إن الحدود المرسومة بين النصوص الأدبية، سواء في أجناسها أو أنواعها أو تعالقها وترابطها في ما بينها، تعد من الإشكالات الأساسية في الدراسة الأدبية، والعمل الإبداعي عموما. كان مفهوم السرقة الأدبية شائعا في الآداب العالمية، كما كان له حضور بارز في الأدب العربي، حيث أُفردت له مصنفات عديدة، خاصة في مجال الشعر. لهذا نجد تاريخ الأدب حافلا بالاتهامات المتبادلة حول السرقة الأدبية، التي كان موضوعها وأبطالها أدباء كبار من عيار وليم شيكسبير ودانتي أليغييري، صاحب الكوميديا الإلهية، وحتى الشاعر ت. س. إليوت، المشهور بقصيدة الأرض اليباب، قد نالته سهام الاتهامات إلى درجة أن ينسب إليه قول: «الشاعر الرديء يستعير، أما الشاعر الجيد فيسرق»... إن اتساع المسافة بين التأثر الأدبي والسرقة الأدبية تمخض عنه ظهور مفهوم آخر هو التناص الأدبي، الذي تعتبر جوليا كريستيفا رائدة له. هذا المفهوم الذي يطلق عليه أيضا التداخل النصي أو التفاعل النصي، يشير إلى العلاقة التي تربط نصا أدبيا بنص آخر أو استحضار نص أدبي داخل نص أدبي آخر، وهو مرتبط بوجود علاقات بين النصوص المختلفة، ويقوم على فكرة عدم وجود نص ينطلق من العدم. فكل نص موجود هو مُعتمد في وجوده على نص آخر إما في الفكرة وإما في توظيف التراكيب والألفاظ. وفي كل الأحوال، لا يخلو أدبنا المعاصر من النماذج التي يمكن وصفها بأنها تقع في دائرة ما يسمى بالسرقة الأدبية أو التأثير أو التناص الأدبي.
من خوان رامون خمينث إلى توفيق الحكيم
كانت أقدم قضية انتحال قد أثيرت سنة 1957 في مصر، حين لاحظ الناقد المصري مدى التشابه بين كتاب توفيق الحكيم «حمار الحكيم» الصادر سنة (1940)، وكتاب الكاتب والشاعر الإسباني خوان رامون خمينث «أنا وحماري» (1881- 1958) الصادر سنة (1914).
بلاتيرو/ خوان رامون خمينث
بلاتيرو صغير كث الشعر رقيق، بض من ظاهره حتى ليجوز أن يُقال إنه كله من قطن لا عظام فيه، كل ما هنالك أن مرايا عينيه اللتين من الكهرباء السوداء صلبة كجعرانين من زجاج أسود.
أتركه طليقا فيمضي إلى المرج ويداعب بفمه الأزهار الوردية والسماوية والصفراء... لا يكاد يبلها. أدعوه بعذوبة «بلاتيرو» فيقبل نحوي في ركض مرح يبدو معه أنه يضحك، وفي صلصلة مثالية لا أدري كنهها... يأكل كل ما أعطيه فيستطيب البرتقال الحامض والأعناب المسكية كلها عنبر، والتين البنفسجي بقطراته التي من عسل...
رقيق مدلل كالطفل والطفلة... لكنه قوي وصلب في باطنه كالحجر، حين أمضي به أيام الآحاد في أزقة القرية ينظر إليه أبناء الريف ويقولون: فيه فولاذ
فيه فولاذ... فولاذ وفضة قمرية معا.
... إذا متّ قبلي فلن تُحمل يا بلاتيرو في عربة المنادي إلى المخاضة المتسعة ولا إلى المستنقع الذي في طريق الجبال، شأن غيرك من الحمير المساكين والخيول والكلاب التي ليس لها من يحبها، لن تمزق الغربان أضلاعك وتُدميها فتصير كهيكل القارب فوق الغروب الأحمر القاتم، وتكون المشهد القبيح للمسافرين في التجارة ممن يسافرون إلى محطة «سان خوان» في عربة الساعة السادسة، ولن تكون وقد تورمت وجمُدت في المحارات المطحونة في الهوة، مثارا لفزع الأطفال الخائفين المتطلعين حين ينظرون من حافة الطرق ويلوذون بالأغصان، وحين يخرجون في أمسيات الآحاد، إبان فصل الخريف، ليأكلوا الصنوبر الذي أنضجته الشمس في الشجر. عش هادئا يا بلاتيرو، سأدفنك عند سفح شجرة الصنوبر الكبيرة يحيط بها البستان الذي يروقك كثيرا، ستكون بجنب الحياة المرحة الصافية، فالأطفال يلعبون والبنات يحكن الثياب في مقاعدهن إلى جانبك، وستتعلم الأشعار التي تلهمني إياها الوحدة، وستسمع الصبايا وهن يغنين حين يغسلن ما معهن في حقل البرتقال، وسيكون صوت الناعورة متعة لسلامك الدائم وبردا. وستضع لك العصافير والبلابل في تاج الشجرة الأخضر سقفا قصيرا من الموسيقى بين نومك الهادئ، وسماء غير اللانهائية ذات الزرقة الدائمة.
