ماذا يحدث في أسرة مرض الرؤساء والملوك والزعماء؟ ما هي أمراضهم التي تظل سرا من أسرار الدولة؟ ما هي عاداتهم عند المرض؟ وما هو طعام حميتهم؟ وما هو السر المهني الجاثم على نفوس أطباء قدر لهم أن يهتموا بالحالة الصحية للزعماء والقادة؟
اختلفت جنسيات وأديان الأطباء الذين أشرفوا على صحة أجساد الملوك المغاربة، منهم الفرنسيون والألمان والبريطانيون، ومنهم اليهود والنصارى والمسلمون، ومنهم المدنيون والعسكريون، ومنهم أيضا أطباء القلب والشرايين والطب الباطني والعظام والعيون وغيرها من التخصصات.
تاريخهم حافل بالأسرار لكنها لم تكتب. حتى أن الذين كتبوا عن تجاربهم، اكتفوا بسطور قليلة عن مهامهم في المغرب. وغالبا ما ركزوا في سيرهم الذاتية عما حصل خارج غرفة العلاج، مكتفين بحوارات وجلسات مع الملوك.
هم بعكس الأطباء الذين اشتهروا وكتبت عنهم مقالات وبورتريهات كثيرة. هؤلاء أطباء الظل، عاشوا في الظل ومنهم من مات منسيا دون ضجيج، ومنهم من لا يزال على قيد الحياة يرتدي البذلة البيضاء أو يفكر في كتابة مذكرات. بالكاد يتذكر القليلون أنهم كانوا على اتصال بهم، لأنهم كانوا يقتصرون في حضورهم على التجمعات الخاصة، بعيدا عن الأضواء واللقاءات الرسمية التي تظهر وجوها أصبحت مألوفة. بعكس اللقاءات المغلقة التي حضرها هؤلاء الأطباء الذين اضطلعوا بأكثر المهام سرية.. بشأن صحة الملوك.
في هذا الملف نسلط الضوء على أطباء البلاط، تلك الفئة التي كانت تعتقل ألسنتها في كل الجلسات ولا تتحدث إلا في العموميات، خوفا من زلة لسان في زمن كان فيه الحديث عن صحة الملك خروجا عن النص. كما نستحضر أسماء أطباء دخلوا المغرب في زمن كان فيه الطب النصراني حراما.
تصفية موشون طبيب أسرة المولى عبد الحفيظ تعجل بدخول فرنسا
تعرض الدكتور الفرنسي إيميل موشون وهو في طريقه إلى مستوصف بمراكش، لهجوم من طرف المراكشيين الذين كانوا يعتبرون وجود طبيب فرنسي «كفرا». هجمت الجموع الهائجة على بيته ونهبت وخربت محتوياته. نقل الجثمان تحت حراسة مشددة إلى مدينة الجديدة، وهناك خضع لفحص شرعي أجراه طبيبان فرنسيان، أحدهما كان صديقا للطبيب القتيل. وقد أشارا في شهادة الوفاة إلى أن الجثمان حمل ما يفوق 25 طعنة من أسلحة بيضاء. ومن الجديدة حمل التابوت بحرا إلى طنجة، حيث أقيم للدكتور القتيل حفل تأبين حضرته الجالية الأوربية وسط أجواء من التأثر البالغ، ثم رحل الجثمان بحرا إلى فرنسا.
ونحن الآن نعلم بما يتوفر من وثائق حاسمة عن المرحلة أن جاسوسا ألمانيا غامضا لعب دورا كبيرا في تحريض الأهالي على قتل الطبيب الفرنسي الشاب. فكما كان لفرنسا طبيبها أو أطباؤها في مراكش، فقد أوفدت ألمانيا بدورها جاسوسا متخفيا في هيئة طبيب كان يدعى يهودا هولتزمان، وهو يهودي سوري الأصل، كان عارفا كبيرا بطباع المسلمين وعقليتهم. كان قد سبق موشون إلى مراكش واستقطب زبائن أثرياء كان يعالجهم. وبحسب الدكتور موشون نفسه، فإن هولتزمان لم يكن طبيبا حاملا لشهادة تسمح له بمزاولة المهنة، وإنما كان منتحلا وبلا كفاءة.
