أصبحت اليابان نموذجا في التعامل مع فيروس كورونا المستجد، بفضل سيطرتها على تفشي الوباء دون إغلاق البلاد أو فرض إجراءات استثنائية، أو إجراء فحوصات PCR للكشف عن الإصابات، كما هو الحال في أوروبا والولايات المتحدة.
وعلى الرغم من أعداد الوفيات الضخمة التي تسبب فيها وباء فيروس كورونا الجديد في العديد من البلدان حول العالم مثل الولايات المتحدة الأمريكية التي وصل فيها عدد الوفيات إلى أكثر من 100 ألف، والعديد من الدول الأوروبية التي وصل فيها عدد الوفيات عشرات الآلاف، فإن أعداد الوفيات لا تزال أقل من 1000 حالة في اليابان حتى أوائل يونيو، وهو رقم منخفض بشكل ملحوظ بين مجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى.
وحسب البروفيسور سوزوكي كازوتو، الأستاذ بجامعة هوكايدو، فإنه على الرغم من تقدم الشيخوخة في المجتمع الياباني والنسبة الكبيرة من السكان التي تعاني من خطر الإصابة بالفيروس، فإن الأعداد المنخفضة من حالات العدوى والوفيات في البلاد محيرة وتضع العديد من علامات الاستفهام حول السبب الذي يقف وراء هذا اللغز. قد تكون هذه الظاهرة بسبب خصائص الفيروس غير المعروفة حتى الآن، أو ربما أن أوبئة الأنفلونزا السابقة قد قامت بمنح الشعب الياباني أجسامًا مضادة كافية لمحاربة فيروس كورونا.
ولم تفرض اليابان أبدًا إغلاقًا للبلاد مع إمكانية فرض عقوبات على المخالفين، حتى عندما تم إعلان عن حالة الطوارئ الوطنية في 15 أبريل في توسيع لحالة الطوارئ التي كانت قد أعلنت في وقت سابق في طوكيو و6 محافظات أخرى في 7 أبريل. وطلبت الحكومة من الشعب الامتناع عن الخروج "طواعيةً". واقتصر الوضع على "طلب تعليق العمل" للمطاعم والحانات دون إجبارهم على الإغلاق. وكان هذا النهج اللين كافيا لتحقيق إغلاق فعلي بحكم الواقع حيث امتنع الناس عن المخاطرة بدلاً من تحمل المسؤولية عن نشر الفيروس، والخشية من الضغوط الاجتماعية في حالة عدم الالتزام بمطالبات الحكومة للحد من انتشار العدوى.
ولكن، قبل إعلان حالة الطوارئ في اليابان، كان عدد الإصابات الجديدة قد بدأ في الانخفاض بشك فعلي، لذلك كان لطلب الحكومة من المواطنين بضبط النفس وعدم الخروج طواعية عظيم الأثر على تسريع هذا الاتجاه، ولا شك أن العوامل الأخرى كان لها تأثير أيضًا. أهمها تجنب العوامل الثلاثة التي حذرت منها الحكومة مرارا وتكرار وهي "الأماكن المغلقة، الأماكن المزدحمة، التواصل عن قرب" فتشير هذه الكلمة "العوامل الثلاثة" إلى أي مساحة مغلقة ذات تهوية ضعيفة، أو أي مكان يتجمع فيه عدد كبير من الأشخاص، يتحدثون فيها من مسافات قريبة أو يسعلون أو يعطسون. فهو مصطلح جامع شامل لكل ما سبق ذكره. وتجنب "العوامل الثلاثة" هذه يمكنه أن يقلل من احتمالية الإصابة.
بطبيعة الحال فإن الالتزام بمسافة التباعد الاجتماعي سيكون له تأثير أكبر بالإضافة إلى تجنب العوامل الثلاثة. فأثناء فترة إعلان حالة الطوارئ، قد أشار الخبراء إلى ضرورة تقليل الاتصال الشخصي بنسبة 80٪، وبالفعل بذل الكثير من الناس جهدًا خاصًا للامتثال لهذا الأمر. وحتى في حالة الاضطرار إلى الاتصال مع الآخرين، فمن خلال تجنب العوامل الثلاثة فقد تمكنا من تقليل خطر الإصابة بالعدوى. ويمكننا تفسير سبب محدودية الإصابة بالعدوى بين العاملين الأساسيين مقارنة بأمريكا والدول الغربية بحقيقة بأن تجنب العوامل الثلاثة وارتداء الكمامات قلل من خطر الإصابة بالعدوى بالرذاذ المتطاير.
