بحكم الموقع الجغرافي لتايوان وقربها من الصين التي تعتبر البؤرة الأولى لوباء كورونا، كان من المتوقع أن تكون هي البؤرة الثانية للوباء. إلا أن تايوان رغم استثنائها من منظمة الصحة العالمية أبانت عن تفوقها في احتواء الوباء وبراعتها في تنفيذ الإجراءات الاحترازية والأرقام أحسن دليل على ذلك.
مع بدء ظهور أخبار الفيروس التاجي من مدينة ووهان، تحرك المسؤولون في مركز قيادة الصحة الوطنية التايواني، وهو المركز الذي تم إنشاؤه في أعقاب تفشي «سارس»، للاستجابة السريعة لأي تهديد محتمل، حيث نفذت تايوان على وجه السرعة لائحة من 124 بند عمل على الأقل في الأسابيع الخمسة الماضية لحماية الصحة العامة، وقد تجاوزت السياسات والإجراءات مراقبة الحدود بعد ملاحظة المسؤولين أن ذلك لم يكن كافيًا، هذا في ما كانت بلدان أخرى تناقش ما إذا كان يجب اتخاذ أي إجراءات.
استجابة سريعة
من الإجراءات الحاسمة المبكرة لتايوان في التصدي لكورونا، كان قرار حظر دخول الأشخاص من الصين وهونغ كونغ وماكاو إلى أراضيها، وفي الوقت نفسه، حظر تصدير الكمامات الواقية لضمان أن يبقى في تايوان قدر كاف منها، ووقف السفن السياحية من الرسو في موانئها، وفرض عقوبات صارمة على كل من يخالف أوامر الحجر المنزلي.
إلى جانب ذلك، تحرك المسؤولون التايوانيون لزيادة إنتاج أقنعة الوجه لضمان الإمداد المحلي، وبدء إجراء الكشف عن الأشخاص المحتمل إصاباتهم بالفيروس، بمن فيهم الأشخاص الذين عانوا من التهاب رئوي سابقا، كما أعلنوا عن عقوبات ضد أي شخص ينشر معلومات مضللة عن الفيروس.
ويمكن القول إن استجابة تايوان السريعة والشفافية في التعامل مع عقد مسؤولين طبيين لقاءات يومية موجزة كان مثالاً في كيفية كبح الوباء العالمي بين سكانها.
وها هي تايوان اليوم في وضع قوي، وبعد أسابيع من حظر تصدير أقنعة الوجه لضمان الإمداد المحلي، أعلنت الحكومة تبرعها بـ10 ملايين قناع للولايات المتحدة وإيطاليا وإسبانيا وتسع دول أوروبية أخرى، وكذلك الدول الأصغر التي لديها علاقات دبلوماسية معها.
ويرى جيسون وانغ، الخبير في سياسة الصحة العامة في جامعة ستانفورد بالولايات المتحدة، أن تايوان أدركت الأبعاد المحتملة للأزمة في الوقت المناسب وكانت دائما تستبق تطورات الموقف بخطوة أبعد.
يضيف وانغ «تايوان قامت بدمج بيانات التأمين الصحي الوطني في بيانات الهجرة والجمارك وقد مكَّن ذلك مقدما العاملين في القطاع الصحي من التعرف على المرضى المحتملين بناءً على أنشطة سفرهم».
كما طورت الحكومة التايوانية برنامجًا يتيح للمسافرين العائدين إلى تايوان الإبلاغ عن خط سيرهم. وإضافة لذلك يتحتم عليهم مسح «كود» معين، ومن ثم يتلقى المسافرون رسالة حول كيفية تقييم حالتهم الصحية.
وهذا يسمح للمسؤولين في كافة منافذ الدخول والخروج في البلاد بالتركيز على أولئك المعرضين لخطر الإصابة بفيروس كورونا وإغفال أولئك الأقل عرضة للخطر.
التكنولوجيا سلاح التايوان
استمدت تايوان نجاحها من قدرتها على دمج التكنولوجيا مع النشاط الفعال والمشاركة المدنية. فرغم صغر حجمها فإنها استطاعت إقامة نظام ديمقراطي قائم على أحدث التقنيات مما ساعدها في السنوات الأخيرة على تطوير أكثر الثقافات السياسية حيوية في العالم. وقد أثبتت تايوان بتبنيها هذه الثقافة أنها الدولة صاحبة الاستجابة المناعية الأقوى لفيروس كورونا المستجد. وقيمة الثقافة المدنية التايوانية المعتمدة على التكنولوجيا تجلت بوضوح خلال الأزمة الصحية الراهنة.
