«هذا التخوف الذي تولد لدى التجار، لم يكن فقط بسبب هذا الاستقرار السياسي المفقود، وإنما أيضا بسبب هيمنة التجار الأوربيين على المشهد السياسي في المغرب والاقتصادي أيضا. إذ إن بعض الاتفاقيات التي أبرمتها حكومات أجنبية مع القصر في فاس، بخصوص احتكار الفرنسيين والإنجليز لأنواع معينة من التجارة، جعلت التجار المغاربة يصابون فورا بالكساد، ومنهم من تأثرت تجارته إلى درجة اقتراب إعلان الإفلاس، بسبب هيمنة السلع الأوربية على السوق، وإدخالها بكميات كبيرة جدا وبأسعار تنافسية لم يكن التجار المغاربة يقوون في الحقيقة على منافستها، سواء بالسلع المستوردة أو المحلية.
أمام هذا الوضع طالب عدد من التجار المغاربة الدولة بالتدخل العاجل لإنصافهم، وفرض مجموعة من القوانين الحمائية التي تقف أمام الاكتساح الأوربي. لكن ما لم يكن يدركه هؤلاء التجار وقتها، أن أبناءهم الذين سوف يتسلمون زمام الأمور من بعدهم، سوف يتجاوزون الدولة ويبرمون صفقات مباشرة مع تجار أوربيين، أضرت بالاقتصاد المحلي كثيرا، وبفضلها صار عدد منهم، من أصحاب الجنسيات الأوربية».
فتاوى صنعت تجارا جددا وأصابت آخرين بالإفلاس
في المغرب، كان العلماء يتدخلون في شؤون التجارة. وهناك أدلة كثيرة على تدخل الفقهاء، خصوصا لجان المستشارين المقربين من القصر الذين كان لهم مجلس خاص بهم يمارسون الفتوى في كل شؤون الدولة، ويعتبر رأيهم وقتها فوق رأي الوزراء وإجراءات السلطة. إذ إنهم كانوا يمارسون سلطة تشريعية كبيرة داخل دواليب القرار.
مثال على هذا، ما وقع سنة 1864، عندما تم تحريم الاتجار في بعض البضائع الأجنبية منها الأدوية وصناعة الورق. حيث إن تلك السنة عرفت دخول المطبعة الحجرية لأول مرة إلى المغرب، وانبرى التجار الذين حققوا ثروات كبيرة من خلال الاتجار في الورق والطباعة وصناعة الورق المحلي، الذي توقف إنتاجه بسبب الظروف الدولية واكتساح الورق الأجنبي الرخيص للسوق، لكي يدافعوا عن مصالحهم باستماتة، حتى أنهم هددوا بخوض إضرابات واسعة.
وقتها تدخل وزير اسمه عبد الكريم بن سليمان، وكان وقتها قد تدرج في دار المخزن لكي يعرف كيف تُطبخ القرارات، ونصح بعض أصدقائه التجار الذين تضررت مصالحهم بسبب اكتساح الورق الأجنبي للمغرب، بامتهان أنواع أخرى من التجارة ورتب لهم مواعد داخل القصر الملكي، لكي يستطيعوا حماية حقوقهم. أما العلماء، فقد أصدروا فتاوى حرموا فيها التعامل بتلك الأدوية المستوردة، التي كان مخططا لها أن تمحو التداوي بالأعشاب المعروفة في المغرب. وفي وقت صدرت فتوى تحريمها، كان بعض التجار المغاربة ينظمون حملات واسعة لإقناع الناس في الأسواق بفعالية الأدوية الغربية، وأنها لا تحتوي نهائيا على أي مواد محرمة.