حمار الحكيم/ توفيق الحكيم
عرفته في يوم من أيام الصيف الماضي... في قلب القاهرة... وفي شارع من أفخم شوارعها... كنت أسير في ذلك الصباح إلى حانوت حلاقي، وكان الهواء حارا ممزوجا بنسيم لطيف، وكان صدري منشرحا فقد صادفت وجها مليحا، لغادة شقراء هبطت معي بكلبها في مصعد الفندق الذي أتخذه منزلا، مشيت وأنا أكاد أصفر بفمي وأترنم. وأشرفت على حانوت الحلاق... وإذا أنا أراه... أرى ذلك الذي كُتب لي أن يكون صديقي... رأيته يخطر على الإفريز كأنه غزال، وفي عنقه الجميل رباط أحمر وإلى جانبه صاحبه: رجل قروي من أجلاف الفلاحين... ووقف المارة ينظرون إليه ويحدقون، وبجمال منظره ورشاقة خطاه يعجبون... لقد كان صغير الحجم كأنه دمية... أبيض كأنه قُدّ من رخام، بديع التكوين كأنه من صنع فنان... وكان يمشي مطرقا في إذعان، كأنما يقول لصاحبه: اذهب بي إلى حيث شئت فكل ما في الأرض لا يستحق من رأسي عناء الالتفات...
ذلك هو «الجحش» الصغير الذي استرعى أنظار الناس في ذلك الشارع الكبير... ومنظر جحش في مثل هذا الحي كاف وحده لإلقاء العجب في النفوس... ولكن هذا الجحش كان ولا ريب جميلا في الجحوش... فقد كانت عيون المارة تشع بالإعجاب قبل العجب... ووقفت به سيدات إنجليزيات داخلات محل «جروبي»، فما تمالكن أنفسهن من إظهار الحب له... فلو أنه شيء يُحمل لما ترددن في اقتنائه وحمله كما تُقتنى الحلي وتُحمل... وكان صاحبه يريد بيعه فيما خُيّل إلي... فلقد سمعته يقول لمن أحاط به من مارة وباعة صحف وغلمان: بخمسين «قرشا»...
وكانت قدماي على الرغم مني تسيران بي مع الجمع المحيط بالجحش... وكانت عيناي على الرغم مني لا تنحرفان عن النظر إلى هذا المخلوق الصغير الجميل، وإذا بفمي على الرغم مني ينطلق صائحا: بثلاثين «قرشا».
من برج المدابغ إلى عمارة يعقوبيان
أثار صدور رواية «عمارة يعقوبيان» للروائي المصري علاء الأسواني ضجة إعلامية، من قبل بعض النقاد الذين اعتبروا أن هناك تشابها بينها وبين مسرحية «برج المدابغ» للكاتب المصري نعمان عاشور، من حيث البناء العام للعمل الروائي وبعض ملامح الشخصيات، خاصة منها الرئيسية. هذه المسرحية نفسها قد تم تحويلها سنة 1983 إلى فيلم سينمائي يحمل العنوان ذاته. وفي كل الأحوال رواية «عمارة يعقوبيان» هي الأخرى شهدت شهرة كبيرة بعد نقلها إلى عالم السينما، وأصبحت العمارة نفسها معلما من معالم القاهرة، حيث اتخذها علاء الأسواني مكانا رمزيا للمجتمع المصري، في فترة الانفتاح وبروز العديد من التحولات الاجتماعية. من الشخصيات الرئيسية زكي الدسوقي التي تعد من بين مفاتيح العمل الروائي، تقدمه لنا الرواية على الشكل التالي: «... المسافة بين ممر «بهلر»، حيث يسكن زكي بك الدسوقي، ومكتبه في عمارة يعقوبيان لا تتعدى مائة متر، لكنه يقطعه كل صباح في ساعة، إذ يكون عليه أن يحيي أصدقاءه في الشارع: أصحاب محلات الملابس والأحذية والعاملين فيها من الجنسين، الجرسونات والعاملين في السينما ورواد محل البن البرازيلي، حتى البوابين وماسحي الأحذية والمتسولين وعساكر المرور يعرفهم زكي بك بالاسم ويتبادل معهم التحيات والأخبار، زكي بك من أقدم سكان شارع سليمان باشا، جاء إليه في أواخر الأربعينيات بعد عودته من بعثته في فرنسا، ولم يفارقه بعد ذلك أبدا، وهو يشكل بالنسبة لسكان الشارع شخصية فولكلورية محبوبة، عندما يظهر عليهم ببذلته الكاملة صيف شتاء، التي تخفي باتساعها جسده الضئيل الضامر ومنديله المكوي بعناية المتدلي دائما من جيب السترة بنفس لون ربطة العنق، وذلك السيجار الشهير الذي