لم يفت الملك الراحل الحسن الثاني أن يعلن أكثر من مرة أن صداقته بعبد الرحيم بوعبيد يسيطر عليها نوع من «الغرابة». فقد أسرّ للاتحادي عبد الواحد الراضي، بعد وفاة عبد الرحيم بوعبيد، وهو يتحدث معه على سطح السفينة التي كان الملك الراحل يحب التنقل بها أن طباع صديقه عبد الرحيم بوعبيد تُملي عليه دائما أن يبحث عن الملاحظات لكي يخبر بها الملك، وشبّه الملك الراحل الأمر بسحابة صغيرة تمر في السماء الصافية الزرقاء، حيث مازح الراضي بالقول إن بوعبيد لن يهتم إلا بتلك السحابة. أما المعطي بوعبيد، فقد كان صاحب نكتة في أوساط المحامين بالدار البيضاء، ولا يزال القدماء إلى اليوم يحفظون له ذكريات كثيرة،
خصوصا في فض الخصومات بين المحامين في نقابة الدار البيضاء وحل مشاكلهم مع الإدارة أو الوزارة، حيث كان بوعبيد يأخذ المعني من يده ويصحبه إلى باب الوزارة لحل المشكل، بدل إجراء الاتصالات الأرستقراطية من المكاتب المكيفة. وجمع كل هذا في يد، وأمسك الوزارة الأولى بيد أخرى، ودخل التاريخ من أوسع أبوابه. كيف كان المحامون يعيشون مجد المهنة ومخاطرها، ويجمعون بينها وبين السلطة والمسؤولية، والأدوار التاريخية التي صنعت تاريخ المغرب الحديث؟
المهنة التي وزعت أبناءها بين المعارضة والسلطة
ربما لم يجتمع للمحامين ما اجتمع لغيرهم في عالم السلطة والسياسة وصناعة التاريخ. المحامون المغاربة، ينتمون اليوم إلى واحدة من أعرق المهن التي تنضوي تحت وزارة العدل. تاريخ كامل، بدأ قبيل الاستقلال، تكون أطره الأوائل في مغرب الحماية، حيث درسوا الحقوق في فرنسا وعادوا إلى المغرب ببذل سوداء وفتحوا مكاتبهم لاستقبال شكايات المواطنين المغاربة وقضاياهم ضد المعمر الفرنسي، فنجحوا في إدخال المغاربة إلى المحاكم الفرنسية والنيابة عنهم بلغتهم الأم.
يسجل التاريخ للنقيب عبد الرحمن بن عمرو أنه أول محام مغربي رافع باللغة العربية في أولى القضايا التي ناب فيها محامون مغاربة. في وقت كانت دهاليز العدل لا تزال متأثرة بالأسلوب الفرنسي والرؤية الاستعمارية في تدبير القطاع.
كان جيل شباب الخمسينيات، يحظون بفرصة التألق سريعا في مجال المحاماة بحكم أن الحاجة كانت كبيرة لمحامين مغاربة لتدبير ملفات المواطنين المغاربة أثناء عرضها على القضاء. في حين كان القضاة، من قدماء الذين ورثوا القضاء عائليا، حيث أن عائلات مغربية كانت تورث القضاء لأبنائها بتعيينات ملكية على الطريقة المخزنية القديمة. لكن عندما تم تحديث الإدارة، وتبنى المغرب أسلوبا إداريا جديدا مع بداية الستينيات، أصبح ضروريا أن يحظى المحامون برقعة الضوء إلى أن تجدد الدولة هياكلها في القضاء.
لن يتسع المجال هنا في هذا الملف لذكر كل الأسماء التي صنعت مجد مهنة المحاماة ووصلت إلى الوزارة، لكننا هنا نرصد أقوى قصص وبروفيلات الشخصيات التي جمعت بين الوزارة والمحاماة، ودخلت التاريخ من أوسع أبوابه.
سيكون مثيرا أن نكتشف كيف أن هؤلاء كانوا يجمعون، في وقت سابق، بين الترافع في ملفات صنفت وقتها في خانة تهديد الأمن العام، وبين التأثير في المشهد السياسي والجلوس في القصر الملكي مع الملك الحسن الثاني والتكليف بمهام حكومية ودبلوماسية.
