جاء في كتاب القاضي الدمناتي، الذي عاصر المولى الحسن الأول، الذي وُلد سنة 1836، إنه تمنى في احتفال ديني بعيد المولد داخل القصر الملكي، حيث كان يستقبل العشرات من قضاة وعلماء القرويين المقربين منه، لو أنه أصبح واحدا من خريجي القرويين ومن جامعي الأحاديث النبوية.
قرنا بعد أمنية الحسن الأول، حسب ما رواه الجيل الأول لمؤسسي نسخة الإذاعة المغربية خلال الخمسينيات، وأولهم محمد بن ددوش، فإن الملك الراحل محمد الخامس كان خلال منتصف الخمسينيات يفاجئ العاملين في الإذاعة بشكل متكرر بتفقد أروقة مبنى الإذاعة ويحضر رفقة بناته أحيانا، وأحيانا بمعية الأميرة لالة أمينة، لكي يتابع إلقاء نشرة الأخبار وما يجري في استوديو الإذاعة. لقد كان شغفه بـ «الأثير» واضحا، ولا يحتاج إلى شرح.
أما المولى عبد الحفيظ رغب في امتلاك حديقته الخاصة وحرص على جلب النادر من الحيوانات إليها لإبهار ضيوفه ووزرائه. وهكذا كان النمر الهندي حدثا مهما داخل القصر الملكي بفاس في تلك السنة، حتى أن بعض الضيوف الأجانب حاولوا رسم صورة له، نُشرت لاحقا على صفحات جريدة «التايمز»، ونقل مراسلها في الأشهر الأولى لوصول المولى عبد الحفيظ إلى الحكم بعض مشاهد وصول فريق من الأسود الإفريقية إلى المغرب بطلب من السلطان الذي انتشر خبر عزمه جمع الحيوانات الضارية والمفترسة، في حديقة خاصة، ووصل إلى كل الأرجاء.
كان هذا فقط بعضا من الأمنيات المؤجلة للملوك..
الملك محمد السادس.. حلم بالطيران ولم يتردد في الإعجاب بصورة له فوق الفرس
عندما كان الملك محمد السادس تلميذا في المدرسة المولوية، كان فريق صحفي ألماني مهمته إنجاز فيلم عن حياة الأمير، الابن البكر للملك الراحل الحسن الثاني، ينقل جوانب يومية من حياة الأمير وكيف يتم إعداده لمهنة «الملك».
يومها تمنى الملك محمد السادس أن يصبح «طيارا». هذه الأمنية العفوية التي نطق بها ولي العهد بكل تلقائية ردا على السؤال الشهير الذي يوجّه عادة للتلاميذ، كانت تعكس فعلا أمنية حقيقية للملك محمد السادس وهو في سن الطفولة المبكرة.
لكن قبل أن يحلم بالطيران، حقق أولا حلمه في ركوب الخيل، بحرص مولوي مباشر من الملك الحسن الثاني الذي أمر وجنّد كل مدرسي ولي العهد لضرورة إتقان الأمير لرياضة ركوب الخيل والسباحة منذ سنوات طفولته الأولى. لقد كان الملك الحسن الثاني، بالإضافة إلى حرصه على تحديث أساليب تربية أبنائه واستقدام مربيات أجنبيات لهذا الغرض، حريصا أيضا على ألا تضيع بعض التقاليد المخزنية المرعية وأولها ركوب الخيل وتدريس اللغة العربية. وهي كلها محطات رصدتها كل وسائل الإعلام الغربية التي سمح لها الملك الراحل الحسن الثاني بدخول القصر الملكي لتصوير الحياة اليومية للملك أو لمواكبة كواليس صناعة «ولي العهد» المغربي خلال بداية سبعينيات القرن الماضي.
حُلم الملك محمد السادس إذن أن يصبح «طيارا» كان عليه أن يتأجل، لأن صناعة الملوك لا تمر بالضرورة عبر مدارس تعليم الطيران. هذا الحلم الملكي الذي تمناه الأمير الصغير، لا شك أنه سينضاف إلى قائمة الأحلام والأمنيات التي تمناها ملوك الدولة العلوية، وحال بينهم وبينها صخب الإعداد لمهنة «الملك».
