الحجب لغة هو المنع، والحاجب اصطلاحا هو حارس بوابة الملك والذي ينضم العلاقات بينه وبين الرعية، وسمي الحاجب لمنعه أي انفلات في حضرة الملك، وقيل الحاجب كحاجب العين يحميها ويصونها.
لكن مؤسسة الحجابة الملكية، كيان قائم الذات في التقاليد المخزنية يرأسها الحاجب الملكي الذي يعد مؤتمنا على تفاصيل صغيرة وكبيرة متعلقة بالبرتوكول الملكي، لذلك، فإن اختيار شخصية «الحاجب» تتحكم فيها مقومات عديدة تبدأ بالثقة وتنتهي بالكفاءة.
في بداية القرن الماضي، كان الحاجب جزءا من سلطة السلطان، يمارس الحكم في غيابه، قبل أن يصبح مع مرور الأيام مجرد مسؤول على البرتوكول المخزني العريق، ومبعوث ملكي في المهام ذات العلاقة بالعطايا والهبات الملكية على الزوايا والطرق والمواسم التي يمكن أن تكون تحت الرعاية الملكية، فضلا عن كونه يوجد على رأس محافظي القصور الملكية، ودوره في مراسيم التعينات السامية. كما يناط به تنظيم الاستقبالات الملكية، والحفلات الرسمية كحفلات عيد العرش، وحفل الولاء، وعيد ميلاد الملك وولي عهده، وأسرته، وتقديم التهاني بمناسبة حلول الأعياد الدينية والوطنية.
في حوار للملك محمد السادس مع مجلة «باري ماتش» سنة 2004، قال: «إن البروتوكول الملكي سيظل بروتوكولا وأضاف العاهل المغربي، «لقد أشيع كما لو أنني غيرت ما كان قائما بعض الشيء، وهذا خطأ لأن الأسلوب مختلف غير أن للبروتوكول المغربي خصوصيته. وأنا حريص على المحافظة على دقته وعلى كل قواعده. إنه إرث ثمين من الماضي».
ومضى الملك قائلا: «يجب على البروتوكول أن يتماشى مع أسلوبي، لقد ولدت وترعرعت ضمن هذه التقاليد البروتوكولية، وهي تمثل جزءا لا يتجزأ من كياني وخاصة من حياتي المهنية التي تظل هذه التقاليد مقرونة به».
في هذا الملف نرصد مسار أشهر «حجاب سيدنا».
محمد العلوي.. صديق الملك وسليل عائلته حاجبا ملكيا
عندما ظهر محمد العلوي إلى جانب الملك محمد السادس في سيارته، تحرك فضول الصحافيين الذين جمعوا ما يكفي من المعطيات حول رفيق الملك، إذ تبين أنه يتعلق بمحمد العلوي الذي سيصبح حاجبا ملكيا. قالت وكالة المغرب العربي للأنباء إن «سيدي محمد العلوي هو حفيد الفقيدين، الراحلة صاحبة السمو الأميرة لالة فاطمة الزهراء العزيزية، كريمة السلطان مولاي عبد العزيز، والراحل صاحب السمو الأمير مولاي الحسن بن المهدي».
قدمت الوكالة سيرة الحاجب الملكي، وقالت إن تكوينه اقتصادي، فهو من مواليد 1974، تابع دراسته الابتدائية والثانوية، بثانوية «رينيو» بطنجة، ونال بها شهادة الباكلوريا، سنة 1993، وبعد دراسة الحقوق بجامعة باريس، حصل محمد العلوي، سنة 1999، على دبلوم باشلور في التجارة الدولية بالمعهد العالي للتدبير بباريس، مضيفة بأنه متزوج وأب لثلاثة أبناء.
