«عندما تحملت مسؤولية قيادة التنظيم في الجزائر اكتشفت وجود ثلاثة أو أربعة عناصر يشتغلون لصالح المخابرات المغربية، بينما بادر بعضهم تلقائيا إلى كشف المهمة المنوطة به. لم يفاجئني الأمر بقدر ما لم يزعجني.
عالجت الموضوع بما يقتضيه من هدوء واحتواء. إذ طلبت منهم البقاء في التنظيم دون أن يصيبهم مكروه.
كان هدفي واضحا. تحويلهم إلى عملاء مزدوجين. لذلك يسرت أمرهم، بتزويدهم بين الفينة والأخرى بمعلومات حقيقية، لكن إما غير ذات بال ولا شأن أو كنت أتعمد إيصالها إلى من يهمهم الأمر.
في كلتا الحالتين، عملت على توفير ما يبرر به هؤلاء العملاء وجودهم. والاحتفاظ بهم لخدمة أغراض التنظيم.
الاستعلام والاستخبار كان متداولا بل متبادلا، لذلك كنت أكتشفهم بسرعة، رغم تدريبهم على أساليب التخفي والتمويه وطريقة إتلاف الوثائق التي من شأنها كشف هويتهم».
عباس.. شهادات تنشر لأول مرة عن صراع قدماء المقاومة مع الأجهزة السرية
عندما كتب امبارك بودرقة مذكرات عبد الرحمن اليوسفي، كان الكثيرون ممن يجهلون مسار الرجل وماضيه، يتساءلون عن الرجل الذي أخرج عبد الرحمن اليوسفي عن صمته.
لكن بودرقة، في الحقيقة رجل من زمن الرصاص، لا يزال بتواضعه يرفض الأضواء رغم أنه أرشيف حقيقي لثورة 3 مارس 1973. بعد عشرين يوما على تلك الأحداث التي جرت الكثيرين إلى الإعدام، بينما استفاد آخرون لاحقا بعد سنوات من عفو ملكي لطي تلك الصفحة، غادر بودرقة المغرب جوا وهو يتوقع أن يلقى عليه القبض في أي لحظة عقب تلك الأحداث.
أثناء لقائنا معه لتسلم نسخة من الكتاب قبل نزوله إلى المكتبات «بوح الذاكرة وإشهاد الوثيقة»، بدا واضحا أن «عباس» أو امبارك بودرقة، وهما اسمان لرجل واحد، ليسا في الحقيقة سوى تجربة إنسانية واحدة اختلط فيها الشخصي بالإنساني والتنظيمي أيضا. فالرجل يقول إنه ينظر الآن إلى كل ما مضى بعين حكيمة خلص بها إلى أن التغيير لا يكون أبدا بقلب الأنظمة باستعمال السلاح.
شجاعة كبيرة من رجل لم يتنكر للمرحلة، بل حملها معه عندما عاد إلى المغرب في إطار المصالحة وطي سنوات الرصاص، بعد وصول عبد الرحمن اليوسفي ومن معه إلى قيادة أول تجربة حكومية في المغرب، بعد عقود طويلة من المعارضة والصراع مع الدولة. في هذا الكتاب ينشر بودرقة مجموعة من الوثائق التي تنشر لأول مرة، تتحدث عن اتصالات عدد من الذين قضوا في تلك المرحلة ومراسلات الناجين، سواء بهروبهم إلى الخارج أو بعد صدور أحكام العفو لفائدة المدانين.
يسلط بودرقة الضوء على قصة بنونة، أحد الأسماء التي ذاع صيتها بعد ثورة 3 مارس 1973 المجهضة، ويقدم حقائق عن التنسيق والتحركات الأخيرة والتسلل عبر الحدود إلى المغرب، وما رافق العملية من احتياطات وتربصات.
بالإضافة إلى أسماء أخرى كان ينسق معها باعتباره مشرفا على العمليات في الجزائر، في الوقت الذي كان فيه الفقيه البصري يتحرك بنشاط كبير بين عدد من العواصم لحشد الدعم للثورة، خصوصا من طرف الجزائريين على أيام هواري بومدين.
في وقت لاحق، يقول بودرقة إن تطورات كثيرة وقعت جعلت أعضاء التنظيم يدركون أن حمل السلاح وحده لن يغير من الوضع شيئا، وإن الحالة المغربية تقتضي كثيرا من التريث والحكمة. ورغم استمرار الابتعاد عن المغرب طيلة تلك السنوات، إلا أن تجمعا كبيرا للمعارضين بالخارج، جعل الأجواء حميمية، تستحق فعلا أن تروى.
