدريس البصري، وزير الداخلية القوي ومهندس الانتخابات، الذي اعترف بعد انتهاء حياته السياسية بتزويرها، كان على موعد بدوره مع «زلات» جرت عليه انتقادات في الخارج، بحكم أنه كان يُحسن الإجهاز على معارضة الداخل خصوصا في الإعلام. بينما كانت قلة من البرلمانيين، أمثال بن سعيد أيت يدر، قادرين على انتقاده وانتقاد تدخلاته وعلى المباشر.
كانت الانتقادات التي تطول اسم إدريس البصري قادمة من الخارج، يقودها المغاربة «المنفيون» خصوصا تيار الاختيار الثوري الذين كانوا يتهمونه بعرقلة كل إصلاح سياسي ممكن في المغرب.
زلات إدريس البصري في الوزارة والبرلمان كثيرة، إذ كانت مداخلاته في مرات كثيرة تؤكد الخروقات التي اتهم بالقيام بها في عالمي الداخلية والإعلام. إذ اعترف إدريس البصري مرات كثيرة بأنه ضيق على المعارضة أو أوقف إجراءات ما بطريقة غير دستورية. أما مسألة تزوير الانتخابات وصناعة خارطة النواب بشكل يسهل التحكم فيها، فحدّث ولا حرج.
الحرب التي شنتها المعارضة على إدريس البصري في منتصف تسعينيات القرن الماضي وإصرار الكتلة على إبعاده تماما من الحياة السياسية كشرط لمشاركتها في تجربة جديدة دعا إليها الملك الراحل الحسن الثاني، كانت تأكيدا لامتناع السياسيين عن الاشتغال معه معتبرين أن اسمه أكبر داع للتشكيك في نزاهة الانتخابات حتى قبل إجرائها.
أما قصة إدريس البصري مع البرلمان في نسخه الأولى فتستحق فعلا أن تروى، لأنها تقول كل شيء. ففي سنة 1965 عندما استعمل الملك الراحل الحسن الثاني صلاحياته الدستورية وحلّ الحكومة والبرلمان، كان إدريس البصري رجل الأمن الذي سهر على تنفيذ قرار إغلاق مقر البرلمان وإفراغ مكاتبه من البرلمانيين وأعضاء الفرق البرلمانية، وكان يقف أمام البوابة المفضية إلى قاعة البرلمان ويأمر النواب بالعودة من حيث أتوا، مشهرا مفاتيح البرلمان في يده: «ما بقا برلمان».
البرلماني الذي احتج على يعته: «غادي نقولها لسي ادريس»
في واحدة من أشد جلسات الخريف البارد لسنة 1992 سخونة، انبرى أحد النواب ليتلو سؤالا شفهيا على وزير في حكومة العمراني، والتي اشتهرت وقتها بكونها حكومة تكنوقراط بامتياز. كان المستوى التعليمي لهذا البرلماني متواضعا، وبدا الأمر بوضوح عندما شرع في تلاوة مداخلته التي كانت على شكل سؤال لوزير الصحة عبد الرحيم الهاروشي. أثارت مداخلته التي نقلت على أمواج الإذاعة سخرية في الإعلام وكتبت وقتها صحيفة التقدم والاشتراكية مقالا يتأسف على الحال الذي وصل إليه نواب الأمة، وهو ما اعتبره هذا النائب إهانة مباشرة له.
في الجلسة الموالية، طلب النائب الكلمة من جديد قبل شروع الوزراء في الرد على الأسئلة الكتابية التي تُرفع إليهم، وأثار موجة سخرية عارمة عندما قال بالدارجة ملقيا الورقة المكتوبة على الطاولة: «أنا بغيت نقول لعلي يعته أنني غادي نشكي بيه لسي ادريس». في إشارة إلى حظوته لدى وزير الداخلية في نفس الحكومة، والذي كان يهيمن على الداخلية والإعلام أيضا في حكومة العمراني.
هذا النائب، أثار موجة سخرية كبيرة في تلك السنة، خصوصا وأن استنجاده بالوزير القوي إدريس البصري، في وجه علي يعته، الذي كان البصري نفسه يحسب له ألف حساب، أبان بشكل واضح أن جهل النائب باللغة ينضاف إليه جهل كبير بالسياسة.