جيل عبد الرحيم بوعبيد وأحمد بوستة ورضا اكديرة، الذي كان أقرب محام إلى الملك الراحل الحسن الثاني، يختلف عن جيل محمد بوزوبع. فهذا الأخير نشأ في جيل ينظر بإعجاب إلى الجيل الأول الذي بدأ مع بوعبيد وبوستة واكديرة. ثم يأتي المحامي المعطي بوعبيد الذي جمع بين الوزارة الأولى والمحاماة، وتزعم نقابة المحامين، وهيكلة حزب الاتحاد الدستوري، دون أن يفارقه همّ بذلة المحاماة.
محمد بوزوبع.. وزير العدل الذي رافع لصالح المتورطين في انقلاب 72
وزير العدل في حكومة عبد الرحمن اليوسفي التي سُميت لاحقا حكومة إنقاذ البلاد من السكتة القلبية، كان خبيرا بملفات حقوق الإنسان، على اعتبار أنه أحد أهم المحامين الذين رافعوا في سنوات الرصاص خلال محاكمات تاريخية أبرزها محاكمة محكمة القنيطرة التي توبع فيها طيارون بتهمة المشاركة في الانقلاب الذي استهدف طائرة الملك الراحل الحسن الثاني وهي تدخل الأجواء المغربية في صيف سنة 1972.
كان محمد بوزوبع واحدا من الأسماء التي كانت تقود الشبيبة الاتحادية متأثرا بخطاب عبد الرحيم بوعبيد، خصوصا أن بوزوبع كان قد بدأ مساره في مهنة المحاماة وفتح عينيه خلال مساره المهني على محاكمة يوليوز 1963 ثم محاكمة مراكش سنة 1971 التي سبقت انقلاب الصخيرات بأسابيع فقط.
صحيح أن محمد بوزوبع خلال سنة 1971 لم يكن له من القامة السياسية والنضالية ما ينافس به عبد الرحيم بوعبيد الذي كان يكبره سنا وتجربة، ولا حتى امحمد بوستة، لكنه كان وقتها في أواسط الثلاثينيات، محاميا يبحث عن اسم في ساحة المحامين الشرسين الذين تحضر أسماؤهم في كل قضايا المعارضة في المغرب. نورد هنا مداخلة لمحمد بوزوبع، الذي أصبح في ما بعد وزيرا للعدل مع بداية سنة 2000.
بحسب المحاضر التي تؤرخ للمحاكمة، فإن محمد بوزوبع كان قد أخذ الكلمة للمرة الأولى في محاكمة مراكش الشهيرة، تعقيبا على مداخلة قام بها زميل له في هيأة الدفاع هو الأستاذ عبد العزيز بناني.
اتخذ محمد بوزوبع لنفسه مكانا في المنصة، وكان يتجول بنظراته، من خلف النظارات الطبية السميكة التي كانت تُظهره أكثر خجلا، لكنه في الحقيقة لم يكن كذلك، وإنما كان يبحث لنفسه عن مكانة بارزة تسجل اسمه في محطة محاكمة مراكش. فحتى تعب الطريق، الذي أوصله إلى مراكش في ذلك الحر القائظ، لم يثنه عن التفكير في نزع البذلة السوداء التي كان ثوبها يزيد من حرارة القاعة غير المكيفة والمكتظة بالمتهمين والمخبرين و«البركاكة» وبعض أفراد العائلات وكثيرا من المتفرجين الفضوليين. وحده القاضي كان يفرض نظاما صارما حتى لا تعم الفوضى.. وقتها أحدث بوزوبع، بشكل أثار اهتمام عبد الرحيم بوعبيد كثيرا، زوبعة حقيقية عندما أحرج رئيس المحكمة بعلامات التعذيب التي كانت بادية على المتهمين.