كان موشون قد دعي إلى القصر لعلاج أحد أفراد أسرة السلطان المولى عبد الحفيظ، فيما كان الألماني هولتزمان الطبيب المقرب من المولى عبد العزيز. لذا نشر الألماني كثيرا من الشائعات بين المغاربة، في سياق حربه على الدكتور موشون. فقد أشاع بأن المرضى الذين يعالجهم الطبيب الفرنسي بالدواء والجراحة، رغم شفائهم إلا أنه يحقنهم بسموم لن يظهر مفعولها القاتل إلا بعد مرور سنوات.
في مواجهة حرب الشائعات التي توالت ضد الدكتور موشون وكانت تنسج من حوله شباك الموت، تعامل هو بتعال ودون تقدير واقعي للمخاطر. بل إنه لم يسع حتى إلى الاتصال بالطبيب الألماني هولتزمان، لطلب توضيحات حول صلته المفترضة بالشائعات. وقد حكى في إحدى رسائله أنه التقى الجاسوس الألماني مرة في قصر المولى عبد الحفيظ، الذي كان خليفة لأخيه ومقيما في مراكش، حيث كان نجح في التأثير عليه بدعم من الباشا. بيد أن الدكتور موشون استطاع قلب الكفة لصالحه بعد انكشاف رياء هولتزمان، فكسب ود المولى عبد الحفيظ.
لقد كان ذلك جزءا أساسيا من مهمة كليهما في المغرب على ما يبدو، ومن مظاهر نجاح موشون أن المولى عبد الحفيظ أهدى إليه فرسا جميلا مع سرج مرصع بالذهب والفضة، عرفانا له على تفانيه في خدمة القصر.
لم يكن «القالة» مدركين أنهم بتلك الجريمة التي اقترفوها في زقاق مراكشي مغلق ذلك الصباح، كانوا يصنعون حدثا مفصليا سوف يبقى لحظة سوداء في تاريخ بلدهم، إذ لم يمض سوى أسبوع واحد على مقتل الدكتور موشون حتى استجابت الحكومة الفرنسية لأجواء الغضب وللضغط الذي كان يطالب برد فعل قوي. وقررت في اجتماع تاريخي تحريك جزء من آلتها الحربية المتمركزة في الجزائر غربا لاحتلال وجدة.
طبيب إنجليزي جاء للإشراف على صحة السلطان فوجد نفسه طبيبا لباحماد
لم ينس المغاربة أشرس الأوبئة التي فتكت بهم، خاصة داء الطاعون الذي قلص سكان المغرب إلى الثلث، لذا فطن مبكرا لحساسية وأهمية وزارة الصحة حتى قبل أن يتم إحداثها. وكشفت كتب التاريخ عن أهمية الجانب الصحي واعتباره من بين أولويات المملكة الشريفة، في مطلع القرن الماضي. وحسب وثيقة تتضمن حوارا بين صحافي من جريدة «التايمز» البريطانية سنة 1909، والمولى عبد الحفيظ خلال الأشهر الأولى لتوليه الحكم، فقد جاء في نص الحوار على لسان المولى عبد الحفيظ وهو يرد على سؤال يتعلق برؤيته السياسية ومستقبل التعامل مع الدبلوماسيين الأجانب، وما إن كان صحيحا أنه سيقطع علاقاته مع الغرب بشكل عام، قوله: «عندما جاء إلي الرجلان الإنجليزيان إلى فاس وطلبا الحصول على منصبين في حكومتي، لم أرفض طلبهما، وأبعدت الفرنسيين والألمان ووضعت الإنجليزيين مكانهم. جاء أيضا دكتور إنجليزي، وعينته طبيبي الخاص، ولم أسأله شيئا. الألمان أرسلوا إلي الدكتور فاسيل، واعترفوا بي كسلطان للمغرب، لكنني أفضل الطبيب الإنجليزي اعتبارا لمكانة بريطانيا».
كان القصر فعلا يحتاج إلى طبيب ماهر، وهو الأمر الذي تأتى لطبيب إنجليزي، تمت الإشارة إليه في بعض المراجع التي تناولت التاريخ الاستعماري بالمغرب، وقالت إنه كان واحدا من أمهر أطباء بريطانيا، وأرسل إلى المغرب في مهمة دبلوماسية، ونزل في طنجة قبل أن يتم تأمين نقله إلى العاصمة فاس، وفيها قضى أزيد من سبع سنوات أشرف خلالها على صحة بعض موظفي القصر، وكان السلطان يرسله ليكشف على أصدقائه من فقهاء وعلماء، كانوا إلى وقت قريب متشددين بخصوص الوجود الأجنبي في المغرب.