بلغت تلك الحرب أوجها عندما أصبح العلماء المغاربة يخوضون حربا ضروسا ضد استعمال الصابون الأوربي، ووجهوا الناس لاستعمال الصابون المستورد من الشرق. وكان أبرز هؤلاء العلماء هو الفقيه جعفر الكتاني، ابن إدريس الكتاني الذي كان معروفا بدوره بفتاوى غريبة وجريئة لم تكن الدولة تقوى على التدخل لثنيهم عنها، رغم أن مصالح عدد كبير من التجار كانت تتضرر بسببها. الطريف أنه خلال القرن 19 دائما، كان نوع من السكر الفرنسي المصنوع في الجزائر، وبالضبط سنة 1903، يكتسح السوق المغربية على حساب الإنتاج المحلي أو ما يستورده أغلب التجار المغاربة. وصدرت فتوى تحرم تداول السكر الفرنسي على اعتبار أنه يقوي حضور «الكفار» في المغرب. وهو ما تسبب في كساد تجارة عدد كبير من تجار مادة السكر المغاربة، في حين كان الفرنسيون سباقين إلى ترويج المادة السحرية لدى وكلائهم الفرنسيين في المغرب، وبيع السكر الفرنسي المصنع في الجزائر والذي كان يحمل كتابات باللغة العربية، وسط المغرب، سيما وأن جل أولئك الوكلاء كانوا مغاربة.
كانت فتوى الفقيه جعفر بن إدريس الكتاني مثار نقاش كبير بين أعيان المغرب، بخصوص تحريم السكر وإجازة ترويج الصابون الأجنبي على حساب الصابون المستورد من الشرق. إذ ورد في فتوى ابن إدريس الكتاني ما نصه: «فإذا أجازوا تناول مأكولات أهل الذمة، فإن الصابون أحق حالا، إذ ليس مما يؤكل. فالصابون يُجعل في ثوب ثم يُغسل الثوب غسلا ناعما على ألا يبقى له أثر. والصابون يحتاج إليه الغني والفقير والصغير والكبير. وحاصل الجواب: جواز استعمال صابون أهل الذمة ورجحان حمل مصنوع الكفار على الطهارة».
كانت هذه الفتوى ثورة اقتصادية في المغرب وتسببت في كساد تجارة عدد من التجار المغاربة الذين تخلصوا من واردات الصابون، واغتنى آخرون تاجروا في البضاعة نفسها بعد صدور الفتوى.
كان المغرب على موعد مع مشاكل أخرى، تسببت في خروج «أصحاب الدكاكين» والمستودعات والمخازن، لكي يطالبوا الدولة بحمايتهم من زحف السلع الأجنبية التي غرق فيها المغرب.
أجدادنا الذين أصابهم الإفلاس وهكذا حمتهم الدولة
في الجنوب المغربي كان أمر التجارة مختلفا، فقد كان التجار المحليون يسيطرون على السلع المحلية الفلاحية منها والمصنعة. كانت الطريق إلى فاس، من أكادير وجنوبها، نشطة للغاية وتحمل إلى الأسواق في سوس والجنوب الشرقي أنواعا من البضائع التي كانت أوربا، خصوصا فرنسا، قد أغرقت بها المدن والمناطق القريبة من ميناء الدار البيضاء.
كانت نقطة قوة التجار السوسيين أنهم يتاجرون في ما كانت فرنسا تعجز تماما عن السيطرة عليه. فحسب مراجع رسمية كثيرة، فإن التجار الأثرياء في الجنوب المغربي كانوا يتاجرون في المواد الأولية، خصوصا المعادن والحرف اليدوية، حيث يصدرون إلى باقي مناطق المغرب أدوات الفلاحة والأشغال المنزلية، بالإضافة إلى الأواني النحاسية والفضية وأدوات الزينة. وجل التجار السوسيين الذين كانوا يهيمنون على هذه التجارة، كانوا منعزلين ومتقوقعين ولم يصل إليهم المد الفرنسي، وبالتالي كان التحالف الأجنبي معهم أمرا مستحيلا. في المقابل، كانت هيبتهم لدى الدولة محفوظة، بحكم علاقتهم الممتازة مع أعوان السلطة وممثلي السلطان في مناطق نفوذهم. حتى أن بعض أثرياء تلك الحرف كانوا يرسلون هدايا إلى القصر الملكي في فاس ومراكش، ويتلقون رسائل الثناء وتجديد الرعاية الملكية لهم، سيما وأنهم كانوا ملتزمين بأداء الضرائب للدولة.
لكن بعض المجاعات وحملات الجفاف القاسية التي أثرت سلبا على المنتوج الفلاحي وبالتالي على الحرف اليدوية، جعلت المنطقة تدخل في حالات انفلات أمني وثورات أودت بعدد من الأثرياء والتجار، الذين هاجروا صوب مناطق أخرى بحثا عن استثمار ما تبقى من أموالهم بعيدا عن تلك الحروب.
