تحقق مجموعة من الكتب، مباشرة بعد طبعها والإعلان عنها ثم توزيعها، إقبالاً من طرف القراء. وهذا في حد ذاته خبر يدخل في حيز الأخبار السعيدة. فمضمون هذا الخبر ينطق بما يريد الجميع سماعه، خصوصاً الناشر والكاتب والموزع وبائع الورق والمطبعي. سوف نقدم في هذا العدد مجموعة من الكتب التي انتشرت بسرعة وأقبل عليها القراء والمتخصصون، وهي: «ثورة الأيام الأربعة» لعبد الكريم الجويطي وبين «الفلسفة والتاريخ» لعبد الله العروي، و«والله إن هذه الحكاية لحكايتي» لعبد الفتاح كيليطو، و«تحملني حيرتي وظنوني» لسعيد بنكراد،
و«غبار ونجوم» ليوسف فاضل.
«ثورة الأيام الأربعة» لعبد الكريم الجويطي
بعد نجاح رواية «المغاربة» (المركز الثقافي العربي، 2016) أصدر الروائي عبد الكريم الجويطي رواية «ثورة الأيام الأربعة» (المركز الثقافي العربي، 2021)، وقد حققت، كسابقتها، نجاحا وإقبالاً منقطع النظير، وهو راجع إلى كونها تتناول تفاصيل تاريخ مغربي غني بالتفاصيل والأحداث والشخصيات؛ فالرواية تحكي عن ثورة 3 مارس المسلحة سنة 1973. وقد انطلق الروائي من كون هذا الحدث التاريخي الموشوم في الذاكرة هو استعارة كبرى تتولد عنها استعارات صغرى، شخصية وجمعية. هنا، ينزاح الجويطي عن مقولة «التاريخ يكتبه المنتصرون» لتصبح في رواية «ثورة الأيام الأربعة : التاريخ يكتبه المنهزمون أيضاً»، فتتسع الرؤية، والرواية، ووجهات النظر، وقوى الإرادة، ومنطق التاريخ، والهويات، والحضارات. لذلك وجد القراء في الرواية بؤرة مشتعلة من المنطوق والمسكوت عنه.
«بين الفلسفة والتاريخ» لعبد الله العروي
نشر عبد الله العروي سيرته الذاتية «بين الفلسفة والتاريخ» (ترجمة عبد السلام بنعبد العالي، المركز العربي للكتاب 160 ص، 2020)، التي استعرض فيها سيرة حياته الدراسية، ومراحل تحصيله العلمي بين أزمور ومراكش والرباط وباريس. وقد قدم لقرائه كيف اختار تخصص التاريخ كاختيار علمي، وما هي توجهاته المدرسية الأولى، وقراءاته التي أسست لتكوينه الفلسفي. وتأثره بوالده في ما يخص الدين الإسلامي، إذ كان الإسلام يمثل له الطهر والصفاء. وأيضا دوافع إعجابه الشديد بالمذهب المعتزلي، وانجذابه نحو التفكير المجرد. تناول العروي أيضاً في سيرته الذاتية انتقاله إلى فرنسا لمتابعة دراساته العليا، حيث درس على أساتذة فرنسيين متشبعين بالثقافة التنويرية العمانية، وكيف كان ذلك وراء تأثره بالفكر الحديث.
«والله إن هذه الحكاية لحكايتي» لعبد الفتاح كيليطو
فيما كان القراء ينتظرون من عبد الفتاح كيليطو إصدار كتاب في الأدب، في تحليل النصوص العربية، بالطريقة التي اشتهر بها كيليطو، قام ناشره «دار المتوسط» بالإعلان مبتهجاً بأن كيليطو أصدر رواية عنوانها «والله إن هذه الحكاية لحكايتي» (2021، 142 ص). ولعل سعادة الناشر هي من سعادة المؤلف: ها قد ارتاح كيليطو من تأليف كتب التحليل الأدبي وانتقل إلى استراحة تخييلة منتشية. لكن السؤال: هل ابتعد كيليطو فعلاً عن التحليل؟ لا، إن الرواية في صلب التراث العربي: ألف ليلة وليلة، أبو حيان التوحيدي، ابن خلكان. تبدأ الرواية بحدث غريب، كأنه تسلل من كتاب، وهو طيران «نورا» مع ولَدَيْها، بعد ارتدائها لمعطف الريش، وانتظارها لزوجها «حسن ميرو» حتى يستيقظ لتودعه... حسن ميرو يشتغل على أطروحة دكتوراه أبو حيان التوحيدي وكتبه المفقودة أو غير المقروءة...هنا تسللت كتب الأدب والتراثيات العزيزة على قلب كيليطو إلى نصه السردي.. ولعل هذا هو الطعم الذي وضعه كيليطو لقارئه.