أما المرة الأخرى التي كان فيها الوزير بوزوبع على موعد مع التاريخ سنة فقط بعد محاكمة مراكش، فهي عندما دافع عن الطيارين المتهمين في قضية الطائرة الملكية والذين تجند الجنرال الدليمي بنفسه لإدانتهم واتخذ كرسيه في المنصة ممثلا للنيابة العامة رغم أنه طرف في القضية، بحيث كان مع الملك الحسن الثاني في الطائرة.
مرت السنوات، وأصبح محمد بوزوبع وزيرا للعدل في سياق تاريخي عصيب تميز بفتح ملفات الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وكان الوزير وقتها في موقف لا يُحسد عليه، بحكم أنه كان وزيرا معنيا بتدبير تلك الملفات التي تبنتها هيئة الانصاف والمصالحة، بالإضافة إلى أنه كان أحد المحامين الشهود على تلك الانتهاكات، وممثلا لدفاع عائلات الضحايا الذين جاؤوا إليه وزيرا، بعد قرابة أربعين سنة، مطالبين بالإنصاف.
المعطي بوعبيد.. عينه محمد الخامس وكيلا للملك والحسن الثاني جعله وزيرا أول
المعطي بوعبيد واحد من المحامين المغاربة الذين تركوا بصمتهم في تاريخ المحاماة بالدار البيضاء، واحدة من أكبر معاقل تجمعات المحامين في إفريقيا.
اسمه عُرف أكثر عندما أصبح على رأس حزب الاتحاد الدستوري وواحدا من قيادييه البارزين. عينه الملك الراحل الحسن الثاني وزيرا أول في حكومة سنة 1979 واستمر في تلك التجربة إلى آخر أيام نونبر 1983.
كان يحب أن يقدم نفسه محاميا قبل أن يكون سياسيا. فالسياسة دخلها من البوابة المعروفة عند أبناء جيله، وهو الذي وُلد في سنة 1927، عندما عانق اليسار وانخرط في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وهو لا يزال طالبا في كلية الحقوق ببوردو في فرنسا.
في سنة 1952 أصبح المعطي بوعبيد محاميا بصفة رسمية بعد أن أدى قسم المحاماة، وعرف عنه، وهو المحب للدار البيضاء وسكان المدينة القديمة، مرافعته في قضايا مظالم المغاربة ضد الإقامة العامة الفرنسية.
صار واحدا من أقدم محاميي الدار البيضاء، بل ومن أوائل الذين هندسوا تسلم المغاربة لدواليب وزارة العدل في نسختها المغربية بعد سنة 1956. إلى جانب المحاماة، وهذا ما لا يعرفه الكثيرون عن شخصية المعطي بوعبيد، أنه تقلد مناصب في وزارة العدل منذ سنة 1956، حيث عينه الملك الراحل محمد الخامس وكيلا للملك في محكمة طنجة الجهوية، وهي التجربة التي لم تدم طويلا. فمع نهاية الخمسينيات سوف تأخذ السياسة المعطي بوعبيد من تلابيب بذلة المحاماة التي لم يتخل عنها طيلة مساره ليهتم أكثر، بنقابة المحامين بالدار البيضاء، حيث انتُخب نقيبا أكثر من مرة في فترات زمنية متفرقة، كان العنوان الأبرز لعلاقة المحامين بالدولة خلالها هو التوتر.
من النقط غير المعروفة، أو المنسية على الأصح، أن المعطي بوعبيد لم ينزل إلى الحقل السياسي بمظلة حزب الاتحاد الدستوري، بل كان وزيرا للتشغيل في حكومة عبد الله إبراهيم التاريخية سنة 1958، وعُين فيها بتزكية من الملك الراحل محمد الخامس. عندما توقفت تجربة حكومة عبد الله إبراهيم وأقيل المعطي بوعبيد من الوزارة، حمل أوراقه وعاد إلى الدار البيضاء لكي يخوض السياسة في الميدان، حيث وصل إلى رئاسة بلدية الدار البيضاء، وهو ما كان يعني انتصارا انتخابيا له باسم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي كان يحظى بشعبية كبيرة في فترة الستينيات.
