«بغض النظر عن موجة الغضب التي أثارها الصحفي حميد برادة، بسبب تصريحه الذي قال فيه إن هناك علاقة «ما» بين الجنرال أوفقير والمعارض الاتحادي الشهير المهدي بن بركة، فإن مثل هذه النقاشات تبقى صحية لإعادة كتابة التاريخ المعاصر بعيدا عن هالات القداسة والمسلمات التي بقيت متداولة لنصف قرن من الزمن.
حميد برادة، خلف المهدي بن بركة في حضور مؤتمر القارات الثلاث الذي دعا إليه المهدي بن بركة وعمل على إنشائه، ليختفي قبل عقده بأشهر. وكان من غرائبيات القدر أن يكون حميد برادة محكوما أيضا بالإعدام.
لماذا تبقى علاقة بعض الاتحاديين المعارضين أمثال عبد الرحمن اليوسفي والفقيه البصري، ببعض رموز النظام «عيبا» لا يريد أنصار الاتحاد وحرسه القديم التطرق إليه؟
ماذا لو كانت هناك اتصالات فعلا بين الجنرال أوفقير والمهدي بن بركة؟ سيكون وقتها متوفرا ما يكفي من الذرائع لتخوين بن بركة، وإزالة الهالة التي أحاطت به منذ اختفائه الغامض في أكتوبر 1965، باعتباره أشهر وأشرس معارض للملك الراحل الحسن الثاني.
تُهم كثيرة لاحقت المهدي بن بركة، منها الوقوف وراء تصفيات عدد من رموز حزب الشورى والاستقلال في منطقة الشمال، مباشرة بعد حصول المغرب على الاستقلال. وأحد هؤلاء الذين تمت تصفيتهم، المقاوم عبد القادر برادة. هل خروج حميد برادة بعد هذه السنوات كلها ليقول إن المهدي كان على علاقة بالجنرال أوفقير، يمكن اعتباره كشفا لتناقض ما في شخصية بن بركة؟ حتى التاريخ سيكون قاصرا على الإجابة، لأن حقائق كثيرة جرى إخفاؤها.. للأسف».
الجنرال «دوغول» أم أوفقير؟
ربما يكون الصحفي حميد برادة، وهو ينقل رواية الأخضر الإبراهيمي، الدبلوماسي والسفير الجزائري السابق، حول موعد محتمل بين المهدي بن بركة و«الجنرال» في آخر الأيام التي ظهر فيها بن بركة إلى العلن قبل اختفائه، متحمسا لتأكيد علاقة مفترضة بين المهدي والجنرال أوفقير.
لكن ما لا يستطيع برادة تأكيده حتى الآن، رغم الموقع القيادي الذي كان يحتله في تلك السنوات بصفته رئيسا لاتحاد الطلبة، ثم أحد أبرز القياديين المعارضين في اليسار والمطلوبين أيضا في المحاكمات، هو إن كان لفظ «الجنرال» الذي نطقه بن بركة قبيل اختفائه هو فعلا الجنرال أوفقير.
فقد كانت بعض وثائق الأرشيف الفرنسي قد أكدت أن المهدي بن بركة كان يسعى إلى عقد لقاء مع الجنرال الفرنسي دوغول، عندما كان يمر من فرنسا في اتجاه دول أخرى في إطار اجتماعاته المكثفة إعدادا لقمة دول العالم الثالث في أمريكا اللاتينية.
عندما ألقى الصحفي حميد برادة بهذه الصخرة في بِركة علاقات اليسار خلال ستينيات القرن الماضي مع السلطة، أحيى في الحقيقة أحقادا دفينة و«مقدسات» كان يرفض الاتحاديون الخوض فيها، خصوصا في زمن حكومة التناوب التي ترأسها عبد الرحمن اليوسفي.
هل كان هناك اتصال بين قيادات مهمة في الدولة واليساريين المعارضين؟ بطبيعة الحال كانت هناك اتصالات بسبب العلاقات العائلية، أو بسبب الماضي المشترك والأصدقاء المشتركين أيضا.
