بعد ثمانية أشهر على بداية عمل الشركة الإسبانية «سيبوس فيكتاليا» الفائزة بصفقة النقل الحضري لمدينة آسفي، رفض عبد الجليل لبداوي، عمدة آسفي عن حزب العدالة والتنمية، تنصيب وتعيين لجنة مراقبة وتتبع قطاع النقل الحضري، وهي الصفقة التي تمتد على عشر سنوات بمداخيل مالية تصل إلى 36 مليار سنتيم، في وقت ألغت المحكمة الإدارية لمراكش هذه الصفقة بقرار قضائي وتحفظت وزارة الداخلية على العديد من بنود دفاتر تحملاتها، ولم يتوصل أعضاء مجلس مدينة آسفي بالوثائق المتعلقة بها، ولم تعرض للمناقشة داخل لجنة المالية والميزانية كما يلزم بذلك القانون التنظيمي للجماعات المحلية.
مباشرة بعد الانتهاء من صفقة التدبير المفوض للنظافة، وضع مجلس آسفي بقيادة العمدة عبد الجليل لبداوي نصب أعينه قطاع النقل الحضري، لتتفتق العبقرية المقاولاتية والمالية لنواب الرئيس وكبار مساعديه، عن تفويت تدبير هذا القطاع إلى الخواص والانتهاء من «صداع رأس» الوكالة الجماعية المستقلة للنقل الحضري بآسفي، والتي غرقت بفعل الفساد المالي في الديون وأصبحت حافلاتها مجرد «خردة».
لكن الغريب والفاضح في هذه الصفقة أنها أطلقت بدون أي مقابل مالي، وتم إعداد دفاتر تحملاتها على مقاس شركة إسبانية صغيرة بدون تجربة في مجال النقل الحضري في المدن المتوسطة والكبرى، رغم أن وثائق الصفقة التي تم رفعها للمصادقة إلى وزارة الداخلية، كشفت أن الشركة الإسبانية «سيبوس فيكتاليا» سوف تحقق أرباحا بـ 36 مليار سنتيم خلال عشر سنوات من تدبيرها لهذا القطاع الحيوي بمدينة آسفي.
عيوب فاضحة في الصفقة
كل المؤشرات كانت تفيد بوجود وساطات غير بريئة وتعارض مصالح كبير في تدبير صفقة النقل الحضري بآسفي وإعدادها على مقاس الشركة الفائزة، وهو ما دفع المصالح المركزية لوزارة الداخلية إلى الاعتراض على الأرقام التي قدمتها الشركة الإسبانية وصادق عليها مجلس مدينة آسفي، خاصة وأن الشركة التزمت في بنود الصفقة بكونها ستستثمر 26 مليار سنتيم خلال عشر سنوات من مدة العقد من أجل اقتناء 130 حافلة جديدة، في حين أوردت أن مداخيلها المالية لن تتجاوز 36 مليار سنتيم في عشر سنوات، وهو ما يجعل الفارق المالي بين الاستثمار والمداخيل هو عشرة مليارات سنتيم في عشر سنوات، أي بمعدل مليار سنتيم لكل سنة، دون احتساب 350 مليون سنتيم ككتلة أجور المستخدمين، و700 مليون سنتيم مصاريف المحروقات وقطع الغيار وكراء المستودع، بمعنى أن الشركة الإسبانية سوف تقدم خدمة مجانية بدون أية أرباح.
أكثر من ذلك، طلبت وزارة الداخلية من عمالة آسفي، باعتبارها سلطة وصاية حضرت دورة المصادقة على تفويت صفقة النقل الحضري في شخص الباشا، تفسيرات حول العديد من الاختلالات القانونية المرتبطة بهذه الصفقة، خاصة المخالفة الفاضحة للمواد 28 و35 و38 من القانون التنظيمي 113.14 المتعلق بالجماعات المحلية، حيث لم يتوصل أعضاء مجلس مدينة آسفي بالوثائق المتعلقة بصفقة النقل الحضري، ولم تعرض للمناقشة في لجنة المالية والميزانية كما يلزم بذلك القانون التنظيمي للجماعات المحلية، ورغم ذلك عرضها العمدة عبد الجليل لبداوي مباشرة للتصويت في الدورة الاستثنائية ليوم 11 يونيو 2018.
