قوانين المالية التي ورثها المغرب عن النظام الفرنسي كانت تضبط طرق استخلاص الضرائب من شركات الكحول الفرنسية التي كانت تعمل بنشاط في المغرب ما بين سنوات 1933 و1956، واستمر بعضها في ترويج المواد الكحولية في المغرب ورخص استيرادها سنوات أخرى بعد الاستقلال.
أما في ما يخص محيط وزير الداخلية إدريس البصري، فإن بعض الصراعات التي كانت بين أعوانه في الداخلية وموظفي وزارة المالية، كان سببها هو تراخيص وضرائب الخمور واستهلاكها وحتى استيرادها لصالح بعض الفنادق المصنفة والمطاعم الفاخرة، التي كان يملكها أثرياء مغاربة كانوا يتوددون لوزير الداخلية الجديد، بعد أن فهموا أن أيام النافذين القدامى قد ولت بعد هيمنة القادم من «سطات» على الحياة السياسية.
بالتأكيد، لا توجد وثائق تفصل مداخيل الخمور في تلك الفترة ولا طرق ضخها في الميزانية، لكن الأكيد أن جفاف سنة 1981، والأزمة الاقتصادية التي ضربت المغرب بعدها، شكلت مناسبة لكي يقسو إدريس البصري على «أصدقائه»، إذ تمت مراجعة ضرائب الخمور، ووجد محيط الملك الراحل أن لائحة طويلة من الشركات لم تدفع ما في ذمتها من ضرائب على الخمور والتبغ، والتي بلغت وقتها ملايين الدراهم، لصالح الدولة».
لماذا تلجأ الحكومات إلى زيادة الضرائب على الخمور والسجائر؟
في سنة 2012، مع مجيء الإسلاميين إلى السلطة، نبه بعض «الحكماء» إلى ما قد يدعو إليه أعضاء الحكومة الإسلاميون من تغييرات على قانون مالية تلك السنة، خصوصا في ما يتعلق بالضرائب على الخمور وشركات التبغ.
وفي أقل من عامين، خاب أمل المترقبين، مع صدور مرسوم ينص على الرفع من قيمة الضرائب المفروضة على الخمور، والتي كانت وقتها تتعدى الـ100 مليار سنتيم. لتصل السنة الماضية فقط إلى 12.557 432.000 درهما . حسب الأرقام الرسمية.
بدأت أولى التعاليق الساخرة من السياسة الحكومية التي يقودها وقتها عبد الإله بنكيران، وراجت مقولات قديمة ومقالات صحفية للرجل في صحيفة «الراية»، التي كان جل إسلاميي وقادة العدالة والتنمية ينشرون بها مقالاتهم ومواقفهم المعارضة لترويج الخمور، فما بالك برفع قيمة استخلاص الضرائب عنها لتمويل ميزانية الدولة.
لم يكن أمام رئيس الحكومة الجديد سوى الانحناء للعاصفة، لكن بدل مواجهة الموقف والتبرير لأنصاره على الأقل، عادت الحكومة للمرة الثانية في ولاية الرجل لترفع من جديد من قيمة الضريبة على السجائر الشقراء، وفي آخر سنة 2015، تم تخصيص عائدات الضرائب الجديدة على التبغ لدعم «صندوق التماسك الاجتماعي» برسم قانون مالية السنة التي بعدها، أي 2016.
كانت هذه «التخريجة» التي تتجلى في توجيه جزء من مداخيل تلك الضرائب لإنعاش الفئات الاجتماعية الهشة سياسة ذكية، خصوصا وأن جل الحكومات حول العالم تفرض ضرائب على التبغ والكحوليات لدعم جمعيات ضحايا السرطان، أو ضحايا حوادث السير التي تكون القيادة تحت تأثير الكحول سببا لها.
ثم جاءت حكومة العثماني، وكان السجال وقتها حول الضريبة حول الثروة، والتي كانت حكومة بنكيران السابقة قد سجلت تراجعا كبيرا في السعي إلى تثبيتها. وفي المقابل رفعت قيمة الضرائب من جديد على المشروبات الكحولية، وعرفت السجائر من جديد زيادات أخرى في الأسعار. وهو ما جعل بعض البرلمانيين، رغم قلتهم، يخرجون للدفاع عن حقوق مستهلكي الخمور المغاربة في الأماكن المرخص لهم باستهلاك الخمور داخلها، حسب المشرع المغربي.
