«على طريقة الحروب الباردة، أصبح الأوربيون اليوم ينظرون إلى بعضهم بكثير من التوجس. لقد وضع الاتحاد الأوربي أخيرا على المحك. ولم تشفع المساعدات الاقتصادية التي كانت تضخها دول أوربية في جيوب بعضها البعض، لاستعادة الدفء في زمن «كورونا». هذا الفيروس القاتل فرّق أوربا وجعل حكومات طالما أعطت الدروس للعالم في الديموقراطية و«الإنسانية»، تقدم في واضحة النهار على سرقة المعدات الطبية والكمامات الموجهة إلى إيطاليا، الأكثر تضررا من الوباء بأرقام وفيات قياسية، وترك الإيطاليين لمصيرهم. تدخلت كوبا وأرسلت فريقا من أطبائها إلى الإيطاليين.. وزادوا من «درامية» المشهد.. اجتمع رؤساء الدول الأوربية افتراضيا وتبادلوا عبر اتصال فيديو كلمات باردة زادت في تغذية خوف الأوربيين على الاتحاد الذي كان يجمعهم».
بدا مشهد رؤساء دول الاتحاد الأوربي خلال اجتماع «افتراضي» مثيرا على طريقة الأفلام السينمائية. إيمانويل ماكرون، الرئيس الفرنسي، كان يتحدث إلى الكاميرا المثبتة بعناية أمام مكتبه الرئاسي، وأمامه شاشة كبيرة مقسمة إلى مجالات لرؤساء آخرين. في أعلى الشاشة توجد المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، وإلى جانبها مساحات تواصل لرؤساء وزراء دول الاتحاد الأوربي وتمثيلياته الأخرى.
النقاش، حسب وسائل الإعلام الرسمية الأوربية، كان مستفيضا بسبب الظروف القاسية التي يمر منها الاتحاد هذه الأيام، والتي لم تر لها الدول الأوربية مثيلا منذ أيام الحرب العالمية الثانية.
في الشارع الأوربي، آراء متباينة، لكنها تتحد في السخط على موقف الحكومات من بعضها، بطريقة تُذهب روح الاتحاد. باستثناء الموقف الألماني، حيث بادرت مروحيات ألمانية تابعة للجيش، إلى نقل مصابين بالفيروس في مدن حدودية مع فرنسا إلى برلين لتلقي العلاج، بعد أن تخلت عنهم دولتهم الأم ولم تقبل استقبالهم في المصحات والمستشفيات بدعوى عدم وجود أسرّة كافية.
هل هي بداية النهاية؟
أظهرت وسائل إعلام دولية في تقارير مكثفة إمكانية نهاية «أسطورة» الاتحاد الأوربي في ظل الأجواء المحتقنة حاليا بين دول الاتحاد بسبب تباين المواقف في مواجهة فيروس «كورونا»، وأيضا التجاوزات التي همت طريقة توصيل المساعدات الطبية لبعض الدول، خصوصا إيطاليا التي تضررت كثيرا من الوباء، وتوجيه اتهامات إلى دول من الاتحاد بسرقة المعدات الموجهة إلى إيطاليا، والقادمة من الصين. هذه الحوادث التي تتابعت الأسبوع الماضي، جعلت الرأي العام في دول أوربية يؤلب بعضه بعضا ضد الحكومات، خصوصا وأن إيطاليا كانت تنتظر مساعدات مصيرية لسد الخصاص المهول في المعدات الطبية، لتكتشف أن تلك المعدات سُرقت عنوة من الطائرة التي توقفت في طريقها إلى إيطاليا للتزود بالوقود، في حين أخلت شركات الطيران المخصصة لنقل البضائع مسؤوليتها مما وقع.
إيطاليون يحرقون علم الاتحاد
على أنغام النشيد الوطني الإيطالي، قام مواطنون إيطاليون من شرفات منازلهم ومن غرف الجلوس، بتصوير وبث مقاطع لإحراق وتمزيق العلم الأزرق الذي تتوسطه نجمات صفراء ترمز لدول الاتحاد الأوربي.