كان هذا الطبيب والذي اختلفت المصادر بخصوص اسمه، فمنهم من قال إن اسمه الدكتور «هاكينز» أو «الدكتور سونفيل»، يشرف بشكل مباشر على صحة المولى عبد العزيز بعد وفاة المولى الحسن الأول، لكن وجد نفسه مشرفا على صحة «باحماد» الوزير القوي الذي كان منهكا، وكانت المؤشرات كلها تؤكد قرب وفاته، لتنقل سلطة الوزارة منه إلى موظفه المهدي المنبهي، الذي اتهم لاحقا بالتواطؤ مع الإنجليز وبيعهم امتيازات كثيرة في المغرب.
كانت نهاية هذا الطبيب هي الفرار من فاس إلى طنجة على ظهر فرس خوفا على حياته، عندما وقع انقلاب على القصر، وتم تعيين ابن آخر للمولى الحسن مكان عبد العزيز.
ديبوا روكبير.. طبيب ومخبر وسياسي وأخصائي تغذية
لم يكن الطبيب الفرنسي الدكتور ديبوا روكبير مجرد طبيب متخصص في القلب والشرايين، ومسؤول عن مصحة القصر، بل كان صديقا للملك محمد الخامس ومستشاره في كثير من الأمور التي تتعدى الجانب الصحي.
كانت اختصاصاته تتجاوز الكشف عن مرض الملك والأسرة المالكة، بل إنه كان يحرص على مراقبة الوجبات الغذائية ويتأكد من صحة الطبخ والطباخين، وظهر حبه لمحمد الخامس خلال المنفى، إذ كان ضمن الثلاثين فردا الذين سهروا على خدمة السلطان المنفي إلى مدغشقر. حيث حل الدكتور ديبوا روكبير بالجزيرة محملا بنبتة النعناع، اللحم المجفف، «الكديد» وأعواد من خشب الصندل إلى جانب أواني الطبخ الضرورية كالطجين، وآنية إعداد الكسكس والبسطيلة.
قبل أن يصعد أفراد الأسرة الملكية الطائرة المتوجهة صوب كورسيكا ومنها إلى مدغشقر، تدخل ولي العهد الحسن الثاني قائلا: «إن أبي المريض، سيتحمل بصعوبة سفرا جويا». نودي بالهاتف على طبيب الملك الذي حضر بسرعة، وأضاف: «الطبيب ديبوا أكد تخوفاتي، لكن لم يؤخذ برأيه، تم دفعنا دفعا إلى الطائرة التي أقلعت في اتجاه مجهول، إن قساوة المعاملة التي تعرضنا لها كانت تجعلنا نخشى الأسوأ على أبي الذي من شدة التعب، تمدد على مقعد خشبي، وكنت أسعفه على قدر الاستطاعة».
التحق ديبوا بالمنفى في الثامن عشر من أكتوبر، وأخبر الدكتور لدى وصوله إلى أنتسيرابي، السلطان بـ«الإرادة القوية لفرنسا من أجل إيجاد حل للقضية المغربية في أقرب الآجال ومهما كلف ذلك من ثمن». وشرع الطبيب في عقد جلسات حوار طويلة ليس للكشف عن الحالة الصحية للسلطان المنفي رفقة أسرته، بل لنقل أطروحة الإقامة العامة، بعد أن تأكد المقيم العام أن الطبيب هو الوحيد القادر على إقناع محمد الخامس بجدوى التفاوض.
بمجرد عودة الدكتور ديبوا روكبير إلى باريس عائدا من مدغشقر، قدم تقريرا لكريستيان فوشي، جاء فيه: «عندما نقلت إلى وزير الشؤون التونسية والمغربية هذا الرفض التام للتنازل، لاحظت أن الحكومة الفرنسية كانت في حيرة من أمرها».
في شهر أبريل من سنة 2014 توفي روكبير بالعاصمة الفرنسية باريس عن عمر يناهز 96 سنة.