قائد التنظيم السري في الجزائر وأحد مهندسي ثورة 1973 يتذكر..
فور الإعلان عن صدور الكتاب الجديد لمبارك بودرقة أو (عباس)، الاسم الذي اشتهر به في لقاءاته مع عبد الرحمن اليوسفي والفقيه البصري وآخرين ممن لقبوا لاحقا بـ«أبطال بلا مجد»، ممن شاركوا بحماس في التخطيط وتنفيذ ثورة 3 مارس 1973 المسلحة، استعاد الكثيرون ممن كانوا قريبين من الأحداث زخم ذكرياتهم، كل من موقعه.
لكن ما يميز بودرقة، أنه كان يتنقل بنشاط بين الجبهات، حيث كان من جملة الذين فرض عليهم السياق العام حينها البقاء خارج المغرب، خصوصا أن أحكاما غيابية بالإعدام صدرت في حق أغلبهم.
المثير في هذه الشهادة التي أصدرها بودرقة، على شاكلة حوار مكاشفة بينه وبين ذ. الطيب بياض، أنها تتضمن وثائق تنشر لأول مرة عن التخطيط لثورة مارس 1973، بل ويقول عنها بودرقة بكثير من الشجاعة إنها عرفت أخطاء قاتلة على مستوى التنظيم والتنسيق، وإن الحماس أخذ الذين تحمسوا لها، ولم يحسبوا الأمور جيدا.
عمر دهكون أحد أقوى الأسماء التي ارتبط بها الموضوع، على اعتبار أنه تولى بتنسيق مع امبارك بودرقة من الخارج، تولي الأمور في الداخل، وهو ما جعله مطلوبا أمنيا داخل المغرب، ورغم ذلك فقد واصل اللقاءات مع الخلايا التي كانت «نائمة»، ثم استيقظت بعد تلقي تدريبات في الجزائر على استعمال السلاح.
امبارك بودرقة اليوم، رجل هادئ شارك بشكل أساسي ومؤثر في إنجاح تجربة الإنصاف والمصالحة، أثناء دراسة الملفات وترتيبها حسب قضايا الاختطاف وألغاز الاختفاء، الذي طال عددا من النشطاء والمعارضين خلال سنوات الرصاص. ولأن بودرقة كان في قلب تلك الأحداث الأليمة، فإن تلك الملفات كانت تعني له الكثير.
جرب المنفى مع الفقيه البصري وعبد الرحمن اليوسفي، وهو اليوم أحد أهم المصادر الحية والشهود على المفاوضات التي تمت مع عبد الرحمن اليوسفي، لإقناعه بالعودة إلى المغرب لتشكيل حكومة التناوب.
وبعدها سيعود بودرقة إلى المغرب بدوره لينخرط في تجربة طي صفحة سنوات الرصاص، وهي التجربة التي تطرق إليها في كتاب «هكذا كان» بالتفصيل غير الممل.
يقول بودرقة إنه ينظر إلى الأمور الآن من منظور مختلف أملاه تراكم السنوات التي مرت على تجربة «الثورة» ومعارضة النظام. وبدا واضحا بالنسبة إليه، وهذا أمر يتفق معه الكثيرون، على أن الوقت قد حان لرواية ما وقع، خصوصا وأن بعض الروايات أثارت زوابع، مثل الاتهام الأخير الذي طال المقاوم الفقيه البصري بدعم الانفصال والجمهورية الوهمية في الصحراء. سوف يقدم بودرقة شهادة مهمة عن تلك المرحلة، ليؤكد فيها أن الفقيه البصري كان يعارض بشدة اختيار مؤسسي البوليساريو وضع أيديهم في يد النظام الجزائري، الداعم الأول لتلك الأطروحة.
اللحظات الأخيرة لفشل مخطط أحداث 1973
«.. لم نكن نتوفر بعد على تنظيم محكم البناء والهيكلة، واسع الانتشار في المدن، بل كنا في مرحلة جنينية جرى إجهاضها للأسف سريعا بفعل رجات القيادة المتسرعة.
لذلك أردت أن أكون دقيقا أكثر بالنسبة لتجربة 3 مارس 1973، يجوز لي أن نقول إننا انتهينا قبل أن نبدأ.
