لا يمكن أن نلغي في جميع علاقات المصاهرة وجود الجانب البراغماتي، ففي كل القرابات هناك دوافع ليست بالضرورة مادية، ولكن ضرورة المصلحة حاضرة بشكل أو بآخر. لذلك حرص السلاطين على مصاهرة عائلات أمازيغية أو عربية أو أجنبية للضرورة السياسية والاجتماعية، بل إن بعض السلاطين رصوا صفوف شمال إفريقيا بمصاهرات ذوبت جليد الخلاف وحولت الخصوم إلى أصهار.
لكن زواج الأمراء لم يخرج عن نطاقه الديني، حيث إن هذه الروابط ظلت «خاضعة في عمقها للبنية الأبوية للنظام»، على حد قول عالم الاجتماع المغربي، علي بنحدو، في كتابين يفككان تاريخ الروابط العائلية في علاقتها مع السلطة، وهما: «نخب المملكة» و«نخب السلاطين».
ويبدو أن زواج الأمير الراحل مولاي عبد الله شكل نموذجا لحضور السلطة الأبوية بكل تجلياتها في الحدث السعيد، إذ إن تأشيرتها كانت ضرورية لاكتمال مصاهرة ساهمت في كتابة تاريخ العلاقات المغربية اللبنانية.
وإذا كان السلطان سليمان قد تمرد على الأعراف السائدة، واختار مصاهرة عابرة للحدود بإصراره على طلب يد أميرة ليبية، فإن ما قيل حول هذا الزواج الأسطوري وما كتبه المؤرخون يؤكد أن المصاهرة تجاوزت عقد نكاح بين عريس وعروس، إلى مصاهرة سياسية غيرت مجرى العلاقات المغربية الليبية، وجعلت من آصرة الدم عنوانا لمعاملات جديدة في ما يشبه اتفاقية تعاون مشترك غير مكتوبة.
لكن ككل مصاهرة، هناك فيتو قد يصادر رغبة القلوب والنوايا، كما حصل في عهد صاحب الرقم القياسي العالمي في عدد الزوجات السلطان المولى إسماعيل، الذي لم يكن يعتقد أن ابنة إمبراطور فرنسا لويس الرابع عشر سترفض الانضمام إلى جيش حريم السلطان، وتقول لا في وجه سفير تحول إلى خاطب.
لالة رقية زوجة السلطان مولاي الحسن.. شركسية اخترقت قلبه ودائرة قراره
يسلط الباحث الفرنسي الفرنسي «هنري دو لامارتينيير» الضوء عن علاقة المصاهرة التي ربطت سلاطين المغرب بعائلات أوربية، مركزا على الحقبة الزمنية الممتدة بين سنتي 1882 و1902. كان «هنري» يعيش في مدينة طنجة واشتغل مع الهيئة الديبلوماسية الفرنسية، وظل يتابع على امتداد ثلاثة عقود قضاها في عاصمة البوغاز، لذا أكد في أكثر من تقرير بأن «السلاطين المغاربة كانوا ميالين دوما للأجنبيات، قصد خلق جو من التغيير في متعهم». يقول هنري، لكن فضول بعض الأوربيات وكذا سوء تصرفهن حملهن إلى دخول عالم حريم السلطان، فلم يخرجن منه أبدا.
لم يكن أحد من محيط السلطان الحسن الأول، يعتقد أن زوجته لالة رقية، والدة المولى عبد العزيز، ستحمل لقب «الأم العزيزة»، خاصة وأنها من أصول شركسية جيء بها إلى القصر كجارية من إسطنبول، بعد أن اشتراها بثمن باهظ، قبل أن تتبوأ صدارة الحريم السلطاني، بعد أن تمكنت من الظفر بقلب مولاي الحسن بسبب جمالها الفاتن، وكان السلطان مولاي الحسن في السنوات الأولى من حياته مغرما بها، حسب «غابرييل فير»، الذي اعتبرها «المرأة المفضلة عنده على سائر نسائه»، وقيل إنها كانت عازفة ماهرة تدغدغ كيانه كل مساء.
