في حوار نشر على «لوبسيرفاتور» الفرنسية، يحلل إدغار موران تداعيات انتشار فيروس كورونا في العالم، كاشفا انعكاسات هذه الأزمة الصحية على طبيعة النظام العالمي. عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي يذهب إلى أن الجائحة ستحدث تغييرا كبيرا في المنظومة العالمية وستجبر المجتمع الدولي على إعادة النظر في كثير من التوجهات الليبرالية التي فرضها نظام العولمة، قبل أن تظهر الأزمة الصحية التي تشهدها معظم البلدان أن هذا النظام يفتقد إلى التضامن وأن ما يجري اليوم قد يدفع البشرية نحو مسار جديد يصحح الوضع الحالي من خلال إنشاء مناطق «غير معولمة». وفي ما يلي نص الحوار:
في هذه المرحلة، ما هو الدرس الرئيسي الذي يمكن استخلاصه من جائحة فيروس كورونا؟
تبين لنا هذه الأزمة أن نظام العولمة خال من التضامن. لقد أسفرت العولمة، بلا شك، عن وحدة تقنية واقتصادية للعالم، لكنها لم تعزز التفاهم بين الشعوب. فمنذ بداية العولمة في التسعينات، اشتعل فتيل الحروب والأزمات المالية. وخلقت المخاطر العالمية – البيئة والأسلحة النووية والاقتصاد غير المنظم – مصيرا مشتركا بين البشر، لكنهم لم يدركوا ذلك، وسلطت أزمة فيروس كورونا في رمشة عين وبشكل مأساوي الضوء على هذا المصير المشترك. هل سندرك حقيقة المصير المشترك أخيرا؟ في غياب التضامن الدولي والمنظمات المشتركة من أجل اتخاذ تدابير على مستوى الجائحة، شهدنا الانغلاق الأناني للدول على نفسها.
سلط الفيروس فجأة وبشكل مأساوي الضوء على المصير المشترك للمجتمعات. هل سندرك هذه الحقيقة أخيرا؟
في غياب التضامن الدولي والمنظمات المشتركة لاتخاذ تدابير على مستوى هذه الجائحة، شهدنا الانغلاق الأناني للدول على نفسها. تحدث الرئيس ماكرون في خطابه عن خطر «الانسحاب القومي»... وللمرة الأولى، كان ذلك خطابا صادقا للرئيس. لم يتعلق الأمر بالاقتصاد والمؤسسات فحسب، بل أيضا بمصير جميع الفرنسيين، المرضى ومقدمي الرعاية، والعمال الذين اضطروا للبطالة الجزئية. إن إشارته إلى نموذج التنمية الذي يجب تغييره هو نقطة بداية نحو التغيير. بيد أن الترياق للانسحاب القومي لا يتمثل في الانسحاب الأوروبي، بما أن أوروبا غير قادرة على التوحد في هذا الشأن، بل في تشكيل تضامن دولي بدأه أطباء وباحثون من جميع القارات.
ما هي التغييرات التي يجب إجراؤها في رأيك؟
يطلعنا فيروس كورونا بقوة على أن البشرية جمعاء يجب أن تبحث عن مسار جديد بعيدا عن مذهب الليبيرالية الجديدة من أجل اتفاق سياسي اجتماعي وبيئي جديد. سوف يحمي المسار الجديد ويقوي الخدمات العامة، مثل المستشفيات التي عانت لسنوات من انخفاضات في العدد لا معنى لها في أوروبا. سوف يصحح المسار الجديد كذلك آثار العولمة من خلال إنشاء مناطق «غير معولمة» من شأنها حماية الاستقلال الذاتي الأساسي.
ما هو هذا «الاستقلال الذاتي الأساسي»؟
أولا، الاكتفاء الذاتي من الغذاء. ففي زمن الاحتلال الألماني، كنا نملك زراعة فرنسية متنوعة خولت إطعام جميع السكان دون مجاعة، على الرغم من النهب الألماني، واليوم نحن بحاجة إلى إعادة هذا التنويع. ثم هناك استقلالية صحية، في وقتنا الراهن، إذ يتم تصنيع الكثير من الأدوية في الهند والصين، وبالتالي نحن معرضون لخطر النقص، لذا يجب نقل ما هو حيوي للشعوب.
هل تؤدي العولمة إلى تحول الأزمة الصحية إلى أزمة عامة؟
لقد حدث ذلك بالفعل. عندما يقرر بوتين الاستمرار في إنتاج النفط الروسي، فإن ذلك يؤدي إلى انخفاض الأسعار في المملكة العربية السعودية وفي الولايات المتحدة، إذ من المحتمل أن تشهد ولاية تكساس الأمريكية صعوبات خطيرة قد تتسبب في خسارة ترامب للرئاسة... يؤثر الذعر أيضا على الماليين، ما يسبب انهيارا في سوق الأسهم. إننا لا نتحكم في هذه التفاعلات المتسلسلة. إن الأزمة التي تمخضت عن الفيروس زادت من سوء الأزمة العامة للبشرية المنجرفة وراء قوى خارجة عن كل سيطرة.