كان لجوء الحكومة، الحالية والسابقة، إلى الرفع من قيمة الضرائب على الخمور، حلا ترقيعيا لرتق ثقوب الميزانية السنوية ومحاولة لرفع مداخيلها بأسهل الطرق، رغم ما جره عليها من انتقادات، سواء بسبب المرجعية الإسلامية التي تملص منها الحزب في الانتخابات الأخيرة، أو بسبب استهداف مواد استهلاكية ما زالت موضوع نقاش «أخلاقي»، بطريقة أو بأخرى. وهو ما يتعارض مع مبادئ الحزب الذي بنى أطروحته على محاربة الفساد، ليتم اللجوء في الأخير إلى الحائط القصير وتفرض ضرائب إضافية على الخمور، بدل استعمال القانون لإغناء موارد الدولة المالية ومحاسبة مبذري المال العام أو المتهربين من أداء الضرائب، خصوصا في شق الاستثمار.
عندما فرضت ضرائب على السيجار الفاخر واحتج الأثرياء المغاربة
كان نادي الأغنياء يقتضي المرور عبر التوفر أولا على خزانة من كل ما هو فاخر في عالم السيجار والأغراض الثمينة. وكانت الوسيلة الوحيدة للحصول على السيجار الفاخر، هي استيراده مباشرة من المصانع اليدوية في أمريكا اللاتينية، خصوصا من كوبا التي كان كاسترو يحكمها بيد من حديد.
انتبه الملك الراحل الحسن الثاني سنة 1969، إلى أن بعض أثرياء المغرب، وبعضهم كانوا أصدقاءه، أقبلوا أكثر من أي وقت مضى على اقتناء الثياب الفاخرة والسيجار الرفيع، وهو ما جعل قانون مالية السنة التي بعدها يعرف مراجعة للضرائب المفروضة على السيارات الفاخرة والمقتنيات ذات الجودة العالية والنفيسة.
لم يكن الأثرياء المغاربة قادرين على الاحتجاج بشكل صريح ضد القرار، لكنهم حاولوا استعطاف الملك الحسن الثاني بطريقة غير مباشرة عبر مفاتحة مقربين منه بشأن سيارات فاخرة عالقة في الجمارك، وكانت البلاد تمر بأزمة جفاف خانقة، في وقت كان فيه أثرياء مغاربة يديرون ثرواتهم الضخمة واستثماراتهم بعيدا عن الأبناك ورقابة إدارات الدولة.
لم تفلح بعض الوساطات، خصوصا وأن الملك الراحل الحسن الثاني خرج في خطاب في السنة ذاتها وأعطى المثل بنفسه، وأكد على أن المغاربة جميعا معنيون بأداء ما في ذمتهم من ضرائب للدولة لإنعاش الاقتصاد. وفي سنة 1970 انفجرت قضية الوزراء الستة، الذين توبعوا بتهم فساد كان التهرب الضريبي لبعض الأثرياء المغاربة إحدى الشرارات التي أشعلتها، سيما وأن وزراء نافذين في الدولة طلبوا عمولات مهمة من مستثمرين مغاربة وأجانب، لكي يسقطوا عنهم أداء الضرائب للدولة قبل مباشرة استثماراتهم في المغرب.
كان هذا النزيف الضريبي يقابله ازدهار في أرقام معاملات هؤلاء المتهربين المغاربة، والدولة كانت في حالة عجز حقيقي، وهو ما جعل الأمر يتجه نحو الجدار. خصوصا وأن المغرب كان قد خرج لتوه من «حالة الاستثناء»، التي توقفت فيها مؤسسات الدولة عن العمل وأعفيت الحكومة.. إلخ.
الضريبة على السيجار الفاخر كانت عائداتها مهمة، سيما وأن المجتمع المخملي في الدار البيضاء والرباط كان يعيش على إيقاع لا يمت للحياة العامة للمغاربة بصلة. ماركات عالمية وآخر صيحات السيارات الرياضية والملابس الفاخرة المستوردة من باريس، بالإضافة إلى افتتاح أرقى محلات العطور الفرنسية في الشارع الرئيسي الأبرز في الرباط، خلال السبعينيات. ولم يكن أمام الأثرياء المغاربة وقتها سوى أداء الضرائب عن «البذخ» الذي كانوا يعيشون فيه، خصوصا وأن واقعة محاكمة الوزراء الستة، جعلت الجميع يدركون أن الحملة لم تكن حبرا على ورق. وهكذا تم أداء ملايين الدراهم عن اقتناء المشروبات الكحولية الفاخرة والسيجار الرفيع. وكانت تلك أول مرة في تاريخ المغرب المستقل، يتم فيها فرض ضرائب من هذا النوع بشكل صريح، بعد أن كانت فترة الحماية الفرنسية قد وضعت قوانين لاستخلاص ضرائب عن الكحول بشكل مباشر، وأيضا عن رخص احتكار استيراد بعض أنواعها الفاخرة، والتي استفاد منها مغاربة محظوظون مباشرة بعد حصول المغرب على الاستقلال.