أدى المعطي بوعبيد نصيبه من ضريبة تشنج العلاقة بين حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية على عهد عبد الله إبراهيم وعبد الرحيم بوعبيد، وانشغل بالمحاماة، إلى نهاية السبعينيات، عندما سلمه الملك الراحل الحسن الثاني ثقته وعينه وزيرا أول لحكومة سنة 1979 التي جاءت في سياق كان فيه المغرب يمر بمرحلة اقتصادية عصيبة جدا كان عنوانها الكساد وعدم الاستقرار الاجتماعي أيضا.
في سنة 1983، سوف يعزز المعطي بوعبيد حضوره السياسي عندما ترأس تشكيل حزب الاتحاد الدستوري، وظل إلى جانب العمل السياسي، مرتبطا بمهنة المحاماة التي كان يعتبرها، كما عبر لأصدقائه قبل خصومه، أنها المهنة التي تجعله يرى بالملموس واقع المغاربة ويعرفهم جيدا، ربما أكثر من بقية السياسيين.
كان معروفا عن المعطي بوعبيد أنه كان صاحب نكتة في أوساط المحامين بالدار البيضاء، ولا يزال القدماء إلى اليوم يحفظون له ذكريات كثيرة، خصوصا في فض الخصومات بين المحامين في نقابة الدار البيضاء وحل مشاكلهم مع الإدارة أو الوزارة، حيث كان بوعبيد يأخذ المعني من يده ويصحبه إلى باب الوزارة لحل المشكل، بدل إجراء الاتصالات الأرستقراطية من المكاتب المكيفة.
عبد الرحيم بوعبيد.. المحامي الغاضب الذي يغادر القاعة ليدخل القصر
لم يفت الملك الراحل الحسن الثاني أن يعلن أكثر من مرة عن أن صداقته بعبد الرحيم بوعبيد يسيطر عليها نوع من «الغرابة». فقد أسر إلى الاتحادي عبد الواحد الراضي، بعد وفاة عبد الرحيم بوعبيد، وهو يتحدث معه على سطح السفينة التي كان الملك الراحل يحب التنقل بها، أن طباع صديقه عبد الرحيم بوعبيد تُملي عليه دائما أن يبحث عن الملاحظات لكي يخبر بها الملك، وشبه الملك الراحل الأمر بسحابة صغيرة تمر في السماء الصافية الزرقاء، حيث مازح الراضي بالقول إن بوعبيد لن يهتم إلا بتلك السحابة.
جمعت عبد الرحيم بوعبيد بالملك الحسن الثاني لقاءات كثيرة تبادل خلالها الرجلان ملاحظات كثيرة، بل ومواقف عن الديموقراطية والحُكم، وكان وقتها الحسن الثاني لا يزال وليا للعهد، بينما كان بوعبيد قد أنهى دراسته للحقوق وعاد محاميا إلى المغرب يفتح مكتبه في وجه الرباطيين من أصحاب المظالم، خصوصا أن بوعبيد كان معروفا بولائه لحزب الاستقلال والحركة الوطنية التي تربى في صفوفها. وهذا ما يفسر الشعبية الكبيرة التي كان يحظى بها، قبل تأسيس حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية سنة 1959.
كان عبد الرحيم بوعبيد من خلال صداقته مع ولي العهد، قادرا على البوح بأفكاره التقدمية التي كانت في بعض الأحيان لا تتناسب مع الوعاء السياسي لحزب الاستقلال الذي كان يقوده علال الفاسي، المنتمي لجيل آخر كان ينظر للأمور بمنظور مختلف. ورغم أن الملك الحسن الثاني جمع بين الرجلين، إلا أن السياسة جعلت بوعبيد يبتعد عن الدائرة الملكية في كثير من المناسبات، ويودع الوزارة منذ فشل تجربة عبد الله إبراهيم، حيث أن عبد الرحيم بوعبيد كان وزيرا في بعض التجارب الحكومية المبكرة في تاريخ المغرب، ومع بداية عهد الملك الراحل الحسن الثاني وأول انتخابات سنة 1962، كان عبد الرحيم بوعبيد قد أدرك أن مروره إلى المعارضة لن يجعله مشاركا في أي تجربة سياسية من الداخل.
