في منتصف الأربعينيات، كان بعض الطيارين الفرنسيين الذين شاركوا في الحرب العالمية الثانية قد تم تعيينهم في المغرب كأساتذة في المدارس الفرنسية، ومنهم من توجه إلى الطيران العسكري الفرنسي داخل المغرب، وأصبحوا تابعين للإقامة العامة الفرنسية. هؤلاء أثاروا إعجاب الملك الراحل محمد الخامس، وكانت محادثات كثيرة دارت بين الإقامة العامة والملك محمد الخامس بشأن القواعد الجوية الفرنسية بالمغرب، قبل سنة 1943، والتي كانت تمثل بؤرة لتجمع أفراد جهاز الطيران الفرنسي والطيارين الفرنسيين. لكن بعد الإنزال الأمريكي في المغرب للمشاركة في الحرب العالمية الثانية، وجدت فرنسا نفسها مجبرة على تحديث قواعدها الجوية، وتحويل بعض مصالحها إلى فضاءات لممارسة التدريب الذي يتلقاه الطيارون. وهنا أفسح المجال أمام ولوج المغاربة عالم الطيران، رغم أن بداية التكوين لم تنطلق إلا في النصف الأول من خمسينيات القرن الماضي، كما أن الجيل الأول من الطيارين المغاربة لم يتخرج إلا في سنة 1956 ومن فرنسا وليس من المغرب كما روجت بعض المصادر.
الاتفاقات الأمنية السرية للغاية بين الحسن الثاني وأمريكا كان عصبها «الطيران»
كان وجود الكولونيل عبد السلام بوزيان في الولايات المتحدة الأمريكية خلال النصف الأخير من ستينيات القرن الماضي، يمثل حقبة حساسة في العلاقات المغربية الأمريكية. فقد تزامنت زيارة الجنرال إدريس بن عمر إلى الولايات المتحدة الأمريكية في يونيو 1967 مع تداعيات ما عرف بحرب الأيام الستة بين الجيوش العربية والجيش الإسرائيلي. ولم تكن نقطة مشاركة الجيش المغربي بأمر من الملك الحسن الثاني، لتغيب عن تلك المحادثات التي تداول فيها الجنرال مع مسؤولي واشنطن العسكريين، ملفات أمنية حساسة بما فيها ملف الشرق الأوسط.
في سنة 1969، وضعت الولايات المتحدة الأمريكية رجلها العسكري الخبير ويليام لانج، لكي يترأس الهيئة التي كلفت بالتنسيق مع الجانب المغربي في الأمور الأمنية. وبما أن الكولونيل عبد السلام بوزيان كان هو الملحق العسكري في السفارة، فإنه كلف بالجلوس مع الأمريكيين إلى الطاولة ونقل تقارير تلك الاقتراحات الأمريكية والتعليمات أحيانا إلى الرباط.
كانت هذه العلاقة قد أثمرت عن فوز المغرب بعدد من الاتفاقيات والمساعدات من الجانب الأمريكي، خصوصا وأن الولايات المتحدة الأمريكية في نهاية الستينيات من القرن الماضي، كانت قد فتحت قواعدها العسكرية لاستضافة أفواج من الطيارين المغاربة الجدد، الذين مثلوا الجيل الثاني من الطيران المغربي، لكي يتدربوا على أحدث الطائرات والرادارات الأمريكية. والأكثر من هذا أن الولايات المتحدة منحت طائرات مقاتلة من آخر طراز في تلك الفترة، هدية للطيارين المغاربة الذين عادوا بها إلى المغرب لتعزيز الأسطول الجوي للجيش المغربي.
