كان الحلاق في زمن مضى أكثر من مزين. يمتهن حلاقة شعر الرأس والوجه عند الرجال. وكان «الحجام» يجمع بين حلاقة الشعر، ونزع فائض الدم من قفا الرأس، كما يمارس مهنة الختانة عند الضرورة. في زمن غير زمننا، كانت الحلاقة شأنا ذكوريا، بحيث لم تكن صالونات التجميل قد أخذت مكانها في خارطة المهن.
كانت طقوس الحلاقة تقتضي استنفارا كبيرا، قبل أن تتحول إلى إجراء عادي لا يتجاوز بضع دقائق. لكن شخصية الحلاق كانت الأهم في كل هذا وذاك، فلا تنحني الرؤوس إلا وكان يقف وراءها رجل ملم بكل الأخبار، يقلص بوجوده الزمن الافتراضي لعملية الحلاقة، ويمكن الجالسين على كراسي الانتظار من تحمل الدقائق على إيقاع صوت المقص دون ملل.
في كل بلدان العالم حلاقون يقصدهم المشاهير، أو أحيانا هم الذين يحملون حقائب عتادهم ويدخلون القصور وبيوت علية القوم، دون أن يلفتوا النظر، وكأن الحلاقة شأن سري للغاية. في الدار البيضاء والرباط وفاس ومراكش وطنجة وأكادير وكل المدن المغربية حلاقون «تشرفوا» بالوقوف خلف رؤوس انحنت لهم. هناك حلاقون يقصدهم رموز الثقافة والفن وأيضا السياسة على مدى أكثر من نصف قرن.
على عاتق ومقص حلاقي المشاهير مسؤولية كبيرة، لأن أسرار النجوم تتساقط أمامهم كتساقط الشعر على الوزرة. منهم من يستدرج زبائنه لينساب الكلام ومنهم من اكتسب ثقة الكبار، لأنه يسمع فقط ولا يتطفل بطرح السؤال.
في فيلم «أيام السادات»، ظهر لبيب، الحلاق الخاص للرئيس المصري أنور السادات في مشهد وهو يقص شعر الرئيس، الذي أدى دوره الفنان الراحل أحمد زكي، وهو ما يؤكد أهمية الحلاق في حياة القادة والزعماء.
في هذا الملف نسلط الضوء على حلاقي المشاهير، ونرصد بعض حكاياتهم مع رؤوس السياسيين والفنانين والرياضيين.
باروخ شريكي.. حلاق الحسن الثاني ومنافسه في ملاعب الغولف
بدأ باروخ شريكي متدربا في محل للحلاقة بحي فيردان بالدار البيضاء، كان في ملكية يهودي. عرف الفتى بطموحه وتمكن من استقطاب زبائن كثر، ما دفعه إلى الاستقلال الذاتي وافتتاح محل للحلاقة العصرية، كان يتردد عليه فنانون يهود ومغاربة على حد سواء.
شاءت الأقدار أن يتلقى باروخ دعوة للالتحاق بمقر الإقامة الصيفية للأمير مولاي عبد الله بالمحمدية، من أجل حلق رأسه وهو ما استجاب له باروخ على الفور، حيث نسج أول علاقة مهنية مع الأمير، بل إن الأقدار شاءت أن يزور شقيق الملك الحسن الثاني صالون اليهودي بالدار البيضاء، حيث دهش لكون الحلاق الشهير يتحدث بالعربية المغربية والدارجة بطلاقة.
في الخامسة والعشرين من عمره، قرر باروخ مغادرة الدار البيضاء، نحو الولايات المتحدة الأمريكية، بعد أن تلقى عرضا للاشتغال كحلاق في مدينة السينما هوليوود، وهو ما أكدته صفحة «إسرائيل تتكلم العربية» التابعة لوزارة الخارجية الإسرائيلية، التي أضافت أن شريكي «تلقى من الأمير عبد الله دعوة لحضور حفل عيد ميلاد الملك الحسن الثاني، فلبى الدعوة، وهناك تعرف على الملك».