هذه المقاطع لقيت تجاوبا كبيرا في أوساط الإيطاليين وباركوا الخطوة معتبرين أنها أحسن رد «على الإطلاق» يمكن توجيهه لدول الاتحاد الأوربي الأخرى التي أغلقت الأبواب أمام الإيطاليين في محنتهم مع وباء «كورونا» المستجد الذي سجل رقم وفيات مرتفعا، حطمت خلاله إيطاليا، قبل تفشي الوباء في الولايات المتحدة الأمريكية، كل الأرقام.
دعوات إلى «إعادة الاعتبار للعلم الإيطالي» كحل لاستعادة الإيطاليين كرامتهم «الجريحة» كما عنونت صحف كثيرة في إيطاليا، لقيت تجاوبا كبيرا من مختلف الفئات سواء المناصرة للتيار الحاكم أو المعارضة. بين اليمين واليسار، توحدت إيطاليا، لأول مرة ربما، منذ عقود طويلة، داعية إلى اتخاذ قرار شعبي بإعادة الاعتبار لإيطاليا والإيطاليين. رغم أنه إلى حد الآن لم يُصارح الإيطاليون أنفسهم ليطلبوا من حكومة بلادهم الانسحاب من الاتحاد.. الذي لم يعد كذلك.
كوبا.. درس في الإنسانية
تداول أنصار التجربة الكوبية عبر العالم مقطعا للزعيم الكوبي فيديل كاسترو وهو يستشرف ما يقع الآن بالعالم. وافتخر الكوبيون، رغم الانتقادات والعقوبات التي طالت بلادهم على عهده، بكون كوبا كانت تستثمر في الأطباء والبُعد الإنساني، وجاء أخيرا اليوم الذي يرسل فيه الكوبيون إلى العالم أطباء مُجربين في التعامل مع الكوارث الإنسانية، «بدل إسقاط الصواريخ فوق رؤوس الأبرياء كما تفعل الولايات المتحدة الأمريكية»، أو هكذا قال كاسترو في واحد من خطاباته الأخيرة إلى الكوبيين.
ربما يشترك الكوبيون مع الإيطاليين في الطباع، والشغف بالحياة وتقديس المائدة المحلية وإقامة الحفلات الراقصة أمام المقاهي والحانات، تمسكا بالحياة. لكنهم اليوم يشتركون أكثر في ما هو إنساني، إذ إن «البلسم» الكوبي كما أسمته الصحف الإيطالية الصادرة الأسبوع الماضي، أنسى الإيطاليين العلقم المر الذي شربوه من الدول الصديقة التي يتشاركون معها في الحدود البرية والاتفاقيات التجارية التي تعود لعقود ما بعد الحرب.
كان مقررا أن يتشارك الأوربيون في المصير بقوة القانون الذي يجمعهم، لكن التفرقة أبت إلا أن تسود بين مكونات أقوى وأكبر اتحاد اقتصادي وسياسي في العالم بسبب وباء كورونا. حتى أن الفرنسيين تخلوا عن إيطاليا ناهيك عن فضيحة سرقة المساعدات وتوجيه طائرات فارغة إلى إيطاليا، الأكثر تضررا في أوربا من الوباء، بعد أن كانت محملة بالمساعدات لمسافات بآلاف الكيلومترات.. وأصبح الأطباء الكوبيون هم المساعدة الوحيدة التي خلفت ارتياحا في نفوس الإيطاليين.