كان أيام العز كوبيا فاخرا فصار الآن من النوع المحلي الرديء المكتوم ذي الرائحة الفظيعة، وجهه المتغضن العجوز ونظارته الطبية السميكة وأسنانه الصناعية اللامعة وشعره الأسود المصبوغ بخصلاته القليلة المصففة من اليسار إلى أقصى يمين الرأس بهدف تغطية الصلعة الفسيحة الجرداء، باختصار يبدو زكي الدسوقي أسطوريا على نحو ما، مما يجعل حضوره مشوقا وغير حقيقي تماما (كأنه قد يختفي في أي لحظة أو كأنه ممثل يؤدي دورا، ومن المفهوم أنه بعدما يفرغ سوف ينزع عنه ملابس التمثيل ويرتدي ثيابه الأصلية)، فإذا أضفنا إلى ذلك روحه المرحة ونكاته الفاحشة المنهمرة وقدرته المدهشة على مخاطبة أي شخص يراه وكأنه صديق قديم، أدركنا عندئذ سر الحفاوة التي يلقاه بها كل إنسان في الشارع، في نحو العاشرة صباحا، حتى تتعالى تحيات الصباح من كل صوب. وكثيرا ما يندفع ناحيته بعض مريديه من الشبان العاملين في المحلات، ليسألوه عن بعض المسائل الجنسية التي غمضت عليهم...
بقيت معلومات مهمة عن زكي الدسوقي...
إنه الابن الأصغر لعبد العال باشا الدسوقي، القطب الوفدي المعروف، الذي تولى الوزارة أكثر من مرة وكان من كبار الأثرياء قبل الثورة، إذ كان يملك وأسرته ما يزيد على خمسة آلاف فدان من أجود الأطيان الزراعية... وقد تعلم زكي بك الهندسة في جامعة باريس بفرنسا، وكان متوقعا له بطبيعة الحال أن يلعب دورا سياسيا بارزا في مصر بواسطة نفوذ أبيه وثروته، لكن الثورة قامت فجأة فتغير الحال: تم القبض على عبد العال باشا وتقديمه إلى محكمة الثورة ولم تثبت عليه تهمة الفساد السياسي، وإن ظل رهن الاعتقال فترة، وانتزعت معظم أملاكه ليوزعها الإصلاح الزراعي على الفلاحين. ولم يلبث الباشا أن مات متأثرا بما جرى، وتركت نكبة الأب وقعها على الابن، فلم يلبث مكتبه الهندسي الذي افتتحه في عمارة يعقوبيان أن باء بالفشل وتحول مع الأيام إلى مكان يقضي فيه زكي بك وقت فراغه اليومي، حيث يقرأ الجرائد ويحتسي القهوة ويلقى أصدقاءه وعشيقاته، أو يقضي في شرفته الساعات يتأمل المارة والسيارات في شارع سليمان باشا».
من «هيباتيا» إلى عزازيل
رواية «عزازيل» للروائي المصري المثير للجدل، يوسف زيدان، هي من رواياته الأكثر شهرة والحاصلة على جائزة البوكر العربية لسنة 2009، فقد لوحظ التشابه الذي يصل إلى حد التطابق برواية الكاتب الإسباني خوان غويتسولو «أسابيع الحديقة»، خاصة في الافتتاحية، ورواية أومبرتو إيكو الشهيرة «اسم الوردة» التي تحكي تقريبا الأجواء نفسها للصراع الديني الكنسي. أما الاتهام الرئيسي لرواية «عزازيل» فقد أتى من الروائي التونسي كمال العيادي الذي اعتبرها مسروقة نصا وموضوعا من الرواية القديمة «أعداء جدد بوجه قديم» للكاتب الإنجليزي تشارلز كينغسلي، المنشورة سنة 1853 والمشهورة باسم رواية «هيباتيا»، فإطارهما الزمني والمكاني وبناؤهما واحد، مع تشابه في الكثير من التفاصيل الأخرى في الشخصيات والأحداث. لقد كانت ردود يوسف زيدان تتأرجح بين إنكاره الاطلاع على هذه الأعمال، أو الإقرار بذلك، مدافعا عن كونه يكتب رواية تستمد مادتها من التاريخ المعروف لدى الجميع، وأن نسبة الخيال فيها مهمة مثل أي رواية تاريخية. إن هذا التضارب بين نسبة الحقائق الواقعية ونسبة الخيال في بنية العمل الروائي، هو أهم معضلة تواجهها الرواية التاريخية في تشكلها وبناء أحداثها، فقليلا ما نجد الرواية التاريخية قادرة على النجاح في تجاوز هيمنة التاريخي على الخيالي، كما هو الشأن في رواية إيطالو كالفينو في روايته «مدن لامرئية» على سبيل المثال.