خلافا لكثير من حريم سلاطين الدولة، فإن «كوطة» لالة رقية ارتفعت بعد أن أصبحت أرملة إثر الوفاة المفاجئة للحسن الأول عام 1894، إذ تواطأت لالة رقية مع الصدر الأعظم باحماد، لتعيين ابنها عبد العزيز سلطانا مع أن سنه كانت 16 عاما فقط، وأبعد أخاه الأكبر محمد بالمقابل. «وبينما كان السلطان الطفل يلهو في القصر، كانت أمه تسير البلد على هواها. وعندما بلغ عبد العزيز سن الرشد ظل يستشير أمه في كل قراراته. وكانت هي تعين وتقيل من ترضى أو لا ترضى عنه، حتى أنها عينت المهدي المنبهي وزيرا للحربية، هو الذي كان مجرد «مخازني» في عهد زوجها الحسن الأول». كما أورد الباحث أحمد حمزة في بحث قدمه أحمد فردوس. بينما وصف الباحث إدريس منو، أن لالة رقية بـ«سويداء قلب الحسن الأول».
يروي مؤلف كتاب «في صحبة السلطان» حكايات عن هيمنة الشركسية التي قطعت صلتها بمسقط رأسها، وأن كثيرا من القواد الذين شعروا بغضب السلطان منهم يلجؤون إلى لالة رقية للتوسط لهم قصد إخماد لهيب القلق، بعد أن تتوصل منهم بهدايا رفيعة يحضر فيها الذهب والزرابي والأثواب.
وحسب المؤرخ سالم العبدي، فقد «شكلت لالة رقية بما عرف عنها من كرم وعفاف وحظوة عند السلطان، ملاذا للمتوكي وأهله الذين هرعوا إليها للتشفع لهم». كما كان الحاجب باحماد يستشيرها في كل كبيرة وصغيرة.
شهرزاد.. إيرلندية حجزت مساحة حب في قلب السلطان محمد بن عبد الله
تبقى شهرزاد من بين الأوربيات اللواتي كانت لهن مساحة في قلب السلطان سيدي محمد بن عبد الله. فتاة إيرلندية جميلة، هي إحدى النسوة السبع اللائي تزوج بهن. وقد أنجبت له ولدين هما المولى سلامة والسلطان المولى اليزيد، وتفيد بعض الوثائق أن والد شهرزاد كان إيرلنديا يعمل في جيش السلطان سيدي محمد بن عبد الله.
وذهبت بعض الروايات إلى أن والد شهرزاد كان من بين أسرى السلطان، بينما جاء ذكرها في «تاريخ الضعيف» من خلال صراع جمعها بالمولى سليمان. «دافعت شهرزاد عن ولدها فقال لها مولاي سليمان «أنت برغازة»، بعد أن طالبت بمفارقته وحق الشرع، فأمرها بالخروج من القصر، فأجابته قائلة: «أنت ستخرج أما أنا فساكنة في دار ولدي اليزيد».
وحسب الباحث الفرنسي هنري فقد كانت من بين «محظيات» السلطان سيدي محمد بن عبد الله امرأة من كورسيكا تدعى «فرانسيشيني»، قيل إن أصولها إيطالية تم جلبها للسلطان إثر غرق سفينة في عرض السواحل المغربية وهي طفلة وحين أصبحت يافعة أسلمت، ولشدة حبه لها سمح بشكل استثنائي لطبيب إيطالي بعلاجها، وذلك في القرن الثامن عشر، حيث يمنع الاقتراب من فضاء الحريم السلطاني.
زينب النفزاوية.. طرابلسية أصبحت زوجة الملوك الأربعة
تستحق زينب تانفزاويت، أو النفزاوية كما تسميها كتب التاريخ، أن نتوقف عندها قليلا لما تحمله من دلالات الزواج «البراغماتي» في كل تجلياته، فهذه الأميرة حطمت رقما قياسيا وطنيا، بل وقلبت مقولة «الشرع اعطانا أربعة» وفسرتها على نحو آخر أباح لها الزواج بأربعة رجال، بل أربعة ملوك.