وعندما بدأ تفشي فيروس كورونا في اليابان في يناير كانت قدرة إجراء اختبارات الكشف عن الفيروس محدودة بـ 1500 حالة في اليوم. ونتيجة لذلك، تم اقتصار الاختبارات على أولئك الذين تظهر عليهم أعراض بالفعل، مثل الحمى التي تستمر لأكثر من 4 أيام، وتم التركيز على تقديم الرعاية الطبية المناسبة لهم حتى لا تسوء حالتهم أكثر. في هذه المرحلة، لم يتمكن الأشخاص المصابون من أصحاب الحالات غير الخطرة من إجراء الفحوصات، وكان الكثير منهم مستائين من هذا الوضع لأنهم لم يتمكنوا من معرفة ما إذا كانوا مصابين أم لا. بالإضافة إلى ذلك، تمت مقارنة اليابان بشكل غير مواتٍ مع دول مثل كوريا الجنوبية وألمانيا التي جعلت الاختبار متاحًا بسرعة كبيرة على نطاق واسع، بل وصلت الدرجة إلى أن ظهرت تقارير عن نظرية المؤامرة التي تقول إن اليابان تقيد عملية أجراء الاختبارات عمداً لإبقاء أعداد حالاتها منخفضا حتى يمكنها الاستمرار في التخطيط لعقد دورة ألعاب طوكيو الأولمبية في موعدها المحدد.
ولكن هناك أسباب أخرى لعدم زيادة قدرة إجراء الاختبار بسرعة في اليابان. أحد هذه العوامل هو مخاوف وزارة الصحة والعمل والشؤون الاجتماعية وخبراء الأمراض المعدية أن يحدث نفس الشيء عندما تفشى وباء الإنفلونزا (H1N1) عام 2009، حيث توافد المرضى إلى المستشفيات لإجراء الفحوص، وأثناء انتظارهم في ردهات المستشفيات المزدحمة لإجراء الفحوص تسببوا في نشر العدوى. أي أن استراتيجية وزارة الصحة والعمل والشؤون الاجتماعية وخبراء الأمراض المعدية كانت تتمثل في الحد من عدد الاختبارات حتى لا يؤدي ذلك إلى نشر العدوى بشكل كبير، وأن التزام الشخص المشتبه في إصابته بالعدوى بالانتظار في البيت يمنع من انتشار العدوى.
بالنظر إلى هذه الظروف، قررت اليابان في وقت مبكر ألا تهدف إلى القضاء على فيروس كورونا كوفيد-19، واختارت بدلاً من ذلك مراقبة عن كثب لانتشار المرض واتخاذ نهج يتمثل في توجيه الجهود نحو الكشف عن مجموعات العدوى وعزلها. وبدلاً من القضاء على خطر الإصابة بالعدوى، فإن الهدف هو وقف انتشار المرض لإبقاء عدد المرضى عند الحد الأدنى. هذا يساعد على تخفيف الطلب على الرعاية الطبية، والحفاظ على موارد المستشفى الكافية لرعاية المرضى الذين يعانون من أعراض خطيرة، ويمنع ارتفاع معدلات الوفيات. يبدو أن الاستراتيجية تعمل، وطالما لم يكن هناك أعداد كبيرة من الحالات، فسوف يستمر تنفيذها حتى مع استمرار ارتفاع أعداد الإصابات اليومية.
ومع بقاء السلطات اليابانية على المسار الصحيح مع "طلباتها" للناس بالعزل الذاتي، تعاونت الشركات من خلال إغلاقها أو تعليقها العمل. هذه الاستراتيجية ليست مستدامة، ومع ذلك، فإن التنفيذ المتكرر سيتسبب في أضرار اقتصادية خطيرة بالإضافة إلى ضغوط اجتماعية كبيرة.
ويقول البروفيسور سوزوكي إن تعلم التعايش مع فيروس كورونا الجديد لا يعني أننا يجب أن نلاحقه بعد ذلك باختبار شامل في جميع أنحاء المجتمع. بدلاً من ذلك، يجب أن ينصب تركيزنا على تنفيذ تدابير الحماية في الحياة اليومية، ومنع الانتشار عند حدوث العدوى، وتقليل خطر الإصابة الفردية لدينا، والاختبار على الفور عندما نشك في أننا مصابون، والعزل الذاتي أو الحصول على العلاج الطبي المناسب حسب الضرورة، نحتاج أيضًا إلى تتبع أنشطتنا وتحركاتنا الخاصة حتى يمكن تتبع جهات الاتصال الخاصة بنا وتنفيذ تدابير احتواء الإصابات الجماعية إذا أصبنا بالعدوى. هذا هو جوهر استراتيجيات اليابان للتعايش مع فيروس كورونا الجديد بدلاً من محاولة القضاء عليه، وهذا يفسر سبب تمكن اليابان من الحد من عدد حالاتها والوفيات حتى مع القليل من الاختبارات أو التنفيذ الصارم لإجراءات التباعد الاجتماعي.