وهو ما جعل نخبة من الأثرياء الجنوبيين ينتقلون للعيش في العاصمة فاس. وفي عهد المولى يوسف، سنة 1912، بدأ عدد كبير من التجار السوسيين في الانتقال إلى الدار البيضاء والرباط لتأسيس ثروات كبيرة في أقل من عشرين سنة. فمع وصول الملك الراحل محمد الخامس إلى السلطة سنة 1927، كان عدد من التجار السوسيين قد أصبحوا من كبار أثرياء مدينتي الدار البيضاء والرباط، وحققوا بداية الانتعاش التجاري المغربي بعيدا عن هيمنة الفرنسيين على السوق المغربية، خصوصا بعد توقيع معاهدة الحماية، وتقبل الأثرياء المغاربة عموما للأمر الواقع. هؤلاء الأثرياء، لم يكونوا يملكون بطبيعة الحال شركات ومؤسسات كبيرة، بل كانت ثرواتهم كلها في «الدكاكين» أو «الحوانيت» كما اصطلح عليها المغاربة القدامى، حيث كانت ثروات هؤلاء التجار مركزة في مخازن السلع، وتوزع محتوياتها على تلك الدكاكين، التي خلقت الحدث في أكثر من مناسبة بصمت التاريخ.
تجار طالبوا الدولة بتنظيم قوانين التجارة سنة 1894
كان سياق الأحداث متداخلا. الزوبعة التي عبثت بالمشهد السياسي في آخر أيام المولى الحسن الأول، انتقلت إلى مخازن الدكاكين، وأصبحت البلاد تعرف مجموعة من التحديات التي تهدد بفقدان الاستقرار المالي والسياسي أيضا.
فقد كان عدد من التجار الفاسيين الكبار، قد رفعوا تقارير سرية إلى الدولة يحذرون فيها من تداعيات عدم الاستقرار السياسي الذي عرفته البلاد على تجارتهم، خصوصا وأنهم كانوا يملكون مخازن كبيرة للسلع والمؤن والحبوب وحتى السلاح، كما أشارت إلى ذلك مراجع أجنبية أهمهما: «مهمة في المغرب. مملكة فاس. في ضيافة سلطان المغرب». وغيرها من المراجع التي ألفها أوربيون، اختلفت صفاتهم بين الدبلوماسيين والتجار والأطباء.
هذا التخوف الذي تولد لدى التجار، لم يكن فقط بسبب هذا الاستقرار السياسي المفقود، وإنما أيضا بسبب هيمنة التجار الأوربيين على المشهد السياسي في المغرب والاقتصادي أيضا. إذ إن بعض الاتفاقيات التي أبرمتها حكومات أجنبية مع القصر في فاس، بخصوص احتكار الفرنسيين والإنجليز لأنواع معينة من التجارة، جعلت التجار المغاربة يصابون فورا بالكساد، ومنهم من تأثرت تجارته إلى درجة اقتراب إعلان الإفلاس، بسبب هيمنة السلع الأوربية على السوق، وإدخالها بكميات كبيرة جدا وبأسعار تنافسية لم يكن التجار المغاربة يقوون في الحقيقة على منافستها، سواء بالسلع المستوردة أو المحلية.
كانت خزينة الدولة هي الأخرى تعاني كثيرا، وقد وردت عدة بحوث أكاديمية في هذا الباب، أبرزها «التجارة المغربية في القرن 19» والذي رصد فيه د. عمر آفا هذه التحولات، اعتمادا على وثائق رسمية وأجنبية. يقول: «وفي القرن التاسع عشر بالذات، ضاقت أغلب بلدان القارة الأوربية بسكانها وبفيض منتجاتها، مما تولدت عنه الحاجة الملحة إلى انتهاج سياسة التوسع الاستعماري والهجرة خارج هذه القارة. فكانت الهجرة الأوربية أهم هجرة في العالم.. (..) لقد كشفت الوثائق الأوربية عن مشروع الخطة التنظيمية التي انتهجها قناصلة الدول الأوربية المقيمون بطنجة أواخر القرن 18، بقصد إحكام السيطرة على التجارة المغربية، وممارسة وسائل الضغط على السلطان لكي يستجيب لرغبات التجار وأصحاب الوكالات المالية». يتوسع المرجع في شرح مراحل هذه الخطة، التي استغرقت أكثر من 50 سنة لكي تتحقق على أرض الواقع المغربي.
