«اتصل الملك الحسن الثاني بعبد الرحيم بوعبيد يوم 28 ماي سنة 1975 لكي يلتحق به في القصر الملكي، رغم أن علاقتهما لم تكن على ما يرام. وأرسل أيضا في طلب امحمد بوستة، الذي خلف علال الفاسي على رأس حزب الاستقلال. اجتمع بهما معا على مائدة العشاء، وأخبرهما أن يتواصلا مع السفير الأمريكي في الرباط، لكي يفاتح عن طريق وزير الخارجية الأمريكي، الرئيس جيرالد فورد الذي كان يزور مدريد، في موضوع مشكلة الصحراء المغربية وضرورة انسحاب الإسبان منها.
كان الملك الحسن الثاني يريد أن يجذب انتباه الرئيس فورد إلى أهمية ملف الصحراء المغربية في استقرار المنطقة. لكنه فضل أن يقوم زعيمان حزبيان بالمهمة، حتى تكون صبغتها أكثر قوة من الناحية السياسية، وأكثر تعبيرا عن توجه المكونات السياسية في البلاد، وألا تظهر كموقف رسمي للسلطة الحاكمة في البلاد فقط. لقد كان الملك الراحل يعرف كيف يفكر الأمريكيون، وشدد على بوعبيد وبوستة أن يحافظا على سرية الموضوع الذي أراد أن يُفاتحا السفير الأمريكي في الرباط بشأنه.
قصة عشاء الحسن الثاني مع عبد الرحيم بوعبيد ليلقنّه ما يجب قوله لسفير أمريكا
لقد كانت الولايات المتحدة تعرف كل شيء عن شخص عبد الرحيم بوعبيد، عندما كلفه الملك الراحل الحسن الثاني، كما تقول أوراق أرشيف مراسلات وزارة الخارجية والتي كانت تراقبها الـCIA، لكي يتصل بالسفير الأمريكي بالرباط، لكي يخبر وزير الخارجية، ويخبر الأخير بدوره رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، الذي كان في زيارة إلى إسبانيا، حتى يُفاتح الإسبان في أمر الانسحاب من الصحراء المغربية. دور سري قام به بوعبيد، ربما ما كان ليُعرف يوما في التاريخ المغربي، لولا أن الخارجية رفعت السرية مؤخرا عن حزمة من الوثائق، التي خُتمت بخاتم «سري للغاية».
الوثيقة تحمل رقم RAB2584. جاء فيها أن الملك الحسن الثاني بعث في 28 ماي 1975، في طلب كل من عبد الرحيم بوعبيد وامحمد بوستة، على اعتبار تزعمهما لحزبي الاتحاد الاشتراكي، والاستقلال، على التوالي. تناول الملك الحسن الثاني العشاء مع الزعيمين السياسيين وكلفهما بشكل واضح لكي يتصلا بالسفير الأمريكي بالرباط ويطلبا منه أن يصل إلى الرئيس الأمريكي جيرارد فورد الذي كان في زيارة إلى مدريد، ويقنعه لكي يفتح موضوع الصحراء المغربية وانسحاب الإسبان منها. وتذكير الأمريكيين بدور المغرب في استقرار المنطقة.
لقد كان الملك الراحل الحسن الثاني يريد من الرئيس الأمريكي أن يكون حَكما بينه وبين الإسبان، وأن يُلقي صخرة في بركة مشكلة الصحراء التي كانت الملف الأول الأكثر أهمية لدى الملك الحسن الثاني في منتصف السبعينيات.
تقول الوثيقة، التي تضمنت تعليق السفير الأمريكي في الرباط على طلب عبد الرحيم بوعبيد وامحمد بوستة منه: «إن عبد الرحيم بوعبيد أكد خلال تواصله مع السفير الأمريكي على سرية المهمة التي أناطه بها الملك الحسن الثاني، وردد عبارة «سري» أكثر من مرة».