من أجواء رواية «عزازيل» ليوسف زيدان التي تعود إلى فترة الصراعات الدينية داخل الكنيسة المسيحية، نقرأ على لسان السارد: «... بسم الإله المتعالي أبدأ في كتابة ما كان وما هو كائن من سيرتي، واصفا ما يجري من حولي وما يضطرم بداخلي من أهوال. وأول تدويني هذا، الذي لا أعرف كيف ومتى سيكون منتهاه، هو ليلة السابع والعشرين من شهر توت (أيلول، شتنبر) سنة 147 للشهداء، الموافقة لسنة 431 لميلاد يسوع المسيح. وهي السنة المشؤومة التي حُرم فيها وعُزل، الأسقف المبجل نسطور، واهتزت أركان الديانة. وقد أحكي ما جرى بيني وبين مرتا الجميلة من غوايات وعذابات، وما كان من أمر عزازيل المراوغ اللعين، وأقص بعضا مما وقع مع رئيس الدير الذي أسكن فيه ولا أجد السكينة. وسوف أروي بين الثنايا، حكايا عايشتها منذ خروجي من بلادي الأولى الواقعة بأطراف بلدة أسوان جنوب مصر، حيث يجري نهر النيل الذي كان أهل قريتي يعتقدون أنه ينبع من بين أصابع الآلهة، ويهبط ماؤه من السماء. وكنت أعتقد ذلك الوهم مثلهم، حتى تعلمت ما تعلمته في نجع حمادي وأخميم، ثم الإسكندرية... فأدركت أنه نهر كبقية الأنهار، وأن بقية الأشياء مثل بقية الأشياء، لا يمتاز منها إلا ما نميزه نحن بما نكسوه به من وهم وظن واعتقاد.
من أين أبدأ تدويني؟... البدايات متداخلة ومحتشدة برأسي. ولعل البدايات كما كان أستاذي القديم سوريانوس يقول، ما هي إلا محض أوهام نعتقدها. فالبداية والنهاية، إنما تكون في الخط المستقيم. ولا خطوط مستقيمة إلا في أوهامنا، أو في الوريقات التي نسطر فيها ما نتوهمه. أما في الحياة وفي الكون كله، فكل شيء دائري يعود إلى ما منه بدأ، ويتداخل مع ما به اتصل. فليس ثمة بداية ولا نهاية على الحقيقة، وما ثم إلا التوالي الذي لا ينقطع، فلا ينقطع في الكون الاتصال، ولا ينفصم التداخل، ولا يكف التفريع، ولا الملء ولا التفريغ... الأمر الواحد يتوالى اتصاله، فتتبع دائرته لتتداخل مع الأمر الآخر، وتتفرع عنهما دائرة جديدة تتداخل بدورها مع بقية الدوائر. فتمتلئ الحياة، بأن تكتمل دائرتها، فتفرغ عند انتهائنا بالموت، لنعود إلى ما منه ابتدأنا... آه لحيرتي، ما هذا الذي أكتبه؟ إن الدوائر كلها تدور برأسي، فلا توقفها إلا لحظات النوم، حيث تدور أحلامي. وفي الأحلام، مثلما هو الحال في صحوي، تحتشد بقلبي الذكريات وتعتصرني... الذكريات دوامات متتالية الدوائر، ومتداخلة. فإن أستسلم لها وأحكيها بقلمي، فمن أين أبدأ؟»
أدونيس بين التناص والانتحال
أثار الكاتب والمترجم العراقي كاظم جهاد بكتابه «أدونيس منتحلا» قضية الفصل بين التناص والانتحال، بخصوص الأعمال الشعرية لأدونيس. ولم تكن هي المرة الوحيدة، فقد أطلقها آخرون مثل الشاعر التونسي المنصف الوهايبي. لكن هذا الكتاب خلف ردود فعل بين أنصار شعر أدونيس وخصومه، وجعل من موضوع التناص وحدوده موضوعا للدراسة والبحث في المشهد الثقافي العربي. حيث قدم الشاعر التونسي المنصف الوهايبي سنة 1987، أطروحة نال عنها شهادة «التعمق في البحث» حمل البحث عنوان: «الجسد المرئي والجسد المتخيل في شعر أدونيس –قراءة تناصية». يبرر العنوان الفرعي نفسه بكون صاحب الأطروحة يتناول فيها سائر شعر أدونيس ويدرس التواشجات الثقافية والمؤثرات الشعرية وسواها العاملة في نصه...