«وتحملني حيرتي وظنوني» لسعيد بنكراد
بعد أعمال عديدة في التأليف السيميائي والترجمات المتصلة بنفس الحقل، وبعد رحلة طويلة في التدريس، أصدر سعيد بنكراد سيرته الذاتية «وتحملني حيرتي وظنوني» سنة 2021 عن المركز الثقافي للكتاب، وتقع في 342 صفحة من القطع المتوسط. وهي، حسب تعبير المؤلف، نص و«إخراج لغوي لحياة تمت في حقيقة الواقع، وكان ذاك سبيلي إلى تحديد الفجوة الرفيعة الفاصلة بين الاستيهام والحقيقة، بين ما عشته فعلاً وبين ما أضافته اللغة لحظة الترتيب والتركيب وما قُدم وما أُخر. وما أعيدت صياغته وفق وعي اليوم لا استناداً إلى ما وقع قديماً حقاً، وتلك هي مخلفات صمت الفواصل والبياض واللامحدود في الذاكرة». لقد كتب بنكراد سيرته، وربما هي جزء أول من نص شامل، وهو على وعي تام بدلالة فعل الكتابة عن الذات، يقول: «فنحن في السيرة وفي الحياة أيضاً نستمد جزءاً كبيراً من هويتنا، ومن انتماءات قبلية».
«غبار ونجوم» ليوسف فاضل
أصدر الروائي المغربي يوسف فاضل رواية «غبار ونجوم» عن دار المتوسط، بميلانو، وتقع في 336 صفحة من القطع المتوسط. وقد أقبل القراء على هذا النص الفريد الذي يتناول تفاصيل التاريخ العام انطلاقاً من حوادث وأحداث شخصية حفرت في نفسية الأفراد أخاديد كثيرة. تتقاطع في الرواية أصوات وأفعال عديدة: الإسلاميون، الجامعيون، الشيوعيون، النساء...في بلد يقع في أقصى الخارطة العربية: المغرب. لكن، يمكن التأكيد على أن ما جلب عقول القراء نحو هذه الرواية هو قوة التفاصيل، إلى درجة أن الناشر وصف يوسف فاضل بـ«عبقري التفاصيل». هذا إضافة إلى قوة الأمكنة والمدن المجروحة بسكين التاريخ: آسفي، طنجة، شفشاون.