أمام هذا الوضع طالب عدد من التجار المغاربة الدولة بالتدخل العاجل لإنصافهم، وفرض مجموعة من القوانين الحمائية التي تقف أمام الاكتساح الأوربي. لكن ما لم يكن يدركه هؤلاء التجار وقتها، أن أبناءهم الذين سوف يتسلمون زمام الأمور من بعدهم، ويتجاوزون الدولة ويبرمون صفقات مباشرة مع تجار أوربيين، أضرت بالاقتصاد المحلي كثيرا، وبفضها صار عدد منهم، من أصحاب الجنسيات الأوربية.
يوم وليلة مع قدماء التجارة
الكلام هنا لأحد أبرز الذين دونوا عن فاس وأوصلوا ما يقع بها إلى الرأي العام البريطاني والدولي. يتعلق الأمر بالصحافي البارز، لاورنس هاريس، الذي أجرى أول حوار صحافي مع المولى عبد الحفيظ عند وصوله إلى الحكم، وكان أيضا أول أجنبي يحظى بفرصة إقامة صحيفة مغربية يصدرها القصر الملكي، لكن المشروع أقبر بسبب صعوبة الاتصالات في المغرب وسوء الأحوال الجوية في تلك السنة (1907). لكنه بالمقابل كان أول صحافي أجنبي يربط صداقات مع المحافظين المغاربة، حيث كان صديقا لأبرز التجار الفاسيين وأغناهم، وكتب عنهم مقالات كثيرة نشرت في «التايمز» وجمعها لاحقا في كتاب عن مغامراته المغربية أسماه «خلف الكواليس في فاس». يقول: «جلسنا على الفراش لنتحدث مع صاحب البيت، اسمه عبد الله . قدم لنا نفسه على أنه تاجر وصاحب محل كبير في سوق المدينة بالإضافة إلى محل آخر في «البازار»، وله تجارات أخرى في مختلف مناطق المغرب. كان منزله بمثابة ملتقى لكافة جهات البلاد، حيث يزوره التجار من كل صوب لمناقشة أمور التجارة والبيع والشراء.
خلال مقامي بفاس، تعودت على شرب الشاي في حديقة إقامته في المساء. وفيها التقيت بأصدقاء كثيرين. في الليالي كنا نجتمع في دائرة، ليبدأ كل واحد منا في سرد حكايته وتفاصيل حياته. في المغرب، لم يكن هناك أي رابط للاتصال بين المدن البعيدة، لذلك كان تلك الجلسات فرصة تبادل الأخبار وسرد الأحداث وربطها ببعضها.
وضعت أمامنا صينية نحاسية كبيرة عامرة باللوز والتمور، كان فوقها تمر رائع من منطقة تافيلالت. بعد تذوق ما على الصينية الكبيرة، شرعنا في تدخين السجائر. خلال تلك الجلسة لم يخل بيته من الزوار، كان هناك تجار يأتون لتغيير العملة وآخرون لأداء ما في ذمتهم من مال. جاء أيضا صاحب جمل محمل بالقطن. كان يأتي بعض الناس للاستجداء والحصول على صدقات، وآخرون لبيع ما في جعبتهم من بضائع.
قام عبد الله بإعطاء أمره لجلد أحد العبيد، لأنه تسبب في كسر إبريق. واسترسل في الحديث إلينا: «البركة التي يحظى بها منزلي والرواج الذي يعرفه، بفضل توفيق الله وحده، هي التي تجعل هؤلاء الناس يقصدون بيتي باستمرار. وهي التي أتت بكما إلي لأتعرف عليكما. وأنا وحدي من سأخبركما بالحقيقة حتى تكتبانها، وسأحفظ لكما مقامكما عندي لإتمام مهمتكما من بلدكما الجليل. أنتما تعلمان أنني غني ولا أخاف أن تقتحم ملكيتي. آمل حقا أن تنتهي القلاقل التي تقع ببلدي. فأنا طاعن في السن وعظامي واهنة.