أما شغف الملك محمد السادس بالخيول فقد بدا واضحا في زيارة مؤخرا لمعرض للخيول، حيث فاجأ الملك محمد السادس الحاضرين أثناء مروره برواق لصور تعرض أنواع الخيول العربية، واتجه إلى الجدار حيث تعرض الصور والتفت إلى مرافقيه مستفسرا عن صورة له وهو في سن الطفولة، يمتطي صهوة جواد أصيل يقفز على الحواجز.
من الحسن الثاني إلى المولى إسماعيل.. ماذا تمنى الملوك؟
كان للمولى الحسن الأول ابن اسمه مولاي محمد، على اسم جده محمد الرابع. هذا الأمير كان حلمه أن يصبح عالما كبيرا، وتقول بعض المراجع التاريخية إن المولى الحسن الأول جنّد له أشهر علماء القرويين وقضاتها، لكي يكونوا مدرسيه، لكن الأمير حلم دائما بالهجرة شرقا لكي ينهل من العلوم في جامعة الأزهر الشريف، ولكي يلتقي الذين أخذوا الحديث من مصادره في الجامع النبوي بالمدينة.
لم يستبعد بعض المؤرخين المعاصرين، وأبرزهم الراحل عبد الهادي التازي، أن يكون مولاي محمد قد برع في التأليف، رغم أنه لا توجد اليوم أي كتب معروفة باسمه، ومن المحتمل أنها قد ضاعت بسبب الأحداث التي عرفها المغرب بعد وفاة المولى الحسن الأول. لكن المؤكد أن هذا الأمير، اختفت سيرته في ظروف غامضة خصوصا وأن هناك فريقا من علماء القرويين ناصروه لكي يكون خليفة للمولى الحسن الأول، بعد خروج أخيه الأصغر المولى عبد العزيز من فاس. كانت مواقف هذا الأمير من الوجود الأجنبي في المغرب واضحة، إذ كان من الفريق الذي دعا إلى محاربة «النصارى» وعدم السماح بوجودهم في المغرب، وهو الخطاب الذي كان يدافع عنه علماء القرويين ويزكون أي فريق سياسي يناصر هذا الاتجاه حتى لو كان من خارج القصر. وقد يكون هذا الطرح هو الذي أنهى سيرة الأمير من المراجع الرسمية، رغم أنه كان مرشحا بقوة لخلافة والده في قصر فاس.
تمنى أن يكون عالما كبيرا، لكن الأمنية لم تتحقق رغم دعم والده له.
الملك الراحل الحسن الثاني تمنى بدوره أمنيات كثيرة، لكن الحياة السياسية التي سرقته مبكرا والمصاعب التي كانت تمر بها البلاد، جعلته ينهمك في أصعب مهنة على الإطلاق ويتخلى عن أمنياته الكثيرة التي برزت في مناسبات متفرقة. فقد كان شغفه بجوانب كثيرة من الحياة واضحا في اللقاءات المسجلة التي جمعته بأشهر الصحفيين العالميين ولا شك أنه اضطر في محطات كثيرة من حياته إلى التخلي عن أمنياته لكي يتفرغ للسياسة وصرامة البروتوكول والأحداث السياسية التي مر بها المغرب، خصوصا وأن الوفاة غير المتوقعة لوالده الملك الراحل محمد الخامس سنة 1961، جعلته يتخلى عن العديد من الترتيبات وينشغل بملفات الانتقال الجديد في بلد حصل لتوه على الاستقلال.
كانت للمولى محمد الرابع أمنية تتعلق بإتقان علم الفلك، لكنه بدل أن يصير فلكيا ومنجما، صار سلطانا عليه أن يتخذ القرارات ويضمن استقرار المملكة، لكنه ترك للفلكيين مكانا كبيرا في قلبه حتى أنه ساعد على تدوين بعض كتب علم الفلك ونسخها حتى لا يضيع العلم الذي تحتويه بالتقادم.