علّق السفير بالقول إن الملك الحسن الثاني، حسب ما فهم، كان يرى أن بإمكانه استثمار العلاقات الجيدة التي كانت تربطها أمريكا بكلا البلدين، أي المغرب وإسبانيا. وأن القرار الإسباني وقتها، والذي أكد على استمرار الوجود الإسباني في الصحراء، سيحمل مشاكل كثيرة سوف تؤثر على السلام والأمن بالمنطقة. كانت هذه النقطة هي ما اشتغل عليه امحمد بوستة أثناء تبليغ رسالته بدوره إلى السفير الأمريكي في الرباط.
يعلق السفير الأمريكي، الذي لم يُشر إلى اسمه بوضوح في الوثيقة التي أُرسلت بعد يومين على العشاء، أي يوم 30 ماي 1975 بالضبط، معلّقا: «إنها المرة الأولى التي نستقبل فيها مؤشرا على أن الملك الحسن الثاني يُريد إيصال رسالة إلى الرئيس. إنه من الواضح أن الملك يريد أن يجعل الرئيس الأمريكي مُدركا للموقف المغربي من الصحراء. وكما هو الشأن في المقاربة التي يتبناها حزب الاستقلال، فإن بوعبيد كان شديد الاعتدال في إبقاء علاقات حزبه جيدة في التعامل معنا. بوعبيد تجنب البقاء خارج موقف الملك الحسن الثاني الذي يقتضي «التوافق التام» مع موريتانيا. هناك إشاعات عن صفقة ما، لكن لم تظهر أية حقائق عن الموضوع». انتهى كلام السفير مختوما بـ «سري للغاية».
علال الفاسي.. «فقيه» الاستقلال الذي ابتعد عن واشنطن
ربما كان امحمد بوستة، بحكم مساره المهني والسياسي، مفضلا عند السفارة الأمريكية في الرباط أكثر من سلفه علال الفاسي الذي توفي سنة 1974 خارج المغرب خلال أدائه مهمة دبلوماسية كلفه بها الملك الراحل الحسن الثاني.
كان علال الفاسي يمثل المدرسة القديمة للسلطة والسياسة في المغرب. وحتى في اللقاءات الصحافية التي أجراها، كان يحاول دائما الابتعاد قدر الإمكان عن الإدلاء في الأمور الدولية خصوصا للصحافة الأجنبية. ولذلك تبقى تسجيلاته باللغة الفرنسية قليلة جدا، إن لم نقل نادرة، بعكس بوستة، أو عبد الرحيم بوعبيد اللذين أمضيا ساعات طويلة في تفريق التصريحات والحوارات المسجلة بالصوت والصورة والتي تحدثا فيها لقنوات أجنبية، فرنسية خصوصا، عن آرائهما في «المخزن» والدولة وأزمات المغرب السياسية والاقتصادية أيضا.
لم يكن علال الفاسي من هواة هذه «المدرسة» السياسية. رغم أنه مارس المعارضة وفاوض القصر في خمسينيات القرن الماضي على الحكومات الأولى لمغرب ما بعد 1955. لذلك كان الأمريكيون يُدركون أهميته في ستينيات القرن الماضي وقربه من الملك الراحل الحسن الثاني، خصوصا أثناء صياغة دستور سنة 1962. لكن ما كان «مؤسفا» بالنسبة للأمريكيين كان هو ابتعاد علال الفاسي عن لقاءات السفارة أو صداقات الدبلوماسيين الأجانب، بالصورة التي كان عليها بوعبيد وعبد الهادي بوطالب وآخرون.
هذا لا يعني أن علال الفاسي لم يكن صديقا لدبلوماسيين أجانب، فقد ودع بعض أصدقائه الدبلوماسيين الذين ماتوا في انقلاب الصخيرات وهم يحتفلون مع الملك الحسن الثاني بعيد ميلاده صيف سنة 1971. لكن بالنسبة للأمريكيين فإن علال الفاسي كان ورقة بعيدة عن متناولهم، رغم قربه من الملك الحسن الثاني واعتباره مستشارا فوق العادة ورثه عن والده الراحل محمد الخامس.