قياد كانوا يجمعون ضرائب عن أموال الحشيش سنة 1910
يجب أن نعلم أن أموال الحشيش في المغرب كانت موضوعا مثيرا للكتاب والصحافيين، الذين أقاموا في المغرب أو زاروه خلال القرن الماضي.
بعض المغامرين الذين زاروا المغرب وكتبوا عنه مقالات وكتبا حققت مبيعات مهمة، خصوصا في فرنسا وبريطانيا اللتين كان الرأي العام بهما «مفتونا» بالمغرب، ذكروا تفاصيل مثيرة عن تذوقهم للحشيش المغربي ومعاناتهم في سبيل الوصول إليه، وذكروا كيف أن بعض أعوان السلطة كانوا يجرمون استهلاكه، لكنهم لا يمتنعون عن أخذ ضرائب مباشرة من الفلاحين الذين يزرعون نبتة الكيف، خصوصا في منطقة نفوذ الريسولي الشهير والقياد أمثال الزروالي وعبد السلام، وكلهم من أعوان «المخزن» في منطقة الشمال.
لنأخذ هذا المقطع من مغامرات الأسكتلندي «روبرت سكوتلند»، وهو صاحب كتاب مغامرات يحكي فيه عن زيارة إلى المغرب مدتها عشرون يوما، جاب خلالها جل مناطق الشمال والقرى المجاورة لطنجة سنة 1910. يقول: «في اليوم الخامس عرض عليّ المرشد عبد الله أن نزور قرية يوجد بها الحشيش المغربي بشكل وافر. وكان هذا الوعد هو الذي جعلني أشغله عندي كخادم ومرشد، منذ اللحظة الأولى لنزولي من السفينة «سيلفيا» على رصيف ميناء طنجة.
تحركنا مع شروق الشمس. كانت طنجة تتوارى إلى الخلف، بينما نستقبل أمامنا حقولا لا نهاية لها. كان الجو باردا، لكن برودته لا يمكن أن تقارن أبدا بصقيع اسكتلندا. ثلاثة أيام من المسير في اتجاه الشرق مرة نجاور فيها البحر وأحيانا نتوغل في الغابات، حتى وصلنا إلى قرية تسمى بني موسى. أخبرني عبد الله أن والدته تنحدر من هذه القرية وأنه اعتاد معها أن يزور أخواله، وكان يجد لديهم كميات وافرة من الحشيش الممتاز.
وضع لنا طعام الغداء، بينما عبد الله خرج مع بعض الرجال لجلب شاة تذبح للعشاء إكراما لضيافتي. سرعان ما شاع خبر وصول عبد الله في القرية، وجاءت أفواج من الفضوليين لتحيته ولاستراق نظرات فضولية على «النصراني». هكذا كانوا ينادون كل الأوربيين في المغرب.
فوجئت بجودة الحشيش الذي دخنته، بعد وجبة الشواء مساء. جاء أحدهم بآلات موسيقية محلية وشرعوا يرددون كلمات بعينها دون ملل طيلة الليل. جودة الحشيش المغربي تتجاوز كل أنواع التبغ الذي دخنته، بما في ذلك أنواع التبغ التي راجت في أوربا بعد استقدامها من مستعمرات أمريكا اللاتينية. سألت عبد الله أن يطلب من الفلاح الذي جلب لنا رزم الحشيش الطبيعي أن يخبرني معلومات عنه. وكان واضحا على ملامحه أنه يعاني في سبيل زراعة ذلك المحصول. وفهمت من عبد الله أن «المخزن» يأخذ إتاوات من الفلاحين أمثاله لكي يستمروا في زراعة القنب الهندي، ويبعثون مرسولا خاصا يسمى «الجابي» لكي يحصل على تلك الأموال. وكل من يمتنع عن الأداء، تصادر محاصيله، وتنزل عليه أشد العقوبات. قال لي عبد الله إن بعض الفقهاء يحرمون تدخين تلك النبتة، ويحرمون حتى شرب القهوة. الأمر نفسه ينطبق على الخمر، وهذا الأمر علمته منذ زيارتي الأولى إلى الشرق، حيث إن المفوضية القنصلية نبهوا كل الأجانب إلى أن لا يثيروا موضوع الخمر. لكن أن ينضاف إليه التدخين وحتى القهوة، فهذا أمر عجيب فعلا».