وفي تقرير حديث صادر عن كلية الطب بجامعة ستانفورد الأمريكية أشار إلى 124 إجراء اتخذتها تايوان للتدخل في الأزمة بسرعة لافتة، من بينها أن الحكومة التايوانية أطلقت واجهة بينية لبرمجة التطبيقات التي تزود الجمهور ببيانات فورية لتحديد مواقع توفر الأقنعة. ورغم أن تلك الواجهة الرقمية تلقت مئات الألوف من الاستفسارات منذ الساعات الأولى من تشغيلها، إلا أن الجهد الذي بُذل فيها لم يذهب سدى. فقد دفع ذلك الاهتمام الشعبي الواسع حكومة تايوان لتوفير الموارد الحاسوبية اللازمة حتى يتسنى لتلك الواجهة البينية الرقمية خدمة جميع سكان البلاد.
وثمة مثال آخر على الجهود التي تبذلها الحكومة التايوانية، ألا وهي توفير منصة تتيح للمواطنين العمل معا من أجل الحد من تعرضهم لعدوى فيروس كورونا. كما أن تايوان سخرت التكنولوجيا أداة للإبداع الديمقراطي بدلا من التركيز على الحد من الأضرار «المخيفة» المترتبة على سياسة المراقبة مثلما فعلت أوروبا.
7 حالات وفاة
بما أن جزيرة تايوان تقع على بعد 130 كيلومترا من ساحل البر الصيني الرئيسي، ويسكن هذه الدولة 23 مليون نسمة يعمل ويعيش مئات الآلاف منهم في الصين، وفي عام 2019، زار الجزيرة نحو 2.7 مليون شخص من بر الصين الرئيسي، إلى جانب حركة الطيران الكثيفة بين البلدين، توقعت دراسة لباحثين في جامعة «جونز هوبكنز الأمريكية أن تكون تايوان في المرتبة الثانية عالميا من حديث عدد المصابين والوفيات من جراء فيروس كورونا بعد الصين. لكن استعدادات تايوان القوية نسفت الدراسة من أساسها، إذ لم تسجل بعد 5 أشهر على تفشي الوباء، سوى 7 حالات وفاة. وفي مثال يوضح نجاح تجربة تايوان، فقد سجلت أول إصابة بفيروس كورونا بالتزامن تقريبا مع أول إصابة في أستراليا، لكن الأخيرة بها الآن أكثر من 5 آلاف مصاب.
اختبار تايواني
طور فريق من الباحثين بأكاديمية «سينيكا» التايوانية أجساما مضادة يمكن استخدامها لتحديد البروتين الذي يتسبب بفيروس كورونا. والهدف من ذلك هو إنتاج اختبار سريع جديد لفيروس كورونا، تظهر نتيجته بعد 20 دقيقة فقط من إجرائه. ووفقا لقائد الفريق يانغ آن سوي، فإن الخطوة التالية هي التحقق من سلامة المنتج قبل طرحه للبيع.
ورغم كونها ليست عضوًا في منظمة الصحة العالمية، حتى اليوم، إلا أن تايوان تواصل تبادل خبرتها مع دول أخرى في مكافحة فيروس كورونا، كما يقول جيسون وانغ الخبير في سياسة الصحة العامة بجامعة ستنافورد بالولايات المتحدة. ومن خلال اجتماعات عبر الهاتف يتبادل خبراء تايوان معارفهم ويساعدون البلدان ذات الموارد الطبية الأقل لفحص عينات المرضى.
ومن غير المؤكد ما إذا كانت تايوان يمكنها أن تنضم من جديد إلى منظمة الصحة العالمية، بسبب احتوائها الناجح لفيروس كورونا، حيث يقول وانغ: «يجب أن تعرف منظمة الصحة العالمية أن مفتاح مكافحة وباء عالمي هو التعاون. وإذا تجاهلت مناطق معينة من العالم، فهذا ليس بالشيء الجيد».
رسالة تايوان لمنظمة الصحة العالمية
تعرضت منظمة الصحة العالمية لانتقادات شديدة، بعدما أصدرت تايوان محتوى الخطاب الذي أرسلته إلى المنظمة في دجنبر الماضي، وتستفسر فيه عن انتشار فيروس كورونا المستجد، حيث قالت تايوان إن منظمة الصحة العالمية تجاهلت الخطاب في ذلك الوقت، بل ورفضت تقديم معلومات كافية حول كيفية محاربة المرض الذي استشرى في العالم كله.
وتتهم تايوان المنظمة بأنها قللت من أهمية وشدة وانتشار فيروس كورونا إرضاء للصين، حتى بعدما دقت تايوان ناقوس الخطر عقب الكشف عن سبع حالات التهاب رئوي «غير اعتيادية»، في مدينة ووهان الصينية، حيث اكتشف الفيروس لأول مرة.