عندما تناولت بعض التقارير الأمريكية، التي ختمت بالسرية، اسم علال الفاسي، كانت دائما تربطه بحزب الاستقلال ومواقفه السياسية. وكان الأمريكيون طبعا يحتاجون إلى وقت طويل لكي يفهموا طبيعة اشتغال الرجل الذي كان حزبه يعارض في بعض التجارب رغم أنه يجلس مع الملك الحسن الثاني بشكل متواصل. لقد كانت علاقة الرجل بالقصر الملكي وحتى مواقفه محط اهتمام التقارير التي رفعت عن الحالة المغربية خلال ستينيات القرن الماضي إلى واشنطن.
بالإضافة إلى اشتغاله مع المهدي بن بركة في نفس الحزب، قبل تأسيس اليسار لحزبه السياسي، كان الضوء قد سُلط على علال الفاسي منذ أن أشاد الملك الحسن الثاني به أثناء كتابة دستور المملكة والتمهيد للانتخابات الأولى في تاريخ المغرب.
ورغم أن حزب الاستقلال، أكبر الأحزاب المغربية وأقدمها حسب ما توفر للأمريكيين من معلومات خلال 1962، إلا أنه لم يتصدر تلك الانتخابات وكان اليسار يسرق الأضواء، إلا أن علال الفاسي لم يصبح «أقل أهمية» في تقارير الأمريكيين الذين تابعوا تلك الانتخابات.
لقد كان جلباب علال الفاسي هو مشكلته. وكان عبد الرحيم بوعبيد الذي تربى معه سياسيا في نفس الحزب، على النقيض تماما، فقد كانت بذلته السوداء وحضوره للسهرات التي تقام على شرف الشخصيات المهمة، أول طريق له نحو خط اسمه كطرف قوي في معادلة السلطة.
السفارة قطعت عطلة سنة 1963 لتسأل الملك الحسن الثاني عن «حرب الرمال»
كان صلة الوصل بين السفير الأمريكي في الرباط، والملك الحسن الثاني، هو الكولونيل المذبوح الذي كان على اتصال جيد مع الأمريكيين، وفي نفس الوقت كان في المربع الذهبي داخل القصر الملكي.
كان الراديو ينقل حدث حفل الولاء لسنة 1963، على الأثير. وهي السنة التي كان فيها الملك الحسن الثاني بالكاد يجهز نفسه للحكم، بعد عامين على وفاة والده الملك الراحل محمد الخامس.
وفي الوقت نفسه الذي كان فيه الملك يستقبل ممثلي الأمة لتجديد الولاء، كان السفير الأمريكي في الرباط، يخطط لقضاء عطلته السنوية خارج المغرب، وفي اعتقاده أن الأمور في المغرب «هادئة». قبل أن يقرر قطع عطلته بعد أن توصلت الخارجية بما مفاده أن المغرب على أبواب حرب محتملة مع الجزائر، بسبب مشاكل على الحدود.
في مساء ذلك اليوم، أحس السفير أن عطلته يمكن أن تؤجل إلى وقت لاحق إذا ما حدثت مناوشات جديدة بين المعارضة والدولة. الملك الحسن الثاني لم يكن مستعدا لاستقبال السفير الأمريكي، والأخير، كان قد ألح على الجنرال المذبوح وأحد الكولونيلات، لم يفصح التقرير عن اسمه، لكي يرتب له لقاء مع الملك الحسن الثاني، للدردشة في أمور خاصة.