وكشفت صحيفة «الأيام» الأسبوعية، عن سيرة الحاجب الذي عينه الملك منذ سنوات في منصب الحاجب الملكي خلفا لإبراهيم فرج، مشيرة إلى أنه ليس بعيدا عن المحيط الملكي، باعتباره فردا من العائلة العلوية، ويعتبر «سيدي محمد العلوي» أصغر حاجب عين في القصر الملكي.
«أكثر من ذلك، وبحسب مصادر مطلعة، فالحاجب الملكي تربطه علاقة متينة بالملك، حيث شوهد في أكثر من مرة وهو يركب سيارة إلى جانبه، خاصة في العطل الصيفية التي يقضيها الجالس على العرش بشمال المملكة، كما ظهر أيضا إلى جانبه في الصورة التي انتشرت للملك وهو في سواحل مدينة الحسيمة في شاطئ السطيحات على متن زورقه الشراعي».
غداة انتهاء الاحتلال الأجنبي لشمال المغرب تقدم الأمير مولاي الحسن بن المهدي، جد الحاجب إلى جلالة المغفور له محمد الخامس معتبرا، «بكل نكران ذات وروح وطنية صادقة، أن مهمته انتهت وأنه يعتبر نفسه مواطنا عاديا في خدمة جلالته ورهن إشارته».
عين جد الحاجب سفيرا للمغرب بلندن من1957 إلى1965 ثم سفيرا بروما من 1965 إلى1967، وبعد ذلك عين مديرا عاما للبنك الوطني للتنمية الاقتصادية، قبل أن يعينه الحسن الثاني واليا لبنك المغرب وهو المنصب الذي ظل يشغله إلى حين وفاته في فاتح نونبر 1984.
إبراهيم فرج «يحجز» قبرين في الزاوية العيساوية بالمدينة القديمة
اشتغل الراحل إبراهيم فرج، حاجبا ملكيا إلى حدود سنة 2013، قبل أن يتم توشيحه من طرف الملك محمد السادس، بوسام العرش من درجة الحمالة الكبرى، بعد تعيين خليفته محمد العلوي.
تقلد إبراهيم العديد من المناصب، قبل أن يدخل القصر، فهو من خريجي المدرسة الإدارية المغربية، وسبق أن عمل رئيسا لمصلحة مراقبة الموظفين المدنيين والعسكريين بوزارة المالية، ومديرا بالإدارة العامة بوزارة الشؤون الخارجية، كما عين مساعدا لمدير الإذاعة والتلفزة المغربية، ومكلفا بمهمة في الديوان الملكي، ومديرا لصندوق ومكلفا بإدارة سد الحسن الداخل، ومكلفا بمهمة لدى الوزير الأول، ورئيسا للمجلس البلدي لمدينة الرباط، التي سيصبح عاملا عليها.
فوجئ أفراد أسرة إبراهيم فرج الحاجب الملكي السابق، بإصرار الرجل على مواجهة الموت، منذ أن انتهت مهامه تحت وطأة المرض، فقد كان يتحدث إلى المحيطين به بلغة الواثق من دنو أجله، وحين زاره أحد الوزراء وهو على فراش المرض، كشف له إبراهيم عن رغبته في لقاء ربه، وجعل من حديثه عبرا حول الحياة الدنيا الزائلة والآخرة الباقية، بل إن الحاجب الملكي ظل يودع زواره الوداع الأخير استعدادا للقاء ربه.
لم يكتف فرج بقراءة الأدعية والشهادتين، بل إنه أوصى أهله بدفنه في زاوية سيدي بن عيسى بحي سيدي فاتح بالعاصمة الرباط، فاستجابت أسرته لطلبه الأخير، بعد أن كانت كل المؤشرات تسير في اتجاه دفن جثمانه بمقبرة الشهداء.
ظل فرج، عن سن يناهز 88 سنة، يستحضر في آخر جلساته جزءا من تاريخ المملكة الشريفة، ويتحدث مع آخر زائريه، عن الدولة والدين، ولم ينس الرجل في آخر كلامه البوح بما قدمه للوطن من خدمات في التلفزيون وفي الجماعة الحضرية للرباط كمنتخب، أو في وزارة المالية أو في الديوان الملكي.