سعيتُ من جهة إلى الانضباط في الفعل مع عمر دهكون، ومصارحة الفقيه البصري وتحذير الميد بلغة واضحة لا لبس فيها. الثورة عمل هادئ وتخطيط محكم وفعل منظم وليس مجرد حماس مفعم. المسألة أعقد بكثير من أن تكون مجرد هواية تحكمها الأهواء والنزوات، يصير فيها الرجال مثل فئران في حقل تجارب».
الكلام هنا بوح امبارك بودرقة، أو عباس اسمه الذي عُرف به حركيا في أكثر التنظيمات السرية إثارة للجدل إلى جانب الفقيه البصري. عباس، الرجل الثائر الذي عاش من الداخل الإعداد لأحداث 3 مارس، التي لا تزال إلى اليوم مثيرة للجدل وكُتب عنها من الخارج أكثر مما تُداول عن كواليس مطبخها الداخلي، يقول في هذه الشهادة التي تُنشر مضامينها لأول مرة: «ما يؤسف له، وأكررها أكثر من مرة، أن الذين آمنوا بهذا العمل وانخرطوا فيه كانوا صادقين مندفعين بإيمان قوي. لكن عوض أن يكونوا مُحاربين ثوريين، حولتهم رعونة القيادة وتهورها إلى مجرد انتحاريين تائهين مشتتين».
هذا الاعتراف يحسب صراحة لمبارك بودرقة. إذ إن المصير الذي لقيه الذين آمنوا بثورة الفقيه البصري، كان مؤسفا، خصوصا أن أحكام الإعدام تطايرت في سقف قاعة المحكمة بالقنيطرة، لتنهي أحلام عدد كبير من الشباب المتحمس للتغيير، بينما استفاد آخرون من عفو ملكي لاحقا، لكن بعد أن قضوا سنوات من الترقب بعيدا عن عائلاتهم.
لكن امبارك بودرقة، الذي كان في قلب تلك الأحداث، بل وفي عمق الإعداد لها، كُتب له أن يغادر المغرب قبل أن يتم تطويق الثورة أمنيا ويسقط كل الذين شاركوا فيها بين يدي الأمن. يستعيد تلك اللحظات قائلا: «صعدت درج العمارة سريعا ولم أتوقف بالطابق الأول، بل عبرت إلى الطابق الثاني. ما كان يهمني ساعتها هو الاطلاع على حال باب الشقة، هل تعرض للكسر والتشميع أم بقي سليما؟
جاءت نتائج تحرياتي إيجابية. وجود باب وقفل الشقة سليمين، كان يعني لي أن الشرطة لم تصل بعد إلى مقر لقاءاتنا. مما يؤشر على أن عمر دهكون المرجح أن يكون معتقلا حينها ما زال صامدا، لم يبح بشيء بعد. احتراما لاتفاق كتم الأسرار لمدة ثمان وأربعين ساعة، الذي كنا قد قطعنا العهد بشأنه بيننا.
بدأ العد العكسي إذن، وبدأ معه التخطيط لاتخاذ قرار سريع وحكيم. فكرت في ثلاثة سيناريوهات: الجزائر عبر وجدة، المطار، أو التخفي في مكان قصي وسري ريثما ينقشع الغبار. (..) العبور إلى الجزائر عبر وجدة يتطلب على الأقل أربعا وعشرين ساعة. لست متأكدا أنها متاحة لي من رصيد الصمود المتبقي لعمر دهكون.
لا خيار لي إذن سوى نهج سبيل المقامرة والمغامرة. فلتكن الطائرة وسيلتي وحيلتي للخروج من محنتي.
لم يكن جواز سفري يفارقني. وكذا قدر محترم من النقود تحسبا لكل مستجد طارئ. (..) سألت عن أقرب موعد لإقلاع الطائرة نحو باريس فعلمت أنه سيكون في آخر النهار. اقتنيت التذكرة ثم توجهت نحو المطار، فإذا بي ألتقي بإبراهيم السافيني الذي كان يشتغل جزارا ببوندي، سبق أن أرسله إلينا الفقيه البصري.
حاول مصافحتي، تجاهلت الأمر وقلت له بصوت خافت سنسافر معا. إن وصلنا معا بخير فذاك. وإذا لم تجدني بالطائرة أخبر الإخوة في التنظيم أنني وعمر دهكون اعتُقلنا.
لم أتنفس الصعداء إلا والطائرة تحط بمطار أورلي. فالسفر كان على متن الخطوط المغربية، واحتمال إعلامها في الجو بضرورة العودة إلى المغرب ظل واردا، لذلك كان الضغط والتوجس رفيقي طوال الرحلة.