بتوصية من الأمير، تلقى باروخ دعوة للالتحاق بالقصر الملكي من أجل حلق رأسه ودقنه، وحسب المصدر ذاته فإن الحلاق شعر بانفعال شديد وانتابته نوبة ارتباك قبل أن يتجاوزها بدعم من الملك، وقيل إن يدي الحلاق كانتا ترتعشان من شدة رعب البداية، لكنه «دهش لكرم الملك البالغ وسخائه، حيث قدم له قطعا ذهبية أجرة عمله، باعتبار أن هذه المرة الأولى التي يحلق فيها للملك».
هاجر شريكي إلى الولايات المتحدة لاستئناف عمله، في المجال السينمائي، وبعد ثلاثة أشهر سيتلقى عرضا من القصر ليكون حلاق الملك الشخصي، فلبى الطلب. وحسب موقع «ماينت» فإن العلاقة مع الحسن الثاني لم تقتصر على الجانب المهني، بل «تطورت شيئا فشيئا، حيث كنت ألعب الغولف مع الملك وأرافق حاشيته عند خروجه للصيد وكنت أتمتع بامتيازات عديدة»، يقول باروخ.
ومن الحكايات التي ارتبطت بالحلاق باروخ، أنه عند اقتراب موعد زواجه تقدم بملتمس إلى الديوان الملكي، حيث طلب أن يستخدم سيارة «المرسيدس» الملكية، لتقل العريسين إلى مكان الحفل. وافق الحسن الثاني على الملتمس، وعندما أعاد شريكي السيارة، جزاه الملك بإهدائها إليه، أمام استغراب العريس.
بعد وفاة الملك الحسن الثاني سنة 1999، قرر الحلاق الهجرة إلى إسرائيل، حيث استقر فيها، مع أسرته المكونة من أربعة أبناء، في شمال تل أبيب، حيث يحتفظ في بيته بصور أفراد الأسرة الملكية.
دنيا العرصي.. مزينة التلفزيون تخفي البرص من يد البصري
في بداية الثمانينات حصلت دنيا العرصي على شهادة في التجميل التلفزيوني، وهو ما صادف وجودها في جنيف السويسرية. طرقت الفتاة الريفية باب مدير قناة سويسرية وكشفت عن رغبتها في الاشتغال كمزينة مكلفة بالمكياج التلفزيوني، فنالت موافقة فورية بعد اختبار عابر تكلل بالنجاح، لتصبح دنيا أول مغربية تشتغل «ماكيوز» في قناة أجنبية. لكنها اضطرت إلى التوقف عن العمل بعد أن رزقت بمولود وهي في الديار السويسرية، إذ كانت أمام خيارين العمل أو التربية، لتفضل الخيار الثاني وتعلن استقالتها من التلفزيون من أجل التفرغ كليا لتربية وليدها إلى أن قررت العودة إلى المغرب سنة 1985، تزامنا مع انطلاقة عملية «التلفزة تتحرك». «في هذه الفترة أسند الملك الراحل الحسن الثاني إلى صديقه المهندس أندريه بكار مشروع تحديث القناة الأولى وعصرنتها تقنيا وبشريا، وبالفعل انخرط المهندس في هذه المهمة الصعبة وجرى استقطاب إعلاميين جدد، ووضع تصور جديد للعمل الإعلامي التلفزيوني، يتماشى مع رغبة السلطات في إظهار المغرب كدولة عصرية وتجسيد ذلك في مؤسساتها ومنها التلفزة». تقول دنيا التي ألحقت بمصلحة التزيين وعهد إليها أولا بغرفة تزيين مقدمي الأخبار، قبل أن تتوسع صلاحيتها وتشمل البرامج التلفزية، إن العمل في التلفزة كان مضنيا، حيث كانت تتنقل بين الرباط والدار البيضاء، وتشارك في تصوير أعمال درامية داخل الاستوديو وخارجه بإشرافها على جانب الحلاقة والتزيين وحتى اللباس، خاصة مع المخرج سهيل بن بركة، بل إنها كانت تقضي ليال طويلة حين يتعلق الأمر بتسجيل ملاحم غنائية كما كان يحصل في ذكرى عيد العرش، «أكون مضطرة إلى البقاء في دار البريهي لأشتغل مع الفرق الموسيقية أثناء تسجيل قطع وطنية، وفي أحيان كثيرة كنت أنتقل إلى مكتب إدريس البصري بالوزارة حين كانت التلفزة تحت سيطرة وزارة الداخلية، وأقوم بتزيينه استعدادا لخرجة إعلامية، وأعمل في الغالب على إخفاء بعض العيوب، خاصة أنه كان مصابا بداء البرص. نقضي خلال الانتخابات ساعات طويلة مع البصري ورؤساء الأحزاب السياسية في مقر وزارة الداخلية، في عمل ماراثوني، كما انتقلت مرارا للاشتغال في القصر الملكي كمزينة للصحفية الفرنسية آن سنكلير، التي حاورت الملك الحسن الثاني في برنامج كان يقدم على شاشة «تي إف 1» يسمى 7 على 7، والذي قدم من القصر الملكي بالرباط»، تضيف دنيا التي تصر على غياب الحس الاحترافي في انتقاء العاملات في مصلحة التزيين في كثير من القنوات التلفزية.