يبدأ الوهايبي كلامه عن النقل لدى أدونيس بالإشارة إلى جمل قصيرة وأبيات معزولة. بعضها يعمل بمبدأ الإدغام، فيخلط المصادر ويمزج جملا تفصل بينها لغات وعصور، ووحدهما يكشفان عنها عمل الصدفة وثقافة الناقد. هكذا يذكرنا الوهايبي بأن قول أدونيس مخاطبا للقارئ: «وأنت افهمني، أيها الضائع، أيها الشجرة المنكسة، يا شبيهي» إن هو إلا إدغام لبيت بودلير الشهير: «أيها القارئ المرائي، يا شبيهي ويا أخي» ولجملة للمسعودي معروفة لكل من تصفح المرجع الأساسي للعرب «مروج الذهب» ينسب فيها إلى أفلاطون قوله: «إن الإنسان نبات سماوي، والدليل على هذا أنه شبيه بشجرة منكوسة، أصلها في السماء وفرعها في الأرض». فيقول: (هذا الإدغام لمقولات وجمل «هائمة» في التراث العربي العالمي يخترق في الواقع، وبلا مبالغة، عمل أدونيس كله، ويكفي أمامه أن يُعْمِل القارئ ذهنه ويستنفر ذاكرته الثقافية ليقع على العجيب من الأخذ، الذي يخلو أحيانا من كبير تمعن بالقول المأخوذ. كما يفعل مثلا بالصور البودليرية: «حلمي الحجري» و«رمحي الوثني» وسواها المشهورة في «أزهار الشر» والتي تتسرب حرفيا إلى «أغاني مهيار الدمشقي»... أو عندما يأخذ عبارة سارتر الشهيرة في «جوهر العارض»... فيكتب في «مفرد بصيغة الجمع» أنه بجوهر العارض ويغسل الماء»).
في جانب آخر فجر الشاعر والكاتب التونسي محمد الغزي من خلال مقاله في مجلة العربي (العدد670- شتنبر 2014) قضية العلاقة الملتبسة بين الإصدار الأخير للشاعر أدونيس (ديوان البيت الواحد في الشعر العربي) وكتاب الشاعر والناقد الليبي خليفة محمد التليسي تحت عنوان (قصيدة البيت الواحد) الصادر سنة 1983،عن سلسلة كتاب الشعب الليبية، ودار الشروق المصرية في طبعة ثانية 1991 من جهة التشابه المثير في العنوان، والتطابق التام في فكرة الكتاب، والأهم من ذلك عدم اعتراف أدونيس بسبق الفكرة زمنيا وإنجازا لدى خليفة محمد التليسي بالإشارة إليه تحديدا أو لغيره. مما جعلها تبدو فكرة محصورة ومرتبطة بالمشروع الأدونيسي في مختاراته في الشعر العربي.
لكن أدونيس يرى أن كتابه «ديوان البيت الواحد في الشعر العربي» جمْعٌ لأبيات مفردة قد انتخبها من مدونة الشعر العربي القديم ثم أجراها مجرى القصائد/ الومضة التي يصفو فيها الإيجاز وتتكثف حكمة البداهة وبداهة الحكمة... «هنا كذلك يُرتجل العميقُ الغامض، وتعانق الرويةُ والشفوية. وأن نية إخراج الكتاب على هذا النحو دافعها يتمثل في تمكين القارئ العربي الذي يحب السفر في اتجاه الذاكرة والتاريخ من أن يسير خفيفا في دروب الفكر والمخيلة، حيث تتموج ينابيع شاهقة من اللذة والغبطة... غبطة الفكر ولذة الحس والمخيلة» وأنه «محاولة أخرى لبناء سياق مشترك بين ماضي الشعر العربي وحاضره.