كان الكولونيل عبد السلام بوزيان يلج بناية البنتاغون لحضور الاجتماعات الرسمية المنعقدة مع الجانب الأمريكي. ومضمون تلك الاجتماعات كان يرفع مباشرة إلى الملك الحسن الثاني، كما أشارت إلى ذلك وثائق أرشيف الخارجية الأمريكية التي رفعت عنها السرية سنة 2014، والتي تناولت العلاقة بين الملحق العسكري المغربي في السفارة المغربية بواشنطن لنهاية الستينيات والنصف الأول من سبعينيات القرن الماضي، والتي كان من بينها برنامج لتدريب تقنيين مغاربة على الرادارات. وكتبت الصحافة السوفياتية وقتها أن الأمريكيين عهدوا إلى المغاربة بمراقبة الأجواء في المحيط الأطلسي لصالحهم، للتأهب ضد أي تحرك جوي سوفياتي قد يهدد سلامة الأمريكيين.
عبد السلام بوزيان.. الطيار الذي أصبح دبلوماسيا
هذا الطنجي الذي تفوق في الدراسة الثانوية في نهاية الأربعينيات وأصبح رسميا في الجيل الأول للطيارين المغاربة سنة 1955، نجح في الوصول إلى المربع الذهبي المحيط بالملك الحسن الثاني خلال بداية الستينيات، ثم عين لاحقا في السفارة المغربية في واشنطن، وعاش مرحلة سنة 1967 من هناك، حيث كان في استقبال عدد من الجنرالات المغاربة الذين حلوا في مهام عسكرية بواشنطن، وتوسط للكولونيل المذبوح هناك ليحصل على رعاية طبية خاصة من الأمريكيين، دائما خلال نهاية الستينيات.
في 14 ماي 1956، في سياق تأسيس الجيش الملكي من طرف الملك الراحل محمد الخامس، ووعد الطيارين التسعة الذين شكلوا الفوج الأول للمغاربة الذين درسوا الطيران وتدربوا عليه في فرنسا، بمسار واعد في الجيش المغربي بعد أن سلمهم مفاتيح تأسيس القاعدة المغربية الأولى، والتي كانت تقع في الرباط سلا. الكولونيل عبد السلام بوزيان أمسك مفاتيح قاعدة الرباط، في ما رفيقه في التخرج محمد القباج، الذي أصبح لاحقا ربان طائرة الملك الحسن الثاني خلال السبعينيات والثمانينيات، أمسك مفاتيح قاعدة مكناس.
سيحصل عبد السلام بوزيان على شارة الليوتنان كولونيل في واشنطن، سنة 1967، في شهر يونيو بالضبط، بعد أن حمل الجنرال إدريس بن عمر بنفسه تلك الرتبة لكي يقلد بوزيان بها رسميا. كان السياق زيارة إلى واشنطن ترأسها الجنرال إدريس بن عمر، بأمر مباشر من الملك الراحل الحسن الثاني. وكان وقتها عبد السلام بوزيان يشغل رسميا منصب ملحق عسكري في السفارة المغربية في واشنطن.
تأبط ملفا سريا للغاية من الرباط، عندما أرسله الملك الحسن الثاني إلى السفارة في واشنطن. ولم تكن تلك المرة الأولى التي يتعرف فيها الملك على الكولونيل بوزيان عن قرب، بل سبقتها مرات أخرى تعود بالضبط إلى الفترة التي كان فيها الحسن الثاني وليا للعهد.
ففي سنة 1962 طلب بوزيان أن يقابل الملك الراحل الحسن الثاني، وهو ما تم في الثانية صباحا، ذات ليلة رمضانية. اللقاء تزامن مع توقيت وجبة السحور، وكان الملك الحسن الثاني مهتما بطلب الطيار بوزيان لقاءه، وكان وقتها الكولونيل القباج قد طلب إعفاءه من رئاسة قاعدة مكناس، وقدم طلبا وصف فيه أسباب طلبه الإعفاء بالشخصية. وخلفه الكولونيل بوزيان، الذي راكم بدوره تجربة في قاعدة سلا الجوية، وفي ذلك السياق طلب لقاء الملك الحسن الثاني لكي يخبره ببعض التفاصيل المرتبطة بتعيينات تلك القواعد العسكرية. وقتها كان الطيار عبد السلام بوزيان، يتعرف على محيط الملك الحسن الثاني جيدا، خصوصا وأن أسماء عسكرية، عصف انقلاب الصخيرات بأغلبها، كانت تسيطر على المشهد العام وتطوق جيدا محيط الملك الحسن الثاني. لكن بما أننا نتحدث عن 1962، فإن توقع مصير مشابه لكل هؤلاء كان شبه مستحيل.