أما المولى يوسف فقد حلم بقيادة السيارات، لكن مهنة «السلطان» حالت دونه ودون تعلم قيادة السيارات حتى أن الفرنسيين وظفوا له من يقود السيارة التي كانت تحت تصرفه أثناء تنقلاته في الرباط. بعكس ابنه المولى يوسف، الذي ركب القطار في رحلة افتتاحية بين فاس والرباط، لكنه لم يتخل عن تحقيق رغبته في تعلم قيادة السيارات، ليشاهده المغاربة كأول سلطان مغربي يقود سيارته بنفسه بعيدا عن البروتوكول.
ربما كانت أمنيات كثيرة سرية رحلت مع سلاطين وملوك في الدولة العلوية لم يفصحوا عنها للعامة، ولم يسمعهم أحد ينطقون بها، وماتت معهم، دون حتى أن تتحقق.
من بين أمنيات المولى إسماعيل مثلا، أن يصير عالما، لكن مشاكل السلطة وانشغاله ببناء عاصمته مكناس، حالت دون تحصيل العلم والتفرغ له، لذلك نذر بعض أبنائه لكي يتفرغوا للعلم في جامعة القرويين وقرب منه العلماء، حتى أنه كان معروفا رغم صرامته في الحكم وعدم تسامحه مع التمردات القبلية وحرصه على استئصالها، إلا أنه كان يتواضع كثيرا أمام العلماء ويعلي مكانتهم عنده ويعود إليهم في كل صغيرة وكبيرة من شؤون الحكم، وكأنه بذلك يحقق جزءا من حلم «العالِمية» الذي تمناه. وبالتأكيد لم يكن هو الوحيد من بين ملوك الدولة العلوية الذين تمنوا أن يصيروا علماء.
السلطان الذي تمنى لو صار مُصورا وجل صوره اختفت بعد رحيله
يستحق الابن الأصغر للمولى الحسن الأول، والذي تولى الحكم سنة 1894، لقب «السلطان المظلوم». فالسبب الذي أدى إلى الإطاحة به، لم يكن مُحرما على خليفته. والذين أطاحوا به واتهموه بـ «صداقة النصارى»، تحالفوا مع فرنسا سنة 1914، بل وشاركوا معها في الحرب ضد القبائل المتمردة.
المولى عبد العزيز، الذي نُسجت حوله الحكايات بحكم حداثة سنه عندما تقلد السلطة، كان يهوى التصوير، ولم يتمالك نفسه عندما رأى الكاميرا لأول مرة ورأى كيف يتم استخراج الصور التي التقطت له داخل القصر الملكي بفاس. وهكذا حصل على الكاميرا الأولى الخاصة به وشرع في التقاط الصور لنساء القصر وأفراد العائلة ووضع لها إطارات وُزعت على مختلف غرف القصر. هذا على الأقل ما أورده صديقه الصحفي هاريس صاحب «المغرب المنقرض»، وأشار إليه أيضا «أرنو» صاحب «المحلات السلطانية». فالأول عاش مع المولى عبد العزيز سنوات كوّن خلالها صورة واضحة عن الشخصية الحداثية للسلطان الشاب الذي كان مختلفا تماما، وهذا أمر طبيعي، في أفكاره عن بقية خُدام المخزن الذين ورثهم عن والده. الانتهازيون منهم بحثوا لأنفسهم عن صفقات مربحة مع الإنجليز، ومنهم من حصلوا على الجواز الأجنبي وأطلق عليهم اسم «المحميين». بينما فريق الذين مارسوا المغالاة، ذهبوا في اتجاه الضغط على علماء القرويين الذين استجابوا لهم بكل سلاسة ما بين سنوات 1902 و1905، وأصدروا فتاوى بتحريم التقاط الصور وتحريم ركوب السيارات، وهي كلها هوايات مارسها المولى عبد العزيز بشغف باقتراح من زواره الأجانب الذين كانوا يأتون إليه من مختلف القنصليات التي تم بناؤها في مدينة طنجة.