في اليوم الموالي للوصول إلى باريس، أي 23 مارس 1973، سافرت جوا إلى الجزائر حيث موعدي مع اجتماع لتقييم ما حصل.
لم يمر على وصولي إلى الجزائر يوم واحد، حتى كان بيان وزارة الداخلية يعلن اعتقال عمر دهكون ومبارك بودرقة ومجموعة من المخربين».
يقول بودرقة إن الخبر نزل كالصاعقة على عائلته، بذل جهدا لإقناع والدته أن خبر اعتقاله لم يكن صحيحا.
هذا البوح الصريح لمبارك بودرقة بعد كل هذه السنوات وحيازته للأرشيف الحصري لثورة 3 مارس 1973، عناصر تجعل من شهادته الحصرية في هذه المذكرات التي ننفرد هنا بنشر أهم مضامينها، تستحق فعلا أن تروى.
حقيقة الجواسيس والمخبرين الذين اخترقوا عناصر «الثورة» المسلحة
عمر دهكون الذي تم تداول اسمه كثيرا في عدد من الكتابات التي تناولت موضوع ثورة 3 مارس 1973، والتي اتُهم المعارض الاتحادي الفقيه البصري بالتخطيط لها وتمويلها، لا يزال موضوع عدد من التساؤلات، خصوصا أن أقواله في المحكمة كانت مزلزلة، إذ إن الرجل تحمل مسؤوليته التاريخية ولم يكن يخفي معارضته للنظام. بالإضافة إلى أسماء أخرى حركية، كشفت في المحاكمة وأثناء التحقيق مع الموقوفين بعد تسللهم إلى المغرب، لا يسعنا المجال في هذا الملف للوقوف عندها جميعا. يستحضر بودرقة هذه الذكريات التي جالت بخاطره قبل انطلاق العمليات: «ما كنت أسعى إليه هو التنبيه إلى أن الأمر لا يحتمل الخطأ ولا التسرع. لم أكن أعلم أن هناك قرارا سريعا بالدخول إلى المغرب. وما كان علي أن أعلم. لأن كل خبر جديد في العمل السري هو عبء على صاحبه وخطر على مصدره. وأي خبر هذا الذي كنت سأعلمه؟
كان عمر دهكون متابعا ومطلوبا للعدالة تترصده مختلف الأجهزة، ومع ذلك جرى إرساله للإشراف على التنظيم في المغرب.
كانت لديه خلايا متعددة، أغلب عناصرها يرتبطون بشكل أو بآخر ببقايا مجموعة شيخ العرب.
يوما كان أي حدث ناجم عن فعل المعارضة، يستدعي حملات اعتقال واسعة تأتي على الأخضر واليابس، فيجري انتقاء الكيف من داخل الكم. والوصول إلى الخيوط الموصلة لرأس التنظيم.
عندما كان محمود يعبر الحدود المغربية الجزائرية رفقة رجاله، لم يكن في غفلة من أمره. كان يعي جيدا أن الأمور غير ناضجة. ولكن لم يكن له من خيار آخر غير ركوب المخاطر. على أمل أن يشرف بنفسه في الداخل على إنضاج شروط إطلاق العمل المسلح.
فوجئ أكثر بانتقاء القاعدة الصلبة للانطلاق، وغياب التنظيم المحكم، وضعف عدد الرجال المفترض أن يكونوا مدربين جاهزين لحمل السلاح. والارتباك الحاصل في التنسيق والتواصل بين مختلف وحدات المواجهة والقتال، والأدهى والأمر، الاختراق المبكر من طرف الجواسيس».
الخوض في موضوع اختراق ثورة 3 مارس 1973، كان يتسبب في كثير من الحساسيات، خصوصا أن المقربين وقتها من المعارض الاتحادي الفقيه البصري الذي كان يتنقل بين الجزائر وسوريا وباريس، كانوا يتهمون القيادات الاتحادية في المغرب بالتنكر للفقيه البصري، باعتباره رمزا اتحاديا من مؤسسي اليسار الأوائل.
في مقطع آخر يقول بودرقة متحدثا عن موضوع الجواسيس والمخبرين: «كانوا موجودين طبعا. بل كنا ندرك وجودهم، لأنه من العادي والطبيعي أن تكون هناك محاولات لاختراق تنظيم يسعى إلى الثورة وتغيير نظام الحكم.