المهمة في الولايات المتحدة الأمريكية، في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي، كانت تمثل قمة ما وصل إليه الكولونيل عبد السلام بوزيان من حظوة مهنية وتقدير من طرف الملك الراحل الحسن الثاني.
أما مصدر هذه المعلومات فهو الكولونيل بوزيان نفسه الذي باح بها سنة 2016، عندما رتب أرشيفه الخاص وعرضه على العموم باللغة الفرنسية.
محمد الخامس رغب بشدة في تكوين جيل الطيارين المغاربة وهذه قصة البداية
في بداية ثلاثينيات القرن الماضي، كان محمد الخامس وهو بعدُ «سلطانا»، لا يخفي رغبته في الحصول على جيل أول من الطيارين المغاربة. المناسبة كانت في فرنسا، حيث قامت طائرات عسكرية فرنسية بالتحليق فوق باريس احتفالا بزيارة رسمية للملك محمد الخامس خلال النصف الأول من ثلاثينيات القرن الماضي، ومن يومها والسلطان محمد الخامس مسكون بفكرة الحصول على الجيل الأول من الطيارين المغاربة. كان هذا طبعا في وقت لم يكن المغرب يتوفر على أية بنية تحتية، بل كان الطيارون الفرنسيون المحسوبون على الجيش الفرنسي بالكاد يتنقلون بين المطارات الصغيرة التي كانت تُستعمل لأغراض عسكرية وإدارية، وليس مدنية.
في منتصف الأربعينيات، كان بعض الطيارين الفرنسيين الذين شاركوا في الحرب العالمية الثانية قد تم تعيينهم في المغرب كأساتذة في المدارس الفرنسية، ومنهم من توجه إلى الطيران العسكري الفرنسي داخل المغرب، وأصبحوا تابعين للإقامة العامة الفرنسية.
هؤلاء أثاروا إعجاب الملك الراحل محمد الخامس، وكانت محادثات كثيرة دارت بين الإقامة العامة والملك محمد الخامس بشأن القواعد الجوية الفرنسية بالمغرب، قبل سنة 1943، والتي كانت تمثل بؤرة لتجمع أفراد جهاز الطيران الفرنسي والطيارين الفرنسيين. لكن بعد الإنزال الأمريكي في المغرب للمشاركة في الحرب العالمية الثانية، وجدت فرنسا نفسها مجبرة على تحديث قواعدها الجوية، وتحويل بعض مصالحها إلى فضاءات لممارسة التدريب الذي يتلقاه الطيارون. وهنا أفسح المجال أمام ولوج المغاربة عالم الطيران، رغم أن بداية التكوين لم تنطلق إلا في النصف الأول من خمسينيات القرن الماضي، كما أن الجيل الأول من الطيارين المغاربة لم يتخرج إلا في سنة 1956 ومن فرنسا وليس من المغرب كما روجت بعض المصادر.
كان الملك الراحل محمد الخامس مسرورا وهو يتلقى خبر نجاح أفراد الفوج المغربي الأول في امتحانات الطيران. دخل الطيارون التسعة التاريخ من أوسع أبوابه. واعتبر الملك الراحل محمد الخامس وولي العهد الأمير مولاي الحسن، حدث تخرج هذا الفوج بمثابة عيد وطني، حيث نظم لهم الملك الراحل حفل استقبال مغربي مائة بالمائة داخل أسوار القصر الملكي، رغم أن هؤلاء الطيارين المغاربة تم استدعاؤهم إلى القاعدة الجوية الفرنسية فور التحاقهم بالمغرب، أي مباشرة بعد اجتياز الامتحانات النهائية في فرنسا، وبإشراف فرنسيين بطبيعة الحال.