توجه عبد الرحيم بوعبيد إلى الاهتمام أكثر ببذلته السوداء، وهكذا تحول إلى المرافع الأول للمعارضة في المحاكمات، سواء في محاكمة 1963 أو في محاكمة مراكش الشهيرة سنة 1971. وهما المحطتان اللتان صدرت خلالهما أحكام قاسية جدا على رفاق بوعبيد من المنخرطين في حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية.
يقول النقيب عبد الرحيم بن بركة، الذي كان قد تدرب في مكتب عبد الرحيم بوعبيد ورافقه في محاكمة مراكش الشهيرة سنة 1971، في تقديم تأليفه لكتاب جمع فيه محاضر تلك المحاكمة التاريخية: «كان عبد الرحيم بوعبيد إذن في محاكمة مراكش مثلما في محاكمة الرباط يشرف على هيئة الدفاع، وكان رائعا كالعادة في جرأته الفكرية. وفي دهائه السياسي وفي اتساع ثقافته القانونية والتاريخية، وفي قدرته الخارقة على نسف الحجج الواهية بضربة تتجه إلى الهدف مباشرة وتصيبه في الصميم. وعند افتتاح الجلسة الأولى، أعلن أنه يطعن في أهلية أحد القضاة الثلاثة. لكنه أضاف بتلك النبرة الساخنة المشحونة بالتلميحات أنه من باب الأدب يرفض أن يلفظ اسم القاضي المذكور. وفي الحين يجثم على القاعة صمت ثقيل مملوء بألف سؤال واحتمال. وتشرئب الأعناق نحو المنصة التي كان يجلس إليها أعضاء الهيئة القضائية، وسرعان ما تمايلت الرؤوس وسرى اللغط والهمس في صفوف الحاضرين».
أغضب عبد الرحيم بوعبيد الملك الحسن الثاني في مرات كثيرة، خصوصا أنه رافع في قضايا كانت الدولة ترى فيها مساسا بالأمن وتهديدا للنظام. فهل كان عبد الرحيم بوعبيد يقوم بدوره كمحام للنيابة عن متهمين، كان قلة فقط من المحامين يملكون شجاعة النيابة عنهم؟ أم أنه كان معارضا بشراسة للملك الحسن الثاني إلى درجة أن ينبري للدفاع عن المعارضة، وإلقاء تلك المرافعات التاريخية التي كان «المعارض الأول» يزلزل بها جنبات قاعة المحكمة؟
لقد كان عبد الرحيم بوعبيد خلال لقاءاته الأخيرة بالملك الحسن الثاني، والتواصل الدائم بينهما من خلال وزراء وأصدقاء مشتركين، يؤكد على أن اختلافه مع الملك الحسن الثاني سيبقى مسألة مبدأ، حتى بعد تجربة سجن ميسور بسبب موقفه من الاستفتاء خلال بداية الثمانينيات، وعندما أطلق سراحه التقاه الملك الحسن الثاني ففتح حضنه لاستقباله قائلا: «بدون ضغائن يا عبد الرحيم». فقد كان الملك الحسن الثاني يعرف بوعبيد جيدا ربما أكثر من أصدقائه، خصوصا وأن الصداقة بينهما تمتد إلى زمن البوح والمواقف الجريئة التي لم تتغير بين الرجلين، رغم أن الأول صار ملكا للمغرب والثاني ارتدى البذلة ليكون المعارض الأول، من داخل المؤسسات طبعا.
رضا اكديرة.. مستشار ملكي دافع عن خصوم الحسن الثاني في قضايا تاريخية
كان من جيل الملك الراحل الحسن الثاني. وتعرف عليه الملك وهو لا يزال في سنوات شبابه الأولى يافعا يستكشف العالم خارج أسوار القصر الملكي والإقامات الملكية بين سلا والرباط. وقتها كان اكديرة من أبناء سلا الذين لا يهدؤون. تكونت صداقة متينة بينهما، توجت بتعيين اكديرة مباشرة بعد عودة العائلة الملكية من المنفى، مشرفا على ديوان ولي العهد الأمير مولاي الحسن. وكان اكديرة وقتها قد أصبح محاميا بعد أن أنهى دراسته الجامعية للحقوق في فرنسا، وعاد إلى المغرب ليفتح مكتبه.