عندما تحملت مسؤولية قيادة التنظيم في الجزائر، اكتشفت وجود ثلاثة أو أربعة عناصر يشتغلون لصالح المخابرات المغربية، بينما بادر بعضهم تلقائيا إلى كشف المهمة المنوطة به. لم يفاجئني الأمر بقدر ما لم يزعجني.
عالجت الموضوع بما يقتضيه من هدوء واحتواء. إذ طلبت منهم البقاء في التنظيم دون أن يصيبهم مكروه.
كان هدفي واضحا، تحويلهم إلى عملاء مزدوجين. لذلك يسرت أمرهم، بتزويدهم بين الفينة والأخرى بمعلومات حقيقية، لكن إما غير ذات بال ولا شأن لها، أو كنت أتعمد إيصالها إلى من يهمهم الأمر.
في كلتا الحالتين، عملت على توفير ما يبرر به هؤلاء العملاء وجودهم. والاحتفاظ بهم لخدمة أغراض التنظيم.
الاستعلام والاستخبار كان متداولا بل متبادلا. لذلك كنت أكتشفهم بسرعة، رغم تدريبهم على أساليب التخفي والتمويه وطريقة إتلاف الوثائق التي من شأنها كشف هويتهم.
وبدل خيار تصفيتهم الذي كان مألوفا في تجارب أخرى كنت أعمد إلى إعادة تجنيدهم، والتغطية على أنشطتهم بما يكفل الاستفادة منهم بدون نشاز ولا إثارة انتباه.
كانت المخابرات الجزائرية بدورها تراقب تحركاتنا، خاصة في ما يتعلق بحيازتنا للسلاح أو التحرك في المجال.
أسفرت نتيجة ذلك إما عن تدخل مباشر للعقاب والتنكيل في موضوع السلاح، أو وشاية لنظيرتها المغربية كما أشرت إلى ذلك سابقا.
كنا ندرك جيدا أن العمل الاستخباراتي وارد، بل مفترض. واشتغلنا على هذا الأساس، لذلك أعددنا البدائل وخطط التعامل مع الموضوع.
بيد أن الوشاية التي داهمت محمود بنونة حاصرته ولم تترك له هامشا للمناورة، لأنه وجدها للأسف مثل لغم انفجر تحت قدميه، منذ أول خطوة أراد أن يخطوها على درب تفعيل مشروع الثورة في الميدان».
وثائق حصرية ترفع الستار عن الذكريات والكواليس غير المروية
نشر بودرقة في هذه المذكرات: «بوح الوثيقة وإشهاد الذاكرة» مجموعة من الأوراق النادرة، التي تعتبر الوثائق الأصلية لمراسلات وتقارير خطها أعضاء التنظيم السري بخط اليد، وتوصل بها بودرقة عندما كان مكلفا بالتنسيق بين الفرق والإشراف على مجريات الأمور في الجزائر، التي كانت وقتها الوعاء الذي احتوى الإعداد للعمل المسلح نحو المغرب. حتى أن أحد هؤلاء المقاومين القدامى الذين كان ينسق معهم بودرقة والفقيه البصري، ويتعلق الأمر بالحاج علي المانوزي، نسي تماما أنه راسل بودرقة بخصوص موضوع يخص مجريات الأمور والأوضاع في المغرب قبيل أحداث مارس 1973. وعندما طويت تلك المرحلة وعاد بودرقة إلى المغرب في إطار الإعداد لتجربة الإنصاف والمصالحة، فاجأ الحاج علي المانوزي، والد المعارض المغربي المُختطف الحسين المانوزي، بنص تلك الرسالة المطولة التي كتبها بخط يده. ولم تكن تلك الوثيقة الوحيدة. بل هناك حزمة من الوثائق التي تعتبر الدليل المادي الملموس اليوم على كواليس تلك المرحلة. ومنها رسالة أخرى عبارة عن تقرير كتبه محمد ثابت الهاشمي، وكان يلقب بسي إبراهيم، كان مقربا من محمود بنونة. يقول بودرقة إنه بعد نجاته من أحداث مارس، وتمكنه من الفرار خارج المغرب بعد 23 مارس 1973، طلب مباشرة من «سي إبراهيم» أن يكتب شهادته على تلك المرحلة وما حدث بالضبط من تطورات للأحداث كما عاشها، من بدايتها إلى نهايتها.
