حل أولاف شولتز عن الحزب الاشتراكي الديموقراطي مستشارا جديدا لألمانيا خلفا لأنجيلا ميركل، بعدما استطاع أن يقنع الألمان بأنه جدير بقيادة البلاد، رغم أنه واجه عددا من الفضائح السياسية، وسخرية الناس على ملامحه الصارمة وخطبه التي يلقيها بنبرة آلية أكسبته لقب «شولتزومات»، ووصفه بالسياسي الأكثر مللا في العالم. لكن من ناحية أخرى، أثبت على مدار حياته السياسية أنه الرجل المناسب لهذا المنصب الحساس.
ولد أولاف شولتز في مدينة أوسنابروك في 14 يونيو 1958 في ألمانيا الغربية، وكان والده تاجرا ووالدته ربة منزل. وانضم إلى الحزب الاشتراكي الديمقراطي عام 1975 في سن السابعة عشرة، وكان يعرف بارتداء بذلات صوفية ويشارك في عدد كبير من المظاهرات السلمية.
شغل منصب نائب رئيس منظمة الشباب في الحزب الاشتراكي وقاد حملة في الثمانينيات من أجل «اشتراكية راديكالية للتغلب على الاقتصاد الرأسمالي».
وبالتوازي مع نشاطه الحزبي، كان شولتز يتابع دراساته في القانون. وبعد تخرجه من كلية الحقوق بجامعة هامبورغ، أسس عام 1985 مكتب محاماة متخصصا في قانون العمل في المدينة. ومن خلال عمله، تعلم شولتز آليات عمل الاقتصاد والشركات الخاصة، ما ترك أثرا على شخصيته.
وانطلقت مسيرته فعليا عندما وصل الاشتراكي الديمقراطي غيرهارد شرودر إلى المستشارية في انتخابات 1998. وانتُخب شولتز في نفس السنة عضوا في البوندستاغ (البرلمان الألماني) وأصبح أمينا عاما للحزب في 2002. وفي عام 2005، انقسم اليسار الألماني بسبب تحرير سوق العمل، وهو ما سرع هزيمة شرودر أمام أنجيلا ميركل.
وبعدما شغل منصب رئيس بلدية مدينة هامبورغ الساحلية الشمالية من 2011 إلى 2018، عاد أولاف شولتز إلى برلين كوزير لمالية «ميركل». وكان يستلهم من أسلوب ميركل، حتى أنه يقلدها في الإيماءات، خصوصا إيماءة يدها الشهيرة، إلى درجة أن صحيفة «تاغس تسايتونغ» اليسارية وصفته بأنه نسخة «متحورة» من ميركل.
انتخب البرلمان الألماني، يوم الأربعاء 8 دجنبر 2021، النائب عن الحزب الاشتراكي الديمقراطي، وزير المالية أولاف شولتز، مستشاراً جديداً للبلاد، ليطوي بذلك نهائياً عهد أنجيلا ميركل الذي استمر 16 عاماً.
وحصل شولتز في الجولة الأولى من التصويت، على أصوات 395 نائباً من أصل 707، في حين صوت 303 نواب بـ «لا»، وامتنع 6 آخرون عن التصويت، إلى جانب إلغاء أصوات 3 نواب. و بذلك يصبح تاسع مستشار لألمانيا لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
وتعتبر هذه الحكومة سابقة من حيث تشكيلتها السياسية، إذ تضم للمرة الأولى منذ الخمسينيات ثلاثة مكونات، هي: الحزب الاشتراكي الديمقراطي، وحزب الخضر، والحزب الديمقراطي الحر.
أشرف على حزمة التمويل الطارئة البالغة قيمتها 884 مليار دولار، التي وضعتها الحكومة الفيدرالية لمساعدة الشركات والعمال الألمان في تجاوز تبعات وباء كورونا المستجد (كوفيد 19).
وقال شولتز: «هذا هو السلاح الفعال لإنجاز المهمة». «نضع كل أسلحتنا على الطاولة لإظهار أننا أقوياء بما يكفي للتغلب على أي تحد اقتصادي قد تشكله هذه الجائحة». كما ترأس اجتماعات مجلس الوزراء عندما دخلت المستشارة ميركل في العزلة الذاتية كإجراء احترازي.
ورغم كل المصاعب الناجمة عن أزمة كوفيد، نجح شولتز في إدارة مؤسسة الرعاية الاجتماعية التابعة للدولة وهائلة الحجم وكافح من أجل الحفاظ على التماسك الاجتماعي والبقاء مخلصاً لجذوره اليسارية.
قبل الإعلان عن ترشحه لمنصب المستشار، عن الحزب الديمقراطي الاشتراكي، اعتاد على القول، عندما كان يُسأل عما إذا كان سيرشح نفسه أم لا: «نحن بحاجة إلى العمل وليس إلى الانغماس في الغرور».
ومع فرنسا، كان شولتز أيضاً المهندس الرئيسي لصندوق الاتحاد الأوروبي للتعافي من الوباء والبالغة قيمته 750 مليار أورو.
وبينما كانت ألمانيا تستعد لإنهاء حقبة أنجيلا ميركل من العلاقات الوثيقة مع فرنسا، فإن سجل شولتز في الحفاظ على التضامن الفرنسي-الألماني ظل يعمل أيضاً لصالحه.