لقد أبقيت على بعض المال مخزونا. عندما غادر مولانا عبد العزيز فاس، وغادر معه رجال المفوضية الإنجليزية ومعهم بقية النصارى، أصبحت مهددا أيضا في مالي. لأنني واحد من المحميين الذين يرون فيهم خونة الآن. وإلى أن تستقر الأوضاع مجددا وتعود المفوضية الإنجليزية لتوفير الحماية، قد أكون تعرضت لبطش القايد. عندها ستنتهي أيامي مسجونا أعاني الجوع وتكسر عظامي من طرف أولئك الذين يحسدونني الآن. نحن المؤمنين نعتقد أن سيدنا المولى عبد العزيز (بارك الله في عمره) مؤمن تقي ومسلم، ولا نصدق ما يقوله عنه المتطرفون.
لم نكن نحب أن نرى الأموال تصرف على شراء الألعاب والآلات التي تسير دون أن تجرها الحيوانات. إنها مسكونة بالشر والأرواح الشريرة. رأينا كيف أن السلطان ركب مرة واحدة من تلك الآلات مع أصدقائه النصارى وقطعوا بها المدينة في رحلتهم إلى إحدى الحدائق. نساء السلطان أيضا كن يتعلمن التوازن وهن يركبن تلك العجلات التي تسمونها أنتم «دراجات»، أمام أعين الرجال. ونحن نعلم أن تلك العجلات ليست للمؤمنين الذين يخافون الله. كان النصراني يطل من نافذته ويضحك على النساء اللواتي يسقطن أرضا بتلك العجلات».
بعد أسبوع يعود الصحافي لاورنس إلى منزل صديقه التاجر عبد الله، لكن هذه المرة لكي يحضر حفل زفاف ابنته. فقد كان هذا التاجر، رغم تزعمه لتيار المحافظين، متحررا إلى حد ما في علاقته بالأجانب، وقد يكون أيضا من أوائل الذين حصلوا على «الباصبور» بعد انتهاء تلك الأحداث، وعودة الاستقرار النسبي: «بعد أن عرف الأسبوع الأخير أحداثا غير سارة. كان من الجميل جدا أن أتلقى دعوة من صديقي القديم، عبد الله، لكي أحضر مراسيم حفل زواج ابنته، وأتعلم بذلك بعض التفاصيل المهمة عن الحياة المحلية بمدينة فاس.
حياة الرجل الفاسي، إن لم يكن من «المتمردين»، تكون حسنة رغم الرتابة، يستمد الشاب الفاسي هيبته من نسبه ومظهره الأرستقراطي. عندما يتمشى الفاسي خارجا، فإنه يحرص على رفع «قب» جلابته ويضعه على رأسه ليقي جلده الأبيض حرارة الشمس.
الفاسيون الأصليون لديهم بشرة بيضاء مثلهم مثل العرق الشمالي بأوربا، تعطى للشاب الفاسي قبل زواجه، حديقة صغيرة وامرأة سوداء، خادمة له، تقدم له من طرف والديه. ليس هناك أي مكان للمتعة في حفلات الزفاف المغربية. وتمر ليالي الزفاف تحت إشراف الرجال الكبار في العائلات.
يوما الخميس والسبت، هما اليومان الوحيدان المخصصان في فاس لزيارة الأصدقاء. ويمضي الرجال الوقت كله في لعب الورق، أو الاستماع إلى الموسيقى الصادرة عن آلات غريبة لموسيقيين متجولين.
شعرت بإثارة كبيرة عندما حللت ببيته، كان العبيد يمرون مسرعين هنا وهناك يحملون أطباقا من الحلوى والفواكه وبعض المأكولات الأخرى.
صوت «الزغاريت» وحده كان يعلن عن وجود النساء في الحفل. وجه مترصد أطل علي فجأة من الشرفة، عيون وجهت إلي نظرات بذيئة من الظلام. بمجرد ما نظرت في اتجاهها، اختفت لتظهر في زوايا أخرى.
كان فخورا بابنته، وأكد لي أنها «جوهرة الجواهر»، بينما تتواصل أصوات الضحك والهمس القادمة من أعلى، حيث لا تزال تلك العيون تتلصص عليّ».