دليلك إلى الكتاب النافع
التعريف بابن خلدون ورحلته شرقاً وغرباً
محمود عبد الغني
كتب عبد الرحمن ابن خلدون (1332-1406) سيرته الذاتية «التعريف بابن خلدون ورحلته شرقاً وغرباً»، (تحقيق محمد بن تاويت الطنجي، 1951)، في سياق ثقافي وديني عام يدين التعبير بـ«أنا». ولاحظت جل الدراسات الخلدونية غياب المظهر النفسي عنها، لأن قصدها الأول الذي رمى إليه «العبقري المحير»، حسب تعبير «جاك بيرك»، هو تدقيق سيرته العلمية الخاصة حيث أراد، عن وعي، أن يظهر كمؤرخ تشمل شهادته القصوى حياته الخاصة· لكن، رغم ذلك، انمحت الأنا أمام الوقائع؛ هذه الأنا التي اخترقها البعد التاريخي من الأول إلى الآخر. إنها سيرة ذاتية تحت تأثير وإشراف سلطة المعرفة التاريخية·
لقد أحس ابن خلدون طيلة حياته بأنه مجتث من جذوره· وهنا نجد نعت «كوسمو بوليتي» مناسباً جداً· فهو لم يحس بأنه كان في بلده في أي مكان من المغرب العربي، أو المغارب حسب التعبير السائد في عصره· وعبر «فرانز روزانتال» عن هذه الفكرة بيقين حاد: «مهما سمت مرتبته أو مرتبة أسلافه في هذا البلاط أو ذاك من بلاطات شمال إفريقيا، ومهما كان دُنُوه من الحكام، فإن ابن خلدون لم يكن يحس نفسه مرتبطاً «بمجموعة أحاسيس» كما كان له أن يسميها، ولا بروابط إرث ثقافي مشترك· فقد كان يعتبر الحاكم مجرد رب عمل، ويعتبر مركزه عملاً ينبغي إنجازه لا أقل ولا أكثر، غير أن ولاءه الأساسي لإسبانيا وحضارتها كان ذا تأثير بالغ على شخصيته وعلى عمله أكثر بكثير من تأثير صلاته السـامية» لقد كان ابن خلدون منعزلاً· وحسب «جاك بيرك»، فإن تقلباته المتكررة، و«أنانيته» العميقة ستجد تفسيرها الحقيقي في معارضته لوسطه، وفي تنافره وعدم تلاؤمه معه· فعبقرية ابن خلدون كان يعارضها مجتمع راكد يوجد في قمة تفككه· ووصف عبد السلام الشدادي هذا العبقري قائلاً: «عبقري منعزل مُجْبَر على شق طريقه في الزحام، سيعرف دوماً كيف يظهر بالشكل الأفضل، وكيف ينشرح، ربما مرحلياً، للعبة السلطة، هذه اللعبة الخطيرة والتافهة في الوقت نفسه، مراقباً ببرودة وانفصال عن الموضوع المراقَب (···) إلى اليوم الذي ينسحب فيه بعدما «تعرض للخطر في كل مكان» وتعب من «الفتن العديدة» إنه انسحاب مؤثر عاد بعده إلى نفسه مُشبَعاً بالتجارب والملاحظات، فأطلق العنان لذهنه ليحاول «فهم وتفسير» قدر بلد يسود فيه الظلام والفوضى».
ومن بين الدوافع الأخرى التي كانت وراء كتابة ابن خلدون لسيرته الذاتية، نجد هذا التعبير عن العزلة وعـن الاختـلاف رغم أن مسألة التعبير عن الذات، التي لا يرد ذكرها في النقد القديم، أخذت تتبلور مع السيرة الذاتية الحديثة، المبنية على الاختلاف· من يكتب اليوم حياته يسعى إلى إثبات تميزه عن باقي الناس، وبالتالي إثبات وحدته؛ أن أسرد حياتي معناه أن أعلن، صراحة أو ضمنياً، بأنني أختلف عن باقي الناس· بل إن هذا الاختلاف يسوغ كتابة السيرة الذاتية».
يمكن أن يتجسد دافع كتابة السيرة الذاتية والحديث عن الذات في الأدب القديم، لا في الاختلاف فقط، بل في وضع الذات في سلم ترتيبي «فأن أتكلم عن نفسي معناه في هذه الحالة أن أعلن هل أنا أسمى، أرفع منزلة، أعلى مقاماً من شخص آخر أم لا، أعلى مقاماً أو أحـط في خاصيـة من الخاصـيات، في فضيلـة مـن الفضائـل أو رذيـلة من الرذائل».
