لا ريب أن كثيراً من المغاربة تابعوا الدردشة الماراطونية التي حاول أن يدشن بها عبد الإله بنكيران خروجه من العزلة السياسية القاتلة التي لم يعد يطيق العيش في أحضانها. فرئيس الحكومة السابقة، كما يعلم الجميع، محب للسلطة وعاشق للأضواء، وهو مستعد لفعل أي شيء للعودة إلى الواجهة السياسية والإعلامية.
ومن الواضح أن كل من تابع "لايف" بنكيران المباشر، (الذي رفع فيه أذان العشاء ساعة بعد موعده المعروف، مما يؤكد أنه لم يكن مباشرا)، يستنبط دهاءه الممزوج بالشعبوية المقيتة والتجرؤ على المؤسسات كتكتيك يتوخى منه الضغط والابتزاز للعودة مجددا للفضاء السياسي.
ولا يستطيع شخص عاقل أن يقع في الفخ الساذج الذي يحاول تصوير خروج بنكيران بكونه أملته زيارة لبعض أعضاء الحزب المقيمين بالخارج، الذين تحلقوا حوله مثل مريدين كل ما يجيدونه هو تحريك شفاههم تيمنا وتبركا بمقام شيخهم. فالرجل قرأ جيدا الوضعية الصعبة التي يمر منها حزبه وأيقن ألا مستقبل له، فقد تجاوزه الزمن وأصبح مرفوضا من أغلب المغاربة، بل إن معظم من يجاريه إنما يفعل ذلك للحصول على مصالح سياسية ومادية لا غير. ولذلك، فإنه اختار بعناية الوقت المناسب لتوقيع خروجه والدفع بالمشهد نحو التأزيم السياسي الحاد، وخلق حالة من التوتر تسمح له بالعودة مجددا لمنصات الخطابة والقفشات الحامضة. فبنكيران ليس له ما يخسره ويلعب الكل للكل من أجل كسب المعركة الأخيرة والانتقام ممن يتهمهم بإخراجه قسرا من جنة السلطة إلى جحيم العزلة والنسيان.
وعودة إلى "لايف" بنكيران غير المباشر، فإنه على أي حال معبر تماماً عن شخصية الرجل المناورة والمريضة بالسلطة، فهو من جهة يدافع عن إخوانه وفي نفس الوقت يجلدهم أمام الملأ ويستهين بقدراتهم في تدبير المرحلة، وهو علنا يظهر حبا مخادعا للملكية، لكنه يدس لها السم في العسل. صحيح في الظاهر نلاحظ خطابا بنكيرانيا يحترم مؤسسة المؤسسات ويشدد على التشبث بها، لكنه يستخدم عبارات يفهم جيدا وقعها السيئ ومدلولها المريب، وما تعنيه من استفزاز لأعلى سلطة في البلد، حينما يقول "إن المواطن بإمكانه مقاضاة الملك والقاضي ليس مجبرا على الحكم للملك..". صحيح، كذلك، أن بنكيران يظهر احترامه للقضاء، لكنه يعترف بكون هذا الاحترام غير إرادي وهو في حكم الاضطرار، ومعلوم أن المضطر لا حكم عليه.
من وراء كل هاته الحكاية، يتأكد أن بنكيران ما زال لم يفهم أن مدة صلاحيته السياسية انتهت، وأن المغاربة ليسوا في حاجة إلى أشخاص ينتجون الثرثرة والشعبوية التي سئموا منها، لكنهم يبحثون بعناء عن رجال دولة متزنين يعرفون قدر الكلمة التي يتفوهون بها، وليس إلى "حلايقية" يتحدثون في كل شيء من أجل قول لا شيء.
إن ما يعقد الأمور أكثر أمام حزب العدالة والتنمية، وبشكل خاص بنكيران، هو عدم فهمه بصورة صحيحة وكافية لطبيعة ما يجري، ولم يهضم بعد مصير إحالته على التقاعد السياسي، وهو مستعد للتلاعب بالاستقرار والمؤسسات من أجل العودة إلى الأضواء.
تنشر بالاتفاق مع جريدة "الأخبار" الورقية