شيمون بيريز يطأطئ رأسه لفاطمة العروسي
عاشت فاطمة العروسي فترة شبابها في المدينة القديمة للدار البيضاء، بعد أن حلت أسرتها بالعاصمة الاقتصادية قادمة من مكناس، وفي ثانوية خديجة أم المؤمنين تعرفت على تقنيات التزيين والحلاقة، بفضل شعبة أنشأتها أستاذة فرنسية، رغم أن فاطمة كانت تمني النفس بالطب والصيدلة. وحين حصلت على شهادة التخرج بميزة مبدعة جدا، التحقت بالمعهد الموسيقي فكتب لها أن تتعرف على عبدو العماري، عازف الأورغ الذي رافقها في حياتها الزوجية والمهنية، بعد أن اشتركا سويا في حب مهنة الحلاقة.
ظل عبدو مهووسا بالحلاقة واعتبرها فنا لا تضاهيه إلا النغمة، وبعد أن شرب المهنة فتح صالون حلاقة عصري للنساء في المدينة القديمة يسمى «فيغارو»، وكان يستقطب نجمات الطرب حتى غدا من أشهر محلات الحلاقة والتزيين في الدار البيضاء، وهناك ترسخت علاقته مع فاطمة التي أصبحت شريكته في المشروع، وبفضلها طوره وحوله إلى مدرسة للتكوين في هذا المجال.
ولأن زوجها يملك علاقات راسخة مع أهل الفن ونجوم التلفزيون، فقد عبد الطريق لزوجته كي تدخل دار البريهي في بداية السبعينات وتصبح مكلفة بتزيين الصحافيين والفنانين وضيوف القناة، بل إنها تحولت إلى «ماكيير» في الدراما بكل أنواعها، بفضل شبكة العلاقات التي ربطتها بمخرجين أمثال الركاب وبن الشريف.
اشتغلت فاطمة العروسي في التلفزيون المغربي، وأصبحت مكلفة بجمال ضيوف الشاشة من عالم الفن والسياسة والرياضة والفكر والثقافة، بل إن كبار المطربين كعبد الهادي بلخياط وعبد الوهاب الدكالي وسميرة بن سعيد والعربي باطما ورجاء بلمليح وبديعة ريان ولطيفة القاضي.. انحنوا لها ووضعوا خصلات شعورهم رهن إشارة أناملها، ولكن اللحظة الأبرز في مسارها المهني، هي دعوتها لتزيين ملامح ضيف للتلفزيون لم يكن سوى شمعون بيريز، رئيس وزراء إسرائيل، خلال وجوده في المغرب.