هؤلاء الطيارون الخريجون هم: إبراهيم أكزول، قدور الطرهزاز، عبد اللطيف بوطالب، أحمد بن الحسين، عبد السلام بوزيان، عبد الله عمار، عبد الله بامعروف، محمد القباج، نور الدين الخطيب.
تسعة مواطنين مغاربة يجمع بينهم الذكاء والتفوق الدراسي في المدارس الثانوية المغربية التي كان الفرنسيون يشرفون فيها على تلقين المواد العلمية، خصوصا الرياضيات. هؤلاء الخريجون الذين كان أغلبهم ينتمون إلى القرى، مقابل قلة منهم فقط نشؤوا في المدن، كانوا فخرا حقيقيا للملك الراحل محمد الخامس، حتى أنه راسل الإقامة العامة الفرنسية سنة 1955 عندما كان في باريس تمهيدا لإنهاء أزمة نفيه عن العرش، وأشار في رسالة رسمية إلى رئاسة الجمهورية الفرنسية إلى ما معناه أن المغرب بات يتوفر على جيل جديد من المتعلمين المغاربة بإمكانهم التألق في الريادة. كان هؤلاء الطيارون التسعة وقتها بالكاد يُنهون امتحاناتهم النهائية في جهاز الطيران العسكري الفرنسي.
تقارير سرية لـ«كا جي بي» الروسية: جنرالات المشاة المغاربة كانوا يكرهون الطيارين
كان الطيران العسكري الروسي في منتصف الخمسينيات يعيش على إيقاع الحرب الباردة مع الأمريكيين.
بالمقابل، كانت القواعد الجوية الأمريكية لا تزال مرابطة في المغرب على الرغم من انتهاء مرحلة الحرب العالمية الثانية التي كانت سببا في مجيء الأمريكيين أصلا إلى المغرب واختيار القنيطرة وبوقنادل كقواعد لهم.
لهذا السبب فكر الروس في التقرب من المغرب، وفعلا تحقق الأمر في نهاية الخمسينيات. كان المغرب بعد الاستقلال يتوفر على الطيارين التسعة، وسرعان ما انضافت إليهم الدفعة الثانية في أقل من سنتين على تخرج الدفعة الأولى من الطيارين.
بعد الاستقلال، أصبحت مهام هؤلاء الطيارين هي ممارسة بعض المهام الإدارية والعسكرية التي أنيطت للجيش الملكي ما بين سنوات 1958 و1959، وكانت هذه المهام تحديدا في منطقة الريف، أثناء الأحداث المعروفة في تلك السنة، بالإضافة إلى أحداث الجنوب أثناء أزمة جمع سلاح جيش التحرير والتحاقه بالجيش الملكي.
كانت المهمة الأبرز لهؤلاء الطيارين هي قيادة الطائرات التي ورثها المغرب من فرنسا واستعمالها لنقل الشخصيات الحكومية والعسكرية البارزة، بالإضافة إلى نقل البريد الخاص بالقصر الملكي والعمالات والأقاليم إلى الرباط باستعمال المطارات الصغيرة التي ورثها المغرب من فرنسا وإسبانيا في الأقاليم الجنوبية.
عندما تدخّل الروس، اقترحوا على الملك الراحل محمد الخامس وولي العهد، منح المغرب طائرات مقاتلة حديثة، وعرضوا على المغرب تكوينا «مجانيا» للطيارين المغاربة الذين كانوا يتوفرون على مهارات كبيرة جدا في الطيران، وسرعان ما اندمجوا في قيادة الطائرات المقاتلة الروسية بدون مشاكل.