كان المولى عبد العزيز يحب التقاط صور للجالسين أثناء شرب القهوة في رحاب القصر الملكي. وللقهوة أيضا قصة أخرى. فقد صدرت فتوى بتحريم شربها وأيضا بتحريم شرب الشاي، وكانت العلة التي اعتمدها العلماء، أن تلك الجلسات مضيعة للوقت وتلهي عن الصلاة والعبادات نظرا للوقت الطويل الذي يستغرقه إعداد الشاي. قبل أن تتغير الأمور لاحقا بعد أن زالت عنها «غشاوة» السياسة، ويصبح الشاي المشروب الأكثر شعبية في المغرب!
أما التصوير فقد كان «تسامح» المتشددين المغاربة معه، يحتاج وقتا أطول من الفترة التي لبثها المولى عبد العزيز في الحكم، والتي لم تكن كافية نهائيا لكي يمارس الرجل أية إصلاحات بقدر ما «ضاعت» في محاولات فهم ما يحتاجه المغرب.
صور المولى عبد العزيز التي التقطها لأفراد أسرته ونسائه وحتى ضيوفه وبعض وزرائه المقربين، ضاعت كلها تقريبا في الرحيل المستعجل الذي قام به من القصر عندما علم أن أخاه عبد الحفيظ وأنصاره قادمون إلى فاس للإطاحة به. وحسب ما جاء في مذكرات القنصل الأمريكي في طنجة، السيد «هولت»، في نفس الفترة، فإن المولى عبد العزيز استقر مؤقتا في طنجة إلى أن رتب أموره لكي يغادر المغرب، وكان حزينا جدا للمصير الذي آلت إليه الأوضاع، خصوصا عندما علم أن الذين أطاحوا به كانوا في الحقيقة يرغبون في السلطة، ولم تكن لهم مواقف واضحة لا من الإنجليز ولا من «الحماية».
لعل أطرف ما ارتبط بهواية المولى عبد العزيز والتي تتمثل في استعمال آلة التصوير، أنه كان يلتقط صورا كثيرة لضيوفه وزوجاتهم، وكان هؤلاء الأجانب الذين مثلوا نخبة البرجوازية الأوربية، يعرضون على المولى عبد العزيز أن تلتقط زوجاتهم وبناتهم صورا تذكارية معه. وهكذا كانت نساء القصر يقمن بقلب الصور الموضوعة في جنبات غرف حريم القصر الملكي، تعبيرا على غيرتهن من تحرر الأوربيات ولباسهن، في الوقت الذي كانت فيه الصور الملتقطة لحريم القصر تُخفى بعناية احتراما للتقاليد المرعية.
الأمنيات المؤجلة للسلطان الغامض.. هل رغب الحسن الأول في امتلاك سيارة؟
العام الماضي، تداولت بعض وسائل الإعلام وثيقة لم تتبين صحتها، مفادها أن المولى الحسن الأول، الذي توفي سنة 1894 فوق صهوة جواده أثناء إحدى تنقلاته الملكية، كان يرغب في اقتناء سيارة «مرسيدس» من الشركة المصنعة. لم يُشر أي مؤرخ مغربي إلى امتلاك السلطان المولى الحسن الأول لأي سيارة من أي نوع، وأول من تحدث عن امتلاك العائلة الملكية للسيارات هم مؤرخو الدولة في العهد العزيزي، خصوصا بعد سنة 1907، عندما بادر الإنجليز إلى إدخال السيارات إلى داخل المغرب ووصلوا بها إلى فاس أثناء إحدى الزيارات إلى المولى عبد العزيز، الذي حاول بدوره تعلم قيادتها. وهناك مقالات في الصحافة البريطانية تقول إن المولى عبد العزيز تعلم قيادة السيارة والدراجة الهوائية في نفس السنة تقريبا.