كان الاتحاديون إلى وقت قريب يفضلون الإبقاء على حلقة التواصل المزعومة الوحيدة بين اليسار والجيش، في شخص محمد الفقيه البصري، دون أن تصل إلى بقية القيادات كعبد الرحمن اليوسفي أو عبد الرحيم بوعبيد. رغم أن بعض الأصوات التي عاشت المرحلة لمّحت إلى أن الصداقات التي كانت تربط هؤلاء جميعا بشخصيات قريبة من الملك الحسن الثاني، ومن بينهم عسكريون وأمنيون، قد يكون لها الفضل في فتح باب تواصل، ولو بشكل غير مباشر، بين تلك الشخصيات.
«برادة شخص كان في قلب الحدث وروايته يجب أن تُحترم»، بهذه العبارة رد بعض الذين حاولنا في هذا الملف استقاء آرائهم. وربطوا جميعا بين تهمة التواصل بين الفقيه البصري وقادة انقلاب الطائرة الملكية ولائحة الحكومة، التي كان مُخططا لها في حالة نجاح الانقلاب والتي مزجت بين أسماء اتحادية وأخرى عسكرية. لكنهم جميعا، استبعدوا أن تكون هناك علاقة مباشرة في أواسط الستينيات بين الجنرال أوفقير والمهدي بن بركة. واعتبر هؤلاء أن هذه العلاقة مستحيلة الحدوث. ورجحوا أن يكون هناك تواصل في حالة واحدة، هي إن عاش المهدي بن بركة بعد سنة 1965 وكان مكان إقامته معروفا. وقتها فقط يمكن الحديث عن تواصل مزعوم بينه وبين الجنرال أوفقير، الذي بقي اسمه من الأسماء المطلوبة في القضاء الفرنسي لحضور المحاكمة التي عقدت بعد الاختفاء «اللغز» للمهدي بن بركة. ولو كان هناك تواصل بين الرجلين، ولو حدث تنسيق فعلي للاجتماع في باريس، لما وقع الاختطاف الشهير في أكتوبر 1965. فالجنرال أوفقير الذي كان الرجل الثاني فعليا في نظام الملك الحسن الثاني، لن يغامر نهائيا بالتواصل مع شخص المهدي بن بركة ساعات فقط قبل اختفائه.
سيكون من العسير، بل ومن المستحيل، تأكيد وجود علاقة بين الرجلين خلال الستينيات، أو تخطيطهما لصفقة ثنائية حول السلطة. فالجنرال أوفقير كان وقتها يبني مساره الأمني والاستخباراتي في الدولة، على مهل، بينما كان المهدي بن بركة يخطط لما هو أكبر من قلب النظام في المغرب، فقد كان يسعى وراء حلف دولي في أمريكا اللاتينية، في إطار مؤتمر القارات الثلاث، شكّل هاجسا للأمريكيين أنفسهم.
يبقى فقط أن نشير إلى أن كلمة «الجنرال» التي قالها المهدي بن بركة للدبلوماسي الجزائري الأخضر الإبراهيمي رجّح أن تكون إشارة إلى الجنرال دوغول، الذي كان المهدي بن بركة يسعى إلى الاجتماع به، أثناء وجوده بفرنسا خلال نهاية أكتوبر 1965. من يعرف الحقيقة إذن؟ لا أحد.
مفتاح اللغز: محمد العربي الفحصي
الذين لا يعرفون من يكون محمد العربي الفحصي، عليهم أن يسألوا عنه عبد الرحمن اليوسفي، فقد كان صديقا مقربا منه. هذا الرجل الذي كان من قدماء المقاومة وترأس مكتبها الوطني، عمل لاحقا كعامل تابع لوزارة الداخلية على منطقة قصر السوق، ومنها دخل إلى وزارة الداخلية عندما كان الجنرال أوفقير هو الرجل الثاني في النظام.