وللاقتراب أكثر من الدوافع التي كانت وراء كتابة «التعريف بابن خلدون ورحلته غرباً وشرقاً»، لابد من البحث في معاني ودلالات كلمة «تعريف» الواردة في عنوان السيرة الذاتية لكونها تعني، من بين ما تعنيه، أن ابن خلدون شخص معروف، ولكن بطريقة مشوهة، فيأتي الكتاب ليضع ويبرز التعريف الصحيح· ويرى كيليطو أن «هذا المدلول تؤيده عدة شواهد في الكتاب، عدة مواضع تتميز بلهجة تبريرية· وهذه اللهجة تتجلى أكثر في أثناء الفترة المصرية من حياة ابن خلدون· تكتسي هذه المواضع صبغة الاحتجاج والدفاع عن النفس· ورغم أن ابن خلدون لا يذكر بتفصيل وجهة نظر خصومـه، إلا أنهـا تعمـل في الخفاء، وتظهر بمجرد أن ابن خلدون يقوم بالدفاع عن نفسه» . إذن، فـ«التعريف بابن خلدون ورحلته غرباً وشرقاً» سيرة ذاتية كتبت لإحلال صورة صحيحة محل صورة يعتبرها ابن خلدون مشوهة وخاطئة· وهنا لا بأس أن نشير إلى الدوافع القوية التي تكون وراء كتابة السيرة الذاتية· يرجع ميشيل فوكو أصول السيرة الذاتية إلى العادة المسيحية التي تدفع بالمرء إلى الاعتراف بذنبه، ثم يقول له القس كيف ينبغي التكفير عن هذا الذنب، ثم يمنحه المغفرة· وفي هذه الحالة لا نجد نموذجاً أكثر دلالة من القديس أوغسطين وعبد الرحمن ابن خلدون.
لماذا يكتب المغربي سيرته الذاتية؟
نزار التدجيتي: المغاربة اعتادوا على البوح بهموم الذات ولواعج الفؤاد
عبد اللطيف الوراري: أنظر إلى السيرة الذاتية بوصفها نصًّا مرجعيًّا
يؤكد الباحث والمترجم نزار التدجيتي بأن المغاربة اعتادوا على البوح بهموم الذات ولواعج الفؤاد. والنصوص التي نُشرت إلى حد الآن – وما أكثر المخطوطات المغربية التي ما زالت قيد الخزانات الخاصة والعامة – تؤكد هذا الزعم. الكاتب المغربي −بطبعه –قلمٌ لا يُداهن. والشاعرة المغربية –بحكم شخصيتها –صوت لا يكفّ عن الشهادة ضدّ الغياب. لذلك، ليست الكتابة عن الذات وشجونها جنسا غريبا عن المتأدبين والعلماء والمثقفين المغاربة. وأضاف أننا، قديما، نعثر على شذرات من السّيرة الشخصية حاضرة في كتب الفهارس والتراجم والسير والأنساب وتقاييد الأسفار والرحلات وكنانيش الكرامات والمناقب الصوفية.
ودعا الباحث إلى ضرورة القيام بقراءات جديدة تطرح الصور الجاهزة اللصيقة بهذا الأدب المتأثر بمحيطه القريب شرقاً وغرباً منذ قرون. ففي عصر الأنوار حيث باح روسو بـ«اعترافاته» العارية كما أوعزت له بها حرية رومنطقية جارفة، تميّز أديبان مغربيان على الأقل بنصين منسيين يعكسان لنا صورا مخالفة للذات الجماعية تكاد تنفلت من أسر الثقافة السلطانية: أحدهما، «ثمرة أنسي في التعريف بنفسي» لأبي الربيع سليمان الحوات، وهي فهرسة فرغ منها مؤلفها عام 1790؛ وثانيهما، «الترجمانة الكبرى في أخبار المعمور برّا وبحرا» (1817) لأبي القاسم الزياني، وهي رحلات وأسفار يتقاطع جنسها مع الترجمة والمذكرات.
وعن دوافع الكتابة عن الذات، قال التدجيتي إن المغربي يكتب عن الذات للانعتاق من سلطة البلاغات الجاهزة أو مقاومة الاحتلال والاستبداد. في الثلاثينيات من القرن 20، شرع الشيخ التهامي الوزاني بتطوان في نشر الجزء الأول من سيرته «الزاوية» (1942). وإذا كانت سلطة الحماية منعت طبع الجزء الثاني من هذه السّيرة الأولى من نوعها في الأدب المغربي الحديث ونهبت أوراقه، فلأن صاحبها سرد فصولا من تاريخ المغرب الممنوع ومارس فعل المقاومة ضد فكر الاستعمار وأدب أذنابه. في سياق هذا الانفتاح على الأدب العصري الوافد من الشام ومصر، نشر عبد المجيد بنجلون «في الطفولة» (1949). وفي حضن السلفية الإصلاحية والوطنية، دوّن أيضا الطالب قدور الورطاسي «ذكريات سيرتي في فاس» أيّام الطلب والنهوض في الثلاثينيات.