العيوب الفاضحة التي تركها مهندسو هذه الصفقة الخيالية تكمن في أنهم تركوا بصمات إثبات على عدم شفافيتها، فرغم أن دفاتر تحملات صفقة النقل الحضري في مدينة آسفي اشترطت على الشركات المشاركة في الصفقة التوفر على أسطول حافلات يتراوح ما بين 70 و90 حافلة، إلا أنه نص، في بند غريب وجد خاص وعلى مقاس الشركة الإسبانية لتمكينها من الفوز، (نص) على أن الشركات المنافسة يجب أن تتوفر على تجربة مهنية في تدبير أسطول للنقل بالحافلات لا يقل عن 45 حافلة، استجابة مسبقا لمقاس الشركة الإسبانية التي لا تتوفر على تجربة في تدبير النقل الحضري بأسطول حافلات يتراوح ما بين 70 و90 حافلة، كما هو الشأن بالنسبة لشركات النقل الكبرى على غرار «ألزا» و«سيتي بوس»، التي تم إقصاؤها من الصفقة بدون مبررات قانونية، والتي تتوفر على تجارب مهنية في تدبير أسطول يفوق المائة حافلة، كما هو الشأن في مدن مراكش والرباط، وأكادير وطنجة، ومكناس ووجدة.
وفي محاولة منه للضغط على وزارة الداخلية ووضعها أمام الأمر الواقع، والتغطية على انعدام مبدأ الشفافية والمنافسة في تدبير صفقة النقل الحضري، قام العمدة عبد الجليل لبداوي باصطحاب مدير الشركة الإسبانية الفائزة إلى مكتب العامل الحسين شاينان، ساعات قليلة بعد إعلان مجلس مدينة آسفي عن تفويت قطاع النقل الحضري لشركة «سيبوس فيكتاليا»، قبل حتى أن ترفع وثائق هذه الصفقة العمومية الدولية إلى المصالح المركزية لوزارة الداخلية من أجل مراجعتها وإبداء الرأي فيها سواء بالموافقة أو الرفض، خاصة وأن جلسة فتح الأظرفة في قصر بلدية آسفي عرفت أطوارا غريبة بعدما تم إقصاء شركات نقل كبيرة تتوفر على تجارب مهنية معروفة وتدبير النقل الحضري في مدن مغربية كبيرة، مثل شركتي «ألزا» و«سيتي بوس»، في حين تم الإعلان عن فوز شركة «سيبوس فيكتاليا»، التي لا تتوفر على أية تجربة في ميدان النقل الحضري في المغرب، وتعتبر شركة نقل صغيرة تعمل في مجال كراء الحافلات في مدينة واحدة وهي أليكانتي الإسبانية.
قرار المحكمة الإدارية
في تطور مفاجئ للأحداث، قرر قضاء الإلغاء بالمحكمة الإدارية في مراكش إلغاء صفقة النقل الحضري هذه، وصدر حكم قضائي بخصوصها يوم 17 يناير في الملف الذي يحمل عدد 290/7110/2018.
وفي تجاهل تام للأحكام القضائية الصادرة باسم جلالة الملك، قام عمدة آسفي مصحوبا بالحسين شاينان، عامل الإقليم، بإعطاء الانطلاقة الرسمية لخدمة النقل الحضري لفائدة الشركة الإسبانية «سيبوس فيكتاليا» يوم فاتح فبراير الماضي، أي بعد 15 يوما عن صدور الحكم بإلغاء هذه الصفقة.
ونص منطوق الحكم الصادر عن قضاء الإلغاء بالمحكمة الإدارية في مراكش، على قبول الدعوى في الشكل حيث قدمت من ذوي صفة ومصلحة واستوفت باقي الشروط الشكلية المتطلبة قانونا، كما نص منطوق الحكم، في جانب الموضوع، على إلغاء القرار الإداري الصادر عن المجلس الجماعي لآسفي بخصوص تفويت تدبير قطاع النقل الحضري لشركة «سيبوس فيكتاليا»، مع ما يترتب عن ذلك قانونا.