«ما زالت تلك اللحظة حاضرة في ذهني وأنا أشاهد شمعون مطأطأ الرأس أمامي، وأنا أزين ملامحه حتى يظهر في التلفزيون بشكل أفضل وأخلصه من التعب الذي سيطر على جفونه، لكن اللحظة الأبرز في مساري هي تنويه الفنان المصري عمر الشريف بعملي، حيث طلب مني الاشتغال معه في أعماله السينمائية، فقبلت على الفور لأدخل تجربة أخرى مع كبار الممثلين العالميين». وتضيف فاطمة وهي تحدد أبجديات هذه المهنة: «يتطلب التعامل مع الصحافي أو المنشط أو الفنان دراية مسبقة بمعنوياته وطباعه، فـ«الماكيير» آخر شخص يرافقه قبل لقاء الجمهور، وهو الذي يطلع على مدى ارتباكه وحجم الضغط النفسي الذي يجثم عليه.
بعد الانفصال عن زوجها، قرر عبدو الاهتمام بالجانب الموسيقي، بينما اختارت فاطمة السير في مجال التجميل وشاركت في مسابقة كان الدولية، حيث توجت بالجائزة الكبرى، مما جعل الملك الحسن الثاني رحمه الله يستقبلها ويقدم لها التهاني شخصيا.
الدليمي يقص شعره عند الدخيسي والعنيكري يختار الحلاق بلالي
كان الدخيسي، وهو والد عامل سابق، يدرك أن محل الحلاقة الذي فتحه في منتصف الأربعينات بالسور الجديد بالمدينة القديمة للدار البيضاء سيصبح ملتقى للمشاهير، فالرجل اختار قلب الدار البيضاء النابض وشكل إلى جانب لمعلم عبد الله وابراهيم ثم الرحالي والسي مبارك، رباعي الحلاقة العصرية في مدينة كان قص الشعر فيها حكرا على الفرنسيين.
تحول محل الدخيسي إلى أشهر دكان حلاقة، بعد أن استقطب العديد من مشاهير المجتمع ونجومه في السياسة والفن والرياضة، حتى ذاع صيته ووصل إلى عامل المدينة الذي أرسل إليه مرسولا ليقص له شعره.
بدأ الرجل علاقته بالشهرة حين أصبح عارفا بالأمور السياسية للبلاد، ملما بأدق تفاصيل الحياة العامة، فكانت حصة حلاقة أشبه لدى الناس بدروس في السياسة، لكن الدخيسي وبفضل عائدات هذه المهنة تمكن من تربية أبنائه التربية الصالحة، سيما وأن ابنه تحول إلى عامل بعد أن ارتقى في سلك الداخلية، كما أن أحمد الدليمي كان من أشهر زبائن الدخيسي نظرا لعلاقة المصاهرة التي تربط العائلتين.
غير أن أقدم محل للحلاقة في المدينة القديمة يعود للمعلم عبد الله، ويوجد بحي بوسبير القديم، وكان يتردد عليه عدد من الشخصيات أبرزها الأب جيكو، أحد مؤسسي الوداد ومدرب الرجاء سابقا، ونظرا لوجوده بالقرب من الماخور فإن عددا من الضباط يتخفون فيه للحظات من أجل تزيين اللحظة الأخيرة، قبل ولوج بوسبير أو مجمع الدعارة. إلا أن دكان المعلم ابراهيم كان أكثر استقطابا من غيره للمقاومين ولرجال حزب الاستقلال وللرياضيين، وفيه صنعت العديد من المخططات التي جعلت الحلاق موضع ملاحقة من السلطات الفرنسية.
ويروي بوبكر اجضاهيم، والي الأمن السابق، عن علاقته بالمعلم عبد الله، قائلا: «الفرق بين الدخيسي ولمعلم عبد الله ولمعلم ابراهيم، أن الأول كان حلاق العائلات الذي تعددت اختصاصاته من الحلاقة إلى تلقيح الرؤوس ضد ضغط الدم، إلى ختانة الأطفال، بينما في سيدي فاتح بالدار البيضاء كان المقاومون يترددون على لمعلم ابراهيم رغم أن محله لم يكن مزودا بالوسائل الحديثة للحلاقة، لكن لباقة الرجل وخفة ظله جذبت نحوه عددا من نجوم المجتمع الرياضيين والسياسيين على الخصوص، فذاع صيته بين قيادات حزب الاستقلال ولم يمض وقت طويل حتى اتسعت دائرة شهرته لتشمل نجوم الفن والأدب، ومنهم من كان يتردد على الدكان دون الحاجة إلى حلاقة الرأس، بل فقط للاستئناس بعالم الرجل، ثم إن الرحالي الذي بدأ مساعدا للمعلم ابراهيم سرعان ما استقل بذاته واحدا من أكبر صالونات الدار البيضاء بالقرب من ساحة 18 نونبر».