36 طبيبا و15 ممرضا كوبيون حطوا الرحال في إيطاليا ليكونوا أول وفد كوبي إلى دولة من أقوى دول العالم اقتصاديا وسياسيا. فقد سبق لكوبا، التي انخرطت في سياسة إرسال الأطباء إلى مناطق الكوارث منذ ثورة 1959، أن أرسلت أطباءها إلى مناطق تفشي إيبولا وغيرها من بؤر الوباء خلال العشرية الأخيرة، مثل هاييتي ودول إفريقيا جنوب الصحراء. وتحدثت وسائل إعلام كوبية وإيطالية عن أن ميزانية تأهيل الأطباء التي اعتمدتها كوبا، علما أنها واحدة من الدول التي تعاني اقتصاديا، بلغت 6,3 مليارات دولار. وهي ميزانية ضخمة جدا ومن بين أكبر الميزانيات المخصصة لتأهيل الأطباء وتكوينهم.
عدد الإصابات يفرق الأوربيين
ذكرت «دير شبيغل» الألمانية، التي استقت معلوماتها من مصادر رسمية ألمانية، أن عدد الإصابات في ألمانيا تمت السيطرة عليه رسميا، لكن الحكومة لم تكن تريد تقديم وعود للألمان، خصوصا وأن التعامل مع الوباء كان شديد الحساسية. وبعكس ما تم تناقله من معلومات على الصحف الأوربية بخصوص كارثة محتملة في ألمانيا، فقد كان المشرفون على القطاع في ألمانيا الاتحادية يعلمون أن عدد الإصابات سيرفع في الأسبوعين الأولين، وهو ما وقع حيث تجاوز معدل الإصابات اليومية الألف إصابة خلال النصف الأول من مارس، وهو ما خلف إحساسا بالرعب في أوساط الألمان. لكن انخفاض عدد الوفيات جعل المستشارة ميركل تخرج لتطمئن الألمان وتقدم لهم الدليل على سيطرة بلادها على الوباء. وحسب آخر الأرقام الرسمية الصادرة يوم الأربعاء، فإن ألمانيا سجلت 5500 إصابة جديدة بالوباء، لكن بمقابل 15 ألف حالة شفاء إجمالية، وهو رقم قياسي حققه الألمان في تطويق الوباء وتسريع وتيرة الكشف عن الفيروس في صفوف المواطنين، مقابل 680 وفاة فقط، وهي واحدة من أدنى معدلات الوفاة في العالم، علما أن العدد الإجمالي للمصابين الذين لا يزالون تحت المراقبة بلغ 68 ألف مصاب.
يرجع الألمان وصولهم إلى رقم 68 ألف مصاب إلى توسيعهم لدائرة الكشف واستقبال الحالات في مراحل المرض الأولى لتسهيل الشفاء.
وفي إسبانيا كان الوضع أسوأ. لن ندخل في مقارنات مملة، بقدر ما يهمنا أن نشير إلى أن الصحافة الإسبانية كانت ساخطة على الحكومة الإسبانية لتأخرها في استقبال المصابين وللكارثة التي وصلت إليها المستشفيات الإسبانية التي بدأت في رفض المصابين وتركهم في الشوارع.
أما فرنسا، فقد وصفتها الصحف الإيطالية بـ»الدولة الصديقة التي طعنتنا في الصدر». تعبير بليغ يلخص قصة الإيطاليين مع كارثة المساعدات التي تقول تقارير إعلامية إن ألمانيا تورطت فيها أيضا معهم ولم تترك حمولة طائرة طبية قادمة من الصين لكي تصل إليهم. لكن الإيطاليين كانوا أكثر حنقا على فرنسا لأنها لم تستقبل مرضى إيطاليين كانوا يقيمون على الحدود بين البلدين في مدن صغيرة لم تكن مصحاتها مؤهلة لاستقبال عدد كبير من المصابين دفعة واحدة.
كورونا من شأنها،إذن، أن تنهي أسطورة الاتحاد الأوربي، والخارطة الدولية لم تصل إلى هذا المعطى عن طريق التكهنات. هذه المرة مصدرها الشارع الأوربي، و«همهمات» الحكومات في ممرات القصور الرئاسية.