لم تمر إلا أشهر قليلة على الواقعة، حتى كان مجموعة من السفراء والدبلوماسيين الأجانب، يتحلقون في قاعة كبيرة في القصر الملكي في الرباط، في انتظار ترأس الملك الحسن الثاني لحفل عشاء على شرفهم، وعندما انتهت المراسيم الرسمية، وخلا الجو أمام السفير الأمريكي في الرباط، توجه نحو الملك الحسن الثاني، وأخبره أن حكومة بلاده تأمل ألا يكون موضوع الخلاف المغربي الجزائري منفذا لـ «جهة ما» لكي تقتات منه سياسيا. وهنا أجابه الملك الحسن الثاني أن الأزمة مع الجزائر ستُحل يوما ما، إذا كانت هناك إرادة سياسية للمصالحة، وأنه لا مجال أمام أحد للاستثمار في الأزمة.
كان الأمر واضحا بالنسبة للملك الحسن الثاني، فقد كان التخوف الأمريكي ليس بسبب سوء العلاقات بين البلدين الجارين، ولكن بسبب الدور السوفياتي خلال تلك الأزمة. إذ كان السوفيات قد قدموا دعما عسكريا للمغرب خصوصا في المجال الجوي، ساعد كثيرا المغرب على حسم نتيجة حرب الرمال لصالحه.
حسب المراسلة السرية التي أوردتها السفارة في تلك الفترة، فإن الدور الذي قام بها الكولونيل المذبوح في تلك السنة لم يكن كافيا، ورغم تدخل السفير شخصيا واستغلاله لحفل العشاء الذي ضم سفراء دول أوربية، إلا أنه لم يستطع الفوز بمعلومة شافية من الملك الحسن الثاني الذي كان يقدر الموقف جيدا.
سوف يحتاج الأمريكيون، كما سنرى إلى سنوات أخرى لكي يستطيعوا النفاذ داخل تموجات الحقل السياسي في المغرب، وسوف يراقبون أسماء من محيط القصر وخارجه، لكي يصلوا إلى المعلومة باكرا، وهذا ما سيتحقق خلال منتصف السبعينيات.
مُحيط القصر الملكي ومقربوه كانوا تحت مراقبة السفارة الأمريكية
بطبيعة الحال، ليست هذه المرة الأولى التي نُثير فيها موضوع علاقة الـCIA بالأجواء السياسية في المغرب واهتمام الأمريكيين «بنا».
لقد أثرنا موضوع مراقبة الدبلوماسيين في سفارة أقوى دولة بالعالم في الرباط وقنصليتها في الدار البيضاء بسياسيين مغاربة وقلنا إن سياسيين مثل علال الفاسي وعبد الرحيم بوعبيد وعبد الهادي بوطالب ورضا اكديرة، كانوا جميعا محط اهتمام موظفي السفارة الأمريكية في الرباط، بل ومن طرف السفير شخصيا، لاستقاء المعلومات منهم واستعمالها في التقارير التي تُعد عن المغرب. كانت هذه الأسماء هي مفتاح قراءة الأجواء السياسية في المغرب. وهكذا أصبحت الدردشات العادية معهم، مصدرا مهما لعدد من السفراء، خصوصا سفير الولايات المتحدة الأمريكية في المغرب، لقراءة الخارطة السياسية في المغرب.
كان هذا في وقت كانت فيه السياسة الداخلية للمغرب، تدخل في نطاق الممنوع من التداول في الخارج. كان التوجه العام يقتضي مراعاة عدم تدخل المنابر الأجنبية في الشأن الداخلي للمغرب، خصوصا وأن الأصوات المعارضة كانت تنتقد المغرب بشدة، وتتهم بعض الجهات في الدولة باستغلال النفوذ لتصفية الحسابات السياسية خصوصا مع المعارضة.
إلى جانب الأسماء السياسية، كانت هناك أيضا أسماء عسكرية لم يكن يخفى على أحد علاقاتها الواسعة مع الدبلوماسيين الأجانب بالمغرب. كان الجنرال المذبوح أهم هؤلاء جميعا، فقد كانت علاقاته بالسفير الأمريكي محط تساؤلات كثيرة، خصوصا وأنه قام برحلات كثيرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية وكان أيضا يلتقي بمسؤولين وأثرياء أمريكيين كانوا يتجهون نحو تأسيس شركات استثمارية بالمغرب، واشتكوا له مرات كثيرة من صعوبة التواصل مع الجهات المغربية لإتمام الإجراءات الإدارية وتراخيص الاستثمار في عدد من الوزارات.