كان لليهود حلاقهم يوحنا بالقرب من ساحة فيردان والذي يتردد عليه بعض المسلمين أيضا، وفي هذا الصدد يروي عمر نعماني الذي اشتغل حلاقا مع الحماية الفرنسية وكان مكلفا بحلاقة رؤوس كثير من المغاربة الوافدين على الدار البيضاء عند نقطة «القامرة»: «اليهود كان لهم حلاقهم الشهير في فيردان غير بعيد عن مقر السينما المغلقة الآن، وكان كلما تردد يهودي على المحل لحلاقة رأسه، إلا ويضع في صندوق خشبي مبلغا ماليا يدعم به حلاقة رؤوس البسطاء من اليهود في مشهد تضامني، أما الفرنسيون فكانت لهم محلاتهم المفضلة بالقرب من السوق المركزي».
كان الجنرال حميدو العنيكري يفضل قص شعره عند الحلاق أحمد بلالي في شارع الروداني بالدار البيضاء، حيث يستقطب «الصالون» وزراء، ورجال سلطة ورجال أعمال.
وعن الأجر الذي يحصل عليه مقابل الحلاقة، يقول نعماني إنه على عكس ما يعتقد البعض من أن المشاهير يدفعون مبلغا كبيرا، فإن المقابل المادي الذي كان يحصل عليه أصدقاؤه الحلاقون من المشاهير عادي، لأن الحلاق هو الوحيد الذي يقدم خدمة دون وضع لائحة أسعار، «لذا فأكثر الناس شهرة هم أقلهم أداء».
حلاق اليوسفي و«ناس الغيوان» ومشاهير «الطاس»
الحديث عن ذاكرة الحي المحمدي يجذبنا نحو الفرق الغنائية التي انطلقت من عمق هذا الحي المناضل، نحو لاعبي الاتحاد البيضاوي والثبات والترجي، نحو المناضلين الشرفاء في درب السياسة والعمل النقابي، لكن لا يمكن فهم الظاهرة الغيوانية في منأى عن حسن مزيال أو «با حسن»، حلاق الحي الشهير، والذي كان يتردد على دكانه نجوم الحي خاصة أفراد «ناس الغيوان» و«الطاس»، وهو الاسم الذي ورد في كتاب السيرة الذاتية للعربي باطما، حين وصفه بفريد الأطرش.
بدأت علاقة حسن بالمشاهير حين اقترب من العمل النقابي وتعاطف مع قضايا الطبقة الكادحة، وكان عبد الرحمان اليوسفي يتردد على دكانه ويضع رأسه رهن إشارته حين كان مجرد مساعد، عندما كان القيادي الاتحادي يقود انتفاضة عمال شركة «كوسومار». لم يكن دور هذا الحلاق المتمرن يقتصر على حلق شعر المناضلين، بل كان مناضلا ناشئا لعب دورا كبيرا في تعبئة زبائنه أثناء عملية حلق الذقن أو الرأس دون أن يفطن لذلك المستعمر، بل إنه اعتبر انتفاضة فرحات حشاد بالحي المحمدي تدريبا تطبيقيا له، هذا فضلا عن دوره كفنان في مجال المسرح والغناء، أتقن دوره الرئيسي في مسرحية «حلاق إشبيلية»، لمعرفته بالحلاقة وقواعد العمل المسرحي.