إذا قارناها بالأنفلونزا الإسبانية عام 1918-1919 التي كانت موضوع تكتم من جانب السلطات، فإن الحكومات، اليوم، تمتعت بالشفافية في هذه الأزمة... أليس هذا تأثيرا إيجابيا للعولمة؟
في وقت الأنفلونزا الإسبانية، لم ترغب الحكومة في أن يدرك الناس، وخاصة المحاربين، هذا الوباء، كما أن التعتيم أصبح مستحيلا في زمننا الحالي. حتى النظام الصيني لم يتمكن من حجب المعلومات المتعلقة بالفيروس عن طريق معاقبة البطل الذي دق ناقوس الخطر... لقد خولت لنا شبكات التواصل الاجتماعي أن نكون على اطلاع على تقدم الحالة الوبائية في كل بلد. إلا أن ذلك لم يفض إلى تعاون على مستوى أعلى. لقد كان هناك تعاون دولي عفوي واحد أطلقه الباحثون والأطباء. لم تتمكن منظمة الصحة العالمية كما الأمم المتحدة، من جلب وسائل المقاومة إلى البلدان الأكثر افتقارا إليها.
«لقد عدنا إلى زمن الحرب».. غالبا ما توظف هذه العبارة لوصف الوضع في إيطاليا وفرنسا. لقد عشت هذه الفترة. ما الذي يوحيه لك هذا التشبيه؟
تحت وطأة الاحتلال، كانت هناك ظواهر من الحبس والعزل، كانت هناك أحياء معزولة... ولكن الاختلاف الكبير عن الآن، هو أن إجراءات العزل فرضها العدو، بينما اليوم يتم فرضها على العدو، أي الفيروس. بعد بضعة أشهر من الاحتلال الألماني، بدأت تظهر قيود على الإمدادات. لم نصل إلى هذه المرحلة بعد، على الرغم من أن هناك بوادر ذعر. ولكن في حال استمرت هذه الأزمة، مع انخفاض نقل البضائع على المستوى الدولي، فإنه من المتوقع العودة إلى التقنين. وهنا ينتهي التشابه. نحن لسنا في نفس النوع من الحرب، إذ لأول مرة منذ عام 1940، تم إغلاق المدارس والجامعات... نعم، ولكن في ذلك الوقت، كان الإغلاق مؤقتا جدا، حيث انهزمت فرنسا في يونيو، تزامنا مع بداية العطلة، وفي أكتوبر فتحت أبواب المدارس من جديد.
ماذا يمكن أن نتوقع من العزل الصحي؟ الخوف؟ انعدام الثقة بين الأفراد؟ أو، على العكس من ذلك، تطوير علاقات جديدة مع الآخرين؟
نحن في مجتمع تدهورت فيه أنماط التضامن التقليدية. ويتمثل أحد المشاكل الكبرى في استعادة هذا التضامن، بين الجيران، وبين العمال، وبين المواطنين... في ظل هذه التقييدات التي نمر بها، سوف يتم تعزيز التضامن بين الآباء والأطفال الذين توقفوا عن الذهاب إلى المدرسة، وبين الجيران... سوف يتم ضرب إمكانياتنا في الاستهلاك، لذا يجب أن نستفيد من هذا الوضع من أجل إعادة التفكير في النزعة الاستهلاكية، وبعبارة أخرى «الإدمان» أو «الاستهلاك المدمن»، إدماننا على منتجات ليست لها فائدة حقيقية، وأن نخلص أنفسنا من «الكمية لصالح الجودة».
ربما ستتغير علاقتنا بالوقت أيضا ...
أجل. بفضل العزل الصحي، وبفضل هذا الوقت الذي نجده لأنفسنا، غير مستقطع، وغير محسوب، هذا الوقت الذي يضيع بين المترو، والعمل والنوم، يمكننا أن نصلح علاقتنا بذاتنا، ونحدد ما هي احتياجاتنا الأساسية، ويعني ذلك – الحب والصداقة والحنان والتضامن والشعور بالحياة... العزل الصحي يمكن أن يساعدنا على البدء في «إزالة السموم» من أسلوب حياتنا وفهم أن العيش الجيد يعني تحقيق «الأنا»، ولكن دائما ضمن تنوع «نحن».
وأخيرا، هل يمكن أن تكون هذه الأزمة مفيدة بشكل متناقض؟
لقد تأثرت للغاية عند رؤية النساء الإيطاليات، على شرفاتهن، يغنين نشيد الأخوة (Fratelli d'Italia» – إخوة إيطاليا»). يجب علينا استرجاع التضامن الوطني، وليس الانغلاق والأنانية، بل الانفتاح على مصيرنا المشترك «على الأرض»...
قبل ظهور الفيروس، كان البشر من جميع القارات يعانون من نفس المشاكل: تدهور المحيط الحيوي، انتشار الأسلحة النووية، والاقتصاد غير المنظم الذي يؤجج عدم المساواة... هذا المصيرالمشترك موجود، لكن بما أن النفوس قلقة الآن، فإنها تلجأ إلى الأنانية الوطنية أو الدينية، بدلا من أن تدرك هذه الحقيقة.
بالطبع، التضامن الوطني مطلوب بل أساسي، ولكن، إذا لم نفهم أننا بحاجة إلى وعي مشترك بمصير الإنسان، إذا لم نتقدم في التضامن، إذا لم نغير التفكير السياسي، فإن ذلك سيزيد من سوء الأزمة الإنسانية. إن رسالة الفيروس واضحة، ويل لنا إذا كنا لا نريد سماعها!