وجاء قرار الطعن في قانونية صفقة النقل الحضري لمدينة آسفي من قبل شركة «سيتي باص ترانسبور»، التي تقدمت من خلال دفاعها بطعون مثبتة ومبررة قانونيا، حيث أثبتت في الدفوعات الكتابية المقدمة للمحكمة كون صفقة النقل الحضري التي فوتها مجلس آسفي «مشوبة بعيب في السبب وعيب وخرق في القانون، وعيب التجاوز والانحراف في استعمال السلطة».
وخلال عرض المذكرات التعقيبية المرفوعة أمام هيئة المحكمة، تبين أن مجلس مدينة آسفي لم يتقيد بمقتضيات المادة 5 من القانون 54.04 التي تدعو إلى المساواة بين المرشحين والمنافسة الواسعة وموضوعية معايير الاختيار وشفافية العمليات وعدم التحيز في اختيار القرارات.
وعرى منطوق الحكم الصادر عن قضاء الإلغاء بالمحكمة الإدارية في مراكش، الاختلالات التي شابت صفقة النقل الحضري لمدينة آسفي، ومن ذلك خرق المرسوم رقم 2.12.349 المتعلق بالصفقات العمومية، والذي يعطي حق الامتياز للمقاولات الوطنية على حساب المقاولات الأجنبية، حيث لم يحترم مجلس آسفي إضافة نسبة مئوية قدرها 15 بالمائة من المبالغ المقدمة من قبل المقاولات الأجنبية، ومن بينها الشركة الإسبانية «فيكتاليا» التي فوت لها مجلس آسفي صفقة النقل الحضري.
وكشف منطوق الحكم أن مجلس آسفي ارتكب خرقا آخر باعتماد الثمن الذي اقترحته الشركة الفائزة رغم أنه يتجاوز تسعيرة النقل المحددة من طرف مجلس مدينة آسفي، مما يعتبر عرضا مفرطا يستوجب إقصاءها من الصفقة إعمالا لمقتضيات المادة 41 من المرسوم المتعلق بالصفقات العمومية.
وأوردت المذكرة التعقيبية المقدمة من قبل دفاع الشركة الطاعنة في قانونية صفقة النقل الحضري لمدينة آسفي، والمتضمنة في منطوق الحكم، أن لجنة طلب العروض التي ألفها مجلس مدينة آسفي للبت في صفقة النقل الحضري هي لجن باطلة، وفق القرار الوزاري رقم 218 بما أنها لم تتقيد بمقتضيات المادة 5 من القانون 54.04، وبكون جماعة آسفي، باعتبارها مرافقا إداريا، ملزمة بالإفصاح عن أسباب إقصاء الشركات المشاركة في الصفقات وإطلاع كافة المتنافسين عليها، وبكون إشهار تعديل على الصفقة ينبغي أن يتم لجميع المتنافسين وبالكيفية نفسها التي تم بها الإعلان الأصلي، وهو الأمر الذي لم تقم به جماعة آسفي، ولم تلتزم بمبدأ الحياد وعدم التحيز في تمرير هذه الصفقة للشركة الإسبانية «سيبوس فيكتاليا ".
طرد العمال وإلغاء خدمة المعاقين
خلال ثمانية أشهر من بداية عمل الشركة الإسبانية، عرى التدبير المفوض لقطاع النقل الحضري بآسفي العديد من العيوب والاختلالات، خاصة بعدما فرضت الشركة الإسبانية «فيكتاليا» أداء تذاكر ركوب الحافلات الجديدة على الأطفال المعاقين والمصابين بمرض التوحد الصبغي وذوي الاحتياجات الخاصة والمكفوفين، بعدما تخلى مجلس المدينة عن مجانية نقل فئة ذوي الاحتياجات الخاصة، ولم يلزم في دفاتر تحملات صفقة النقل الحضري الشركة الفائزة بالصفقة بالحفاظ على المكتسبات الاجتماعية لهذه الخدمة العمومية، وأساسا الحفاظ على مجانية نقل المكفوفين وذوي الاحتياجات الخاصة وتمكينهم من بطائق نقل مجانية، كما تم التخلي عن 196 مستخدما عبر شركة للمناولة وجدوا أنفسهم بدون عمل، بعدما قدم مجلس مدينة آسفي، بقيادة العمدة عبد الجليل لبداوي عن حزب العدالة والتنمية، هدايا مخفية للشركة الإسبانية، حيث نصت دفاتر تحملات صفقة النقل الحضري على أن تلتزم الشركة الفائزة بالصفقة بأداء أجور العمال المرسمين ضمن الوكالة الجماعية المستقلة للنقل الحضري، في حين لم تلزم الشركة الفائزة بتشغيل العمال غير المرسمين. ونصت دفاتر التحملات على أن الشركة سوف تشغل العمال غير المرسمين «بحسب حاجياتها".