دخل مكتب الشؤون السياسية في وزارة الداخلية، وكان مقربا جدا من الجنرال أوفقير، ولازمه في الفترة التي كان مشرفا فيها على مكتب الشؤون السياسية الذي كانت مهمته استخباراتية بالأساس. لكن الاتحاديين وقدماء المقاومة الذين كانوا مطاردين بعد سنة 1963 وصدرت في حقهم أحكام بالإعدام وأخرى بالسجن مدى الحياة، حفظوا للرجل جميله، رغم منصبه الحساس في وزارة الداخلية نهاية الستينيات وقربه من الجنرال أوفقير.
بقي الفحصي في منصبه داخل وزارة الداخلية إلى أن تعين الجنرال أوفقير وزيرا للداخلية، ولازمه لفترة قصيرة قبل أن يقع الانقلاب الثاني سنة 1972. وبعد أن هوى اسم الجنرال أوفقير، رُحل الفحصي عن مقر وزارة الداخلية، في إطار سياسة ذكية لتفريق إرث الجنرال أوفقير ورجاله على بقية مصالح الداخلية. لكن الفحصي أرسل لما هو أكبر. فقد أرسل بصفة كاتب عام للوزارة، مرافقا لأول عامل عينه الملك الراحل الحسن الثاني في مدينة العيون الصحراوية. يتعلق الأمر بالعامل بنسودة. وكان العارفون بخبايا وزارة الداخلية يُدركون جيدا أن العامل الفعلي للعيون كان هو الفحصي، بحكم خبرته الكبيرة في وزارة الداخلية.
لنعد الآن إلى علاقته بالجنرال أوفقير، فقد كان هذا الرجل في عز اشتغاله في وزارة الداخلية مقربا من الجنرال ويعرف جيدا خبايا بعض الملفات، بالإضافة إلى علاقاته الوطيدة والمحترمة مع قدماء المقاومة وأعضاء جيش التحرير، بل ومع اتحاديين معارضين أولهم المهدي بن بركة وعبد الرحمن اليوسفي.
وقد بقيت العلاقات وطيدة رغم فرار اليوسفي خارج المغرب هربا من الحكم الغيابي ضده بالإعدام، وطيلة سنوات المنفى كان الفحصي، رغم جبة الداخلية، مقربا من قدماء المقاومة.
إذا كان هناك مثال صارخ على العلاقة بين المعارضين الكبار للدولة أمثال بن بركة واليوسفي، خلال سنوات الستينيات، والدولة ورجال النظام، فإن نموذج الفحصي وعبد الرحمن اليوسفي يبقى المثال الأبرز. إذ إن موقف اليوسفي من النظام واتصالاته السرية رفقة الفقيه البصري في سنوات الستينيات والسبعينيات، لم تقطع حبل الود بينه وبين صديق قديم من زمن السلاح، أصبح أحد أهم المتأبطين للملفات الأمنية لوزارة الداخلية. فهل يُستبعد أن يكون هناك اتصال بين بن بركة وأوفقير، خلال ستينيات القرن الماضي؟
لماذا اعتبر محيط المهدي التواصل مع أوفقير إهانة؟
بفرنسية أنيقة، جاء رد يزيد البركة، ومعه آخرون من أصدقاء ابن المهدي بن بركة ومن قدماء الاتحاديين أيضا، ومفاده أن الصحفي حميد برادة خاض في موضوع مجانب للصواب. ويتعلق بعلاقة مفترضة بين المهدي بن بركة والجنرال أوفقير.
نفى هؤلاء أن يكون المهدي بن بركة قد وضع يده في يد الجنرال، والذي لا يزال قدماء الاتحاد والذين عاشوا كواليس تأسيس وفك جيش التحرير يعتبرونه أحد أكثر الأسماء العسكرية عداوة لهم. ورغم أنه توفي سنة 1972 بعد انقلاب فاشل على الملك الراحل الحسن الثاني، أي إن الجنرال التقى معهم في الأخير في نقطة قلب نظام الملك الحسن الثاني، في وقت كان فيه أصحاب «الخيار الثوري» يخططون بدورهم للانقلاب، إلا أن العداوة بينهم وبين الجنرال لم تزُل.