تنهض هذه المحاولة على قاعدة البيت الواحد. وهو بيتٌ يقوم على الفكرة -الوَمْضة، أو الصورة –اللمحة، أو المعنى – الصورة. فبعد «ديوان الشعر العربي» بأجزائه الأربعة، سيسعى أدونيس كما يقول «إلى بناء سياق إبداعي مشترك في ماضٍ عربي تُؤَرْجحهُ النزعاتُ والمعتقدات، تارةً في اتجاه ذاكرةٍ مُلتبسة، عدا أنها موضع صراعٍ وتنازعٍ واقتتالٍ أحياناً. وتارةً في اتجاه مستقبلٍ لا ذاكرة له، وليس له في الحاضر مستندٌ راسخ». بينما يقدم خليفة محمد التليسي كتابه من خلال تصور جديد للشعر العربي القديم باعتباره في الأساس شعر البيت الواحد بقوله: «إن الأصل في الشعر القديم هو البيت الواحد» لأنه أقرب إلى العفوية والبداهة، وبالتالي فإن البيت الواحد هو الجذر والأصل، وأن القصيدة العربية بمكوناتها التقليدية لاحقة عن هذا الجذر والأصل. ومن هذا المنظور سعى خليفة محمد التليسي إلى تأصيل مفهوم قصيدة البيت الواحد، على أنها بحسب تعبيره:» قصيدة مكتملة... وخلاصة الخلاصة».
يؤكد الكاتب التونسي محمد الغزي أن أدونيس قد استلهم فكرة ديوان البيت الواحد من التليسي لوجود أكثر من قرينة دالة على الاتفاق في استعمال المصطلح وتوظيفه ناهيك عن الأبيات المختارة، ويلوم أدونيس على إغفال الإشارة والتنويه بالعمل السابق والرائد لخليفة محمد التليسي رغم الحفاوة والثناء الذي لاقاه أثناء صدوره وإعادة طبعه لأكثر من ثلاثة وعشرين سنة.
إن النقاش المثار عن الأسبقية وحدود الاستلهام قد يفضي إلى السقوط في قضية السرقات الأدبية والانتحال الذي تكرر مع الشاعر أدونيس في العديد من المرات، لعل من أقدمها مقالة الشاعر العراقي عادل عبد الله سنة 1978 في مجلة «الطليعة» العراقية تحت عنوان مثير «من كتب تحولات العاشق أدونيس أم النفري؟»، وقد استعان بالنماذج المقارنة بين أدونيس والنفري الشاعر التونسي منصف الوهايبي في أطروحته الجامعية للوصول إلى نفس الاستنتاج تقريبا.
الحقيقة أن السجال بين كتاب أدونيس «ديوان البيت الواحد» وخليفة محمد التليسي الذي أثاره الشاعر التونسي محمد الغزي يخفي من ورائه جملة من الحقائق. أولها، أن قضية البيت الواحد ليست ابتكارا في حد ذاتها. بل إن المصنفين العرب القدامى قد تداولوا موضوعه وألفوا فيه كتبا تدخل في صميم تراثنا الأدبي والنقدي. فهذا الفضل أحمد بن أبي طاهر طيفور في كتابه «المنثور والمنظوم» يخصص فصلا كاملا لما سماه (القصائد المفردات التي لا مثل لها)، وهي القصائد من بيت واحد. وابن سلام الجمحي يسميه بالبيت المقلد نسبة إلى القلادة. أما الشاعر الأندلسي ابن الخطيب فيشير في كتابه «الإحاطة في أخبار غرناطة» أن من مؤلفاته كتاب (أبيات الأبيات) للقصائد من بيت واحد.
وثانيها أن قضية البيت الواحد رائجة ومتداولة بشكل كبير حتى في العصر الحديث. فقد كان أشهر عمل تأسس على منتخبات لقصائد من بيت واحد هو«أنطولوجيا البيت الواحد» للشاعر اللبناني جورج شحادة الذي يكتب بالفرنسية الصادر في باريس سنة 1977، ولم تكن الأنطولوجيا معنية بالشعر العربي قدر اهتمامها بالشعر العالمي عموما والفرنسي خصوصا. وقد قام بترجمة أجزاء مهمة منها الشاعر اللبناني عصام محمود. إضافة إلى تداول هذه الفكرة على أكثر من صعيد ففي العدد الأول من مجلة «فراديس» مختارات من نصوص وقصائد من بيت واحد أو مقطع شعري. إن المختارات والأنطولوجيات الشعرية تبقى بصفة عامة مسألة شائكة. لأنها كانت دائما مثار انتقاد ومساءلات عدة. فالمختارات يحكمها الهاجس الشخصي النابع من الذوق والاختيار الجماليين، فمن المعلوم أن منتخبات أدونيس يؤطرها منظوره الحداثي، وخليفة محمد التليسي منظوره الكلاسيكي التقليدي، في ما أن الشاعر اللبناني جورج سعادة لن يتجاوز بالتأكيد حساسيته الشعرية باعتباره شاعرا سورياليا.