ومن جهته، قال الشاعر عبد اللطيف الوراري، الباحث المتخصص في السيرة الذاتية، إنه ينظر إلى السيرة الذاتية بوصفها نصًّا مرجعيًّا، هدفها ليس «أثر الواقع» كما في الرواية، بل «الحقيقة». ولكن من النادر أن نجد مؤلّفًا قد أقسم بأغلظ الأيمان أن لا يقول إلا الحقيقة، وإن كان هذا الأمر لا يقطع مع رغبته في أنّ ما يحكيه عن ذاته ينبغي أن يكون حقيقيًّا، وأن يكون صادقًا، وأن يحكي ذكرياته كما عاشها، أي يعيد إنتاج الحقيقة مثلما عاشها، والعالمَ وفق رؤيته. فهو ذات النص وموضوعه في آن. إنّه «الشخص الحقيقي»، وهو وحده من يمكن أن يحتمل ما يقوله ويتحمّل الصدق فيه، أي يتحمّل مسؤولية تلفُّظه عند وضع اسمه على ظهر الغلاف، باعتباره شخصًا نفسيًّا وأخلاقيًّا واجتماعيًّا. وهذا التشبُّث بـ«الحقيقي» يميّز السيرة الذاتية، لكن لا يغلقها. وأضاف أن صاحب السيرة عندما يتذكّر، فغالبًا ما ينسى حقيقة ما مضى من ذكرياته؛ ولذلك يصفها بطريقة رومانسيّة حالمة، ورمزية خاصة، مع ما يستتبعه ذلك من تخييل ومحو وتحويل يمضي في اتجاه ابتكار هويّته. فمن غير البديهي أن يحكي المؤلف عن نفسه من غير أن يعيد اكتشافها، وهو ما يمنح لعناصر مبعثرة من مسار حياته التي لم تكتمل بعد، معنىً وانسجامًا.
حوار مع البلاغي المغربي محمد الولي
حياة الشخص أقرب مادة قابلة للصياغة والحبكة الحكائيتين
حاوره: محمود عبد الغني
استدرجنا الأستاذ محمد الولي، البلاغي العربي المعروف، إلى الحديث عن جنس السيرة الذاتية، ضمن هذا الملف الذي خصصه الملحق الثقافي لموضوع «المغاربة وفن السيرة الذاتية»، فوجدنا فيه باحثاً بلاغياً وشعرياً قارئاً للسيرة الذاتية المغربية، ومنقباً في الأغوار عن صيد البلاغيين والشعريين الثمين: الأسلوب، الحجة، الكلام والكتابة. هنا نص الحوار، قراءة ممتعة.
جل الروائيين المغاربة بدؤوا مسارهم الأدبي بكتابة سيرهم الذاتية: التهامي الوزاني، بنجلون، الشاوي، شكري، غلاب...، كيف تفسر ذلك؟
لا شك أن نزعة الحكي متأصلة في الإنسان. ربما كانت الأساطير هي الحكايات الأولى التي ابتكرها الإنسان وحملها تصوراته لنشأة الكون وخلق كل الكائنات. لهذا نجد العلماء يصطنعون مصطلحا جديدا لتعريف الإنسان باعتباره homo fabulator فالإنسان أصبح يعرف بوصفه خالق حكايات. مقابل الإنسان مستعمل رموز homo symbolicum إلى غيرها من التسميات من قبيل الإنسان سياسي homo politicus لأرسطو، والإنسان لاعب Homo Ludens لجُوهَان وِيزِينْغا وغيرها من التحديدات التي تعرف الإنسان بواحدة من كفاءاته.
هناك نزوع متأصل لصنع الحكايات عند الإنسان. لهذا يقول بارْتْ بأن «الحكايات تبدأ من بداية التاريخ، بل تبدأ مع بداية الإنسانية». أعتقد أنه من الصعوبة بمكان تقديم سجل كامل لأجناس الحكي. ومع ذلك فإن السيرة الذاتية هي أحد هذه الأجناس.