ولو أن والده المولى الحسن الأول الذي توفي سنة 1894، حصل على سيارة حقيقية لتم تدوين الحدث وخصص له المؤرخون وكتاب الوزراء حيزا في كتاباتهم. فهل تمنى المولى الحسن الأول امتلاك سيارة؟
امتلك المولى الحسن الأول عربة ملكية كانت تعود إلى فترة حكم المولى إسماعيل. وهذه العربة تم تجديدها في أواخر القرن 18 على يد جد السلطان الحسن الأول الذي طلب من الحكومة البريطانية استرداد العربة الملكية التي أهديت للقصر وإصلاح عجلاتها أو إرسال من يتكلف بذلك في المغرب، وعندما تأخر رد الإنجليز قلق محمد الرابع كثيرا. وربما كانت تلك العربة المجرورة الوحيدة التي علم بشأنها المولى الحسن الأول. أما السيارات التي كانت تمثل وقتها ثورة حقيقية في عالم المواصلات فلم يكن المولى الحسن الأول يعلم عنها أكثر مما يكتبه له سفراؤه بعد عودتهم من مهامهم الدبلوماسية إلى الخارج. فقد كتبوا له عن تقدم المواصلات ووسائل الاتصال، وكان موضوع تلك السفريات «العجيبة» يطغى على محادثات السلطان ومستشاريه لأسابيع متواصلة. لكن البلاد كلها لم تكن ترحب بوجود مثل تلك «المظاهر الأوربية» في المغرب.
جاء في كتاب القاضي الدمناتي، الذي عاصر المولى الحسن الأول، إنه تمنى في احتفال ديني بعيد المولد داخل القصر الملكي، حيث كان يستقبل العشرات من قضاة وعلماء القرويين المقربين منه، لو أنه أصبح واحدا من خريجي القرويين ومن جامعي الأحاديث النبوية.
الذين سمعوا منه تلك الأمنية وقتها، كانوا يعرفون أن الرجل يقصد أنه يتحسر على عدم إتمام دراسته في القرويين وتفرغه لشؤون الدولة مبكرا. فالمولى الحسن الأول درس رفقة إخوته على يد نخبة من علماء القرويين بتوصية صارمة من والده الذي أباح لعلماء القرويين ضرب أبنائه وتعنيفهم وعدم التساهل معهم لضمان حفظهم التام للقرآن الكريم والأحاديث النبوية. هؤلاء العلماء الذين أشعلوا في نفس السلطان الحماس لكي يترقى في درجات العلوم الشرعية ويصل إلى درجة العالِمية التي كانت أرقى درجات العلم في القرويين.
محمد الخامس تمنى «التقاعد» وعشق الإذاعة
حسب ما رواه الجيل الأول لمؤسسي نسخة الإذاعة المغربية خلال الخمسينيات، وأولهم محمد بن ددوش فإن الملك الراحل محمد الخامس كان خلال منتصف الخمسينيات يفاجئ العاملين في الإذاعة بشكل متكرر بتفقد أروقة مبنى الإذاعة ويحضر رفقة بناته أحيانا، وأحيانا بمعية الأميرة لالة أمينة، لكي يتابع إلقاء نشرة الأخبار وما يجري في استوديو الإذاعة. لقد كان شغفه بـ «الأثير» واضحا، ولا يحتاج إلى شرح.
فحتى عندما أوشكت محنة المنفى أن تنتهي بالنسبة إليه سنة 1955، التقى في باريس بعدد من الأعيان المغاربة والوطنيين أيضا، وكان واضحا أن الملك الراحل كان على علم بما وقع خلال فترة غيابه عن المغرب، وأكد للذين استضافهم أنه كان «يلصق أذنه بالمذياع طوال اليوم لالتقاط أخبار البلاد أولا بأول». خصوصا وأن إذاعة صوت القاهرة كانت تخصص في فترة نفي الملك محمد الخامس أخبارا متواصلة لمتابعة ما يجري في المغرب من تحولات سياسية وتمنح الكلمة للمنفيين وعلى رأسهم علال الفاسي الذي كان مقيما في القاهرة خلال فترة إجهاز الحماية الفرنسية على رموز الحركة الوطنية الرافضة للوجود الفرنسي في المغرب.