عبد الخالق الطريس لحزب اكديرة: «لا تُقحموا اسم جلالة الملك»
عبد الخالق الطريس السياسي الاستقلالي الذي كان يحظى بثقة كبيرة لدى الملك الراحل محمد الخامس، ثم مع الملك الحسن الثاني، كان يترأس الفريق الاستقلالي في برلمان سنة 1964.
دخل الطريس التاريخ عندما أعلن تأييد حزب الاستقلال لملتمس الرقابة الذي وضعه أعضاء فريق حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، حيث طالبوا بعقد دورة استثنائية.
المثير ليس هو تأييد الطريس للملتمس، ولكن المثير هو المداخلة التي وجهها إلى أعضاء فريق «الفديك»، الجبهة التي كان يقودها رضا اكديرة صديق الملك ووزير الداخلية في نفس الوقت.
كانت المداخلة النارية للطريس، تلقي اللوم على أعضاء الفديك الذين عارضوا الملتمس بطبيعة الحال، وقال موجها خطابه إليهم، إنه من العار استعمال اسم الملك الحسن الثاني كلما ناقشوا موضوعا مع بقية النواب، وكأن جزءا من المغاربة لديهم نقص في الولاء والتقدير لشخص الملك الحسن الثاني.
هذه المداخلة أقامت الدنيا عندما أصدرها حزب الاستقلال في صدر الجريدة في أكتوبر 1964. وسارع اكديرة إلى محاولة جمع نسخ «العلم» حتى لا ينتشر العدد في صفوف المواطنين، لأن الكلمة التي ألقاها الطريس وقتها اعتبرت نارية بكل المقاييس، واعتبرها اكديرة «زلة» لم يغفرها للطريس، خصوصا وأن الاتجاه نحو هيمنة اكديرة على المشهد السياسي كان وقتها قد بدأ للتو. في حين أن الزلة الحقيقية لم يرتبكها الطريس وإنما ارتكبها الذين كانوا يوظفون رمزية الملك الحسن الثاني وكأن بقية الفرق تمثل انفصاليين وليس أحزابا وطنية أيضا.
أحداث 1965.. زلة الوزير بلعباس التي أدخلته التاريخ
رغم أن الوزير السابق يوسف بلعباس الطعارجي، الذي شغل منصب وزير الصحة ثم سفيرا للمغرب في باريس، مر بمناصب ومسؤوليات مهمة، إلا أن إشرافه على وزارة التعليم سنة 1965، جر عليه ثقلا تاريخيا كبيرا، وهناك من اعتبره مسؤولا عن إشعال فتيل «أحداث 1965» التي واجهت فيها الآلة الأمنية، احتجاج التلاميذ ضد قرار هذا الوزير بحرمان الذين كرروا السنة أكثر من مرتين، من مواصلة دراستهم في سلك الإعدادي. لم يُتهم الوزير مباشرة بالضلوع في أحداث إطلاق الرصاص على المتظاهرين الذين كان أغلبهم تلاميذ، وهذا أمر طبيعي لأنه لم يكن مسؤولا أمنيا، لكن اعتُبر أنه مُشعل الفتيل لأن قراره كان وراء تأزيم الوضع في الشارع.
الزلة التي سقط فيها الوزير كانت في البرلمان عندما طوقه فريق المعارضة، خصوصا وأن جل التلاميذ الذين قتلوا بالرصاص الحي كانوا ينتمون للحركة التلاميذية لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وتبرأ الوزير من أي مسؤولية عن تلك الأحداث، وبدل أن يحاول تجاوز الأزمة التي وقعت فيها وزارته، لجأ إلى الدفاع عن القرار الذي فجّر الأزمة، مدافعا عنه رغم أنه كان قرارا وزاريا غير صائب وشجع على الهدر المدرسي وحرمان شريحة واسعة من أبناء المغاربة من حقهم الدستوري في التمدرس.
بعد الجلسة التي احتضنها البرلمان، أصبح بلعباس هدفا لنيران الصحافة التي تناولت مداخلته وجعلتها عنوان إصرار شخصي منه على التمسك بالقرار رغم أنه لم يكن صائبا.
برلماني أغلبية «اكديرة» الذي مارس المعارضة ووصف المغاربة بـ«لغْنْم»
يروي عبد الواحد الراضي، الكاتب الأول الأسبق لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية والوزير السابق، واقعة طريفة لأحد نواب البرلمان.