ورغم أن الكثيرين تحدثوا عن اتصالات للفقيه البصري من منفاه، حيث كان محكوما غيابيا بالإعدام، مع الجنرال أوفقير سنة 1970 ولائحة لحكومة مفترضة، إلا أن الاتحاديين خصوصا في فترة عبد الرحمن اليوسفي، سارعوا إلى نفي تلك العلاقة وتكذيبها، دون تقديم أي دليل لإقبار تلك الافتراضات، رغم أن نهاية الجنرال أوفقير ترجح أن يكون هناك اتصال.
صحيح أن هذا الاتصال يستحيل أن يكون قد بُني على ثقة وحتى إذا تحالف الثوريون مع رأس الجيش ووزارة الداخلية وقتها، فإن ذلك التحالف سيكون مؤقتا وربما وقعت انقلابات أخرى بعد الانقلاب. هذا ما يقوله أصدقاء الراحل الفقيه البصري، الذين أكدوا أن الأخير كان يكره الجنرال أوفقير كثيرا ويعتبره مسؤولا عن مأساة عدد من مؤسسي جيش التحرير والمحكومين في أحداث يوليوز 1963.
ماذا إذن لو كان هناك اتصال بين المهدي بن بركة والجنرال أوفقير؟
حسب المعطيات التاريخية، فإن المهدي بن بركة الذي اختفى في أكتوبر سنة 1965، كان بعيدا تماما عن الشخصيات المسؤولة في الدولة، فما بالك بربط اتصال مع عسكري يشرف على الإدارة العامة للأمن الوطني، ويلازم الملك الحسن الثاني كظله، في وقت كان بن بركة محكوما غيابيا بالإعدام. كما أن الجنرال أوفقير كان وقتها منهمكا في وضع المخطط الأمني للإطاحة بأصدقاء بن بركة، الذين كانوا يتدربون على حمل السلاح في الجزائر وسوريا.
لو قيل مثلا إن العلاقة المفترضة بين الرجلين وقعت في السبعينيات من القرن الماضي، لأمكن تصديقها في إطار التحول الذي وقع. لكن علاقة من ذلك النوع الذي تحدث عنه الصحافي حميد برادة وفي فترة الستينيات، تبقى في حاجة إلى أدلة أكبر من إلقاء الكلام على عواهنه.
يقول الرافضون لفرضية احتمال وجود العلاقة، إن المهدي بن بركة يستحيل أن يكون على اتصال بالجنرال في تلك الفترة بالذات لأنه وصل إلى قمة معارضته للملك الراحل الحسن الثاني، ولن يكون من مصلحته نهائيا أن يكون على اتصال مع رجل النظام الأول. وحتى لو افترضنا وجود اتصال من أي نوع، لتم استغلاله على الأقل لإقناع المهدي بن بركة بالعودة إلى المغرب سنة 1964، عندما فاتح الملك الحسن الثاني عبد الرحيم بوعبيد في موضوع عودة بن بركة وبدء مشاورات حكومة مغربية بقيادة بن بركة نفسه. لكن بن بركة كان قد أغلق سلفا كل أبواب التواصل مع القصر.
ماذا لو كان بن بركة صديقا فعلا للجيش؟
دعونا نفترض أن المعلومة التي قدمها الصحفي حميد برادة، الذي قضى سنوات طويلة في الاتحاد الوطني من خلال النضال الطلابي وترأس الاتحاد في ستينيات القرن الماضي، بخصوص الصداقة أو الاتصال المزعوم بين المهدي بن بركة والجنرال أوفقير، قد تحمل جانبا من الصحة. رغم أن عائلة المهدي بن بركة، سارعت إلى تكذيب المعلومة ونفي العلاقة بالمطلق، واعتبر رفاق بن بركة، الذين نسوه تماما، هذه العلاقة المزعومة إهانة لذكرى المُختطف.