يقول محمد زنيبر في كتابه «عروس أغمات» إن الأميرة زينب بنت إسحاق النفزاوية التي ولدت عام 1072 ميلادي تنحدر من قبيلة نفزة، المحسوبين على أمازيغ طرابلس الغرب، زوجها والدها لأحد حكام أغمات حين كان عائدا من الديار المقدسة، بعد أداء فريضة الحج وتوقفه في طرابلس، «فانتقلت معه إلى أغمات، وبعد وفاته أصبحت زوجة أمير أغمات لقوط بن يوسف، وتزوجت بعده بالأمير أبي بكر بن عمر. كانت بارعة الجمال والحسن، وكانت مع ذلك حازمة لبيبة ذات عقل رصين ورأي متين ومعرفة بإدارة الأمور، حتى كان يقال لها الساحرة».
ولأن زينب لم تعد في حاجة إلى وصاية ولي أمر يحدد مصيرها لما حققته من استقلال في شخصيتها وانفصال تام عن قبيلتها نفزة، وما وصلت إليه من قدرة على منازعة زوجها في كثير من أمور الحكم، بل كانت المشرفة على بناء قصرها في مدينة مراكش التي كانت في طور البناء، وهي آنذاك في عهدة أبي بكر بن عمر، قبل أن تصبح زوجة لابن عمه يوسف بن تاشفين سنة 1106 ميلادية وعمرها 34 سنة، مما مكنها من حمل لقب «زوجة الملوك» التي لعبت دورا حاسما في كتابة تاريخ الدولة المرابطية، بفضل شخصيتها التي تجاوزت الجانب البروتوكولي إلى حضور دائم في مصدر القرار.
تعددت الروايات التي تناولت سيرة النفزاوية، لكنها أجمعت على قطع صلتها مع أهاليها في طرابلس الغرب، فيما اختلفت حول انفصالها عن أبي بكر بن عمر ابن عم يوسف بن تاشفين، إذ ذهب البعض إلى حصول طلاق بينهما، فيما قالت روايات أخرى إن زوجها أبو بكر قد انفصل عنها حين كان يستعد للذهاب إلى الجنوب قصد إخماد بعض الفتن، وقبل ركوب صهوة جواده استدعى ابن عمه يوسف وقال له: «لقد زوجتك زينب».
لكن الراجح هو أن زوجة الملوك «كان لها تأثير كبير في توجيه تلك الأحداث بنقل الإمارة والسلطة من أبي بكر بن عمر إلى ابن عمه يوسف بن تاشفين»، وساعدته على مواجهة الإسبان من أجل توحيد المسلمين.
إحباط مشروع مصاهرة بين مكناس وفيرساي
لم تتم كل زيجات السلاطين وفق طقوس خطبة وفاتحة ومهر وزفاف، أو بنظرة وابتسامة وموعد ولقاء، بل إن كتب التاريخ تتحدث عن زوجات تم اقتناؤهن لخدمة القصور، أو قدمن كهدايا «آدمية» للسلاطين.
لكن السلطان المولى إسماعيل، الذي حكم البلاد من سنة 1672 إلى 1727 ميلادية، شكل الاستثناء في تاريخ المغرب وربما في تاريخ البشرية، حين حطم كل الأرقام القياسية في تعدد الزوجات، إلى أن استعصى معرفة عدد أصهاره، بل إن الاستعصاء طال الأولاد والأحفاد الذين قدر عددهم بألف من الذكوروالإناث. كان ديوان السلطان يمسك سجلا خصص لتسجيل الولادات والوفيات، أي إنه خلق مصلحة قائمة الذات بالقصر السلطاني مهمتها الاهتمام بسلالة السلطان ليس فقط على مستوى عقود الازدياد، بل أيضا على مستوى إقامتهم وشؤون حياتهم، بعدما خصص لهم مائة منزل في سجلماسة، إضافة إلى أراض فلاحية وعبيد يسهرون على خدمتهم.