بعد صلاة العصر ليوم الأحد 20 دجنبر 2015، كانت المدينة العتيقة مثقلة بحضور أمني لافت، خاصة على امتداد الطريق المؤدية إلى الزاوية التي اختار الرجل أن يرقد فيها إلى الأبد، فقد تم تشييع جثمان الراحل إبراهيم فرج في موكب جنائزي مهيب تقدمه الأمير مولاي رشيد. وجرت هذه المراسم على الخصوص بحضور أفراد أسرة الفقيد ورئيس الحكومة ومستشاري الملك وكبار ضباط القيادة العليا للقوات المسلحة الملكية إلى جانب عدد من الشخصيات المدنية والعسكرية.
عادة ما يدفن المسؤولون والمقربون من القصر بعد وفاتهم في مقبرة الشهداء، لكن الحاجب الملكي، شكل استثناء وهو يدفن في الزاوية العيساوية بقلب المدينة القديمة في العاصمة الرباط، وسط الأزقة الضيقة وبين البسطاء من بنات وأبناء الشعب.
قال منسق الزاوية العيساوية في العاصمة الرباط، في حوار صحفي، إن علاقة قوية جمعت بين الراحل ابراهيم فرج الحاجب الملكي وشرفاء عيساوة، وكان قد طلب منهم أن يفردوا له ولزوجته قبرين يدفنان فيها بعد وفاتهما، وهذا ما كان، فقبر زوجته الحاجة خديجة مارسيل، وضع رهن إشارة الحاجب الملكي، ويوجد بالقرب من القبر الذي دفن فيه ابراهيم بحضور شقيق الملك الأمير مولاي رشيد، «وهذا ما يبرر السبب الذي جعل الملك يأمر بدفنه في الزاوية، ترجمة لوصيته، التي عبر عنها قيد حياته».
وأوضح منسق الزاوية العيساوية في العاصمة الرباط، السيد بن لمين القدميري في نفس البوح الصحفي، إن الزاوية رممت وأعيد إصلاحها بأمر من الملك الراحل الحسن الثاني، بعد لوحظ أنها تحتاج للصيانة حين استقبلت جثمان رجل دولة.
عبد الرحمن أنكاي.. أول حاجب ورئيس ديوان الملك محمد الخامس
من الصدف الغريبة أن الحاجب الحالي محمد العلوي، والحاجب الأول عبد الرحمن أنكاي، قد عاشا طفولتهما في مدينة طنجة، حيث درسا في ثانوية أبناء الأعياء «رينيو». لكن عبد الرحمن ينحدر من عائلة ريفية اختارت الاستقرار في مدينة البوغاز، وعندما اشتد الخناق على المملكة الشريفة من طرف الحماية الفرنسية انضم الفتى الريفي لصفوف الحركة الوطنية وأضحى واحدا من العارفين بالملف المغربي في علاقته بالمستعمر الفرنسي والإسباني، في الوقت الذي اختار فيه أشقاؤه قطاعات أخرى كالصيدلة والديبلوماسية والتربية والتعليم.
مع فجر الاستقلال، اختاره الملك محمد الخامس للعمل إلى جانبه بعد أن لمس فيه العديد من المؤهلات التي تضعه في غرفة الاستشارة، وعينه مديرا لديوانه، ولأنه ريفي الأصول وعارف بتضاريس هذا الملف، فقد سطع نجمه بعد أحداث الريف سنة 1958، حين كلفه الملك محمد الخامس بمهمة دقيقة، إذ طلب منه إنجاز تقرير مفصل عن الأحداث الأليمة التي شهدتها المنطقة.