هناك بعض المعطيات التاريخية التي أغفلها الخائضون في هذه الزوبعة، وهي أن المهدي بن بركة كان فعلا صديقا لبعض الأسماء العسكرية التي كانت في محيط الملك الراحل محمد الخامس. فقد كان المهدي بن بركة سنة 1955، بالإضافة إلى أنه أستاذ الرياضيات الخاص بولي العهد وأحد أصدقائه بعد عودة العائلة الملكية من المنفى، (كان) مقربا من الملك الراحل محمد الخامس الذي قربه منه كطاقة شابة من منظري حزب الاستقلال. وهكذا كان المهدي بن بركة يحضر إلى القصر الملكي ويجلس مع الملك محمد الخامس وولي العهد الأمير مولاي الحسن إلى طاولة واحدة يجلس فيها الجنرال إدريس بن عمر وميمون أوحفصة الذي كان مؤسسي الأركان العامة، بالإضافة إلى الجنرال البوهالي. وهؤلاء أوكل إليهم الملك محمد الخامس مهمة تأسيس الجيش الملكي.
كانوا جميعا يجلسون إلى طاولة الملك في قلب القصر الملكي، خصوصا في الفترة التي كان فيها المهدي بن بركة يدخل القصر بصفته القيادية في حزب الاستقلال. كان هناك تقارب بين هذه الشخصيات، رغم العوالم المتنافرة التي يمثلونها ورغم انتماءاتهم القبلية وربما حتى السياسية من حيث المبدأ. هل نشأت صداقة متينة بين الجنرال أوفقير والمهدي بن بركة في ذلك الوقت؟
حسب أرشيف SDEC وأيضا المراسلات الأمريكية التي رفعت عنها السرية، فإن المهدي بن بركة لم يعبر عن أي إعجاب بالشخصيات العسكرية التي كانت تحيط بالملك الراحل محمد الخامس، وحتى بالملك الحسن الثاني. بل كان يعتبرهم خصوما له، خصوصا عندما بدأ بن بركة يعبر في اجتماعات حزب الاستقلال المغلقة عن ميولاته السياسية وأفكاره التقدمية. وكانت وقتها علاقته بولي العهد قد بدأت في التفكك، خصوصا أن الملك محمد الخامس كان يتم إخباره خلال أزمة حكومة 1957 أن المهدي بن بركة كان يريد أن ينسف الحكومة ويشهر المعارضة في وجهها، ممثلا رأي حزب الاستقلال الراغب في المزيد من الوزارات. فيما كانت الأفكار التقدمية للمهدي بن بركة تذهب إلى حد استلام زمام الأمور من الملك الراحل محمد الخامس، لكي يبقى حضوره صوريا فقط. وهو ما جعل الصداقات التي راكمها مع مجموعة من الأسماء في عالم «المخزن» تنتهي قبل حتى أن تحل سنة 1961 التي وجدته خارج المغرب، يمهد لاتصالاته الدولية في إطار تأسيس جبهة دول العالم الثالث.
صداقات الجنرال أوفقير ورجل اليسار الأول بعيون «الموساد»
كانت الموساد ترصد تحركات الجنرال أوفقير وعلاقاته، بعد أن التقطته الرادارات باعتباره واحدا من أهم رجال الملك الحسن الثاني وأكثر المسؤولين المغاربة إمساكا بزمام عدد من الملفات الأمنية الحساسة. وما زاد من أهميته هو ماضيه العسكري في فرنسا. كانت «إسرائيل» ترصد تحركاته في البداية حتى تتأكد جيدا من علاقاته مع عسكريين عرب، وما إن كان يحمل مبادئ «الضباط الأحرار» بالشرق، أو إبقاءه على الميولات المناصرة للملكية، وهي الصبغة التي دخل بها إلى القصر الملكي في الرباط لأول مرة خلال منتصف الخمسينيات كمرافق للملك الراحل محمد الخامس.
ضابط الموساد الذي تبع الجنرال أوفقير ورصد علاقاته منذ 1962 إلى أن مات سنة 1972، هو ضابط الموساد الإسرائيلي رافي إيتان. وُلد في 23 نونبر 1926، في فلسطين المحتلة، لأبوين صهيونيين قدما إلى فلسطين من روسيا في العام 1923، وترعرع هناك مشبعا بروح الاحتلال، ويعرف في إسرائيل كواحد من سياسييها الذين خبروا مراحل مشتعلة من الصراع العربي الإسرائيلي. لكن الإسرائيليين جميعا يعرفون رافي إيتان بصفته العقل المدبر للموساد الإسرائيلي في عملية اختطاف Adolf Eichman، والذي شكلت محاكمته أهم خبطة مهنية في حياة إيتان.