وخلال الثمانية أشهر الأولى من بداية عقد التدبير المفوض، رفضت الشركة الإسبانية «فيكتاليا» الفائزة بصفقة النقل الحضري لمدينة آسفي تنفيذ بنود دفاتر تحملات الصفقة، خاصة في الشق المتعلق بشراء واستغلال 70 حافلة جديدة بمواصفات تقنية خلال الستة أشهر الأولى من مدة الاستغلال، وهو الأمر الذي فجر مواجهات واتهامات بالتستر على مخالفات الشركة الإسبانية من قبل بعض المستشارين الجماعيين خلال اجتماع رسمي للجنة المرافق العمومية، خاصة وأن قيمة الاستثمارات التي اختفت بالتراجع عن شراء 30 حافلة جديدة وتعويضها بحافلات صغيرة تفوق الملياري سنتيم.
وكشفت تدخلات أعضاء لجنة المرافق العمومية بمجلس مدينة آسفي، الذي حضره ممثل عن شركة «فيكتاليا» للنقل الحضري، عن عدم التزام الشركة الإسبانية ببنود دفاتر تحملات الصفقة، وبكونها لا زالت تستغل بعد انصرام مدة ستة أشهر، أسطولا من الحافلات الجديدة لا يتجاوز 40 حافلة، في حين أن العدد المنصوص عليه في دفاتر التحملات كما صادق عليه مجلس آسفي ووزارة الداخلية، ينص على إلزامية شراء الشركة الإسبانية لأسطول يصل إلى 70 حافلة جديدة خلال الستة أشهر الأولى من بداية الاستغلال.
واستغرب مستشارون من معارضة مجلس مدينة آسفي صمت رئاسة المجلس عن تحايل الشركة الإسبانية على بنود دفاتر التحملات، بعدما عوضت شراء 30 حافلة جديدة بحافلات صغيرة من طراز «ميني بيس»، وهي الحافلات التي لا تستجيب للشروط التقنية المنصوص عليها في دفتر التحملات، بجانب أنها حافلات رخيصة الكلفة ولا تتطابق مع حقيقة التزامات الاستثمار التي نصت عليها شروط الصفقة، خاصة وأن الفارق المالي بين مواصفات الحافلات الكبيرة والصغيرة يفوق مبلغ ملياري سنتيم بالنسبة لأسطول مكون من 30 حافلة.
الشركة الإسبانية «فيكتاليا»، وخلال ثمانية أشهر من بداية عقدها، لا أحد يراقب عملها ولا التزاماتها ببنود دفاتر التحملات، في حين يصر عمدة آسفي على عدم تنصيب وتعيين لجنة مراقبة وتتبع قطاع النقل الحضري، في أكبر هدية تقدم لهذه الشركة بعدما استفادت من هدايا فوق طبق من ذهب، من قبيل دفاتر تحملات على المقاس، واعتماد تسعيرة تتجاوز تسعيرة النقل المحددة من طرف مجلس مدينة آسفي، مما يعتبر عرضا مفرطا يستوجب إقصاءها من الصفقة إعمالا لمقتضيات المادة 41 من المرسوم المتعلق بالصفقات العمومية، بجانب تسريحها لـ 196 عاملا، واستفادتها من عدم احتساب نسبة مئوية قدرها 15 بالمائة من المبالغ المقدمة من قبل المقاولات الأجنبية، في خرق للمرسوم رقم 2.12.349 المتعلق بالصفقات العمومية، وهي كلها قرائن تدل على أن كل ما قدمه مجلس آسفي من هدايا واستثناءات وخرق للمراسيم لشركة أجنبية كي تحتكر النقل الحضري في مدينة آسفي، لم يكن في كل الأحوال محط صدفة.