تجمع الكتابات التاريخية على أن عدد زوجات المولى إسماعيل بلغ 500، منهن التركية والإسبانية والإنجليزية والمغربية، وهو ما يستعصى معه إحصاء عدد أصهاره.
لكن بالرغم من مكانة الرجل وإصراره على تنظيم حفل زفاف مرة كل شهرين، إلا أن المصاهرة التي اصطدمت بقرار الفيتو هي التي ووجه فيها السلطان برفض صارم من طرف الإمبراطور الفرنسي الشهير «لويس» الرابع عشر، حينما تقدم المولى إسماعيل بطلب رسمي عبر فيه عن رغبته في الارتباط بابنة لويس، الأميرة الفرنسية «ماريا دو بوربان»، إلا أن الرفض كان الرد الأخير للقصر الإمبراطوري.
رغبة السلطان في الزواج من الأميرة تمت عبر قنوات ديبلوماسية، حين كلف السلطان سفيره ابن عائشة بنقل رغبته إلى «لويس» ويقال إن المبعوث افتتن بها هو الآخر، لكن الرفض القاطع كان جواب ماريا على كل المتيمين بها من عرب وعجم.
غضب السلطان من سفيره بعد أن عجز عن نيل موافقة الإمبراطور الفرنسي، وشعر المولى إسماعيل بجرح غائر أدخله في دوامة تفكير، سيما وأن فشل المصاهرة فوت عليه فرصة ضمان تعاون حليف استراتيجي، فاستغلت زوجته زيدانة الموقف وحاولت تعويض غضب السلطان بانفراج عاطفي يعيد لعقارب دماغ الرئيس إيقاعاتها.
كان الهدف الذي سطرته زيدانة، المرأة الأكثر قربا من المولى إسماعيل، هو تحقيق مكاسب سياسية لابنها زيدان، رغم أنها تقمصت دور رئيسة حريم السلطان، الذي كان يخضع لطقوس خاصة جدا كما يخضع لحراسة مشددة من طرف عبيد البخاري من المخصيين.
وبالقدر الذي كان فيه المولى إسماعيل «مزواجا»، بالقدر الذي كان حريصا على تأديب نساء سقطن من قلبه، بل خصص حيا في تافيلالت «للنساء اللواتي لم يعدن يحظين بإعجابه من الحريم».
في أيامه الأخيرة ندم المولى إسماعيل على نزوته العجيبة، وآمن بأن العبرة ليست في الكم بل في الكيف، سيما حين كان على فراش الموت، إذ سأل وزيره أحمد اليحمدي عن الأجدر لخلافته على عرش الدولة من بين أبنائه، فكان الرد صادما: «لا يوجد ولد من أولادك يمكنه تقلد أمور المسلمين». فلم يفوض العرش لأي من أبنائه.
مصاهرة مغربية ليبية للضرورة السياسية مهرها قطع أسطول بحري
في كتابه «تاريخ الضعيف» لمحمد الضعيف الرباطي، يروي المؤرخ حكاية مصاهرة مغربية ليبية انعقدت عام 1811 ميلادية، وتحديدا بين السلطان المولى سليمان وسلطان طرابلس ويعرف بسيف النصر، حيث تزوج السلطان المغربي من كريمة سيف النصر، بعد ما كانت أختها في عصمة السلطان اليزيد.
احتفل أمير ليبيا يوسف باشا بوفادة عروس المغرب، «ووجه معها عشرة من أمراء البحر، واثنين من فقهاء طرابلس برسم مباشرة العقد، وجارية لخدمتها، مع طائفة من الجواري المغنيات العازفات، وكان سفرهن من مرسى طرابلس على طريق البحر. ولما نزلوا بالعرائش كان معهم أثاث كثير للنساء فيه مال جسيم ولباس وفراش». يضيف المصدر نفسه.