بعض أثرياء سلطة الثمانينيات بنوا مجدهم على أموال التبغ والكحول
أحد أعوان وزارة الداخلية على عهد إدريس البصري وصل اسمه إلى مكتب الملك الراحل الحسن الثاني، بسبب شكايات من شخصيات نافذة. والسبب «لوبي» حقيقي يسيطر على ضرائب الخمور ورخص احتكار توزيعها، خصوصا الفاخر منها. وقتها أمر الملك الراحل الحسن الثاني إدريس البصري بتدبير الملف بشكل فوري، وتأديب المسؤولين. لكن البصري انتقم من بعض خصومه ولملم الملف بشكل سريع، والنتيجة كانت إعفاء بعض الموظفين من مناصبهم، بما في ذلك مسؤولين في وزارة المالية، وانتهى الموضوع.
لكن الحقيقة أن شكايات من المعارضة، خصوصا الاتحاد الاشتراكي في تلك الفترة، كانت توجه في صحافتها وعن طريق برلمانييها أيضا اتهامات مباشرة إلى بعض الشخصيات المقربة من السلطة، باحتكار عائدات الخمور والتبغ في المغرب. أما المحافظون فكانوا يبتعدون أساسا عن الخوض في الموضوع، لما كانت له من حساسية.
لعل عبد اللطيف الفيلالي، المؤرخ السابق للمملكة، يبقى أحد أوائل من احتجوا في برلمان 1963، عن عائدات التبغ والكحول وأثاروا موضوع الضرائب المفروضة عليها، والتي كانت تتغير حسب الأزمات السياسية التي تعرض لها المغرب. وأيضا تكاليف الحصول على رخص احتكار استيراد أنواع معينة من الخمور. كان الموضوع يحظى بالسرية، لما يصاب به أصحابه من إحراج أمام الرأي العام، سيما وأن منهم من ينخرط في الأعمال الخيرية وحتى الانتخابية.
لنعد إلى أجواء برلمان 1963، عندما كان عبد الكريم الفيلالي، بصفته مستقلا، يهاجم حتى رفاقه السابقين الذين كانوا منخرطين في حزب الاستقلال. كانت مداخلات الفيلالي لا تجد طريقها إلى التوثيق في الصحافة، خصوصا في جريدة «العلم». وهذا الأمر أشار إليه بنفسه في بعض مقاطع مذكراته المتفرقة بين كتبه، وقال إن بعض مداخلاته في برلمان 1963، أي في أول تجربة برلمانية في تاريخ البلاد، لم تكن توثق لأنه كان يُسائل فيها رفاقه السابقين عن سر الانقلاب الواضح في المواقف من التبغ وأموال ضرائب الكحول. فقوانين المالية التي ورثها المغرب عن النظام الفرنسي، كانت تضبط طرق استخلاص الضرائب من شركات الكحول الفرنسية، التي كانت تعمل بنشاط في المغرب ما بين سنوات 1933 و1956، واستمر بعضها في ترويج المواد الكحولية في المغرب ورخص استيرادها سنوات أخرى بعد الاستقلال.
أما في ما يخص محيط وزير الداخلية إدريس البصري، فإن بعض الصراعات التي كانت بين أعوانه في الداخلية وموظفي وزارة المالية، كان سببها هو تراخيص وضرائب الخمور واستهلاكها وحتى استيرادها لصالح بعض الفنادق المصنفة والمطاعم الفاخرة، التي كان يملكها أثرياء مغاربة كانوا يتوددون لوزير الداخلية الجديد، بعد أن فهموا أن أيام النافذين القدامى قد ولت، عقب هيمنة القادم من «سطات» على الحياة السياسية.
بالتأكيد، لا توجد وثائق تفصل مداخيل الخمور في تلك الفترة ولا طرق ضخها في الميزانية، لكن الأكيد أن جفاف سنة 1981، والأزمة الاقتصادية التي ضربت المغرب بعدها، شكلت مناسبة لكي يقسو إدريس البصري على «أصدقائه»، إذ تمت مراجعة ضرائب الخمور، ووجد محيط الملك الراحل أن لائحة طويلة من الشركات لم تدفع ما في ذمتها من ضرائب على الخمور والتبغ، والتي بلغت وقتها ملايين الدراهم، لصالح الدولة. وهو ما جعل الوزير يشهر سيفه في وجه أصدقائه وتتشدد الداخلية في استخلاصها، رغم أن بعض تفاصيل تلك العملية كانت بعيدة تماما عن صلاحيات وتخصص وزير الداخلية، لكن في زمن «البصري» كان كل شيء ممكنا.