كان رضا اكديرة في شبابه حاد الطباع، حتى أنه قرر مقاطعة الطلبة المغاربة في باريس، حيث كانوا ينتمون إلى حزب الاستقلال، ويتزعمهم محمد الدويري وعبد الرحيم بوعبيد، وأعلن خصومة معهم جميعا وابتعد عن الأجواء السياسية التي كان يسيطر عليها حزب الاستقلال في سنوات الأربعينيات داخل الأوساط الطلابية في فرنسا. كان اكديرة في الحقيقة يؤسس أسلوبه الخاص، وهو ما سيؤثر بلا شك على مساره في السياسة، فابتعاده عن الاستقلاليين ظهر جليا عندما أسس جبهته خلال بداية الستينيات وكيف اختار أن يعزز وجوده من داخل الوزارة وليس خارجها، فقد كان وزيرا للداخلية في عهد الملك الراحل الحسن الثاني منذ أول تجربة حكومية في عهده، وكان خلال فترات التشنجات السياسية يلجأ إلى بذلة المحاماة التي تعيد إليه حرارة استئناف السباقات. لكنه خلال سنة 1966 سوف يصبح رسميا مستشارا للملك الحسن الثاني، حيث بقي في المنصب إلى أن أهلكه المرض سنة 1995، وهو ما جعله يبتعد عن المنافسات الانتخابية والأجواء السياسية المشحونة بين الأحزاب.
خلال سنوات شبابه الأولى خلال بداية أربعينيات القرن الماضي، كان الشاب اكديرة مهووسا برياضة كرة السلة، ثم التنس الذي مارسه مع الملك الحسن الثاني وهو ولي للعهد ثم ملكا للمغرب، لكن حبه لكرة السلة تملكه في تلك السنوات البعيدة حتى أنه كاد يرسب في امتحانات الباكالوريا بسبب تعلقه الزائد بتلك الرياضة.
بالموازاة مع ذلك، إلى جانب صداقته مع ولي العهد، كان اكديرة مأخوذا بفن المسرح، حتى أنه كان يلجأ إلى ضيعة فلاحية في ملكية والد أحد أصدقائه المقربين من أبناء سلا، مع محمد رشيد مولين، وأسماء أخرى من السلاويين الذين وصلوا إلى الوزارات والدواوين، وكانوا يتمرنون فيها على أداء مقاطع و«مونولوغ» من مسرحيات فرنسية معروفة.
فجر اكديرة حبه للمسرح بامتهان المحاماة. وسُجل له خلال مساره أنه كان يتبنى القضايا الكبرى التي تصنع الرأي العام الوطني وتشغله. ورغم أنه كان صديقا للملك الحسن الثاني إلا أنه رافع مرات كثيرة عن خصومه أو عن الذين يتابعون في جرائم ضد الدولة في عهده.
في ملف البهائيين الذي تفجر سنة 1963، حيث اعتقل مواطنون في الناظور بتهمة المس بالدين الإسلامي، وكان اكديرة حاضرا بقوة في الملف الذي أثار سخطا شعبيا كبيرا. وقبله كان يرافع لصالح المتورطين في فضيحة زيوت مكناس المسومة التي قلبت حياة 10 آلاف مواطن مغربي بمدينة مكناس وطالب الضحايا بإعدام المتهمين، لكن اكديرة بقي يرافع عنهم وارتبط اسمه بالملف لفترة طويلة رغم أن المتهمين حُكم عليهم بالإعدام ليستفيدوا في الأخير من عفو ملكي.
اقتران اسم اكديرة بهذا النوع من الملفات أوصله بسهولة إلى الصفحات الأولى للجرائد المغربية، رغم أنه في الحقيقة لم يكن يحتاج شهرة بحكم قربه من الملك الراحل الحسن الثاني، فقد كان أقرب مقربيه، ورغم ذلك لم يتخل عن بذلة المحاماة.