وحتى تستأنس العروس الليبية بحياة الغربة، بعث معها سيف النصر فرقة موسيقية مكونة من جواري في غاية الحسن والجمال، بينما خص السلطان المغربي الوافدة باستقبال غرائبي إذ «أرسل 130 بغلة للمرسى المغربية صحبة وفد الاستقبال برئاسة محتسب مكناس العاصمة الطاهر بادو، وفي فاس قابلها جيش لوداية في زي عجيب، واحتفى أبو الربيع بالوفد القادم مع العروس. ووهب لكل من أمراء البحر والمرافقين مالا جزيلا، وأهدى لأمير ليبيا مركبا بحريا، ثم شرع في تصميم بناء قصر فاخر بفاس الجديد لسكنى العروس».
وتقول المصادر إن مهر العروس الليبية كان الأكبر في تاريخ المغرب، إذ إن المولى سليمان أهدى قطعا من الأسطول المغربي لكل من الجزائر وليبيا، حينما اضطر إلى حل هذا الأسطول لسواد عيون العروسة.
ومن شدة حرص السلطان على إنجاح المصاهرة المغربية الليبية، إصراره على إرسال هدايا إلى أسرة العروس في طرابلس، مع سفينة تقرر أن تعود إلى طرابلس وعلى متنها فقهاء ليبيون رافقوا موكب العروس من أجل كتابة عقد الزواج، لكن القائد المعطي فلوش اعترض لسوء الحالة «الميكانيكية» للسفينة مما عرضه للسجن، واعتبر رفضه حدثا عكر صفو الأفراح التي عمت مكناس وطرابلس.
السيدة الحرة.. زواج أو لوجستيك حربي
يروي المؤرخون حكايات متباينة حول «السيدة الحرة»، تارة يقولون إن اسمها فاطمة وتارة عائشة وتارة فطيمة، حتى تحول الاسم إلى لغز محير. لكن نسبها اقترن بوالدها مؤسس وحاكم مدينة شفشاون في القرن الرابع عشر الميلادي، وهو مولاي علي بن راشد، الذي خدم في قصر آخر ملوك بني الأحمر، محمد الصغير. وكان لعلي زوجتين، الأولى من أصول شفشاونية «جبيلة»، والثانية إسبانية من مدينة فيخيت دي لافرونتيرا، وهي والدة السيدة الحرة وتدعى عائشة بعد إسلامها.
ولدت السيدة الحرة حوالي سنة 1493م وتربت ونشأت في بيت جهاد، وتزوجت مرتين، أولاهما من حاكم تطوان أبو الحسن علي المنظري، وثانيهما من أحمد الوطاسي، في زمن كان فيه شمال المغرب خاضعا لبني وطاس وجنوبه للسعديين.
حكمت السيدة الحرة مدينة تطوان فنالت شهرة واسعة على مستوى الشمال المغربي، وكانت سيرتها محل اهتمام المؤرخين الأجانب الذين تناولوا بتفصيل أيام حكمها الذي دام ثلاثة عقود، وتحديدا من 1510 ميلادية إلى 1542، كما نبشوا في حياتها الخاصة كزوجة لقائد ومؤسس تطوان الحديثة محمد المنظري.
كانت تتمتع بدهاء خارق، ناهيك عن درايتها وعلمها المعمق الذي تلقته على يد أشهر العلماء، وتحدثت الروايات الشفاهية والمكتوبة عن خوارقها، سيما في «جهادها» ضد البرتغاليين المحتلين للثغور المغربية برا وبحرا، وصمدت في وجههم لفترة طويلة من الزمن رغم تباين الإمكانيات الحربية.