عندما اختفى تجار مغاربة وحصلوا على «الباصبور»
هناك مصادر متعددة تحدثت عن أصحاب «الباصبور»، أي جوزات السفر الأجنبية، لكن أكثرها إثارة تلك التي رصدها القنصل الأمريكي الأول في المغرب واسمه «إدموند هولت»، الذي اشتغل في القنصلية الأمريكية بمدينة طنجة في آخر سنوات حكم المولى الحسن الأول، وعاصر أيضا المولى عبد العزيز سنة 1907. وقد تحدث عن التجار والأثرياء المغاربة الذين تسابقوا للحصول على «الباصبورات» أو «الحماية» الأجنبية، لكي يتهربوا من القوانين المغربية ويؤمنوا ثرواتهم الضخمة ضد ضرائب الدولة و«نوائب الدهر».
سبق أن نشرنا في «الأخبار» أول قراءة في هذه المذكرات النادرة للقنصل الأمريكي في المغرب على حلقات. ونعيد هنا التذكير بما أورده القنصل عن الظاهرة.
يتحدث هولت في مذكراته المثيرة، عن المغاربة المحميين، أو الذين كان الفقهاء يلقبونهم بـ«صحاب الباصبور». يقول مشيرا إلى وضعية تاجر مغربي من أثرياء مدينة طنجة كان يدعى الحاج محمد: «بمجرد ما يعلن المغربي الذي يتوفر على حماية أجنبية على أوراق تؤكد أنه مواطن أمريكي. كان هذا امتيازا بالضرورة يعني أن صاحبه يتوفر على مئات، أو آلاف من الدولارات، لأن الأوراق التي تحمل خاتما بالشمع الأحمر وتوقيع القنصل كانت تكلف الكثير من الأموال.
الحاج محمد كان محميا أمريكيا، وكان واضحا أنه لا يخضع لأحكام الحكام المغاربة. الأمر نفسه ينطبق على أوراق الجنسية، رغم أن الحصول عليها صعب للغاية. لكنه، أي الحاج محمد، كان يحتاج السفر إلى أمريكا مرات كثيرة للحصول على الجنسية الأمريكية.
سيكون عليك أيضا أن تؤدي بضع مئات من الدولارات، ولن تعفيك هذه المبالغ من أداء الضرائب. ضرائب على المياه وعلى الرصيف، بالإضافة إلى المبالغ الإضافية التي تؤديها للشخص الذي يعلمك كيف تصوت في الانتخابات.
هناك وثيقتان يحتاجهما المغربي أكثر من أي شيء للتملك فوق الأرض: أوراق الحماية، سواء إن كانوا حاصلين على شهادات للتشغيل بالنسبة إلى الموظفين المقيمين الأجانب، وأوراق تحفيظ الممتلكات.
عقود الزواج، فواتير بيع العبيد البيض والسود، وفواتير البيع وتحويلات الحسابات، الوصايا، وحتى رسائل الحب.. كلها تحتفظ لها بمكان في المفكرة.
مغاربة قلائل، يحافظون على هذا النوع من الوثائق لأنفسهم.
ابحث في حقائب المغاربة، مسلمين ويهود، والتي يعلقونها بخيط جلدي يمر فوق رقابهم وصدورهم جميعا، وستجد أوراق «الحماية» وأوراق الممتلكات. قد تتعرض للضياع لكن هذا الأمر لا ينقص أبدا من قيمتها في أعين أصحابها».
موسى بن إبراهيم يأتي لمكتب القنصل الذي يمثله، يجر ملابسه المهلهلة والمشدودة بقطعة قنب. بينما يُسلم موسى على الحاضرين، يشيع بينهم خبر قرب انتقاله إلى أمريكا. لكي يقيم فيها خمس سنوات، ويصبح مواطنا أمريكا. ويذهب.
ربما بعد ثلاثة سنوات، أو بعد ثلاثة أشهر، يتسلم القنصل بطاقة مكتوب عليها: «السيد أرشيبالد أتكينسون. نيويورك». ويحمل صاحبها سيكارا بين أصابعه المزينة بخواتم من الألماس، وتفوح منه رائحة النادي. وبجانبه يقف موسى بن إبراهيم، يعلن بهدوء للقنصل أن القنصلية يجب أن تبقى مفتوحة لساعات إضافية، وأن المترجمين الأمريكيين فقط هم الأحق بالتوظيف فيها.