في لحظة تعيينه لهذه المهمة، كشف الملك لمدير ديوانه في اجتماع بالقصر الملكي، عن دواعي تعيينه لإنجاز التقرير، أبرزها أصوله الريفية وشبكة علاقته مع الماسكين بخيوط القضية، فضلا عن ثقافته الواسعة وكانت له ثقافة عصرية ويحسن اللسان الإسباني، وممن دافعوا عن المغرب وعرشه أيام المحن، ومن أجل ذلك حظي لدى جلالة الملك محمد الخامس إلى أن صار رئيس ديوانه، وعلى الفور شرع الرجل في مهمته الدقيقة التي توجت بتقرير معزز بالصور والشهادات من مختلف المتدخلين. ظل التقرير في حكم المسكوت عنه، الشخص الوحيد الذي تطرق إلى جزء منه هو كاتب صحفي أمريكي.
يصف تقرير أنكاي، وبكثير من الدراية والاطلاع على المشاكل التي كان يعاني منها الريف سياسيا وثقافيا واقتصاديا، ويعترف أنكاي في تحقيقه بأن أسباب انتفاضة الريف في أواخر 1958 ولاسيما في الحسيمة والناظور كانت نتيجة إدماجهما بالجنوب وبسبب أخطاء موظفي الإدارة العمومية، وقال إن مكاسب الاستقلال لم توزع بالتساوي على أبناء الوطن. وقسم تقرير أنكاي المغرب إلى ثلاث جهات رئيسية وهي: الريف والشرق والشمال، ومحور فاس- الرباط- سلا- الدار البيضاء، ثم المنطقة الأمازيغية في جنوب المغرب.
توفي عبد الرحمن أنكاي رئيس الديوان الملكي في حادث سير حين كان يقود سيارته قرب تمارة، وبعد أن صلى الناس عليه بجامع السنة بالرباط، وبناء على وصيته، حمل إلى مدينة طنجة مسقط رأسه ودفن هناك. وتحمل الآن إحدى المدارس في مدينة البوغاز اسم أنكاي تكريما له.
فضول غريط.. حاجب ملكي مثل أبي
تعود أصول فضول إلى الأندلس، حيث ينحدر أسلافه من بلدة «غريط» المندثرة والمجاورة لمدينة طليطلة. استقر أجداده بالمغرب يخدمون سلاطين البلاد في بلاطاتهم. كان والده سكرتيرا للسلطان أبو الفضل عبد الرحمن بن هشام مولاي عبد الرحمن، وعايش معه معركة إسلي، كما كان سكرتيرا للحسن الأول عندما كان لا يزال وليا للعهد، حاكما لمراكش.
يفضل كثير من الباحثين استبدال اسمه العائلي «غريط» بـ»غرنيط» كان من يختصرها بـ»سي فضول»، لكن الاسم الحقيقي للسي فضول هو «لمفضل غريط»، الذي تعود الجميع هنا تحريفه في المراسلات الديبلوماسية. عين الرجل الوسيم وزيرا للبحر ثم للشؤون البرانية، وكان صاحب شخصية مؤثرة. مفاوضا من الطراز الجيد، مختصا في التفاوض حول أمور التجارة والقرصنة، لشراء العبيد أو تحرير الأسرى، والذي كان يشكل حجر الزاوية في العلاقات الدولية للإمبراطورية الشرفية حينذاك.
«كان الرجل من المؤثرين في سياسة السلطان مولاي الحسن الأول، ونستطيع الادعاء أن أهم توجهات سياسة هذا السلطان الخارجية، كان وراءها سي فضول. وفي عهد السلطان المولى عبد العزيز، سيعهد إليه بمنصب الصدر الأعظم، لكنه للأسف كان الوقت متأخرا لتصحيح اختلالات العهد السلطاني الجديد» كما يقول الباحث لحسن العسيبي، الذي أضاف بأن محمد الكباص كان أحد مساعدي فضول.