«الاستقلال».. الحزب الذي حارب التبغ خلال الاستعمار وصمت عنه بعد 1956
عندما انطلقت أولى عمليات المقاومة المسلحة، بعد تأسيس الخلايا السرية التابعة للحركة الوطنية، مع بداية الخمسينيات. كانت بعض تلك العمليات موجهة لاستهداف واجهات محلات فاخرة فرنسية لبيع الخمور، خصوصا في الدار البيضاء.
كان الوطنيون قد أطلقوا بشكل سري حملة ضد باعة التبغ والخمور، مغاربة وفرنسيين. وقد كانت الحملة سرية في بدايتها، إلا أن رجال البوليس الفرنسي فطنوا بسرعة إلى الأمر، وطلبوا من كافة الفرنسيين الذين يملكون حانات أو متاجر لبيع الخمور والسجائر، اتخاذ احتياطات ليتجنبوا المداهمات المفاجئة أو إطلاق الرصاص في الزقاق والأحياء الخلفية لمحلاتهم التجارية. ورغم ذلك فقد نجح الوطنيون في إلحاق أضرار جسيمة بعدد من المحلات والحانات، التي كان يتردد عليها بعض الوطنيين، وهو ما أفقد الأمن صوابهم.
الدليل على وجود هذه الحملة التي كانت وراءها عمليات اغتيال مدروسة، هو مئات تقارير البوليس الفرنسي في المغرب ما بين سنوات 1952 و1954. وقصة مدينة وجدة تبقى واحدة من أكثرها إثارة.
أيضا، بدأت حالة «الاستثناء» التي انطلقت في أوساط الأمنيين، منذ بداية يناير 1954، حسب نفس تقارير أرشيف البوليس الفرنسي في المغرب، تتخذ طابعا أشد قسوة. وبدا واضحا أيضا أن شهر يناير لن يمر مرور الكرام، بل إن السنة كلها كانت تشي بأنها لن تنقضي بخير على مستوى العلاقات بين الطرفين.
لم يكد رجال البوليس يطوقون العنوان الذي ضرب فيه الشاب الفرنسي، حتى سُمع من جديد دوي ثلاثة انفجارات في أماكن متباعدة. وبدا من المستحيل بلوغ تلك الأهداف قبل أن يغادرها الفاعلون، الذين كانوا ينتمون بدورهم إلى الحركة الوطنية.
بدأت أولى الاتصالات بعد الزوال، لمعرفة الفاعلين أو محاولة تحديد هويتهم على الأقل، لأن الأمر بدا ممنهجا.
في الرابعة بعد الزوال، طلب مسؤول فرنسي رفيع من أعوانه القيام بخطوة استباقية، وتتمثل هذه الخطوة في المسارعة إلى تطويق الأماكن التي سبق استهدافها بقنابل يدوية طيلة الأشهر السابقة، حتى لا يعاد نفس السيناريو السابق.
انفجرت القنبلة الأولى في متجر يملكه فرنسي، والثانية في محل لبيع معدات كهربائية، وكانت الأضرار بالغة في حي لاجيروند. والقنبلة المتبقية انفجرت في محل لبيع التبغ.
وصل بريد عاجل من مقر الإقامة العامة من الرباط، موجه إلى رئيس الأمن في منطقة الدار البيضاء، يأمر بلهجة صارمة ضرورة تأمين جميع محلات بيع الخمور والسجائر، ليس في الدار البيضاء وحدها وإنما في كل المناطق التي يستطيع البوليس الفرنسي الوصول إليها، لأن الإقامة العامة لاحظت أن أغلب الأهداف المستهدفة من طرف الوطنين تكون محلات لبيع السجائر.
المكي الناصري.. وزير الأوقاف الذي أربكه سؤال عن ضرائب التبغ
حسب ما أورده المؤرخ «بن نون»، الذي تناول المغرب في عدد من الأوراق عندما كان يقيم في إسرائيل، وخصص رسالة الدكتوراه في العلوم السياسية للمغرب، بحكم الانتماء التاريخي، فإن عددا من المسؤولين المغاربة أبدوا تحفظهم من السياسة العامة للبلاد، خلال ستينيات القرن الماضي.