تحقق إذن حلم الملك الراحل محمد الخامس. وأصبح المغرب يتكون إلى حدود سنة 1960، على ثلاث دفعات من الطيارين المغاربة لم تكن تفصل بينهم سنوات خبرة كثيرة. تحولت القواعد التي تركتها فرنسا، خصوصا في مراكش ومكناس، إلى قواعد مغربية وضعت فيها طائرات «الميغ» روسية الصنع، وأصبح المدرسون السوفيات، الذين خصص لهم الملك الراحل محمد الخامس استقبالا رسميا كبيرا، يتمتعون بامتيازات كبيرة ضمنها لهم الملك الراحل محمد الخامس، لم يكونوا يتوفرون عليها في الاتحاد السوفياتي مثل سيارات الخدمة والسكن الوظيفي القريب من القواعد الجوية.
أصبح الملك الراحل محمد الخامس يتوفر على طياريه الخاصين، والذين اختير من بينهم من يتولى بالتناوب قيادة الطائرة الخاصة بالملك الراحل أثناء سفرياته الرسمية إلى الخارج.
وبعدها بسنة، أي في 1961، أصبح الملك الحسن الثاني ملكا للبلاد، وهنا كان الأمريكيون قد بلغوا ذروة قلقهم من التقارب السوفياتي مع المغرب، خصوصا وأن صفقة طائرات «الميغ» الروسية التي أشرف عليها الحسن الثاني وهو ولي للعهد، تعززت أكثر عندما أصبح ملكا، إذ أعلن الاتحاد السوفياتي وقتها أن طائرات «الميغ» التي كانت تعكس قمة التقدم العلمي للطيران الروسي، باتت هدية إلى المغرب.
عندها، جمعت الاستخبارات الروسية معلومات مهمة عن الجيش المغربي في سنة 1961، وتقول تقارير للـ«كي.جي.بي» مؤرخة تحت ترتيب CLS198654، رفعت عنها السرية بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، ما مفاده إن الروس لاحظوا عداء بين الطيارين وجنرالات الجيش المغربي المقربين من الملك الجديد الحسن الثاني. جاء في الوثيقة: «الملاحظ أن كفاءات الطيران المغربي الذين كانوا قد تفوقوا علميا في المدارس الفرنسية، غير مرحب بهم في المربع القريب من الملك الحسن الثاني وأن جنرالات مغاربة شاركوا في مُشاة الجيش الفرنسي خلال الحربين العالميتين يعتبرون وجودهم بالقرب من الملك تهديدا لمصالحهم».
هذه الوثيقة من شأنها أن تفتح مزيدا من الأقواس في العلاقة الشائكة للأسماء العسكرية البارزة بعضها ببعض، وعلاقتها أيضا بالملك الحسن الثاني. كيف تحولت حياة هؤلاء الطيارين خلال ستينيات القرن الماضي، ولماذا بقي جهاز الطيران سرا من أسرار الدولة؟
حرب الرمال.. حسمها الطيارون وجنى غلتها جنرالات الصحراء
عندما حلت سنة 1963، كان المغرب على مشارف حرب الرمال التي شكلت تفجرا حقيقيا لأزمة باردة بين قيادة الثورة الجزائرية وتقلباتها، وعلاقتها بالملك الحسن الثاني.
حسب تقارير أمريكية فإن حرب الرمال حُسمت لصالح المغرب، نظرا للتفوق العسكري المغربي في مجال الطيران. إذ لم يكن الجزائريون يتوفرون على أسطول جوي مثل الأسطول المغربي، الذي كان مزودا بأحدث الطائرات الروسية وبنخبة من الطيارين المغاربة الذين حصلوا على أعلى الدرجات من المؤسسة العسكرية الفرنسية. بينما كان الجزائريون بالكاد يتوفرون على مروحية سوفياتية وطائرة أخرى أهديت إلى الجزائر في السنة نفسها، أي في سنة 1963.