كان الأمر واضحا، ولا حاجة إلى مزيد من الشروحات. الحصول على الجنسية الأجنبية بالنسبة إلى التجار المغاربة سنة 1909 كان يمر بعدة محطات من الابتزاز. المثير أنهم كانوا يقبلون بدفع الأموال وتقديم رشاوى لأثرياء أمريكيين ليلعبوا لهم دور الوسيط، خصوصا التجار اليهود، حتى يحصلوا على الجنسية الأمريكية بهذه الطرق الملتوية التي يتحدث عنها هولت. خطورة كلام هذا الأخير، تكمن في أنه يمثل القنصلية الأمريكية في المغرب خلال تلك الفترة، وهو أمر لا يستهان به.
حين كان «أصحاب الدكاكين» أكثر نفوذا من الوزراء
نظام المخزن القديم كان يُدرك جيدا قيمة أصحاب الدكاكين في الحفاظ على استقرار قيمة العملة المحلية، أمام اكتساح رجال الأعمال الأوربيين لسوق التجارة وتداول السلع.
خط الدفاع الأول عن العملة المحلية المغربية التي كانت تُضرب في «دار السكة» بفاس، كانوا هم التجار المغاربة.
كانوا أيضا، منذ سنة 1880، أي في عهد الحسن الأول، يتدرجون بين النافذين، والأكثر أهمية ممن حصلوا على امتيازات من الدولة لترويج سلع بعينها حتى لا تعم المجاعة. وكان ذلك بتوصية خاصة من القصر لضمان الأمن الغذائي في البلاد، خصوصا في وسط المغرب. أما في أقصى الجنوب فقد كان الأمر مختلفا، وسوف نأتي إليه.
من بين أشهر التجار في تلك الفترة نجد العبدي، الذي بدأ تجارته بدكان يتيم أهداه إليه أحد موظفي دار المخزن، كتعويض من المخزن عن ضياع ثروة الرجل في منطقة عبدة، بسبب انقلاب إخوته عليه وطرده ذليلا، لأنه رفض الانصياع لرغبات بعض القبائل في التمرد على الدولة سنة 1894. هذا القايد الذي طُرد من منزله الفخم واحتجزت أمواله وبالكاد استطاع الهرب رفقة زوجاته وأبنائه، وصل إلى فاس في حالة من اليأس والدمار، وقد تحدثت عنه بعض المراجع التي تناولت قصص أهل فاس وعلاقات التجار المغاربة في ما بينهم.
وعندما بدأ العبدي تجارته لم تكن قيمتها كبيرة في السوق، لكنه بفضل علاقاته السابقة بدار المخزن عندما كان في السلطة، استطاع الظفر بمكانة لدى كبار التجار الفاسيين الذين مكنوه من التعامل في سلع من مخازنهم الخاصة، مقابل ضمانات من دار المخزن، ليصبح في ظرف خمس سنوات فقط أحد أكبر التجار الفاسيين، بل وصديقا لوزراء في الدولة، حتى أن داره الكبيرة في قلب مدينة فاس، أصبحت قبلة لسهرات كبار الأعيان المغاربة وموظفي القصر الملكي. كما أنه كان صديقا للقايد «ماكلين»، الذي كان يأتي إليه رفقة الصحافيين الأجانب لكي يحكي لهم ماذا وقع بالضبط في منطقة عبدة، قبل حادث قصف الدار البيضاء الشهير سنة 1907.
تحول التاجر العبدي، بعد وفاة المولى الحسن الأول والتحولات الجديدة التي عرفها المغرب والتي تمثلت في دخول الإنجليز إلى فاس وسيطرة الفرنسيين على الدار البيضاء، إلى شخص مؤثر، رفقة تجار آخرين أمثال عبد الله بن مقتة، الذي كانت أصوله مشرقية، لكن أجداده نزحوا إلى فاس قبل قرون، وأصبحت اجتماعات تعيينات الوزراء الجدد تعقد في منازلهم الفخمة، حيث كانوا ينظمون حفلات عشاء يحضرها وزراء الدولة ومندوبو السلطان وموظفو القصر. بل وكانت قبلة أيضا للمغضوب عليهم من كبار الموظفين المخزنيين لكي يتم الصفح عنهم، وحتى الوزراء الذين عُصف بهم في التحولات المخزنية بعد وصول المهدي المنبهي، أحد أقوى وزراء الدولة في تاريخ المغرب، كانوا أيضا ضيوفا عند التاجر العبدي وفي داره تم إقناع المنبهي بمنح بعضهم فرصة أخرى لكي يعودوا إلى الدواوين.