هذا الرجل كان يعرف بعض الأسرار عن الجنرال أوفقير، وعن المهدي بن بركة وعن العقيد الدليمي أيضا، بل وكان في باريس عنما اختُطف المهدي بن بركة واختفى إلى الأبد.
بالعودة إلى تقارير استخباراتية أمريكية، تسرب جزء كبير منها إلى الصحافة الأمريكية خلال الخمس عشرة سنة الأخيرة، نجد أن جهاز CIA كان يتابع كل ما يقع في منطقة شمال إفريقيا، وأن جهاز الموساد الإسرائيلي كان مهتما بتحركات الأنظمة العربية خلال فترة الستينيات، سيما خلال حربه مع مصر. عندما اشتم هؤلاء رائحة المعارض المغربي المهدي بن بركة وعلاقاته المتشعبة، وما كان مبرمجا له من لقاءات أواخر العام 1965 ومفكرته المليئة بالمواعد، التي أعلن عن بعضها لوسائل الإعلام الدولي بشكل صريح، عرفوا أن بن بركة مشروع سياسي مزعج بالنسبة إليهم. وتقول التقارير نفسها التي تناولها الإعلام الأمريكي، إن هذه الأجهزة تابعت على أعلى المستويات كل ما كان يقع في المنطقة.
لو كانت هناك صداقة أو اتصالات مفترضة بين المهدي بن بركة والجنرال أوفقير، لانتبه إليها الموساد. فحسب رافي إيتان، فإنه كان على اطلاع بتحركات زعماء عرب كثيرين، بل وقال خلال مقابلة صحفية مطولة مع تلفزيون بلاده (سنة 2015 حيث قدم تصريحات مزلزلة عن قضية المهدي بن بركة واغتيالات شخصيات عربية أخرى) وبدم بارد، إنه قام بأدوار رئيسية في عملية اغتيالهم. وطبعا فإنه من هذا المنطلق، كان يعلم أمورا كثيرة عن اغتيال المهدي بن بركة.
قال إذن إنه ساهم في اغتيالات زعماء عرب، لكن إفادته في موضوع المهدي بن بركة، حسب نفس المقابلة الصحفية، فإن اعترافاته قدم فيها نفسه كمستشار ساعد على دفن جثة المهدي بن بركة، التي احتار الدليمي في أمرها.
كان إيتان إذن يحظى بعلاقة قوية مع الجنرال أوفقير، والتقاه في مناسبات كثيرة في باريس خلال سنوات متفرقة. وكانت اللقاءات كما يقول مهنية، تهم مباحثات أمنية واستخباراتية لتبادل المعلومات. ولو كان الجنرال أوفقير مرة أخرى على اتصال بالمهدي بن بركة، لكانت تقارير الموساد قد رصدت تلك العلاقة، وربما لما بقي اسم الجنرال أوفقير مطلوبا حتى بعد محاكمة الدليمي سنة 1966 وتبرئته.
حين برأ أيت إيدر بن بركة من دم «دينامو» جيش التحرير
عندما أصدر محمد بن سعيد أيت إيدر مذكراته السنة الماضية، كنا سباقين إلى نشر مضامينها قبل صدورها إلى الأسواق.
كانت العملية إشباعا لـ«فضول» العارفين بأهمية شهادة أيت إيدر على العصر. فقد كان الرجل في قلب الزوبعة بكل ما تحمله الكلمة من معنى. قال وقتها: «كنت ألمس شدة الحرج عند الرئيس بن بلة، وأنا أناقش معه موضوع السماح لجماعة من اللاجئين المغاربة المسلحين بدخول المغرب انطلاقا من التراب الجزائري، خارج أي إطار محدد ومسؤول. وربما زاد من حرج الرئيس عدم علمه هو نفسه بكل عناصر وتفاصيل هذا الموضوع. وكنت أبديت للرئيس بن بلة امتعاضي من مثل هذه الأعمال».