الراضي الذي يعتبر اليوم واحدا من أقدم البرلمانيين المغاربة، بحكم أنه دخل البرلمان في أول تجربة برلمانية مغربية سنة 1963 وبقي مستمرا في كل التجارب الانتخابية اللاحقة محتفظا بمقعده البرلماني عن منطقة سيدي سليمان، قال في مذكراته «المغرب الذي عشته» متحدثا عن برلمان سنة 1964: «أتذكر تدخلا لأحد نواب الأغلبية، وكيف تناول الكلمة منتقدا الوضع السائد في البلاد. كان رجلا بسيطا عفويا لا تبدو عليه أمارة الحس السياسي، وتأثر بدون شك بخطاباتنا وتدخلاتنا القوية في إطار مناقشات ومواجهات ملتمس الرقابة. فما إن وقف في المنصة حتى انهال على الحكومة بالنقد الشرس. كان يتحدث بمشاعره وقلبه، وختم تدخله بالقول: المغاربة دابا بحال شي قطعة ديال الغنم وسارحينها الذيوبة».
هذا الخطاب الدارج الذي اعتبر وقتها شديد الجرأة، كان يبث في أغلبه على أمواج الإذاعة، كان يترك صدى ونقاش كبيرين داخل مختلف الفئات الاجتماعية في المغرب، وتتلقفه الصحف، سواء جرائد الأغلبية أو المعارضة، بكثير من التحليل والنقد.
عبد العزيز الوزاني.. النائب الذي قال: «نحن لم نقتل المغرب..نحن دفناه»
مع عبد الواحد الراضي دائما، حيث حكى في مذكراته «المغرب الذي عشته»: «أذكر المرحوم عبد العزيز الوزاني، وكان نائبا عن الأغلبية في برلمان تلك الولاية الستينية. كنا أنهينا المناقشات الخاصة بقانون المالية لسنة 1964، وكنا أبدينا اعتراضا قويا على ميزانية متقشفة تقشفا كان يعني تفقير المغاربة وتجويعهم. ميزانية جاءت لتفرض المزيد من الضرائب على المغاربة البسطاء وتُنذر بالغلاء والمصاعب الواضحة للعيان. وفيما كنت أتهيأ لأغادر محيط المجلس على متن سيارتي، طلب الوزاني أن أنقله معي إلى محطة القطار ليسافر عائدا إلى منطقة بأيت طيفت (سنادة) تارجيست. شمال المغرب. في الطريق سألته: «ايواآش هاد الشي آسي الوزاني؟ ميزانية كارثية بحال هذي كتصوتو عليها وتزكيوها وانتم كتعرفو أنكم غاديين تقتلو بيها هاد المغرب!». فأجابني على الفور: «لا سيدي. احنا كاع ما قتلناه.. احنا ع دْفناه!».
البرلماني الذي حُذف تصريحه من نشرة الأخبار لأنه أعلن أنه بدون برنامج
مباشرة بعد تعيين إدريس البصري وزيرا للإعلام في بداية ثمانينيات القرن الماضي، حتى أصبح أعوان الداخلية، يتحكمون في المحتوى الذي يعرض في التلفاز المغربي ويشاهده كل المغاربة.
حدث مرة أن أحد أعضاء اللجان البرلمانية نوى الترشح للانتخابات البرلمانية، وكان حاضرا في نشاط رسمي وسجل معه الصحافيون كلمة مقتضبة على خلفية النشاط الذي تزامن مع اقتراب انطلاق الحملة الانتخابية. وهذا النائب الذي كان في صفوف حزب الاتحاد الدستوري قبل أن يرحل صوب حزب الاستقلال بداية التسعينيات، حاول استغلال وجود التلفزيون لكي يوجه كلمة إلى سكان المنطقة التي يمثلها في البرلمان وأعلن أنه لا يتوفر على أي برنامج لكنه لن ينساهم عندما يجددون فيه الثقة.
هذا التصريح كان سيضع صاحبه في مأزق كبير مع إدريس البصري لو تم بثه على التلفزيون أو أمواج الإذاعة، وكاد أن يتحول إلى «زلة» قد تعصف بمستقبل صاحبها السياسي لولا أن مقص الرقيب حذف المداخلة كلها قبل توضيب مواد نشرة أخبار المساء التي كانت تحظى بمتابعة شعبية واسعة.