اليهودي بنزاكين.. طبيب محمد الخامس يشرف على قطاع البريد
كان ليون بنزاكين، الطبيب المغربي اليهودي، الأجدر بأن يعين وزيرا للصحة في أول حكومة بعد الاستقلال، نظرا لكفاءته الطبية، لكن ذلك لم يحصل إلا في التعديل الحكومي الذي مس الحكومة المغربية سنة 1956. ليون بنزاكين يعد واحدا من أشهر الأطباء الذين عرفهم المغرب، ولد بطنجة في آخر يوم من سنة 1928، حيث كان من مؤسسي الرابطة اليهودية.
سينطلق الطبيب إلى داخل دواليب العمل السياسي المغربي، بطريقة رتبتها له الظروف وحدها، حتى يحصل على وضع اعتباري في مغرب الأربعينات وبداية الخمسينات. وعندما حصل المغرب على الاستقلال، تم تعيينه وزيرا للبريد والمواصلات، ثم أصبح وزيرا للصحة، وهو المجال الذي يناسبه، واستمر فيه إلى حدود سنة 1958، كما شغل منصب طبيب الملك محمد الخامس، وقد كان من بين الأطباء المقربين منه ومن عدد من الوزراء والشخصيات العمومية في مغرب الخمسينات.
تقول الروايات إن بنزاكين كان واحدا من الوجوه اليهودية المغربية، المطلوبة ليس للإشراف على صحة الملك، بل لتعزيز الحضور اليهودي في المرحلة الجديدة من بناء المجال السياسي للبلاد بعد الاستقلال، خصوصا أنه كان يهوديا غير عادي، جمع بين الطب والعمل الإنساني.
أصيب بنزاكين بمرض مفاجئ فتم نقله إلى فرنسا لتلقي العلاج على يد أحد الأطباء اليهود في باريس، هناك تبينت إصابته بالتهاب رئوي بسبب إدمانه على التدخين، وهو ما تطلب منه غيابا عن المشهد السياسي وعن اجتماعات حكومة البكاي، وحين علم الملك محمد الخامس بالأمر وهو في باريس، قرر عيادته، مما أدخل السرور على ليون، الذي كتب عن هذه الزيارة واعتبرها بلسما لمعاناته الصحية.
لكن حظ بنزاكين كان عاثرا، إذ إن وفاة محمد الخامس قد حالت دون بقائه ضمن التشكيلة الحكومية بداية الستينات، خصوصا وأن علاقاته الوطيدة مع بعض المنظمات اليهودية خارج المغرب وخارج إسرائيل أيضا، جعلته يختار مغادرة المغرب صوب فرنسا، حيث توفي سنة 1977.
أصدقاء الأسرة الملكية.. أطباء لم يعرفهم أحد
أول الأطباء الذين عرفوا بصداقتهم للأسرة الملكية الدكتور «كيرشنر»، وهو طبيب جاء إلى المغرب بدعوة ملكية خاصة، وتعرف على الملك الحسن الثاني خلال سنوات السبعينات، وتعرف أيضا على الأمير مولاي عبد الله، وقد كان هو الطبيب الرسمي الذي يتابع حالة الأمير الصحية، سيما في أيامه الأخيرة، رفقة طبيب آخر هو البروفيسور كاي، إذ كان الاثنان يترددان على الغرفة التي اختارها الأمير مولاي عبد الله لتكون شبه إقامة خاصة به في الفترات الحرجة، التي عرفتها حالته الصحية قبل وفاته، التي أحزنت الملك الراحل الحسن الثاني كثيرا.
لا تتوفر معلومات دقيقة بخصوص هذين الطبيبين، سوى أنهما يقومان بأبحاث مهمة على المستوى الدولي بخصوص عدد من الأمراض المزمنة، وتعرف عليهما الملك الراحل الحسن الثاني في إحدى رحلاته خارج المغرب.
بطبيعة الحال فإن علاقتهما الوطيدة بالملك الحسن الثاني والأمير مولاي عبد الله، لم تكن هي الأولى من نوعها. إلا أن علاقتهما بالقصر كانت وطيدة في الفترة التي مرض فيها الأمير.
أصدر الحسن الثاني تعليمات بوضع الأمير تحت رعاية طبية مكثفة، رفقة الدكتور «كيرشنر»، بمصحات خارج الوطن. وفي نهاية السبعينات حل طبيب كوري يدعى «لي» بالمصحة الملكية، تعرف على عبد الرحيم بوعبيد وعلي يعته وبعض الجنرالات والفنانين أيضا. هؤلاء كانوا يلتقونه في المحافل الخاصة التي كان ينظمها الملك الراحل الحسن الثاني، خلال نهاية السبعينات، والتي كان يدعو إليها رجال الدولة المقربين منه من سياسيين ومستشارين ووزراء وفنانين وفقهاء..