يقول لحسن العسبي، الباحث في تاريخ المغرب، في نبشه لسيرة الصدر الأعظم فضول غريط، بأن محمد الكباص، وهو جد كل من الدكتور عبد الكريم الخطيب والجنرال حسني بنسليمان من جهة أمه وكذا إسماعيل العلوي الأمين العام السابق لحزب التقدم والاشتراكية، قد تعلم أصول الوجاهة المخزنية من فضول، حين كان مساعدا له، وأضاف بأن عائلته تنحدر من جبل زرهون.
وفاة الحسن الأول.. امتحان لنباهة الحاجب باحماد
كان السلطان الحسن الأول يحكم البلاد بقبضة من حديد، وكان رحمه الله حريصا على ركوب حصانه ليجوب المناطق متجاوزا الحكم السلطاني من عاصمة حكمه، وكانت الظرفية التاريخية التي حكم فيها البلاد تتميز بالتفرقة. نتيجة خسارة المغرب في معركة إيسلي أمام فرنسا ومعركة أمام الإسبان، مما حتم على السلطان الرضوخ لمضامين اتفاقية مؤتمر مدريد، في ظل هذه الوضعية الاقتصادية والسياسية المتردية.
كان مولاي الحسن يفوض الكثير من اختصاصاته لحاجبه السلطاني باحماد الذي كان يحظى بمكانة خاصة عند الحسن الأول. وهي الحظوة التي ستظهر قوتها، حين أسلم السلطان الروح لباريها في شتنبر 1894، عند مشارف منطقة تادلة التي توجه إليها من أجل وقف حركة تمرد وعصيان.
ومن خلال كتابات الصحفي الإنجليزي والتر هاريس، فإن ظروف وفاة الحسن الأول، قد كشفت عن جهود الحاجب با حماد، من أجل إبقاء خبر الوفاة سرا، حتى يتسنى له تنصيب المرشح الذي يريده على العرش. «توفي الحسن الأول في خيمة محاطة بحائط من قصب، ولم يكن يسمح بالدخول سوى للقلة القليلة من الثقاة. ولم يكن يعلم بخبر الوفاة سوى بعض من عبيد الحاجب با حماد. فصدر الأمر أن السلطان قرر التحرك باكرا، قبل الفجر، وتحرك الهودج الملكي بعد أن وضع في داخله السلطان وأغلقت دونه النوافذ وأنزلت الستائر. وفي الساعات الأولى من الصباح، حمل الهودج إلى الخارج، محمولا على ظهور بغال قوية. فعزفت الموسيقى ودقت الطبول وأطلق العبيد النداء المعتاد: «الله يبارك في عمر سيدي». تشكل موكب السلطان، وبمحاذاة الهودج وكانت قوات الحرس تسير كالمعتاد، ليتبين أن السلطان يمارس سلطاته وهو ميت.
وتجمع الروايات التاريخية على أن جثة الراحل قد تم غسلها ولفها في كفن في منطقة البروج بقبائل بني مسكين الغربية، فيما أعلن الحاجب با حماد أن السلطان يحس بتعب وأنه لن يتوجه إلى ما كان مقررا له من أجل مباشرة أمور السلطنة في قاعة المجلس السلطاني، وأنه كالعادة كلف حاجبه بالنيابة عنه في ذلك، وأن القرارات بعد التصديق عليها ستصل للجهات المعنية بها. لكن أمر وفاة السلطان لم تكن لتظل في السر وقتا طويلا. بعد يومين، أعلن الحاجب باحماد خبر الوفاة، وأنه تمت مبايعة ابن السلطان مولاي عبد العزيز سلطانا جديدا، باختيار من والده الراحل، وسارع الرسل إلى إبلاغ القرار إلى جهات المغرب، بعد أيام من الوفاة الفعلية.