وكانت السلطات التايوانية قد أرسلت لمنظمة الصحة في 31 دجنبر الماضي، تستفسر بخصوص تصريح مسؤولي الصحة الصينيين لوسائل إعلام، بأنهم لا يعتقدون أن الإصابات سببها مرض السارس، فيما تم عزل المصابين، وإخضاع العينات للفحص. واختتم المسؤول التايواني الذي بعث بالرسالة قائلا «سأكون ممتنا للغاية، إذا كانت لديكم معلومات ذات صلة، لمشاركتها معنا».
ومن جهتها، نفت منظمة الصحة العالمية أن تكون تايون نبهتها بخصوص فيروس ينتقل من شخص إلى آخر. لكن مركز السيطرة على الأمراض في تايوان، قال إنه نظرا لذكرهم في الرسالة جملة «التهاب رئوي غير نمطي»، فإن مسؤولي الصحة يفهمون من هذه الصياغة انتقال المرض من شخص لآخر. وأضاف مركز السيطرة على الأمراض التايواني «بسبب أنه لم يكن هناك حالات مصابة بالفيروس في ذلك الوقت في تايوان، فإنه لا يمكننا أن نقول بشكل مباشر وحاسم، إنه كان ينتقل من إنسان إلى آخر».
وقالت تايوان إن منظمة الصحة العالمية ومركز السيطرة على الأمراض الصيني، رفضا تقديم معلومات كافية، كان من شأنها أن تساعد الحكومة في الاستعداد لمكافحة الفيروس.
منظمة الصحة تستثني تايوان
أدى استثناء تايوان وثناء المنظمة المتواصل على الصين وتعاملها مع انتشار الوباء، وهو أسلوب انتقده العديد من خبراء الصحة العامة، إلى اتهام البعض منظمة الصحة العالمية بالانحياز للصين، خاصة وأن الأخيرة تعد من كبرى الدول المساهمة فيها. وتعترض تايوان كلما استبعدت من هيئة دولية، واصفة تلك الاستبعادات بأنها تمييزية ومجحفة. وهذا ما فعلته هذه المرة، مضيفة أنه لا ينبغي أن تُستثنى من هذه اللقاءات والمؤتمرات في وقت تكون الحاجة للتعاون الدولي أكبر من أي وقت.
وفي وقت سابق من شهر مارس، اتهمت تايوان منظمة الصحة العالمية بتجاهلها عندما طلبت حكومتها معلومات عن انتقال العدوى بين البشر عند بدء انتشار الوباء في الصين، قائلة إن ذلك عرض حياة العديدين إلى الخطر.
وقال وزير الصحة التايواني، تشين شي تشونغ، في مؤتمر صحفي عقده مؤخرا «نأمل أن تستوعب منظمة الصحة العالمية أن الأوبئة لا تعترف بالحدود الدولية. لا ينبغي أن تستبعد أي جهة، لأن من شأن ذلك أن تتحول إلى معبر للفيروس، ولا ينبغي تجاهل جوانب القوة في أي مكان خصوصا وأن بمقدور بعض هذه الأماكن المساهمة في التصدي للوباء».
وفي المقابل، قالت منظمة الصحة العالمية عقب المقابلة التي أجراها أيلوارد إن موضوع عضوية تايوان ليس من اختصاص موظفيها، «بل هو من اختصاص وصلاحية الدول الأعضاء في المنظمة». كما قالت المنظمة إنها تتعاون مع خبراء الصحة التايوانيين والسلطات الصحية التايوانية لضمان انسياب المعلومات بشكل سلس وسريع وتبادل الخبرات .إلا أنه في الحقيقة الجزيرة لا تستطيع التواصل مع الدول الأخرى بنفس كفاءة الدول الأعضاء.
وكانت رئيسة تايوان، تساي إنغ وين، قد ردت على تصريح منظمة الصحة العالمية بالقول «كنت آمل أن تتفهم كل الدول بعد أن واجهت هذه الأزمة قدرات تايوان والمجالات التي بإمكانها المساهمة بها، وأن تفكر جديا في موضوع إشراك تايوان في الرد العالمي على الوباء». وأضافت أن «موقف تايوان واضح منذ البداية. فلنا القدرة والرغبة في التعاون مع الدول الأخرى في مجالات الحماية الصحية، كما نرغب في نقل خبراتنا المفيدة إلى الأطراف الأخرى».
لكن وزير الخارجية التايواني، جوزف وو، كان أقل دبلوماسية، إذ أعاد نشر المقابلة مع أيلوارد، قائلا «عجبا، لا يمكن حتى ذكر (تايوان) في منظمة الصحة العالمية؟».
ومنظمة الصحة العالمية ليست الهيئة الدولية الوحيدة التي لا تعترف بتايوان رسميا، فهناك أيضا اللجنة الأولمبية الدولية ومنظمة الطيران المدني العالمية وغيرهما.
