عندما عين أول سفير مغربي في السنغال، كان الأمر يتعلق، خلال فترة حكم الملك الراحل محمد الخامس، بوضع سفارة للرباط في داكار للإشراف على شؤون المغاربة المقيمين هناك منذ بداية القرن الماضي، وقبله بقليل. كان الأمر يهم تسهيل الخدمات، ولم يكن يتعلق فقط بتأسيس علاقات دبلوماسية مع بلد خرج بدوره من تحت الوصاية الفرنسية. تاريخ قديم يجمع المغرب بالسنغال، نادرا ما سُلط عليه الضوء..
تجار «فاس» الذين أعلنوا إفلاسهم في داكار
أسر مغربية هاجرت إلى السنغال، خلال القرن الماضي، وأسست حياة جديدة لها ولأبنائها واشتغلوا في أنشطة تجارية درت عليهم الملايين. ولأن بقاء الحال من المحال، فإن حياة هؤلاء انقلبت رأسا على عقب بعد تمتع السنغال بالاستقلال التام عن فرنسا سنة 1960 إثر سلسلة من الانسحابات الفرنسية التي ختمت بجعل داكار عاصمة للبلاد لتنفصل عن المستعمرات الغربية لفرنسا في إفريقيا.
من بين هذه العائلات، كما أشار إلى ذلك الدبلوماسي الراحل قاسم الزهيري، أول سفير مغربي في السنغال خلال عهد الملك الراحل محمد الخامس، أسر كانت في قمة الثراء ونجاح المشاريع المالية، لتنقلب حياتها وتصبح معزولة في داكار. وهكذا، كان ملف هذه العائلات أولى المهام الدبلوماسية التي اشتغل عليها قاسم الزهيري في السفارة المغربية هناك.
عائلةإدريس كنون، الذي كان مليونيرا خلال فترة الحماية الفرنسية، وتعود قصة وصوله للسنغال إلى بداية القرن الماضي. ففي الوقت الذي وصل فيه قاسم الزهيري إلى السنغال، كان إدريس كنون يعيش أياما عصيبة بعد تدهور تجارته بسبب تداعيات الحرب العالمية الثانية. إذ أصبح في خمسينيات القرن الماضي على حافة الإفلاس. يقول عنه قاسم الزهيري: «كان المرحوم إدريس كنون يتمتع بسمعة طيبة عند الخاص والعام. وقد عرفناه بعدما عينا في هذه البلاد. والكل كان يدعوه بابا ادريس. تقهقرت تجارته، منذ 15 عاما. ومع ذلك بقي على حاله في إكرام الضيف. وقد توفي منذ أربعة أشهر عن سن تقارب المئة. فقام المغاربة جزاهم الله خيرا بتجهيز جنازته».
قبل وفاة هذا التاجر المغربي في السنغال، كان خبر تدهور وضعه المالي وصل إلى المغرب مع حصول البلاد على الاستقلال، وانتشر الخبر بين التجار المغاربة في السنغال، حيث قاموا بمبادرات لمساعدته. وهنا يقول قاسم الزهيري إنه تعرف عليه عن قرب وهو سفير في داكار، وهو ما يعني أنه عاصر مأساته وعرفها عن قُرب، وسمع من تجار آخرين عن ماضيه في الكرم والإحسان إلى المغاربة والسنغاليين، وكان معروفا هناك أن تداعيات الحرب العالمية الثانية وتدهور قطاع الاستيراد والتصدير إلى الدول الأوربية كانا وراء إفلاس تجار من مختلف الجنسيات.
ومن أشهر التجار، أيضا، أحد أبناء عائلة بنجلون الذي غادر فاس في بداية القرن الماضي، وأسس تجارة مهمة في السنغال خلال ثلاثينيات القرن ذاته.
يقول السفير المغربي قاسم الزهيري إنه أحدث لجنة لمعرفة الأحوال المادية للتجار المغاربة ومطالبهم، وفوجئ عندما علم أن الحسن بن جلون، التاجر الذي كانت ثروته تقدر بالملايين، عانى، وهو في سن الثمانين وقتها، (أي خلال فترة اشتغال الزهيري في السنغال)، من العمى وفقد بصره ولم يعد قادرا على إعالة أسرته الكبيرة، حتى أنه لم يعد يتوفر على مسكن بسبب إفلاس مشاريعه، حيث تكلف أحد أصدقائه في «رفسك»، وهي مدينة أخرى بالسنغال، بتوفير مسكن له لينتقل إلى هناك ويعيش في ذلك المسكن إلى آخر أيام حياته هو وأسرته.
هناك، أيضا، أحد أبناء بنجلون، لكن ما يميز قصته أنه وُلد في السنغال ولم يأت إليها مثل البقية لتأسيس تجارته.
اسمه عبد الله بنجلون، ولد في السنغال سنة 1900، وكان يشتغل في التجارة، لكنه أصيب بمرض ألزمه الفراش، وهو ما أثر سلبا على أنشطته التجارية ليصبح مفلسا تقريبا في آخر أيامه، لولا أن لجنة من التجار المغاربة تكلفت به لتصرف له إعانات شهرية، بعد أن قضى شبابه وهو يساهم في تجمعات التجار، بل وكان وراء مجيء تجار مغاربة إلى السنغال حيث شجعهم على بداية مشاريع تجارية هناك.