كانت الصداقة بين بعض العسكريين والسياسيين مع السفراء الأجانب داخل المغرب، محط كثير من التساؤلات، رغم أن السفير الأمريكي، في أكثر من مرحلة، لم يشر إلى أي تعاون بين المغاربة الذين اعتمد عليهم في صياغة عدد من التقارير السرية، وبين الخارجية الأمريكية. كان الأمر واضحا: استغلال للدردشات الجانبية بين السفير الأمريكي في الرباط، وبين وجوه معروفة في الأوساط السياسية والأمنية في المغرب، والنتيجة كانت نجاح الأمريكيين في الإحاطة بما كان يقع في المغرب وما يروج في الصالونات المغلقة لصناع القرار داخل الدولة، حتى لو كان الأمر مجرد إشاعات.
جمعت التقارير بين هؤلاء الأشخاص. هاجوا وماجوا، كما قال المثل القديم. اختلفوا والتقوا، لكن الرابط الأكبر بينهم كان هو اعتماد السفارة الأمريكية على تحركاتهم، آرائهم ومواقفهم، لتحليل الأوضاع في المغرب بل والتنبؤ بالمستقبل السياسي للبلاد، وإعداد أكثر التقارير سرية التي اعتمد عليها البيت الأبيض، لكي يحكم العالم.
الأمريكيون تابعوا تخصيص الجرائد الليبية صفحاتها الأولى للمعارضة المغربية!
من الوثائق التي رُفعت عنها السرية خلال السنوات الأخيرة، ولم ينتبه إليها أحد عندنا، على شاكلة وثيقة عشاء الملك الحسن الثاني مع عبد الرحيم بوعبيد وامحمد بوستة، وثيقة تتحدث عن الأهمية التي كان يحظى بها عبد الرحيم بوعبيد لدى السفارة الأمريكية في الرباط.
في يناير 1975، عقد حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، هكذا أشارت إليه الوثيقة بالضبط، والتي تحمل ترقيم R121320 JAN 75، مؤتمرا في مدينة الدار البيضاء اجتمعت فيه قيادة الحزب وخطب فيهم عبد الرحيم بوعبيد داعيا إلى «مغرب اشتراكي». المثير، تقول الوثيقة، إن مضمون خطاب عبد الرحيم بوعبيد كان موضوع الصفحة الأولى للصحافة في ليبيا يوم 12 يناير.
احتفل الليبيون إذن بدعوة عبد الرحيم بوعبيد إلى الاشتراكية في قلب مملكة الملك الحسن الثاني، في عز تربص القذافي بالملك الراحل وخلافهما الشهير. كانت سفارة واشنطن في طرابلس قد رصدت هذا الاهتمام بخطاب بوعبيد أمام أعضاء حزبه وأطره، وحولت تقريرا إلى السفارة في الرباط. وهكذا علم الأمريكيون قبلنا ربما، بأن القذافي كان يحتفل بخطاب عبد الرحيم بوعبيد.
مراسلات أخرى في نفس الشهر، أفردها الأمريكيون لكي يتابعوا مؤتمر حزب عبد الرحيم بوعبيد، وكانت تلك المراسلات متتالية في نفس الشهر، أي في يناير 1975، حتى إن إحدى تلك المراسلات وصفت الاجتماع الحزبي بـ «الاستثنائي»، وأضفت عليه صبغة الأهمية والتفرد.
انفجارات الحكومة ونسف «الكتلة» ومشاكل البرلمان كانت تقطع المُحيط
في سنة 1978، كانت أسماء امحمد بوستة، وعبد الرحيم بوعبيد، ينضاف إليهما اسم رضا اكديرة، وبنهيمة، وحتى علي يعتة، تتكرر في بعض التقارير التي ترفعها السفارة الأمريكية في الرباط إلى واشنطن.