وطرحت العديد من التساؤلات حول ما إذا كانت للحسن الأول يد في انتقاء وريث عرشه مولاي عبد العزيز، وهو أصغر أبنائه، ضدا على إخوته، أم أن الأمر لا يعدو أن يكون شكلا من الإنقلاب قاده الحاجب باحماد. يقول المؤرخ عبد الله العروي: «لقد عين الأمير عبد العزيز، بشكل غير مباشر وليا للعهد في أواخر عهد والده، من خلال أمور ذات رمزية، مثل إرساله في مهام خاصة وحركات، مثل منحه المظلة السلطانية، وتخصيص حاجب له. وذلك بدلا من شقيقه الأكبر امحمد، الذي لم يكن تقيا ورعا تماما». مما أثار حينها ردود فعل سلبية من قبل الأمراء، وخاصة مولاي امحمد الذي كان واليا على فاس، «قرر مغادرة فاس مرفوقا ببعض أتباعه، من أجل تجميع جنده، حوصر بمبعوثي با حماد، وبموافقة من شقيقه مولاي عبد العزيز تم اعتقاله بمكناس، ولم يخرج من مكان إقامته حتى توفي الحاجب با حماد سنة 1900ميلادية.
غضبة محمد الخامس من حاجبه التهامي اعبابو تبقيه بالإقامة الجبرية
كان التهامي اعبابو يحتل مكانة كبرى في محيط السلطان المولى يوسف، كان مقربا منه في الحل والترحال، ما مكنه من جمع ثروة كبرى استثمرها في بناء الأحياء السكنية.
حسب هاشم المعروفي في كتابه «عبير الزهور»، فإنه بعد وفاة السلطان المولى يوسف تمت مصادرة ثروة حاجبه التهامي اعبابو، في إطار تصفية حسابات «بسبب مواقفه العدائية تجاه الإقامة العامة الفرنسية» وهو مبرر نجد نقيضه في كتابات «كولونيالية» تصر على أن محمد الخامس قد قرر فور تعيينه سلطانا على المغرب، إبعاد الحاجب اعبابو الذي كان المد والجزر يميز علاقتهما، بل إن مصادر أخرى قالت إن الحاجب كان يرفض جلوس المغفور له محمد الخامس على العرش ويساير أطروحة «الخلافة للمولى إدريس».
كانت نقطة التحول الحقيقية في حياة التهامي هي وفاة مولاي يوسف، وما ترتب عنها من مواجع للحاجب السلطاني اعبابو، فحسب «عهد السلطان مولاي يوسف» لزين العابدين العلوي، فإن سنة 1927 قد أجهزت على الحاجب السلطاني وحولته من صاحب صولة إلى شخص مدان.
علم محمد الخامس أن الحاجب الملكي التهامي اعبابو، قد منع من حضور اجتماع العلماء لتعيين خليفة للمولى يوسف، وقال المؤرخ عبد الهادي التازي إن التهامي كان من المؤيدين لتنصيب مولاي ادريس خلفا لوالده، «لكن ما حدث، أنه لم يتمكن من حضور الاجتماع، بعدما اعترضته السلطات التي كان المسؤول عنها الحاج المقري، وهو في طريقه إلى فاس».
أمر محمد الخامس بالحجز عن ممتلكات الحاجب واتهمه بنهب آثار دار المخزن وخضع بيته لعملية تفتيش، ثم انتهت القضية بتسوية دفع فيها اعبابو 6 ملايين فرنك، وتنازل عن ملكية درب الحاجب بالدار البيضاء وبقي محتجبا في بيت إلى وفاته سنة 1942.
والغريب في هذه النازلة أن المقيم العام الفرنسي الجنرال تيودور ستيغ قد طلب من قدور بن غبريط مستشار الملك محمد الخامس التدخل عاجلا لإطلاق سراح الحاجب الملكي السابق التهامي اعبابو، بل إن الحكومة الفرنسية عينت محاميا للدفاع عنه إلى أن استعاد حريته، ولم يكن هذا المحامي سوى إتيان ميليران المقيم العام السابق.