امتلك حسن دكانا للحلاقة «حلاق الأحلام» وشرع في تأثيثه بمعدات بسيطة، لكنه كان مهتما بالموسيقى عازفا على أوتارها، فاستقطب مؤسسي فرقة «ناس الغيوان» في بداية الستينات، لتكون نواة لموجة غنائية جديدة، لم يكن حسن يعلم أن باطما وياعلا وعلال والسيد وبوجميع سيتحولون إلى مشاهير، وأن شرف حلاقة رؤوسهم لم يكن متاحا لآخرين في مهنة الحلاقة، لأنه كان يظن أن الأمر يتعلق بفرقة هاوية تغني من أجل المتعة.
العربي التطواني.. حلاق نجوم ريال مدريد
اسمه العربي الحموشي، لكنه يعرف في أوساط الجالية المغربية والعربية المقيمة بمدريد باسم «التطواني»، بحكم أصوله التطوانية وحرصه على مناصرة فريقين «المغرب التطواني» و«ريال مدريد». يوجد محله بوسط العاصمة الإسبانية، ويفضل كثير من زواره إطلاق اسم «حلاق الريال» على هذا المحل.
غادر الفتى تطوان سنة 2004، متوجها إلى إسبانيا، كان يحمل معه موهبة في قص الشعر، وهي المهنة التي مارسها وهو يافع، في مدريد حاول المهاجر أن يجد فرصة شغل في نفس تخصصه، وحين عثر على فرصة في محل تحول إلى أجير يرفع رصيد معرفته ويتعلم فن التعامل مع رؤوس الإسبان، قبل أن يعلن استقلاله عن مشغله وينشئ لنفسه محلا في المدينة نفسها، سرعان ما استقطب زبناء جددا. ومنذ ذلك الحين توافد عليه لاعبو نادي ريال مدريد لكرة القدم الذين أعجبوا بحرفيته، أبرزهم العميد سيرجيو راموس وزميله ماركو يورينتي وغيرهما من اللاعبين.
ويرى البعض أن الملحن المغربي الذي صنع مجد هذا الحلاق هو ابن مدينته تطوان، نادر الخياط المعروف بـ«ريدوان»، عراب نجومية فنانين عالميين في موسيقى البوب والهيب هوب والراب، والذي جمع لاعبي الريال ولقنهم النشيد الرسمي للفريق الملكي.
عبدو العماري.. حلاق الفنانين يصبح أشهر عازف لـ«الأورغ»
ولد عبدو العماري سنة 1945 في منطقة تافراوت، واسمه الحقيقي محماد بن عمر، وحين تجاوز العاشرة من عمره انتقل إلى مدينة الدار البيضاء رفقة شقيقه الأكبر. حاول محماد الالتحاق بالمعهد الموسيقي للدار البيضاء، لكن شقيقه رفض الملتمس ودعاه إلى تدبير كسرة خبز، وسجله في المعهد الموسيقي، بل ودعاه لامتهان حرفة تدر عليه مالا فعرضه على حلاق ليشتغل لديه كمساعد، وأصبح يوفق بين التكوين الموسيقي والشغل، بل إنه تعرف على كثير من زملائه كالمنشط التلفزيوني محمد بن عمر والحاج يونس ولحسن الإدريسي، الذين سيساعدونه في اقتحام عالم الموسيقى، حيث تخلص من اسمه الحقيقي وأصبح ينشط السهرات في فنادق العاصمة الاقتصادية، بعد أن اختار الموسيقى الغربية التي كان يمزجها بين الفينة والأخرى بإيقاع مغربي. وكانت نقطة التحول في مساره المهني هي إقحام «الأورغ» في القطع المغربية، وتعامله المباشر مع عبد الوهاب الدكالي الذي استعان بالعماري في أداء أغنيته «مرسول الحب»، وحين شاهده الملك الحسن الثاني دعاه للانضمام إلى الجوق الملكي كعازف للأوكورديون، وأضحى عنصرا فاعلا في الجوق الوطني للدار البيضاء.
ظل عبدو مهووسا بالحلاقة واعتبرها فنا لا تضاهيه إلا النغمة، وبعد أن شرب المهنة فتح صالون حلاقة عصري للنساء في المدينة القديمة، وكان يستقطب نجمات الطرب حتى غدا من أشهر محلات الحلاقة والتزيين في الدار البيضاء، وهناك تعرف على شريكة حياته فاطمة العروسي، التي أصبحت شريكته في المشروع وبفضلها طوره وحوله إلى مدرسة للتكوين في هذا المجال، خاصة وأنها كانت أول «كوافورة» في التلفزيون المغربي.