إن الحديث عن الاستلهام أو الريادة وحتى الأسبقية لا يروم سوى الدفع بقضية «قصيدة أو ديوان البيت الواحد» إلى مجال آخر، ليضعها في صلب النقاش عن البلاجيا والسرقات الأدبية أو الانتحال. وهذا موضوع قديم وجديد ليس في الأدب العربي فحسب، بل حتى في الأدب العالمي.
يامبو أولوغيم.. سرقة أم عنصرية أدبية؟
قصة الروائي المالي يامبو أولوغيم (1940-2017) Yambo Ouologuem شديدة الغرابة، فقد كان هذا الكاتب أول أفريقي يفوز بجائزة رينودو Renaudot الفرنسية سنة 1968 عن روايته «واجب العنف» أعقبها كتيبه «رسالة إلى فرنسا الزنجية». شهد الجميع بتألق هذا الكاتب المالي باسم روائي سيكون له مستقبل كبير في عالم الكتابة والرواية على الخصوص، ثم فجأة بدأت المقالات النقدية في الظهور تباعا، حاملة اتهامات صريحة تدور في مجملها حول القرائن التي تثبت بما لا مجال فيه للشك بأن رواية «واجب العنف» تتضمن مقاطع مسروقة من أعمال روائية سابقة.
حاول يامبو أولوغيم الدفاع عن نفسه، بأن تلك المقاطع ما هي إلا اقتباسات ضرورية لعمله الأدبي. وجد الروائي المالي نفسه محاصرا من قبل الوسط الأدبي الفرنسي الذي سرعان ما تخلى عنه، ولم يعد بإمكانه أن يجد المجال لنشر أعماله الأدبية، فضلا عن شعوره بالخذلان من لدن الكتاب الأفارقة في فرنسا وأوروبا وداخل القارة نفسها. عاد يامبو أولوغيم إلى بلاده ليعمل وناشرا وكُتبيا ويلقي في بعض الأحيان دروسا لا علاقة لها بمنجزه الروائي، رافضا أي حديث عن ماضيه الأدبي. ظلت روايته الوحيدة وكتيبه اليتيم متداولة على نطاق ضيق في أفريقيا.
أعيد نشر أعماله سنة 2005 في بلاده مالي وأقيم احتفال كبير دون إبلاغ الكاتب خشية موقفه الرافض. تفاجأ الحضور بهجمة غير متوقعة من يامبو أولوغيم الذي مزق الكتب وحطم كاميرات المصورين وليخطب مدة نصف ساعة عن خيانة أفريقيا أمام ذهول الجميع من بلاغته ومستواه الأدبي الرائع، ليعود بعد ذلك إلى صمته في قريته النائية. إنها قصة أشبه بمصطفى سعيد في رواية الطيب صالح «موسم الهجرة إلى الشمال».
وعكس ما كان يتصوره يامبو أولوغيم فقد عاد اسمه إلى الانتشار وأصبحت كتبه تتداول على نطاق واسع خاصة من قبل النخبة المثقفة الأفريقية، وبالمناسبة فقد أقامت الأكاديمية المغربية السنة الماضية ندوة دولية تكريمية للكاتب المالي يامبو أولوغيم. فهذا الروائي السينغالي الشاب محمد مبوغار سار Mohamed Mbougar sarr وعن عمر 31 سنة استطاع أن يكرر إنجاز سلفه المالي أولوغيم وأن يظفر بجائزة غونكور الفرنسية العريقة، وخلافا لكل التوقعات بأغلبية الأصوات للدورة الأولى للجنة التحكيم، وعن دار نشر صغيرة وشبه مغمورة، عن روايته «ذاكرة الرجال الأكثر سرية».
الروائي السينغالي لم يكن فقط أصغر فائز بهذه الجائزة منذ سنة 1976، بل كان أول فائز إفريقي بهذه الجائزة من جنوب الصحراء. الرواية فضلا عن حنكتها السردية بشهادة لجنة التحكيم تستمد قوتها من فكرة مذهلة حقا، فهي تستوحي قضية الكاتب المالي يامبو أولوغيم. الرواية تعود إلى الموضوع الجديد بخصوص علاقة الغرب بأفريقيا على مستوى الإبداع الأدبي خصوصا والثقافي عموما، ونظرة الاستعلاء المتحكمة في هذه العلاقة.