الغارات التي شنها الطيران المغربي على الاستفزاز الجزائري كان لها دور كبير في حسم الحرب لصالح المغرب.
كان الملك الراحل الحسن الثاني يفتخر بأسطوله الجوي، رغم أن الجنرال إدريس بن عمر، قائد العمليات على الأرض، كان يعتبر نفسه عصب تلك الحرب.
كان هناك أيضا العسكري المغربي الجنرال لوباريس، الذي كان قائد كوموندو المظليين، والذي كان بحكم هذا الموقع، على اتصال بالطيارين المغاربة الذين كانوا يُقلعون بالطائرات التي تدرب الجيل الأول من المظليين المغاربة.
حدث كل هذا في وقت كان فيه الجيش الجزائري بالكاد يتوفر على فرق من الجيش تتكون أساسا من متطوعين للخدمة العسكرية لم تتجاوز مدة تكوينهم العسكري بضعة أشهر، وجل ما في جعبتهم من خبرة كان حمل الرشاشات والقفز من الشاحنات أو التصويب على الأهداف.
بحسب وثيقة أرشيف «الكاجيبي» الروسية، فإن بعض الكولونيلات العسكريين المغاربة كانوا يرفضون أن تتم الإشارة إلى الدور الكبير الذي لعبه الطيارون في التأثير على وحدات الجيش الجزائري وقطع مد الماء عنها وسط الصحراء، وكانوا يرجعون أسباب انتصار الجيش المغربي في حرب الرمال إلى التكتيك العسكري على الأرض وصلابة أفراد الجيش، باعتبار أنهم كانوا ينتمون إلى جيل شارك في الحرب العالمية وجيش التحرير أثناء الحماية.
بعد حرب الرمال تعزز وجود بعض الأسماء العسكرية في الدولة، وأصبحت في دائرة القرار قرب الملك الراحل الحسن الثاني محتلة أماكن كان من المفروض أن يجلس فيها سياسيون وقادة أحزاب سياسية. لكن توجه الدولة فرض وجود العسكريين.
ففي السنة ذاتها، أي 1963، كان العسكريون يهيمنون على مناصب مثل منصب العامل، الذي أصبح عسكريا لأول مرة عندما أصبح الكولونيل المذبوح عاملا، واستُدعي للشهادة في محاكمة مؤامرة يوليوز 1963 ضد الاتحاديين. بالإضافة إلى عسكريين آخرين من الأركان العامة الذين تحولت مناصبهم العسكرية إلى أمنية. ولم تكد سنوات الستينيات تمضي حتى أصبح العسكريون في دواليب الدولة، بينما بقي الطيارون في طائراتهم. ومع نهاية الستينيات، أصبح بعض الطيارين مثل القباج وبامعروف، الذين كانوا من الرعيل الأول للطيران وفخر الملك الراحل محمد الخامس، طيارين مدنيين، اشتغلوا في الخطوط المغربية كربابنة للطائرات التجارية، قبل أن يستدعي الملك الحسن الثاني هذه الأسماء وأسماء أخرى، لكي يقودوا الطائرة الملكية ويشرفوا على قيادة رحلاته الخاصة أثناء المهام الرسمية والعطل.
لماذا غاب تاريخ قاعدة القنيطرة؟
عندما حلقت الطائرات المقاتلة التي تورط ربابنتها في الانقلاب المدبر على الطائرة الملكية في عز صيف 1972، بتنسيق مع الجنرال أوفقير كما اتضح لاحقا، أصبح تاريخ القاعدة الجوية التي ورثها المغرب من القوات الجوية الأمريكية، في مهب الريح.