يقول جَانْ مُولِينُو ورفَائِيل مُولِينُوا لفْحايْلْ:
«بما أن الطابع المطلق الحضور والمُؤسس لسيرة الحكي، فمن المباح التساؤل عن مصادرها والانطلاق بهذا ليس نحو حكاية افتراضية بدئية، ولكن الانطلاق من تنوع الحكايات «الأولية». ينبغي أن نضيف بأنه، تبعاً لِجِيرُوم بْرْونِيرْ، يوجد نمطان أساسيان من المعرفة وانتظام العالم، متكاملان، ولكن لا يمكن اختزال أحدهما في الآخر. أحدهما هو النموذج البراديغماتي أو المنطقي العلمي، يسعى إلى الإحاطة بعالم الأشياء بملاحظة الظواهر وبتفسيرها اعتماداً على الحجاج العقلي rationnelle . والثاني هو الطريقة السردية، التي تعنى ليس بعالم الأشياء ولكن بالعالم الاجتماعي، وبالأفراد وعلاقاتهم. إنه ينهج طريق إنشاء القصص التي تمثل وتنتظم في نفس الآن العالم الاجتماعي. إن طريقتي التفكير هذه تتطور بالتوازي، إلا أنه من المحتمل أنه على صعيد النشأة phylogenèse نجد الفكر السردي سابقاً لطريقة الفكر المنطقي». وفي السياق نفسه نفهم فكرة بْيِرْ جَانِي: «إن السرد خلق الإنسانية».
فحياة الشخص أقرب مادة قابلة للصياغة الحكائية. بل هي المادة الأطوع للهيكل الحكائي، أي الحبكة. إن كل عناصر الحكي، التي تحدث عنها أرسطو في الشعرية، قائمة هنا: الحدث والشخوص والزمان المكان والفكر واللغة الخ.
إذن حياة الشخص أطوع مادة لصنع حكاية. ونظراً لهذه الوشائج القوية بين السيرة والرواية، فإن بعض النصوص الروائية قد نجد لها سحنة سيرة، والعكس صحيح. الخ
وفوق هذا فإننا نلاحظ أن الإنسان له نزوع قوي لكي يحكي في خطاب حياته. قد يكون ذلك مستجيبا لدافع إنساني لاشعوري وكوني. إنه الحكي الذي يميز الإنسان homo fabulator . والإنسان في حكايته السيرية يسعى إلى الإمساك بالعناصر التي يعتقد أنها تشكل حياته. هذه العناصر لا تتمتع بوجود فعلي قبل صياغتها في خطاب.
بدأت السيرة الذاتية والتخييل الذاتي ينافسان أجناس الأدب الكبرى، كيف هو الوضع في الأدب العربي؟
لا أعتقد أن السيرة يمكنها في يوم من الأيام أن تنافس الرواية. صحيح هناك بروز ظاهرة السيرة. وهذا قديم على كل حال. السيرة تنويع سردي على ضفاف الرواية أو الحكي. هذه السيرة التي نتحدث عنها هي سيرة المفكرين عندنا. هؤلاء كثيرا ما فكروا في أن الحكاية تتيح لهم فرصاً مهمة للحديث في أمور لا يسمح الخطاب العلمي بالحديث عنها. أو لا يتيح الفرص التي تتيحها السيرة. إن السيرة هي فن مرح، ويرفع الحرج، وإلى حد ما متمرد على القيود العلمية الصارمة. العلم لا يستسيغ خطاب الذات كما السيرة. لهذا السيرة تغطي هذه الحاجة. إنها، إذن، العودة إلى الذات. وعلى الرغم من أن السيرة فن سردي، فلا بد من تبديد سوء فهم: «إنها فن غير مريح، وإن كان مقيدا بالذاكرة أكثر من التخييل».
شاعت وتطورت نظرية الكتابة الذاتية منذ منتصف التسعينيات، هل لهذه النظرية تأثير في نظرية الأدب؟
أعتقد أن السيرة لها تأثير ما في نظرية الأدب. إنها تفوز بحقها من نظريات السرد. لأنها هي نفسها فن سردي، يغلب الاعتبارات الذاتية والواقعية. وهذه تبدو مفارقة، أي الجمع بين عناصر الصدق الموضوعي والعناصر الذاتية. إن هناك شبه اتفاق ضمني. ربما هذا ما يقصده فِيلِيبْ لُوجُونْ بعنوان كتابه: الميثاق الأوتوبوغرافي le pacte autobiografique، وعلى كل فإن صدق السيرة نسبي جدا، لأن المؤلف يبدي لنا الصورة التي نالت استحسانه. هنا عملية انتقاء قوية جدا تجعلنا نشك كثيرا في صدقية السيرة. إن السرديات قد تغتني وتتوسع بالتقنيات التي تعرضها السيرة.