امحمد بوستة.. تنبأ له محمد الخامس بالمستقبل وكلفه الحسن الثاني بمهام دبلوماسية
يمكن أن نُسمي امحمد بوستة بالصناعة الاستقلالية الخالصة. هذا الرجل الذي فتح عينيه في منزل استقلالي لأب متعصب لحزب الاستقلال وأسرة لا تعرف تنظيما غير الحزب، سوف يتم اختياره في سن مبكرة لكي يدرس الحقوق في فرنسا، ويعود إلى المغرب كإطار من الأطر المحلية التي أنفق عليها الحزب لكي تؤطر أبناءه سياسيا، وأيضا لكي يتم إعداده لمناصب المسؤولية بعد الاستقلال.
في سنة 1950 فتح امحمد بوستة مكتبه الخاص بالدار البيضاء، وتدرب لديه محامون مغاربة كثر، ويكفي أن نعرف أن استقلاليا آخر هو عباس الفاسي قاد تجربة حكومة 2007، قد تدرب في بداية مشواره داخل مكتب امحمد بوستة.
كان أيضا حاضرا في القصر الملكي بقوة إلى جانب الملك الراحل محمد الخامس، باعتباره أحد الشبان المُكونين أكاديميا والمؤهلين للمناصب السيادية، خصوصا أن قادة الحزب الذي ينتمي إليه يمسكون بمناصب وزارية وإدارية مهمة، جعلتهم يستعينون بخدمات بروفايلات أمثال امحمد بوستة.
ما لا يعرفه الكثيرون أن بوستة كان من أوائل المغاربة الذين استعان بهم القصر في تأسيس وزارة الخارجية وفتح باب الحوار مع الدول الأخرى، بعد حصول المغرب على الاستقلال. ففي حكومة بلافريج ما بين سنتي 1957 و1958، تعين وزيرا للدولة في الشؤون الخارجية، وكان يتأبط الملفات التي يعهد إليه بها الملك الراحل محمد الخامس جيدا، حتى أنه مازحه مرة بحضور الوزير باحنيني والكولونيل البوهالي قائلا: «يبدو أننا سرقناك من مكتبك». وكانت تلك إشارة من الملك الراحل محمد الخامس إلى بوستة، كتقدير على تركه لمكتبه للمحاماة، حيث بلغ الملك أن بوستة عهد بتدبير المكتب إلى بعض أصدقائه المحامين لكي يتفرغ للوزارة، حيث عمل مع الملك محمد الخامس في حكومة 1960 التي تلت تجربة عبد الله إبراهيم، في ملف التشغيل، وكان الملك يشرف بنفسه على تلك الحكومة إلى أن توفي سنة 1961. عندما توترت العلاقة بين الدولة وقدماء المقاومة، رافع امحمد بوستة عن المتهمين بتهديد أمن الدولة، رغم أنه كان استقلاليا ولم يغادر مع المغادرين إلى حزب الاتحاد الوطني الذي يُحاكم مناضلوه، سواء في محطة 1963 المشهورة بمؤامرة يوليوز أو خلال محاكمة مراكش الكبرى، حيث كان امحمد بوستة في دفاع المتهمين، وهو الموقف الذي احترمه الملك الراحل الحسن الثاني كثيرا في شخص امحمد بوستة. فبالإضافة إلى ولائه الدائم لحزب الاستقلال، إلا أنه لم يتنكر لمناضلي الأمس الذين أسسوا الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ودافع عن براءتهم من مؤامرة تهديد أمن الدولة.
بعد وفاة علال الفاسي، الأب الروحي، صار امحمد بوستة على رأس حزب الاستقلال، وكان الملك الحسن الثاني يعهد إليه منذ 1974، بمهام دبلوماسية كنقل الرسائل الشفهية إلى رؤساء دول صديقة وزعماء عرب، وهي المهمة التي مارسها بوستة بانتظام، دون أن يغادره ذلك الإحساس الدافئ بارتداء البذلة التي أدخلته إلى القصر.