هناك أيضا وثائق أخرى تطرق إليها بودرقة وكشفها للرأي العام لأول مرة، من بينها مراسلات وتقارير متابعات للأسلحة والذخيرة وطرق التسلل، وحتى مراسلات أخرى لما بعد فشل الثورة والعودة إلى الجزائر وباريس لتقييم الأوضاع. بالإضافة إلى تقارير مهمة تكشف لأول مرة عن علاقة عباس بودرقة والفقيه البصري بقضية الصحراء. ووثائق أخرى عن اتصالات عبد الرحمن اليوسفي والفقيه البصري، في إطار أزمة التسعينيات ومخاض ميلاد حكومة التناوب.
بودرقة يكشف حقيقة علاقة الثوريين المغاربة بـ«الوالي» وقضية الصحراء
يحكي عباس بودرقة عن هذه العلاقة قائلا: «عندما تحملت مسؤولية التنظيم في الجزائر التقيت الوالي مصطفى السيد مع شاب آخر كان يرافقه، دار بيننا حديث عميق ومُنتج. أبان فيه عن حس وطني وحدوي عال، وعن طموحه للتنسيق والتعاون معنا. وسلمني في هذا الشأن تقريرا مفصلا عن الأوضاع في الصحراء.
تولينا أمور سفرهم وإقامتهم. لم يكونوا على اتصال بعد بالمسؤولين الجزائريين، بل كل التواصل والتنسيق كان معنا خلال هذه الفترة.
سأل عن إمكانية توفير السلاح، فطمأناه أن الإمكانية متاحة. يجب أن يجري التمهيد لها بجولة استطلاعية في تندوف».
بودرقة، في هذه المذكرات يكشف لأول مرة أن المعارضة المغربية كانت على تقارب مع المناضلين في الصحراء، قبل حتى أن تولد أطروحة الانفصال عن المغرب، وقبل أن تشرع الجزائر في تمويلهم.
يواصل: «في هذه الفترة كان الجزائريون يتعاملون مع إدوارد موحا، زعيم تنظيم الرجال الزرق، الذي لعب دور العميل المزدوج بين الجزائر والمغرب. راهن عليه النظام الجزائري في البداية، ولم يعر اهتماما للوالي مصطفى السيد، إلا بعد طرح قضية الصحراء ورفض الفقيه البصري مسايرة هواري بومدين في مشروعه.
بعد أن ركبت الجبهة موجة الانفصال، عقدنا لقاء مطولا مع وفد من الصحراويين برئاسة أحد قادتهم يدعى حبيب الله. في فندق بشواطئ طرابلس، حذرناهم فيه من تلاعب السلطات الجزائرية ومناوراتها. وعرضنا عليهم تجربتنا معها طيلة عقد من الزمن.
نصحناهم بالانحياز لوطنهم والنضال من داخله، عوض تحكم المسؤولين الجزائريين فيهم وتوظيفهم لخدمة أغراضهم».
قصة الوالي كما يرويها بودرقة في هذه المذكرات الحصرية، من خلال معرفته الشخصية به والاجتماعات التي جمعتهما معا، تسلط الضوء لأول مرة على طبيعة العلاقات التي كانت تجمع اليسار المغربي والثوريين بقيادات الشباب الصحراوي وقتها، الذي كان يبحث عن موطئ قدم. نفى بودرقة في هذه المذكرات أن يكون للموضوع أي علاقة للثوريين المغاربة بدعم الانفصال. حتى أن ولد السيد لم يعمل بالنصائح التي وُجهت له من طرف القيادة التي كان يترأسها الفقيه البصري، وفضل المضي في حلمه قدما، حتى أنه حصل على دعم الجزائريين وعاد من الجزائر العاصمة مشحونا حتى أنه قرر مهاجمة موريتانيا. ونقل عنه بودرقة قوله: «سأحسم هذا الأمر في أقل من سنة ولو كلفني حياتي»، وفعلا قد كلفه حياته. يقول بودرقة عن الموضوع: «قامت الطائرات بالتصدي لزحف الوالي وجيشه. قصفت قواته وأنهت حياته. لم يكن في مصلحة النظام الجزائري أن ينجح هجومه على نواكشوط، ففيه تعزيز لقوته التي قد تسعفه للخروج عن طوعها وتحقيقه لاستقلال فعلي في قراراته.
ثم إن هجومه على نواكشوط، عاصمة دولة مستقلة ولها حضورها الدولي، انطلق من التراب الجزائري، مما يعني إحراجا أمميا للنظام الجزائري. قُدر للوالي إذن أن يدفع ثمن اختياراته في لعبة أمم تحرص فيها السلطات الجزائرية على انتقاء رئيس للجبهة على المقاس».