اجتماعات البرلمان وانقسام النواب، وتهديد المعارضة بتفجير الحكومة التي كانت تحظى بدعم الملك الراحل الحسن الثاني، كانت كلها موضوع مراسلات سرية أرسلها ممثل واشنطن في الرباط خلال تلك الفترة.
لم تكن تلك المراسلات تعتمد فقط على ما جاء في الصحافة، فمثل هذه التقارير رفعت عنها السرية قبل وقت طويل، وتم تداولها، ولم يكن بها أي جديد بقدر ما كانت تجميعية لأرشيف نُشر في الصحافة الوطنية في حينه.
لكن ما نحن بصدده هنا، كان عبارة عن تقارير تم استقاؤها من مصدرها بالضبط بشكل سري، كانت في الأصل مبنية على اتصالات هاتفية وأحاديث جانبية في لقاءات غير رسمية، جمعها مكتب السفير على شكل آراء وأخبار ساعدت الولايات المتحدة الأمريكية على معرفة ما يجري بالضبط في المغرب، وقراءة ما بين السطور.
في نهاية السبعينيات، كانت علاقات الملك الراحل الحسن الثاني مع إيران والعراق، وخلافاته مع حافظ الأسد، والقطيعة بينه وبين القذافي، محط اهتمام السفارة الأمريكية في الرباط. وطبعا لم يكن ممكنا أن يكون هناك أي تواصل غير رسمي بين ملك البلاد والسفير. لذلك كانت المكالمات أو اللقاءات مع الرموز السياسية هي المنفذ الوحيد لجس النبض. حسب الوثائق الأرشيفية التي تعود لخريف 1978، فإن محيط الملك الحسن الثاني وزعماء الأحزاب، في الحكومة والمعارضة أيضا، كانوا يُدركون أهمية أسرار الملك الراحل الحسن الثاني وعلاقاته الخاصة بـ «الأشقاء» العرب. لكن ما نقلته السفارة عن محيطه، أنه كان يتوصل بتقارير أمنية مهمة تتعلق بتحركات جزائرية على الحدود لتهديد النظام في المغرب، وهو ما تأكد فعلا في وقت لاحق. كان الأمريكيون يعلمون أن الملك الحسن الثاني لم يكن يثق في الجزائريين، «وبقدر ما كان منشغلا بالأزمات الداخلية ومشاكل الحكومة ومطالب المعارضة، فإنه كان أيضا يطالع يوميا التقارير الأمنية بخصوص المناطق الحدودية مع الجزائر».
كان هؤلاء المحيطون بالملك الحسن الثاني يُدركون أنهم يجب أن يبتعدوا عن إثارة ما يتعلق بأسرار الملك مع السفير الأمريكي، وكان الأخير يشير في هذه المراسلات إلى عدم يقينه من بعض المعلومات أو تحفظ محاوريه. لكن في قضية الوساطة الأمريكية في ملف الصحراء مع الإسبان قبل المسيرة الخضراء بفترة، كان عبد الرحيم بوعبيد وامحمد بوستة، واضحين جدا.
ورقة سرية حول الحجم الحقيقي لوزير الدفاع المغربي سنة 1964
كنا في ملف سابق نُشر سنة 2017، بعنوان «هكذا تجسسوا علينا» قد أشرنا إلى قصة المحجوبي أحرضان الذي أصيب بإحراج كبير بسبب طائرات سوفياتية أهديت إلى المغرب عندما كان هو وزيرا للدفاع. كان الأمريكيون حسب تلك الوثيقة التي خرجت إلى الضوء بفضل تسريبات «ويكيليكس» الشهيرة، يريدون معرفة تطلعات المغرب في التقارب الحاصل بين الرباط وموسكو. واتصلوا بالمحجوبي أحرضان عن طريق سفارتهم في الرباط لكي يجمعوا أية معلومات ممكنة بخصوص تلك الهدية «السوفياتية».