علاوة على هذا، هناك كثير من السير الذاتية التي تلتبس برواية ما. إذا سلمنا بأن سيرة طاهر عبد الحكيم الأقدام العارية، تحكي عن معاناة الشيوعيين المصريين في المعتقلات الناصرية. طبعا هذه السيرة يمكن أن نقول عنها إنها سيرة جماعية. والمثير حقا أن أحداث هذه السيرة تلتبس بأحداث الرواية الرائعة لشريف حتاتة: العين ذان الجفن المعدنية وجناحان للريح والهزيمة. لهذا أزعم أنه في بعض الأحيان تنطمس الحدود بين هذين الفنين السرديين. لم أتفاجأ وأنا أرى الصديق محمد أقضاض يصف سيرته بأنها سيرة روائية.
نريد أن نعرف عنوان السيرة الذاتية، في الأدب العربي أو الغربي، التي أثارت إعجاب البلاغي محمد الولي.
في الحقيقة السير التي نالت إعجابي في المغرب هي تلك التي تعبر عن كفاح المواطن ضد الطغيان. السير التي تحكي عن سنوات الجمر في السبعينات. هي سير ثلاثة أصدقاء، ألا وهم الأساتذة محمد أقضاض، في سيرته جمر تحت الجلد، ومحمد العمري في سيرته الطلبة والعسكر، وسعيد بنكراد في سيرته وتحملني حيرتي وظنوني. هي كلها تحكي من بين أمور أخرى عن الاعتقال والتعذيب البوليسي الوحشي.
إنها، إذن، سير تقصد إلى الفعل Action. أي لم تكتب لأجل التسلية الفنية، بل كتبت للمساهمة في التغيير، أو أن الأحداث المعروضة في السيرة كانت تندرج ضمن حركة نضالية تستهدف إقامة ديموقراطية حقيقية وتوفير حياة كريمة لكل المواطنين.
يقول بنكراد في سيرته وتحملني ظنوني:
«واصلوا تعذيبي أياما عديدة، كان الجلادون بدون رحمة، وقد قيل لي بعد ذلك إن بعضهم كان من مخلفات الاستعمار، وإنهم اشتغلوا في صفوف الشرطة في تلك المرحلة كجلادين. وتعفنت قدماي من شدة الضرب بالكرباج، ولم أعد قادرا على الوقوف أو المشي أو الحركة داخل الزنزانة، ولم أعد قادرا على قضاء حاجاتي الطبيعية في المرحاض. وأُصبت بحمى شديدة، وبدأت أرتجف وأهذي وأصرخ من الألم. كنت أدخل في غيبوبة لساعات ثم أستفيق، ويعاودني الألم ثم أغفو، وقد اختلط علي النهار بالليل ولم أعد أعرف كيف أفرق بينهما، وبقيت على تلك الحال أياما لا أذكر عددها».
إن الفقرات التي تعبر عن هذا الفضح للاستبداد كثيرة في سيرة سعيد بنكراد. مثل هذه الفقرات لها دور أساسي هو الاحتجاج على النظام القمعي. السيرة هنا ليست ترفا استطيقيا، ليست حلما لذيذا، بل هي دعوة إلى الفعل. أي فعل التغيير. ويمكن أن نجد في سيرة العمري زمن الطلبة والعسكر احتجاجاً على الأوضاع المزرية التي كانت تعيشها المؤسسة التعليمية، وكعادة العمري لا ينسى توضيح خطابة بزي السخرية.