أشاد وزير المالية الفرنسي برونو لومير، ليس فقط بتضامنه مع فرنسا، ولكن أيضاً بشقيقه الطبيب جينس شولتز، الذي نقل جواً ستة مرضى فرنسيين مصابين بكوفيد كانوا في حالة حرجة إلى مستشفى مدينة كيل الألمانية. لقد كانت مهمة باهظة الثمن ودفعت الحكومة الألمانية كلفتها.
قال لومير: «شكراً لك يا أولاف، على كل ما فعلته بالفعل، وشكراً لأخيك أيضاً. فعائلة شولتز عائلة ألمانية رائعة».
فضائح سياسية
تعرضت حياة شولتز السياسية للفضائح، وذلك عندما كان عمدة لمدينة هامبورغ، حيث واجه انتقادات حادة بسبب تعامله مع قمة مجموعة العشرين في عام 2017، إذ انحدر الحدث إلى أعمال عنف واسعة النطاق بين المتظاهرين والشرطة الألمانية.
كما تم استجواب شولتز في تحقيق حول ما إذا كان قد تصرف للتأثير على السلطات الضريبية نيابة عن بنك هامبورغ في وسط فضيحة الاحتيال cum-ex، التي حرمت الدولة الألمانية من عائدات بمليارات اليورو، ونفى ارتكاب أي مخالفات ولم تظهر ضده أدلة ملموسة.
وفي وقت سابق من هذا العام، استجوب مجلس النواب الألماني شولتز في قضية غسيل أموال بدعوة من نواب معارضين، وتكهنت وسائل إعلام محلية بأن هذه الفضيحة أدت إلى إرباك داخل حزبه الاشتراكي الديمقراطي -يسار الوسط- الذي فاز بالانتخابات لاحقاً، حيث اتهم شولتز بالتقصير كوزير في أداء واجباته الرقابية في سلسلة من الفضائح المالية الأخيرة.
ورفض شولتز هذا الاتهام بشدة، قائلاً إنه أدخل سلسلة من الإصلاحات لمكافحة غسيل الأموال والاحتيال في الشركات. كما تعرض سابقاً لانتقادات لفشل وزارته في التحرك بعد ظهور إشارات تنذر بوجود مشاكل في شركة المدفوعات المالية «وايركارد» التي انهارت العام الماضي بعد الإقرار بوجود فجوة مالية في حساباتها تصل إلى 1,9 مليار أورو.
وفي شتنبر، أُجبر شولتز على العودة إلى برلين من مسار الحملة الانتخابية للإجابة عن أسئلة لدى اللجنة المالية البرلمانية، حيث تم استدعاؤه للتحقيق بعد أن أمر المدعي العام بتفتيش وزارة المالية في إطار تحقيق بمزاعم «إعاقة سير العدالة» في وحدة مكافحة غسل الأموال التابعة لها.
التحديات
سيواجه الوزراء بعد تولي مهماتهم الجديدة وضعاً صحياً متأزماً إلى حد غير مسبوق منذ ظهور جائحة «كوفيد 19»، إذ دفعت الموجة الجديدة من تفشي الوباء الحكومة إلى فرض قيود شديدة على غير الملقحين تتضمن منعهم من دخول المطاعم والمواقع الثقافية وحتى المتاجر غير الأساسية في بعض المناطق منها العاصمة برلين.
ومن المتوقع أن تفرض الحكومة الجديدة بدفع من شولتز إلزامية التلقيح ضد فيروس «كوفيد 19»، وذلك اعتباراً من فبراير أو مارس، في وقت تخضع المستشفيات لضغوط شديدة، سيما في ساكسونيا وبافاريا، حيث الوضع متأزم جداً.
وقرر شولتز، رئيس بلدية هامبورغ سابقاً، أن يعهد بحقيبة الصحة إلى كارل لاوترباخ وهو طبيب، ويدعو إلى فرض قيود شديدة.
غير أن السلطات الجديدة قد تصطدم بمشاعر الغضب حيال التدابير الصحية في مناطق ألمانيا الشرقية سابقاً، التي تضم معاقل اليمين المتطرف، وحيث تنتشر نظريات المؤامرة بين السكان الذين يرفضون تلقي اللقاح. وغالباً ما تشهد تجمعات المعارضين للقيود الصحية اشتباكات.
كذلك، تواجه الحكومة الجديدة ترقباً كبيراً في الملفات الدولية وسط التوتر الجيوسياسي مع روسيا والصين.
وعود مستقبلية
وعد أولاف شولتز ببناء المزيد من المنازل لكبح ارتفاع الإيجارات، خاصة في هامبورغ. كما تعهد باتخاذ إجراءات أسرع بشأن أزمة المناخ دون تعريض الوظائف للخطر، وتحويل ألمانيا إلى مُصدر رائد لتكنولوجيا الطاقة الخضراء.
وتتمثل الأولوية العاجلة في زيادة الحد الأدنى للأجور من 9.60 أورو للساعة إلى 12 أورو. ولا تعتبر هذه الوعود راديكالية، وإنما هدفها إرضاء الجناح اليساري لحزب شولتز. وقد ساعده الحذر والكفاءة، التي تعد من أبرز سماته، على قطع شوط طويل، من أجل خلافة أنجيلا ميركل في منصب المستشار الألماني.
نافذة
من المتوقع أن تفرض الحكومة الجديدة بدفع من شولتز إلزامية التلقيح ضد فيروس «كوفيد 19» وذلك اعتباراً من فبراير أو مارس.