تقول بعض المصادر إن الدكتور «لي» كان يربط علاقة جيدة بالسياسيين، رغم أن مهمته الأساسية كانت هي الترفيه على الأمراء، فقد جاء إلى المغرب بعد أن تلقى دعوة رسمية من طرف الأسرة الملكية أيام الملك الراحل الحسن الثاني، وكان يقدم عروضا في رياضات الدفاع عن النفس، والتي كان يتقنها كثيرا. وتعرف على الملك الراحل الحسن الثاني عن قرب، وكان مولعا بالثقافة الشرقية ومطلعا على كتب الطب القديم، وهو الأمر الذي كان يحلو للملك الراحل الحسن الثاني أن يناقشه معه في بعض السهرات، التي كان يحضرها وزراء مغاربة وأصدقاء للملك.
كان غريبا أن يكون طبيب قادم من كوريا الجنوبية، حاضرا في بعض اللقاءات الخاصة، والأغرب أنه لم يزاول مهنة الطب في المغرب، ولم يكن من الأطباء الذين اشتهروا برعاية الحالة الصحية للملك الحسن الثاني أو الأمراء، وإنما اقتصر وجوده وظهوره على اللقاءات الخاصة التي كانت بعيدة تماما عن الملتقيات الرسمية.
الملك يكلف طبيبه بنجاي دوشان بتتبع الوضع الصحي لعبد الحليم حافظ
قبل أربع سنوات توفي عبد العالي بنجاي دوشان، الطبيب اليوغوسلافي، الذي كان مكلفا طيلة سنوات خلت بالإشراف على الحالة الصحية للملك الحسن الثاني، واشتغل ما يناهز عشر سنوات بالمصحة الملكية، في حي تواركة بالرباط، في عهد الملك محمد السادس، قبل أن توافيه المنية يوم 16 أبريل 2015.
التحق بنجاي دوشان بالفريق الطبي الملكي، منذ أن حل بالمغرب قادما من يوغوسلافيا، وقدر له أن يعيش تفاصيل الانقلاب العسكري الذي استهدف قصر الصخيرات، خلال حفل أقامه الملك الحسن الثاني بمناسبة ذكرى عيد ميلاده في العاشر من يوليوز 1971.
حين بدأ القصف العسكري بالرصاص الحي، أبدى بنجاي شجاعة نادرة خلال الهجوم المفاجئ، وظل يقدم الإسعافات الطبية للجرحى، خاصة من محيط الملك باعتباره عنصرا أساسيا في المصحة الملكية، وعهد إليه بإسعاف الأمير مولاي عبد الله، الذي تلقى رصاصة في ذراعه، بل إن الرجل الذي عرف بجديته حضر انقلابا آخر بعد سنة واحدة في ما بات يعرف بالهجوم على طائرة الملك.
بنجاي حاول عبثا إسعاف طبيب محمد الخامس الذي رافقه في محنة النفي والاغتراب، حين قتل رميا بالرصاص خلال الانقلاب العسكري، فقد كان الطبيب الجراح المسن يتناول الحلوى ويتبادل أطراف الحديث مع بعض الضيوف، قبل أن يسقط أرضا بعدما تلقى جسده حوالي خمس عشرة رصاصة، قبل أن يسقط البروفيسور هامبر، طبيب القلب، أيضا بسبب شظايا قنبلة عنقودية انفجرت بين قدميه، تلاهما الدكتور بنيعيش، الطبيب الخاص للحسن الثاني، الذي حاول منع الجنرال المذبوح من استكمال المذبحة، حينها آمن بنجاي أن الموت قدره.
في سنة 1974 منح الحسن الثاني للطبيب اليوغوسلافي الجنسية المغربية بظهير شريف، وأصبح مواطنا مغربيا مكتمل الحقوق، وظل عنصرا أساسيا في الفريق الطبي للملك، حيث رافقه في كثير من الأسفار الخارجية، ودعاه الحسن الثاني لمرافقة الطبيب الخاص لعبد الحليم حافظ، خلال فترة مرض المطرب المصري أثناء زيارته إلى المغرب.