بن يعيش.. حاجب نحر أضحية مولد المولى الحسن الثاني وتوفي ابنه في الانقلاب
في يوم الثلاثاء تاسع يوليوز 1929 كان جلالة محمد الخامس رحمه الله في رحلة خارج المغرب، وأبلغ في مساء ذلك اليوم بازدياد ولي عهده الذي كان يعلق عليه منذ اعتلى العرش آماله الكبيرة، ويود أن يحيله إلى مختبر تجاربه في ميدان التكوين والتدبير والقيادة الثانية، وتلقى الحاجب الملكي بعد أيام الرسالة التالية:
«خديمنا الأرضى الحاجب محمد الحسن بن يعيش، سلام عليك ورحمة الله، أما بعد فقد وافتنا المكاتيب التي وجهت معلما بحقيقة الأحوال هناك، وصرنا من الكل على بال، أما ما يتعلق بالتسمية فأحضر بها الوزراء والرؤساء وباشا الرباط وباشا سلا، وبتعين أن تذبحوا ضأنين، الأول يذبحه وزير العدلية، والثاني تذبحه أنت، وأظهر بهذه المناسبة فضل الله الذي نشكره بكل لسان، وما يمكن من الصدقة للفقراء والمساكين، واجعلوا الشريف سمى جده مولاي الحسن، راجين من الله الكريم الوهاب أن يجعله على أثره صالح الدين والدنيا، ثم اعلمنا ما تفعلون في هذا السبيل فورا عاجلا والسلام».
هذه الرسالة تكفي للدلالة على مكانة الرجل، والمهام التي كان يتقلدها، خاصة وأنها ترجع بنا إلى سنة 1929 التي شهدت ميلاد الأمير مولاي الحسن في القصر الملكي العامر، ولأن الملك كان خارج الوطن فقد جعل من حاجبه نائبا عنه في مهمة ليست كباقي المهام.
ومن الصدف الغريبة أن ابن الحاجب الملكي قد عاش في القصر رفقة الملك الحسن الثاني باعتباره أحد أطبائه، قبل أن يلقى حتفه في قصر الصخيرات أثناء الانقلاب الذي شهدته المملكة صيف عام 1971. لم تتوقف علاقة أسرة الطبيب المغتال بالقصر وكان عمره حينها لا يتجاوز 37 سنة، بل تحولت إلى صداقة راسخة بين الملك محمد السادس وفاضل بن يعيش، الذي كان عمره تسع سنوات، إذ أصبح صديق دراسة مقرب من العائلة المالكة، بعد أن تكلف القصر برعاية أبناء الطبيب الثلاثة، أكبرهم فاضل وشقيقته كريمة حيث عملا في السلك الديبلوماسي.
درب الحاجب.. مات السلطان فأجبر اعبابو على التنازل عن ملكية الحي
يعتبر درب الحاجب أول تجمع سكني يتم بناؤه بدرب السلطان في عهد سلطات الحماية الفرنسية، لكن الحي أقبر في عهد الملك الحسن الثاني أثناء توسعة القصر الملكي المجاور له، وقيل إن مسحه تم قبل هذا التاريخ.
لكن من هو الحاجب الذي حمل الحي اسمه؟
ارتبط هذا الحي بالحاجب الملكي التهامي اعبابو الذي كان صاحب فكرة مشروع أريد له أن ينشأ بمحاذاة مع القصر الملكي، ابتداء من سنة 1924، بناء على تعليمات من صاحبه الحاجب الملكي للسلطان المولى يوسف.