لذلك ينبغي أن نفهم جيدا كيف جاء تصريح محمد مبوغار سار عقب فوزه بالجائزة، على هذا النحو من الحذر الشديد والوعي القوي بهذا التوتر القائم بين النظرة الغربية إلى الإبداع غير الأوروبي بصفة عامة والأفريقي بصفة خاصة: «آمل ألا يكون سبب فوزي هو أنني أفريقي، وأرجو أن يكون النص هو الأساس خلف هذا الخيار. أشكر لجنة التحكيم على قرارها، لكنني لست غافلاً عن القضايا السياسية التي قد تكون وراء هذا الاختيار، وآمل أن يكون الأدب هو الدافع الأول وراء اختياري، الأدب الجميل والنبيل والخالد».
الرواية في مجملها تدور حول عوالم الكتابة باعتبارها شأنا خطيرا وملتبسا طورا بالحياة وطورا بالتاريخ وأسئلتهما العميقة أو كما يقول محمد مبوغار سار: «أردت من خلال تطرقي لموضوع الكتابة والأدب أن أركز على صنعة الكاتب. أردت أن أكتشف نفسي وما أقوم به في حياتي ككاتب، كما أردت أن أقدم نظرة تأملية في الكتابة ودورها وعلاقتها بالحياة والتاريخ. أردت أن أجد كاتباً من القرن العشرين ذائع الصيت وملعوناً بطريقة ما، وأن أبحث عبره عن الأسباب التي يملكها المرء ليكتب وعن التحديات التي يواجهها عند الكتابة والعواقب التي تنزل به بعد النشر. تناولت حياة كاتب مهمش بعد فوز لأنني وجدته شخصاً مذهلاً ومثيراً للاهتمام بغموضه وغرابة المأزق الذي وقع فيه. يضع الكاتب عمله عموماً ويقوم بالمخاطرة بنشره ثم يدفع الثمن غالياً. في هذه الحالة كان الثمن هو الصمت لخمسين عاماً». إن فوز السينغالي محمد مبوغار سار بالجائزة وإعادة صنيع الكاتب المالي يامبو أولوغيم للمرة الثانية وإعادة الاعتبار لهذا الأخير من خلال الحديث عن قصة حياته الغريبة قد يطرح سؤالا أساسيا: هل كانت روايته المتهمة «واجب العنف» سرقة أم عنصرية أدبية؟
أحمد مراد.. رواية الفيل الأزرق
اشتهر الروائي المصري الشاب بروايته «الفيل الأزرق». وتحكي الرواية قصة خيالية تتداخل فيها أجواء الرعب والغموض. تدور أحداثها حول دكتور الأمراض النفسية «يحيى» الذي يعمل في مستشفى العباسية. كان الدكتور «يحيى» شارباً للخمر. يتعرض الدكتور إلى حادث مرور ذهب ضحيته زوجته وابنته، فقرر الابتعاد عن الجميع واختار العزلة كحل للنسيان لمدة خمس سنوات.
قرر الدكتور العودة إلى العمل بالمستشفى ويُصادف صديقه القديم كنزيل فيه يُدعى شريف الذي كان يحاول الأخر أن ينسى ماضٍ أليم قد مر به. أراد يحيى البحث عن قصة صديقه شريف لمعرفة حقيقته، وهنا تبدأ قصة الإثارة والتشويق والخوض في العالم الخيالي والغريب، حيث أظهر الكاتب الغرائز البشرية والخبايا النفسية التي من الممكن أن تحدث وإبرازها من خلال الشخصيات.
عند عودته لمستشفى العباسية في جناح جديد «8غرب» والمتخصص في الحالات النفسية والقانونية الصعبة والمرتبطة أساسا بالمتهمين بالقتل المحالين من محاميهم على الفحص الطبي في محاولة منهم لإنقاذهم من الإعدام، يجد يحيى نفسه أمام حالة صديقه القديم) والمتهم بقتل زوجته ودفعها من الطابق الثلاثين لعمارة شاهقة.
هذا اللقاء سيقلب حياة يحيى ويحولها إلى جحيم يأتي من فتح ملفات المتهم الذي بدا في حالة نفسية سيئة رافضا الكلام، فتكون تلك المقابلة انطلاقة صعبة لإعادة اكتشاف الذات من خلال البحث في جريمة شخص آخر. النجاح الكبير للرواية لم يمنع بعض المتابعين إلى إثارة ما يمكن اعتباره مشاهد متشابهة مع الفيلم السينمائي The Tattooist وهو فيلم نيوزلاندي ينتمي إلى صنف أفلام الرعب إنتاج سنة 2007 من إخراج Peter Burger. وبالمناسبة رواية «الفيل الأزرق» لأحمد مراد تم نقلها هي الأخرى إلى السينما المصرية.
.