تزوج عبد العالي من مغربية تدعى أمينة فضول، رافقته في مسيرته المهنية قبل أن يعتزل المصحات، لكن الزوجة عانت من مضاعفات تقاعد أعاد الأسرة إلى نقطة الصفر، حيث شغلت الزوجة الرأي العام برسالتها الموجهة إلى الملك محمد السادس، بتاريخ 6 يوليوز 2015، قالت فيها إن عائلتها أصبحت تعيش أوضاعا مالية مزرية، بعد أن توقفت كل التعويضات بشكل مفاجئ، لتكتشف أن زوجها محروم من المعاش، رغم السنوات التي قضاها في مستشفى ابن سينا.
ترقية الدكتور مثقال طبيب القصر إلى درجة جنرال دوبريغاد
ظل عبد الغني مثقال حاضرا ضمن الطاقم الطبي الملكي، وعاش فترة طويلة مع الملك الراحل الحسن الثاني، كما قضى فترة من حياته مع عاهل البلاد محمد السادس، بل إن العارفين بشخصية هذا الرجل العسكري، يجمعون على إعجاب الحسن الثاني بأدائه ومهنيته، فقد كان قاموسا ومجلدا طبيا مخضرما يستحيل تعويضه.
ويروى أن الحسن الثاني كان يستدعيه لاستشارته حول طبيعة وتفاصيل مرض حتى ولو كان نادرا، وهو يراهن على قدرة عبد الغني على تقديم التوضيحات اللازمة دون الحاجة إلى الاستعانة بكتاب أو موسوعة علمية، بل إن الحسن الثاني ظل يحث مرافقيه على الاستعانة بمثقال حين يتعلق بقلق طبي.
عاش عبد الغني حالة من الاستنفار في الساعات الأخيرة من حياة الحسن الثاني، وظل مرابطا في المستشفى متابعا لنبضات الملك، بل إنه أعلن حالة استنفار قصوى في المصحة الملكية وقيل إنه كان يشتغل وهو يصادر دموعا متحجرة في عينيه.
مات الحسن الثاني فضمه محمد السادس إلى طاقمه الطبي، لإيمانه بجديته أولا كعسكري، ولأنه كان عصاميا وباحثا وموسوعة طبية متحركة، بل إن العاهل المغربي عزز مكانته في الجيش بترقيته إلى درجة جنرال دوبريغاد.
غاب الطبيب عن العيادة بسبب مرض طارئ، وفي صبيحة يوم الأربعاء 14 أكتوبر 2015، لفظ آخر أنفاسه عن عمر 77 سنة، وفي اليوم نفسه وتحديدا بعد صلاة العصر تم تشييع جثمان الجنرال دوبريغاد عبد الغني مثقال، مدير المصحة الملكية سابقا، في موكب جنائزي مهيب تقدمه ولي العهد الأمير مولاي الحسن.
ووري الفقيد الثرى بمقبرة الشهداء، بحضور أفراد أسرته، وعدد من مستشاري جلالة الملك، وعدد من أعضاء الحكومة، وضباط سامين وشخصيات سامية مدنية وعسكرية.
الماعوني.. ملالي يشرف على صحة الملك
نادرا ما يقبل الملك محمد السادس الاستسلام لتوصيات الطاقم الطبي، سيما حين يتعلق الأمر بزياراته إلى مدن وأقاليم المملكة، أربع حالات فقط منذ اعتلاء الملك محمد السادس العرش في 23 يوليوز 1999، خرجت فيها وزارة القصور الملكية والتشريفات والأوسمة ببلاغ يخبر الرأي العام المغربي بالحالة الصحية للجالس على العرش، فقد أجل بيان زيارة الملك الرسمية التي كانت مقررة إلى الصين الشعبية، كما أُلغي بسببها حفل استقباله للوزير الأول الكوري بالقصر الملكي بفاس، بل سبق للوزارة ذاتها أن أعلنت نهاية غشت من العام 2009 عن إصابة العاهل المغربي لمرض، احتاج معه لفترة نقاهة دامت خمسة أيام.
لا ينتبه المغاربة إلى شخص لا تصدر البيانات إلا بتأشيرة منه، وهو طبيب القصر الذي تصدر عنه التقارير الطبية ويدعى عبد العزيز الماعوني، الطبيب الخاص للملك محمد السادس. قالت عنه صحيفة «هافنغتون بوست» الأمريكية إنه ظل الملك الذي لا يرى، «يمشي دائما مثل الظّل الذي يتبع الملك، في أي مكان يحل به، دون أن يلفت انتباه العامة للتعرف عليه، إن مهمة الطبيب الملكي الوحيدة، وهو يدير مصحة القصر، هي الحفاظ على صحة الملك محمد السادس وضمان سلامتها».