وهكذا أصبح الراديو رفيقا دائما للملك الراحل محمد الخامس، ولم تنجح السينما بصورها الساحرة في سرقة اهتمام الملك الراحل الذي ظل وفيا للإذاعة بل ويحل بها بشكل منتظم حتى أن وجوده بها صار من المواعيد التي ينتظرها العاملون في الإذاعة بشكل دائم، وهو الأمر الذي أكده بن دووش في مذكراته المثيرة «رحلتي مع المايكروفون».
أما في ما يخص أمنية الملك الراحل محمد الخامس في التقاعد، فتعود إلى نهاية الخمسينيات، عندما أصبحت الأزمات السياسية غير خفية، خصوصا مع العجز في خلق التوافق بين تيار القصر وتيار الحركة الوطنية التي هيمن عليها حزب الاستقلال بشكل واضح. حتى أن الملك الراحل محمد الخامس كان يجمع الاستقلاليين وبعض وزراء الحكومة الأولى لسنة 1956، ويطلب منهم إعمال العقل وخلق توافق يمكن من خلاله أن يطمئن على سير العمل الحكومي، إلا أن كل تلك المساعي كان مصيرها الفشل، حتى مع حكومة الطريس الذي كان مقربا من الملك الراحل محمد الخامس وينقل إليه باستياء مضامين لقاءاته مع بنبركة وعلال الفاسي وعبد الله إبراهيم، والتي كانت تختلف تماما مع ما تتجه إليه الحكومة، وهكذا يكون مصيرها الانفجار في كل تجربة إلى أن قرر محمد الخامس أن يترأس الحكومة بنفسه، ثم أن يترأسها ولي العهد في مناسبتين لاحقتين، قبيل وفاة الملك محمد الخامس سنة 1961.
أما إفصاح الملك الراحل محمد الخامس عن نيته التقاعد، فتعود إلى سنة 1959، عندما عبّر عنها صراحة لبعض القياديين الذين كانوا في ضيافته بالقصر الملكي، خصوصا وأن الملك الراحل خلص إلى استحالة وجود توافق بين تيارات سياسية متناحرة ارتكبت اختطافات واغتيالات في ما بينها، خصوصا حزب الاستقلال. عندما سرى الخبر للمرة الأولى، ساد الاعتقاد بأن الأمر يتعلق بغضب ملكي على سوء الأوضاع السياسية بسبب الخلافات الدامية بين الأطراف السياسية، لكن سرعان ما تأكد أن الملك الراحل لم يكن يمزح، وإنما تمنى فعلا لو أنه ارتاح من تلك المشاكل كلها، خصوصا وأنه أعجب كثيرا بمنطقة سياحية في إيطاليا قضى بها العطلة الصيفية رفقة العائلة الملكية، وأسرّ لمقربيه أنه تمنى لو كان بإمكانه التقاعد بعيدا في ذلك المكان.
لكن مهنة «الملك» لم تكن تسمح في محطات كثيرة من حياة الملوك، بتحقيق بعض الأمنيات، مهما كانت بسيطة ومُسالمة.
هذا هو السلطان الذي تمنى لو امتلك «حديقة حيوان»
يتعلق الأمر هنا بالمولى عبد الحفيظ. كانت أمنيته في امتلاك حديقة حيوانات خاصة به، غير خفية على جل زواره من القناصلة والدبلوماسيين الأجانب. حتى أن بعضهم، خصوصا القنصل البريطاني، عرض عليه هدية تتمثل في نمر هندي أرسل في طلبه خصيصا من بعض أصدقائه الدبلوماسيين في الهند سنة 1909 وقاموا فعلا بإرسال النمر إلى ميناء الدار البيضاء ومنها نُقل إلى فاس ليجد عمال القصر قد شيدوا مكانا مناسبا لقفصه.