اتُهم كاتب تلك السطور من طرف البعض، خصوصا المحجوبي أحرضان الذي عاش بدوره تلك الأجواء المرتبطة بأزمة جيش التحرير، وقال إن أيت إيدر يعرف هوية قاتل عباس المساعدي. في تلميح إلى تمريغ يد بنسعيد بدماء المساعدي، الذي اتُهم المهدي بن بركة بدوره أنه متورط في قتله.
تحدث بن سعيد في المذكرات عن لقاء مدريد الذي جمع بين بن بركة والمساعدي، بإيعاز من علال الفاسي لطي الخلاف بين المهدي بن بركة وعباس المساعدي وأسرار محاولات بعض الأطراف إلصاق دم عباس ببن بركة. يقول أيت إيدر متحدثا عن اللقاء الذي جمع بين الرجلين بالإضافة إليه هو والفقيه البصري، حدث هذا بعد حصول المغرب على الاستقلال بفترة قصيرة جدا. أي خلال أزمات 1956: «تكلفت بمهمة إخراج الفقيه البصري وحسن صفي الدين وبونعيلات من الدار البيضاء، بما في ذلك تهييء جوازات سفر خاصة وتعيين الطائرة التي سيغادرون على متنها إلى مدريد. كان اللقاء في العاصمة الإسبانية بدار الكبير الفاسي. بحضور المهدي بن بركة وعلال الفاسي والدكتور الخطيب والحسين برادة وعباس المسعدي وآخرين من بينهم كاتب هذه السطور. كان الغرض من هذا الاجتماع تقييم الأوضاع السياسية والعسكرية، واستشراف الآفاق المستقبلية المطروحة أمام المغرب. مع التنسيق مع قيادة حزب الاستقلال وجيش التحرير.
(..) تمخض الاجتماع عن مجموعة من الاتفاقات صادقنا عليها بالإجماع. من بينها عدم تجريد جيش التحرير من سلاحه. مع جعله النواة الأولى للجيش الوطني، في وقت لم يكن فيه الجيش الملكي قد رأى النور بعدُ. ومحاكمة الخونة الذين تعاملوا مع سلطات الاحتلال. واستمرار الكفاح المسلح».
تفاجأ الحاضرون كما يقول أيت إيدر بكون أحد الحاضرين قد اتصل بوزير الداخلية وقتها، حسن اليوسي، وأخبره بأن جيش التحرير سوف يسلم سلاحه. وهو الأمر الذي أربك القيادة لاحقا. يقول آيت إيدر عن اغتيال عباس في منطقة أكنول وعلاقة المهدي بن بركة بمقتله، وإثارة اسم عبد الكريم الخطيب في الموضوع: «كان المقصود هو تشويه صورة المهدي. فالرجل كان يمثل الوجه الأبرز للحداثة في المغرب غداة الاستقلال، وهو الحامل لمشروع دولة عصرية ديموقراطية محصنة ومستقلة تنتمي إلى العصر بكل معنى الكلمة. (..) بن بركة كان أكبر من عباس المسعدي ولم يكن يحتاج إلى تصفية أي كان، لأن الاغتيال أو القتل كان أبعد ما يكون عن شخصيته. وله من القوة والإرادة والذكاء ما يجعله يبلغ أهدافه التي لم يحد أي منها عن القيم الإنسانية الكبرى التي كان يحملها. لكن مع الأسف استغلت الدولة اغتيال المسعدي لمحاولة خدش صورة المهدي».
إذا كان المهدي بن بركة بتأكيد شاهد من قلب الحدث، لم يصدر أمر تصفية المساعدي، فكيف يُعقل أن يكون المعارض الاتحادي الأول صديقا لبعض وجوه النظام؟ صحيح أن سياق 1956 كان مختلفا، لكن ادعاء أن بن بركة كان صديقا للجنرال أوفقير في بداية الستينيات، يحتاج إلى إثبات مقنع. والأمر هنا أشبه بالبحث عن ورقة بيضاء سليمة وسط رماد حريق مهول.