لا يظهر الماعوني في وسائل الإعلام إلا عند الضرورة القصوى، ففي مناسبات متباعدة تعرف عنه، «في سياق البلاغين المذكورين لغشت 2009 ونونبر 2014، حيث تقتضي الحالة الصحية للملك المغربي السرية التامة، ولا يسمح بتسرب لأية إشاعة أو معلومة غير صحيحة عن صحة عاهل المغرب خارج أسوار القصر الملكي، وجاء آخر بلاغ حول صحة الملك في الأيام الأخيرة لينهي عهد سرية مرض الملوك».
ينحدر عبد العزيز من مدينة بني ملال، شغل مهمة مدير مستشفى الشيخ زايد بالرباط، في متابعة حالة محمد السادس الصحية، لما يزيد عن عقد من الزمن، لكن العاهل المغربي يحيل عليه بين الفينة والأخرى ملتمسات المواطنين، الذين يعانون من إصابات تتطلب تدخلا طبيا ويدعوه لتبني مجموعة من الحالات.
الحسن الثاني يضم الطب البديل للعيادة الملكية ويخضع لحصة وخز بالإبر
اختار محمد خليل، ابن مدينة طاطا، الطب البديل مجالا لاشتغاله، رغم أن تخصصه، بعد الحصول على البكالوريا، هي شعبة البيولوجيا، إلا أنه سرعان ما غير الوجهة صوب الصين، وعاد إلى المغرب سنة 1986 وهو يتأبط شهادة الدكتوراه في الطب الصيني حصل عليها من معهد الطب التقليدي الصيني ببكين.
ولأن خليل هو أول طبيب مغربي، ينوب عن الصينيين في علاج المغاربة، فقد أصبح رئيسا لجمعية الصداقة والتبادل المغربية الصينية، مما وسع شبكة علاقاته مع المجتمع الصيني، سيما وأن عيادته أصبحت تستقطب أعدادا كبيرة من الزبناء المتمردين على الطب العصري.
تألق خليل جعله يصبح معالجا لشخصيات نافذة في المحيط الملكي، خاصة أولئك الذين يئسوا من العلاج في المصحات الأوربية والأمريكية، بل إن تخصصه مكنه من التعرف على الدكتور عبد الكريم الخطيب، الطبيب السابق للملك الراحل محمد الخامس. يقول خليل في حوار صحافي: «الدكتور الخطيب ساعد أسرتي على استيعاب الغاية من الهجرة»، كان الخطيب بصدد بناء رجل سيحجز مكانه سريعا بعيادة القصر.
وكانت بداية التوهج من المستشفى العسكري بالرباط، حين أصبح خليل يميل نحو العلاج بالوخز بالإبر، وكان يستعمل هذه الأداة في كثير من الحالات المستعصية، ترددت عليه شخصيات راسخة في هرم الدولة، من بينها وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية السابق، هذا الأخير عندما اقتنع بجدوى محمد خليل قدمه إلى الجنرال مولاي الحفيظ العلوي ووزير القصور والتشريفات آنذاك، كان عمر خليل حينها لا يتعدى الثلاثين عاما، وكان ينظر إلى دعوة الجنرال بمثابة قفزة عملاقة في مساره المهني.
نقل الجنرال للملك الحسن الثاني بشرى وجود طبيب بالمستشفى العسكري يغني عن السفر إلى الصين، حصل اللقاء بين خليل والملك، فتلقى الطبيب دعوة للالتحاق بالمصحة الملكية، «استقبلني بمعية الكولونيل عرشان، والدكتور محمد مثقال والدكتور الصالحي، تملكتني رهبة شديدة، وبادرني الملك الحسن الثاني بأسئلته: لماذا اخترت الدراسة بالصين الشعبية؟ وما هو مسارك المهني؟ وما هي فوائد العلاج بالوخز بالإبر الصينية؟ هل أنت متزوج؟
شرع خليل في علاج الملك عبر الوخز بالإبر، فاكتشف أن الحسن الثاني ملم بهذا التخصص، «يعرف كل شيء عما أفعله، وكأنه درس الطب معي أو قبلي».