وحين مات زوجها الحاكم أبي الحسن المنظري، بسطت عائشة حكمها ووسعت هامش سلطاتها. ويقول المؤرخون إنها تزوجت السلطان أحمد الوطاسي، ابن السلطان محمد الشيخ، وإن الزواج كان سياسيا، الغاية منه تقوية مملكة الوطاسيين، فـ«احتمت به تطوان التي كانت تضم بين جنباتها أغلبية ساحقة من أندلسيي غرناطة وأحوازها، الذين تم طردهم من بلادهم الأندلس، بعدما انشغل ملوك الطوائف بأوتار العود وتغنج الراقصات». كما ذهب إلى ذلك الباحث عبد القادر العافية، في «أميرة الجبل الحرة بنت علي بن راشد»، ويضيف أن أبوي السيدة الحرة اهتديا إلى هذا الاسم تيمنا بملكة غرناطة ذائعة الصيت، وأيضا لأن وثيقة عقد زواج السيدة الحرة بالسلطان أحمد الوطاسي، أثبتت بما لا مجال للشك أن اسم الأميرة الراشدية هو «الحرة» لا عائشة.
رغم أن زوج السيدة الحرة لم يرض على احتلال البرتغاليين لطنجة وأصيلة وسبتة والقصر الصغير وغيرها من المناطق الشمالية، إلا أن قائدة العمليات الحقيقية الحرة ظلت ترفع شعار الحرب وتؤجل التفاوض. وبعد عودة السلطان الوطاسي إلى عاصمة ملكه فاس، أصرت زوجته الحرة على البقاء في شفشاون، ولكنه تركها في تطوان خليفة عنه، والقائمة بالعلاقات الخارجية. ظلت السيدة الحرة في بيت زوجها حوالي تسع سنوات قبل أن يلتحق بالرفيق الأعلى. وبموته أصبحت مدينة تطوان خاضعة للأمير إبراهيم بن علي بن راشد، حاكم شفشاون، وبقيت كذلك حتى أصبح هذا الأخير وزيرا للسلطان أحمد الوطاسي وقائدا لأركان حربه، فقام بتنصيب أخته الحرة حاكمة لمدينة تطوان، لتصبح السيدة الأولى للمدينة، وعلى إثر خلاف بينها وبين حاكم سبتة، تم تدبير المؤامرة التي أطاحت بحكم الحرة على يد محمد حسن المنظري، الذي صادر أملاكها وأبعدها عن الحكم في 23 أكتوبر 1542 ميلادية.
انتهت حياتها بشفشاون حيث كانت في رعاية أخيها الأمير محمد، ودفنت برياض الزاوية الريسونية بهذه المدينة وما زال قبرها معروفا وحاملا لاسمها إلى اليوم.
حب جارف في باريس توج بمصاهرة مغربية لبنانية
في إحدى الحفلات التي أقيمت سنة 1957 بباريس، شاءت الصدف أن يلتقي الأمير مولاي عبد الله، الطالب بالمؤسسة التعليمية «روش»، بابنة الزعيم اللبناني رياض الصلح، ومن أول نظرة سقط الأمير في شراك عيون فتاة شامية تتابع دراستها بجامعة السوربون. تبين مع مرور الأيام أن الأمر جد لا هزل فيه، فعرض الأمير مشروع الزواج على والده السلطان محمد الخامس، إلا أن هذا الأخير اعترض على مطلب المصاهرة المستعجلة، لسبب بسيط وهو أن طقوس القصر لا تبيح زواج أمير إلا بعد زواج أمير يكبره سنا، أي إن علامة التشوير غير المرئية ترفض التجاوز، ولا تمنح الضوء الأخضر للراغب في الزواج إلا بعد زواج الأكبر سنا.
في سيناريو مشابه لطريقة خطبة ماريا ابنة لويس 14 للسلطان المولى إسماعيل، أشعر الملك محمد الخامس ولي عهده مولاي الحسن بنبض قلب الأمير، ودعاه إلى التقصي في الموضوع، مما جعل القضية تصل إلى القنوات الرسمية بعدما كلف هذا الأخير سفير المملكة في القاهرة عبد الخالق الطريس بتقصي الحقيقة، وهي العملية التي استغرقت مدة زمنية قاربت السنة، ليرحل الملك محمد الخامس شخصيا إلى بيروت رفقة الأمير مولاي عبد الله سنة 1959 من أجل خطبة الحسناء، لكن القران الرسمي لم يتم إلا سنة 1961، أياما قبل وفاة المغفور له محمد الخامس.