لم يكن ذلك الحيوان الضاري الوحيد الذي حصل عليه المولى عبد الحفيظ، فقد كان يتوفر أيضا على الأسود الأطلسية التي أهداها صيادون محترفون من سكان الأطلس، للقصر الملكي في زيارات سابقة لسلاطين الدولة العلوية إلى تلك المناطق.
لكن المولى عبد الحفيظ رغب في امتلاك حديقته الخاصة وحرص على جلب النادر من الحيوانات إليها لإبهار ضيوفه ووزرائه. وهكذا كان النمر الهندي حدثا مهما داخل القصر الملكي بفاس في تلك السنة، حتى أن بعض الضيوف الأجانب حاولوا رسم صورة له، نُشرت لاحقا على صفحات جريدة التايمز، ونقل مراسلها في الأشهر الأولى لوصول المولى عبد الحفيظ إلى الحكم بعض مشاهد وصول فريق من الأسود الافريقية إلى المغرب بطلب من السلطان الذي انتشر خبر عزمه جمع الحيوانات الضارية والمفترسة، في حديقة خاصة، ووصل إلى كل الأرجاء.
وما أكد الأمنية المؤجلة للمولى عبد الحفيظ والتي لم تتحقق في الأخير بسبب قصر المدة التي قضاها في الحكم قبل أن يعتزله سنة 1912، ويترك المجال لأخيه المولى يوسف، ما جاء في صحيفة التايمز سنة 1909، حيث نشرت مضمون لقاء مع مفوض ألماني ومراسل التايمز الذي نشر تلك المذكرات لاحقا تحت عنوان «خلف الكواليس»، جاء في المقال:
«كان أول ما تحدث فيه السلطان مع المفوض الألماني، أحداث 25 شتنبر، عندما حمت القوات الألمانية الجنود الفرنسيين بالدار البيضاء.
سوف يدخلون في حرب بهذا الخصوص، أنا متأكد. لقد قيل لي من مصادر مؤكدة أن الألمانيين أقوى من فرنسا، جيوشها أكبر وأفضل ولا شك أنها ستربح». لم أعلق بأي ملاحظة على كلام السلطان.
بعد أن أنهى كلامه توجه إليّ بالكلام: «الآن تعال معي سأريك القصر». قمنا بجولة في القصر ورأينا حدائقه التي تزيده اتساعا. بحماية الحاجب وأحد المساعدين، قمنا بجولة في الغرف الخالية من أي أثاث. كان أرضية الغرف مزينة بزليج رائع. فيما كانت الجدران بيضاء بصباغة نقية، وعليها نقوش فاسية تميل إلى الزرقة.
اصطحبني السلطان من داخل الغرف لندلف إلى حدائق القصر. بشكل مفاجئ وجدتني في مكان أقرب إلى الأدغال. رأيت أمامي أقفاص سباع ونمور شبيهة بتلك التي في الحديقة العامة بلندن. كانت من أجمل السباع والنمور التي رأيتها في حياتي. كانت تلك المخلوقات تحظى بكثير من الرعاية.
كان مولاي حفيظ سعيدا بالتجول أمام الأقفاص كأي طفل صغير. سألني السلطان عن رأيي في تلك الحيوانات الضارية، فأجبت بأنها مخلوقات أكبر من أن توضع في حديقة القصر، قال لي السلطان: «انتظر وسأريك شيئا مهما». أعطى أوامره للحاجب بإشارة بسيطة من يده، فجاء على الفور بكبش سمين. اعتقدت في البداية أنهم سوف يذبحون الكبش قبل تقديمه لتلك للسباع والنمور، لكن شيئا من ذلك لم يقع. أخذوا الكبش الوديع وأدخلوه حيا إلى القفص، كان المنظر مروعا، إذا تقافزت عليه النمور والسباع لتمزقه، بينما كان الكبش يتألم. أدرت رأسي جانبا لأنني عجزت عن متابعة المنظر، ولمحت مولاي حفيظ في قمة سعادته.. كان يستمتع برؤية الكبش يمزق بمخالب تلك الضواري».