كان المكي الناصري، عضو الحركة الوطنية منذ ثلاثينيات القرن الماضي، أحد هؤلاء الذين اعتمدت عليهم الحركة الوطنية في الإفتاء بتحريم ترويج التبغ واستهلاكه وبيعه في المحلات التجارية وحتى على الأرصفة. ولاحقا استثمرت أفكار الرجل، خلال بداية الخمسينيات، لتجريم الذين كانوا يتعاونون مع فرنسا تجاريا عبر رخص ترويج واستيراد أنواع الخمور إلى المغرب.
كان وقتها المكي الناصري محط تقدير كبير من طرف الملك الراحل محمد الخامس. في سنوات الخمسينيات نُفي إلى الخارج، ولم يكن قادرا على العودة إلى المغرب بسبب عريضة كان من بين الموقعين عليها، تطالب الأمم المتحدة بالتدخل لاستقلال المغرب عن فرنسا. ولم يعد الناصري إلى البلاد إلا في سنة 1955، أي بعد عودة الملك الراحل محمد الخامس من المنفى.
بعد ذلك أصبح الرجل إلى جوار العلامة المختار السوسي والفقيه العربي العلوي، من أقطاب التنظير الديني في المغرب إلى جانب الملك الراحل محمد الخامس، وكان الناصري وقتها حاملا لفكر سلفي معتدل على شاكلة العربي العلوي. لكن تلك التفاصيل ما بين الفكر المتصوف والسلفي، لم تكن وقتها بالحدة التي عليها اليوم.
ورغم أن هؤلاء الثلاثة كانوا مقربين جدا من الملك الراحل وكانوا أيضا أعضاء مجلس التاج، إلا أن موضوع رخص استيراد الخمور والضرائب المفروضة عليها لخزينة الدولة، لم تكن موضوع نقاش. بعكس المؤرخ الفيلالي الذي كان يثير الموضوع أمام النواب، تحت قبة أول نسخة برلمان مغربي بعد الاستقلال.
تقلد الناصري مناصب أخرى تتعلق بدار الحديث، وكانت علاقته بالملك الراحل الحسن الثاني وطيدة، وهو ما جعله يمنحه وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في مرحلة كان فيها الملك الراحل يراهن بقوة على إصلاح الحقل الديني، الذي كانت عين وزارة الداخلية في عهد البصري تراقبه عن كثب.
وحدث أن كان المكي الناصري في أواسط ثمانينيات القرن الماضي، أراد رفع مذكرة إلى الملك الراحل بشأن إصلاح بعض الزوايا وإيقاف بعض المواسم، بعد اتهامات لأصحابها باستغلال الدين لمراكمة الأرباح والترويج لممارسات لا علاقة لها بالدين والمذهب المالكي. وصل الخبر إلى أسماع بعض رعاة المواسم الدينية، وكان بعضهم مقربين من إدريس البصري، وكانوا يعلمون بشأن المذكرة التي كان يقف وراءها وزير الأوقاف. وأرادوا إحراجه بطرح موضوع الخمور والتبغ، خلال ندوة حضرها المكي الناصري بالرباط ضيف شرف لمناقشة الفكر الديني. كانت الأجواء الاقتصادية وقتها محتقنة، خصوصا وأن الملك الراحل كان يشدد في خطبه، خلال تلك الفترة، على ضرورة إيجاد منفذ لإنعاش الاقتصاد الوطني، سيما مع توالي سنوات الجفاف، وكانت الدولة قد لجأت إلى الزيادة في الضرائب على الكحوليات والتبغ في الجمارك وحتى على ضرائب الترويج. وعندما طرح الموضوع على المكي الناصري في تلك الندوة، لم يجد الرجل منفذا غير تجاوز السؤال بذكاء. ربما كان يعرف أن الذين زرعوا له تلك «المصيدة»، كانوا يريدون التضييق على مشروعه الذي أراد من خلاله محاربة بعض طقوس الزوايا، لذلك تجاوز الخوض في الموضوع وعاد بالحضور إلى موضوع الندوة الفكرية، التي جاء من أجلها إلى اللقاء. لم يكن الرجل يقبل أن يتحول رصيده الفكري القائم على المبادئ السلفية، التي دفع ثمن الدفاع عنها بالنفي والتضييق زمن الحماية، إلى أداة لابتزازه وهو في المسؤولية التي أبدى قيد حياته بملاحظات كثيرة وهو في قلب الوزارة.