لقد كانت مكانة الطيارين المغاربة كبيرة، رغم أن الهيمنة كانت من نصيب جنرالات الجيش الذين راكموا خبرة مع الجيش الفرنسي على الأرض. ففي سنة 1967 كان الملك الحسن الثاني يشرف شخصيا على تعزيز الدبلوماسية المغربية، خصوصا مع الولايات المتحدة الأمريكية التي تدرب فيها طيارون مغاربة كثر، وكانت أسماء عسكرية أمثال الجنرال إدريس بن عمر والكولونيل المذبوح بالإضافة إلى الكولونيل بوزيان، يترددون على الولايات المتحدة، حتى أن الأخير، أي بوزيان، كان ملحقا بالسفارة المغربية في واشنطن بعد أن تقلد رئاسة قاعدة سلا الجوية قبل تلك المهمة. لكن مرحلة السبعينيات كانت لها أبعاد أخرى.
تغيرت معالم القاعدة الجوية في القنيطرة، التي كان الأمريكيون، يوم الانقلاب، صيف 1972، لا يزالون يسيطرون على جزء منها بل وتوجد بها طائرات أمريكية. بينما كان الجزء الخاص بالمغاربة في القاعدة يخضع للسيادة المغربية تماما، ويشرف على مجمل العمليات وتراخيص الإقلاع وبرامج التداريب. كان هناك استقلال مغربي عن الجزء التابع للأمريكيين، لكن التقارير الاستخباراتية التي رفعت عنها السرية نقلت عن الملك الحسن الثاني شكوكه في أن يكون الأمريكيون قد علموا بشأن مخطط الانقلاب، لكنهم لم يفصحوا عن تلك المعلومات للملك. وهو ما جعل العلاقات المغربية الأمريكية تعرف برودا نسبيا، سرعان ما انتهى مع أواسط السبعينيات.
لم يعد الجيل الأول من الطيارين يعرفون عن قاعدة القنيطرة أي شيء، في مقابل ذلك كانت قواعد مكناس ومراكش تعرف إشرافا من قدماء الطيران الذين تدربوا على أيدي الأمريكيين والسوفيات، لكن بإشراف جنرالات عسكريين كانوا من أبرز الأسماء التي أسست الجيش الملكي أمثال إدريس بن عمر، الذي كان مشرفا على جميع وحدات الجيش المغربي بما فيها الطيران، بالإضافة إلى الجنرال الغرباوي الذي كان مقربا جدا من الملك الحسن الثاني، ومات في انقلاب الصخيرات على أيدي تلاميذ مدرسة «أهرمومو»، بالإضافة إلى الجنرال البوهالي الذي مات بدوره في انقلاب الصخيرات، عندما حاول صد الانقلابيين من اقتحام مبنى الإذاعة بالرباط. هؤلاء كانوا يشرفون على المؤسسة العسكرية بتفويض خاص من الملك الراحل الحسن الثاني.
وبعد أن تم طي مرحلة انقلاب الصخيرات بخسائرها في صفوف الأسماء العسكرية الكبرى بالبلاد، أصبح مستقبل القاعدة الجوية بالقنيطرة مجهولا، بعد أن أصبحت مدرسة أهرمومو مهجورة بعد انقلاب الصخيرات، ولا تزال كذلك إلى اليوم.
أما القاعدة الجوية بالقنيطرة فقد كان مصيرها خاصا بعد أن كانت مسرحا لانطلاق الانقلاب الذي استهدف الطائرة الملكية، إذ تم إقبار آثار الجيلين الأول والثاني الذين أسسوا الطيران المغربي. وأصبحت قاعدة سلا الجوية تحظى بمكانة أكبر.
لقد كان انقلاب سنة 1972 هو «الفيراج» الذي غير مسار تاريخ صناعة الطيران في المغرب، رغم أن بعض رموزه، كما رأينا في هذا الملف، أصبحوا دبلوماسيين مكافأة لهم على الخدمات التي قدموها لعاهل البلاد.