يتحدث الباحثون في تاريخ الدار البيضاء، عن هذا الحي بكثير من الحذر، خاصة وأن درب الحاجب سرعان ما تم مسحه من خريطة المدينة بعد أن صرفت في بنائه أموال طائلة، ويرى البعض، وعلى رأسهم هاشم المعروفي في «عبير الزهور» أن هدم الحي قد تم بعد وفاة السلطان المولى يوسف ومصادرة ثروة حاجبه مالك الحي التهامي عبابو، في إطار تصفية حسابات «بسبب مواقفه العدائية تجاه الإقامة العامة الفرنسية» وهو مبرر نجد نقيضه في كتابات «كولونيالية» تصر على أن محمد الخامس قد قرر فور تعيينه سلطانا على المغرب إلى إبعاد الحاجب اعبابو الذي كان المد والجزر يميز علاقتهما، بل إن مصادر أخرى قالت إن الحاجب كان يرفض جلوس المغفور له محمد الخامس على العرش ويساير أطروحة المولى إدريس. بينما يرى البعض أن الإجهاز على حي الحاجب كانت الغاية منه توسعة القصر الملكي في عهد الملك الراحل الحسن الثاني.
بالعودة إلى بناء الحي، يتبين أن القطعة الأرضية التي بني عليها درب الحاجب هي هبة من يهودي يدعى بن موشي بن دحان، وتبلغ مساحتها حوالي 41.600 متر مربع، كانت عبارة عن بستان للخضراوات يدعى «بحاير لكرازم». وهبها اليهودي للسلطان مولاي يوسف تقربا منه كما تجمع كل الروايات، ورغبة في تقديم صورة أخرى عن اليهود الذين كانوا يخشون دسائس محيط القصر ضدهم.
ولد اليهودي بن موشي في الجزائر واشتغل طويلا مع السلطات الاستعمارية الفرنسية في الجارة الشرقية، قبل أن يتلقى إشارة للاستثمار في المغرب حيث التحق بالدار البيضاء مع بداية عهد الحماية، وشرع في بناء منشآت صناعية لها علاقة وطيدة بالتسويق فانتعشت ثروته من ميناء الدار البيضاء وكبر رقم معاملات شركته «موزيس» وأصبح من كبار الملاكين في الدار البيضاء وأول منعش عقاري في المملكة.
يقول الدكتور محمد نجيدي الباحث في التاريخ، إن صعوبات عديدة قد واجهت التجمع السكني الذي ارتبط باسم اعبابو، خاصة في بداية الأشغال «تميزت الانطلاقة بعثرات أملتها الظروف العامة التي مرت بها المناقصات التي انطلقت منها ومن طلب العروض والمبالغ المالية المخصصة لدار نقاش بين «لمعلمين» الذين قاطعوا المشروع، وكان المعلم عبد السلام حجي السلاوي، الوحيد الذي حضر هذه المناقصة حيث تم منحه بعض المقترحات والأفكار التي دفعت به إلى رفض المشروع والتردد في مواكبته والاشتغال عليه، وكيف تراجع عن عملية الرفض هذه، والقبول أخيرا بإنجاز المشروع بسومة مالية حددت في 180 ألف فرنك فرنسي.
أشرف المهندس المعماري الشهير أندري بروست على مخطط الحي، وبناه بشكل يراعي خصوصيات وتقاليد المغاربة، كما قام السلطان بـ «تحبيس» الأرض التي بني عليها هذا الحي الذي يختلف كثيرا عن أحياء المدينة القديمة والمدينة الأوربية، بل إنه بني على شكل دفعات بلغت 20 دفعة، وتعايشت في دروبه فئات اجتماعية قاسمها المشترك البساطة والتمسك بالدين الإسلامي، لذا حرص اعبابو على تفقد أشغال أول مسجد في درب السلطان يحمل اسمه ولازال إلى الآن صامدا.
كانت نقطة التحول الحقيقية في هذا الحي «السلطاني» هي وفاة مولاي يوسف، وما ترتب عنها من مواجع للحاجب السلطاني التهامي اعبابو، فحسب «عهد السلطان مولاي يوسف» لزين العابدين العلوي، فإن سنة 1927 قد أجهزت على الحاجب السلطاني وحولته من صاحب صولة إلى مدان.