المحجوبي أحرضان تلقى في مكتبه بمقر وزارة الدفاع برقية من الخارجية الأمريكية في الرباط، يعلن فيها السفير الأمريكي تنظيم السفارة للقاء مع مسؤولين من مختلف الجنسيات. لكن أحرضان تخلف عن الموعد بتعليمات من الملك الراحل الحسن الثاني. لم يُذكر هذا الأمر في الورقة التي تؤرخ للمناسبة، لكن ورقة أخرى صدرت في نفس الفترة، تشرح كيف أن لقاء عابرا بين السفير الأمريكي والمحجوبي أحرضان، في حفلة بمنزل أحد رجال الأعمال الفرنسيين والذي كانت تربطه بالرجلين صداقة متينة، يقول فيها السفير الأمريكي إنه حاول بطريقة غير مباشرة أن يسأل المحجوبي أحرضان، بالفرنسية، عن سبب تخلفه عن حضور الحفل بالسفارة، وفهم منه بطريقة ملتوية أن الأمر يتعلق بتعليمات سامية منعته من تلبية دعوة السفارة.
كان السفير الأمريكي، بحسب المراسلة، يلخص لإدارة البيت الأبيض، الدوافع السياسية التي جعلت المغرب وقتها ينحاز للسوفياتيين، خصوصا وأن تلك الفترة كانت تعرف تعاونا عسكريا بين الاتحاد السوفياتي والمغرب، وكانت الولايات المتحدة الأمريكية تتابع الأمر بقلق كبير، حتى أن السفير كان ملحا في محاولات الحديث مع وزير الدفاع المغربي، المحجوبي أحرضان، ليعرف منه معلومات عن الصفقات العسكرية التي كانت المخابرات الأمريكية تتابعها حول العالم. لكن الأمر، كما يشرح السفير الأمريكي لاحقا، لم يكن يتعلق بأي صفقات عسكرية بقدر ما يتعلق بمحاولات تقرب من السوفياتيين، خصوصا عندما قرروا منح المغاربة طائرات عسكرية مقاتلة، وأرسلوا فريقا من الخبراء العسكريين السوفيات في مجال الطيران لتدريب العناصر المغربية، وكان أحرضان، وزيرا للدفاع، حاضرا في مراسيم الاحتفال بتسلم المغرب لتلك الطائرات.
لم يهدأ بال الأمريكيين إلا عندما أدركوا أن الاتحاد السوفياتي قام بنفس الأمر مع دول أخرى، ليتبين لاحقا أن الأمر لا يتعلق بصفقات كما تخيلتها الأجهزة السرية الأمريكية.
لم يكن صعبا على الأمريكيين أن يتجسسوا على المؤسسات في الرباط لكي يعرفوا خبايا العلاقات المغربية السوفياتية. لكنهم كانوا يرغبون أكثر، من خلال السفارة وعلاقات طاقمها مع المسؤولين المغاربة، معرفة ما يدور في رأس صناع القرار في المغرب، وما لا تنقله التقارير.
لم يكن ممكنا إذن أن يعرف أحرضان أكثر مما يعرفه العسكريون، من ضباط وجنرالات، وهذا ما فهمه السفير الأمريكي متأخرا عندما قال في مراسلة في نفس الشهر الذي ترأس فيه أحرضان حفل تسليم الطائرات السوفياتية للمغرب، عندما قال في تقرير سري إن وزير الدفاع المغربي ترأس الحفل بتعليمات ملكية واضحة ولم تكن له أي علاقة تقارب مع السوفيات ولم يكن يعرف أي تفاصيل عن اتفاقيات عسكرية مقبلة بين المغرب والمعسكر الشرقي، وهي نفسها التعليمات التي جعلته يتخلف عن حضور الحفل الذي أقامه السفير الأمريكي في الرباط.