أوجه الاختلاف بين تايوان والصين
أكبر اختلاف بين تايوان والصين هو مؤشر الديمقراطية، فتايوان التي تتمتع باستقلال ذاتي، تعد من الديمقراطيات القوية في شرق آسيا، ولذلك لم تلجأ إلى أساليب «غير مشروعة» لوقف انتشار الفيروس، عكس الصين الشعبية، المعروفة بممارسات غير ديمقراطية، ما جعلها دوما عرضة لانتقادات منظمات حقوقية، إذ تعد الصين أكبر دولة تمارس الرقابة في العالم، ما جعل عدة تقارير تشكك في حقيقة تغلبها على الفيروس.
ومنذ إعلان الوباء، ضاعفت الصين من عمليات مراقبة السكان والتجسس عليهم وحتى الاعتقال، بل إن أول طبيب جاهر بخطورة الوباء، اعتقل بتهمة نشر أخبار كاذبة قبل أن يتوفى بسبب المرض. وينقل تقرير عن بروس أيلوارد، من منظمة الصحة العالمية، أن دول العالم لن تملك القدرة على تطبيق إجراءات الصين.
وتستخدم بكين التكنولوجيا بشكل مغاير، إذ تلزم السكان بتدوين تنقلاتهم إلكترونياً، كما تتعقب شركات الاتصال تحرّكات السكان، ويتم التعرف عن طريق الوجه على بعض الأعراض الأولية للمرض. بينما لجأت مدن في الصين إلى تشجيع الناس بجوائز للإبلاغ عن جيرانهم المرضى، وأجرت الدولة عزلاً صحياً واسعاً وأغلقت عدة مدن.
ويقول الخبراء إن السلطات قامت بجمع ضخم لبيانات المواطنين، وهناك تخوف من استغلالها لمزيد من التضييق على الحياة في البلد. كما أن الصين استغلت تراجع الفيروس لديها للقيام بعمليات دعائية ضخمة لأجل محاولة تجميل النظام في البلد، وهو ما تؤكده ماري اريبنيكوفا، خبيرة أكاديمية في الشأن الصيني، بقولها إن الحزب الحاكم في الصين استخدم مواجهة الفيروس لأجل ترويج فكرة أن البلد قوة حقيقية في وجه الكوارث، وأنه قادر على مساعدة دول أخرى في التصدي لها.
دعم أمريكي
مع نجاحها الملحوظ في مكافحة فيروس كورونا واعتمادها لقيم ديمقراطية، تحظى تايوان بدعم قوي من الولايات المتحدة. وبعد سنوات من التقارب والتودد من المسؤولين الأمريكيين ومراكز الأبحاث والصحافيين، نجحت تايوان في انتزاع الدعم من الأطياف السياسية الأمريكية كافة. وتسترعي المبادئ التقدمية لتساي إينغ-وين التي تلقت تعليمها في الغرب، انتباه حزب بايدن الديمقراطي، فهي من بين أبرز المناصرين لحقوق المثليين في آسيا.
وأقر الكونغرس بالإجماع في مارس قانوناً يجعل الدعوة إلى ضم تايوان إلى المنظمات الدولية سياسة أمريكية. في الوقت نفسه، يشير راين هاش، كبير مستشاري الرئيس السابق باراك أوباما حول الصين وتايوان، إلى أن إدارة ترامب أضعفت موقف الولايات المتحدة بتهديدها قطع كافة تمويلاتها لمنظمة الصحة.
وقال إن «الموقف المبدئي» باسم تايوان في منظمة الصحة العالمية متوافق مع سياسة أمريكية طويلة الأمد، وليس مرجحاً أن يؤثر على علاقات تايبيه وبكين. إلا أنه أوضح أن الولايات المتحدة لا يمكنها في نهاية المطاف تحقيق نتائج لتايوان في المنظمات الدولية بدون موافقة من الصين. وأضاف هاش الذي يعمل باحثاً في مركز «بروكينغز» أن «بكين قبلت في الماضي بمثل هذه الترتيبات وتعاملت مع موقفها من هذه المسائل على أنه ورقة ضغط للتأثير على سياسات تايوان».
من جهتها قالت إليزابيث إيكونومي من «مجلس العلاقات الخارجية» إن تايوان لطالما تمتعت بدعم كبير من واشنطن، إلا أن الإدارات السابقة كانت قلقة من الإخلال في «التوازن الهش» بين الصين وتايوان والولايات المتحدة. ولفتت إلى أن «إدارة ترامب غير معنية بالسوابق التاريخية»، مضيفةً أن «أداء تايوان النموذجي استجابة لوباء كوفيد-19 رفع من مكانتها لدى الإدارة الأمريكية».