من موقعك كدارس للبلاغة والشعرية، ما بلاغة وشعرية السير الذاتية؟
لا بد من توضيح منذ البداية. يتعلق الأمر بضربين من البلاغة. الأول هو البلاغة الحجاجية. أي التي تعنى بالمقومات الحجاجية والإقناعية في أي خطاب شفوياً كان أم كتابياً. وربما حتى في الكلام غير اللفظي كالتصوير والموسيقى الخ.
لا شك أن السير التي تعرضنا إلى بعض نصوصها نلاحظ أن همها المتجذر هو أولا الكشف عن الخلل في العلاقات الإنسانية. والوضع المزري الذي تتعرض له الإنسانية.
الضرب الثاني من البلاغة هو البلاغة الشعرية. إن حضورها في هذه النصوص يختزل في الحدود الدنيا، الغاية ليست شعرية. الغاية ليست احتفالية. إن الغاية هي إسقاط الأقنعة والدعوة إلى الاشتراك في المعارك الإنسانية المصيرية، حيث يكتسب الإنسان كرامته. بل حتى في حال وجود مقومات هذه البلاغة منتشرة في هذه النصوص فإن الغاية هي الإقناع وليس الإمتاع.
الجائزة العالمية للرواية العربية تعلن القائمة الطويلة وأسماء لجنة التحكيم لعام 2022
أعلنت الجائزة العالمية للرواية العربية عن الروايات المرشّحة للقائمة الطويلة بدورتها للعام 2022، والتي تبلغ قيمة جائزتها 50 ألف دولار أمريكي، حيث تتضمن القائمة 16 رواية صدرت خلال الفترة بين أول يوليوز 2020 وحتى آخر يونيو 2021، وجرى اختيارها من بين 122 رواية تقدمت للجائزة.
تشتمل القائمة الطويلة للجائزة على كتّاب من 9 بلدان، تتراوح أعمارهم بين 30 و65 عاماً، وتعالج الروايات قضايا متنوعة، من صراع الفنانين من أجل البقاء على قيد الحياة، وهم يواجهون الحروب والسلطات القمعية، إلى علاقة الشرق بالغرب، وقضايا الحرية، والأمومة ومفاهيم الجندر. تؤكد روايات القائمة الطويلة تنوع المجتمعات العربية الاجتماعي والعرقي والديني، بينما تدين استغلال أزمات المنطقة لتكديس الثروات غير المشروعة. وتمنح الروايات صوتاً للمرأة العربية والأفريقية، إذ تحكي روايتان من ضمن القائمة قصتي امرأتين عاشتا في ظل كاتبين غربيين مشهورين.
جرى اختيار القائمة الطويلة من قبل لجنة تحكيم مكونة من خمسة أعضاء، برئاسة الناقد والروائي والأكاديمي التونسي شكري المبخوت، الذي فاز بالجائزة عام 2015 عن روايته "الطلياني"، وعضوية كل من إيمان حميدان، كاتبة لبنانية وعضو الهيئة الإدارية لنادي القلم العالمي؛ وبيان ريحانوفا، أستاذة الأدب العربي بجامعة صوفيا، بلغاريا؛ وعاشور الطويبي، طبيب، شاعر، ومترجم من ليبيا؛ وسعدية مفرح، شاعرة وناقدة من الكويت.
وشهدت الدورة الحالية من الجائزة وصول كاتبَين إلى القائمة الطويلة سبق أن وصلا إلى المراحل الأخيرة للجائزة، وهما عز الدين شكري فشير (المرشح للقائمة الطويلة عام 2009 عن رواية "غرفة العناية المركّزة" وللقائمة القصيرة عام 2012 عن رواية "عناق عند جسر بروكلين")، وحجي جابر (المرشح للقائمة الطويلة عام 2017 عن رواية "رغوة سوداء"). وثمة كاتبان شاركا في ندوة الجائزة (ورشة للكتابة الإبداعية) وهما طارق إمام وريم الكمالي.
وشهدت الدورة الحالية من الجائزة وصول كتّاب للمرة الأولى إلى القائمة الطويلة وهم، نزار أغري، طارق إمام، بودين بلكبير، محمد طوفيق، بشرى خلفان، رشدي رضوان، ديمة الشكر، منى الشمري، يعرب العيسى، بلال فضل، ريم الكمالي، خالد النصرالله، محمد النعّاس ومحسن الوكيلي.