شاءت الصدف أن تلتقي فاطمة بعبدو في الدار البيضاء، بعد أن جمعهما معهد الموسيقى، وهي القادمة من مكناس رغبة في تعلم قواعد الرقص، كما كانت مهتمة بالتزيين فتقاطعت هوايتها مع رغبات العماري الذي قرر الارتباط بها، في سنة 1970 حققا سويا هذه الرغبة ونالت فاطمة لقب «مدام عبدو»، التي شمرت عن ساعدها واشتغلت إلى جانبه في محل الحلاقة النسائية الذي كان يطلق عليه اسم «لوفيغارو»، ولأن شبكة العلاقات للزوج قد بدأت تتوسع، فإنه قد ساعدها على إيجاد وظيفة في التلفزيون المغربي، وأصبحت أولى «الكوافورة» وأشهرهن على الإطلاق.
لكن الانفصال حصل بين الزوجين، بعد أن تحولا إلى شريكين في كثير من مدارس تعليم الحلاقة ليس فقط على مستوى الدار البيضاء، بل على المستوى الوطني.
مغربي يهتم برؤوس سياسيين في جنوب إفريقيا
في منتصف التسعينات تخلص الشعب الجنوب إفريقي من نظام الأبارتايد العنصري، الذي جثم على الأنفاس سنوات، محطما قيم حقوق الإنسان. كان هذا البلد درسا نموذجيا في العنصرية، وبؤرة توتر حقيقية لا تخطئ موعدها مع نشرات الأخبار اليومية لتنقل أنباء الصراع بين البيض والسود، وثورة يقودها الزعيم نيلسون مانديلا من حي ليسوتو الهامشي. في هذه الفترة كان أغلب الحالمين بالهجرة، يستبعدون التحليق بعيدا نحو جنوب إفريقيا.
يجمع أفراد الجالية المغربية في جنوب إفريقيا، على أن مغربيا يسمى شرف الدين، وهو من أبناء الحي المحمدي بالدار البيضاء، كان أول من قص شريط الهجرة المغربية إلى جنوب إفريقيا، فقد جاء من مصر رفقة صديقه المصري، ودخلا البلاد في عز صراع البيض والسود، وتعايش مع الوضع السياسي المضطرب، وأرخ للوجود المغربي في هذا البلد الذي تحتل فيه الجالية الهندية الصف الأول.
في حي مايفير وسط مدينة جوهانيسبورغ، اختار مصطفى كرامي وغيره من «الحلاقين المتحدين» الاستثمار في رؤوس رجال ونساء وأطفال جنوب إفريقيا. حيث حل بجوهانيسبورغ من أجل البحث عن عمل قبل عشر سنوات، لكنه لم يندمج في المحيط الجديد، هو القادم من الدار البيضاء والمتيم بحب الرجاء البيضاوي، إلا أنه عاد مجددا بعد أن آمن بالقول المأثور «قبر غريب ولا شكارة خاوية»، كرامي كان يبحث عن الكرامة وسلاحه مقص مشط وأنامل قادرة على تحويل امرأة شعثاء إلى صاحبة تسريحة جذابة. «في جوهانيسبورغ، عدد كبير من المغاربة الذين يمتهنون الحلاقة، لديهم محلات يشتغلون فيها، ولديهم زبائن ولهم سمعة طيبة في قطاع الحلاقة، والنساء الهنديات أو الجنوب إفريقيات يفضلن الأصابع المغربية، لذا تجد إقبالا كبيرا على المحلات المغربية». لكن مصطفى نال ثقة كبار المسؤولين السياسيين في هذا البلد الذي يعيش قطيعة سياسية مع المغرب، وفي جلسات الحلاقة يمرر خطابه ويقرب زبائنه من المغرب، فينال صفة سفير دون علم ديبلوماسيي السفارة المغربية في بريتوريا.