انتظر العاشقان أزيد من ثلاث سنوات لتجسيد قصة حب بدأت في باريس وكانت لها امتدادات في بيروت والرباط، استجابة لتقاليد راسخة «لا تسمح بزواج الأخ قبل شقيقه الأكبر، الذي لم يكن بدوره له الحق في الزواج إلا عند اعتلائه العرش، كما جرت بذلك الأعراف والتقاليد». كما جاء في كثير من الروايات التاريخية.
ولأول مرة في تاريخ المصاهرات المغربية السلطانية، ورد ذكر لمياء في خطاب ألقاه الملك محمد الخامس في فبراير 1960 خلال حفل تكريم على شرفه من طرف رئيس الجمهورية اللبنانية، حين وصف أسرة الصلح بالعائلة العريقة ذات المجد والنسب.
«فخامة الرئيس، إننا على يقين بأن هذه الزيارة ستعود بأجلِ الفوائد وأحسنها على بلدينا وشعبينا، ولا نرتاب في أن المصاهرة التي تمت بين الأسرة العلوية المالكة وإحدى الأسر اللبنانية العريقة في المجد والحسب ستكون عاملا فعالا يزيد صداقتنا وتعارفنا وتعاوننا قوة واتساعا».
ثمرة هذا الزواج ثلاثة أبناء، ولدان هما الأميران مولاي هشام ومولاي إسماعيل وبنت هي الأميرة لالة زينب.
انقلاب يفشل طلب المصاهرة بين القصر والأمير العراقي عبد الإله
عاش الأمير عبد الإله بن الملك علي بن الشريف حسين الهاشمي، وكان وصيا على عرش العراق من 1939 إلى 1953، أدق تفاصيل الحياة السياسية في العراق بسبب معرفته بالأوضاع العربية، وهو الذي درس في مصر وعاش جزءا من حياته في قصر الملك فاروق.
يقول عبد الغني الدلي في مذكراته، حول زيارة الأمير إلى المغرب: «في شتاء 1957 عندما كنت سفيرا للعراق في المغرب، قام الأمير عبد الإله بزيارة إلى الرباط، وحل ضيفا على صديقه ولي عهد المغرب الأمير الحسن، في قصره الخاص بحي السويسي الكائن في الرباط. وفي اليوم التالي لوصول سموه، جاء لزيارتي بصورة مستعجلة صديقي المرحوم الحاج أحمد بناني، رئيس التشريفات في القصر الملكي، وقال إنه مكلف برجاء خاص إليك ذلك أن القائم بالأعمال الفرنسي، وكان السفير غائبا، قد طلب من القصر ترتيب موعد له لمقابلة الأمير عبد الإله ليبلغه رسالة هامة من الحكومة الفرنسية».
كان ولي العهد مولاي الحسن قد أعد حفلة عشاء مساء ذلك اليوم للأمير العراقي وحاشيته، في مقر سكناه، وقبل موعد العشاء قابل السفير الأمير على انفراد وشرح له الموضوع، فوافق على اقتراح بأن يأتي القائم بالأعمال الفرنسي إلى قصر الأمير مولاي الحسن.
وحسب الكاتب الصحفي رمزي صوفيا، فإن الأمير العراقي، الذي كان يتمنى أن يرزقه الله بولد، لكنه لم يرزق به بالرغم من زيجاته الثلاث، قد حل بالمغرب أملا في المصاهرة مع الأسرة العلوية الشريفة، إلا أن الملك محمد الخامس أجل البت في الطلب بسبب التزامات عديدة، قبل أن تحمل الأخبار القادمة من بغداد، صبيحة الرابع عشر من يوليوز عام 1958، خبر مجزرة قصره الأميري، حيث قتلت العائلة المالكة بأجمعها، ونجت زوجته هيام من هذه المجزرة بأعجوبة.