قصص من زمن المد والجزر والزاوية التيجانية
كانت هناك حكاية قديمة تداولها أجدادنا المغاربة خلال القرن التاسع عشر، مفادها أن الجلد الذي يُدبغ مرة في فاس، يُدبغ مرات أخرى تحت الأقدام في طريقه إلى إفريقيا.
هذه المقولة الضاربة في القدم تحيل على العلاقات المغربية- السنغالية. إذ إن المصنوعات التقليدية المغربية كانت تباع في أسواق السنغال واعتاد عليها السنغاليون، خصوصا وأن أعدادا مهمة من السكان كانوا متأثرين جدا بالزوايا ومن أنصار الطريقة التيجانية، وهكذا فإن البلغة والطربوش المغربي والسبحة التقليدية، كانت كلها تجد رواجا كبيرا في أسواق السنغال.
كان هناك شارع في العاصمة يطلق عليه اسم «فانسان»، هو إرث من الاستعمار الفرنسي. وكان هذا الشارع تجمعا للتجار المغاربة حيث كانت به محلات لعائلات مغربية كونت ثروة وشكلت قصص نجاح وسط السنغال.
علاقة التجار المغاربة بأرض السنغال ضاربة في القدم، وكان من الطبيعي أن تتأثر بعدد من المحطات، خصوصا مع مجيء فرنسا، حيث مرت العلاقات بين البلدين من حالات مد وجزر، لكن سرعان ما تم احتواؤها خصوصا بعد إعلان استقلال البلدين وتشكيل الحكومات وتبادل الزيارات منذ نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات. حيث كان الملك الراحل محمد الخامس حريصا على استقبال الوفد السنغالي خلال آخر سنوات حكمه. واستمر الأمر مع الملك الراحل الحسن الثاني الذي زار السنغال في أكثر من مناسبة، وفتح الأبواب أمام شخصيات سياسية ودبلوماسية من السنغال لزيارة المغرب.
أما الملك محمد السادس، فكانت أولى زياراته بعد أقل من سنتين من وصوله إلى الحكم، حيث كان صيف سنة 2001 يوما تاريخيا في السنغال، بعد برمجة الزيارة الملكية التي استغرقت عدة أيام، واعتبرتها الصحافة السنغالية الأطول في تاريخ الزيارات الملكية إلى بلادهم.
بالعودة إلى جذور العلاقات بين البلدين، يشهد الدبلوماسي والصحافي الراحل، قاسم الزهيري، باعتبار أنه مؤسس سفارة المغرب في داكار خلال عهد الملك الراحل محمد الخامس، بما يلي: «ونشير بالمناسبة إلى أن أحد حفدة الشيخ أحمد التجاني، واسمه السيد محمد الحبيب كان يسكن بدكار وكان محل اعتبار وتقدير من جميع الأوساط وخاصة من لدن أتباع جده، وكنا نزوره في المسجد الذي ابتناه ولا يفرغ من المؤمنين، وبعد استقلال السنغال أخذ السيد محمد الحبيب ينظم زيارات سنوية إلى ضريح الشيخ أحمد التجاني بفاس وإلى أهم معالم المغرب يشارك فيها عشرات السنغاليين، وقد تفضل الملك فأوقف بيتا كبيرا في مدينة فاس لإيواء هؤلاء الزوار. وكان لذلك وقعه الطيب في نفوس السنغاليين. ومما تجدر الإشارة إليه كذلك أن كثيرا من الحجاج السنغاليين كانوا يفدون على المغرب لزيارة ضريح الشيخ أحمد التجاني في طريق العودة من بيتالله الحرام وزيارة الكعبة المشرفة.
ومن الجمعيات السنغالية التي كنا متصلين بها جمعية الاتحاد والثقافة الإسلامية. وهي من أنشط الجمعيات الإسلامية في السنغال ولها عدة مدارس لتلقين مبادئ الإسلام والعربية وفي كل سنة كانت توجه المتخرجين من هذه المدارس إلى تونس والقاهرة ويعدون بالعشرات، وقد بدأت السفارة بطلب منح لعشرة من هؤلاء الطلبة لمتابعة دروسهم في المعاهد الإسلامية بالمغرب .
نشيركذلك، بهذه المناسبة،إلى دور المغرب في إنجاز المسجد الجامع بدكار. فقد فاتحنا السيد مامادو دجا، رئيس الحكومة السنغالية إذ ذاك، في وضع تصميم هذا المسجد وبنائه على أيدي مهندسين وعمال مغاربة، وتشييد منار مرتفع يرى من بعيد وبناء مركز ثقافي ومدرسة لتعليم مبادئ الدين واللغة العربية. وسبق أن أسست لجنة للقيام بهذا المشروع وتتألف كلها من المواطنين السنغاليين وجمعت تبرعات كافية للإنفاق، وقد تفضل جلالة الملك فلبى طلب الحكومة السنغالية وأوفد السيد المكي بادو رحمه الله، وكان إذ ذاك قائما بشؤون الأوقاف بالمغرب ومعه وفد من المهندسين وكبار النحاتين والعمال برئاسة المقاول المرحوم السيد ابن عمر من سلا. وأسهم جلالة الملك بقدر مهم من ماله الخاص لإنجاز المشروع. وقد تم وفق المرام بعد سنتين؛ وحضر جلالة الحسن الثاني بنفسه في تدشين المسجد في يوم مشهود ما تزال ذكراه عالقة بأذهان السنغاليين إلى يومنا هذا».