«صحيح أن أبناء الأعيان المغاربة، درسوا في هذه المدارس الحرة، لكنهم كانوا يدفعون أموالا لإدارات تلك المدارس في الرباط والدار البيضاء وطنجة ومراكش وأكادير ووجدة بشكل تطوعي، عبر رسوم لصالح إدارات تلك المدارس التي كان أغلب المشرفين عليها تابعين لحزب الاستقلال، ومن أنصار الحركة الوطنية.
بينما كان أبناء العائلات الفقيرة، ممن كان لديهم حس وطني ورفضوا إلحاق أبنائهم بالمدارس الفرنسية، يستفيدون من تعليم مجاني على يد مُدرسين من أنصار الحركة الوطنية دائما، دون أن يكونوا مُجبرين على دفع مقابل.
المثير أن بعض الأسر تبرعت ببقع أرضية لصالح بناء مدارس حرة بإشراف من الحركة الوطنية خصوصا في الأربعينيات، وتاريخ المدينة القديمة في الدار البيضاء يشهد بهذا الأمر، حيث إن بعض العائلات من ملاك العقار في المدينة، تبرعوا ببنايات لتأسيس مدارس حرة وضعوها رهن إشارة الحركة الوطنية.
لقد لعبت المدارس الحرة دورا كبيرا في تكوين فكرهم المعارض لفرنسا. من بين هذه المدارس نجد سلسلة مدارس محمد الخامس، التي أسستها الحركة الوطنية سابقا وأطلقت عليها الاسم سنة 1953 كإشارة لضرورة عودة الملك الشرعي من المنفى. ومدارس الصفاء الحسنية، التي بُنيت في مدينة الجديدة، ودرس بها تلاميذ أعدم أغلبهم في أحداث 1954 ومنهم من قضوا عقوبات سجنية طويلة في سجن القنيطرة الذي كان أبرز من سجنوا به المقاوم عبد السلام الجبلي، وعبد الفتاح سباطة الذي حكم عليه بالمؤبد في نفس الفترة.
نجد أيضا عثمان جوريو، الذي كان من بين الموقعين على عريضة المطالبين بالاستقلال سنة 1944، وهو أحد أعمدة المدارس الحرة أيضا، حيث إنه كان من مؤسسيها ودرس بها ثم درّس بها لاحقا».
أحد رواد المدارس الخصوصية: التأسيس في بداية الستينيات كان بهدف تشغيل الشباب!
تأسيس المدارس الخاصة في المغرب جاء بعد الاستقلال. لم يكن المغاربة يعرفون غير المدارس النظامية الفرنسية والمدارس الحرة التي أطلقها الوطنيون لمحاربة المد الفرنسي في المقررات الدراسية.
«الحرة» كانت ترمز إلى بُعد برامجها التعليمية عن إملاءات الإدارة الفرنسية. الملك الراحل محمد الخامس، كان في الحقيقة أكبر داعم لهذه المدارس الحرة، حتى إنه أسس مدرسته الخاصة لتعليم ابنه ولي العهد الأمير مولاي الحسن خلال بداية أربعينيات القرن الماضي. وأسس المدرسة المولوية التي استقطب لها رموزا شهيرة في عالم الحركة الوطنية وموظفي المخزن المخلصين. كانت الحركة الوطنية ممثلة في المهدي بن بركة وعبد الهادي بوطالب وشيخ الإسلام العربي العلوي، وآخرين. بينما ممثلو الإدارة المخزنية ممن يثق فيهم القصر لتعليم ولي العهد ممثلة في الوزير باحنيني الأكبر الذي توفي في انقلاب الصخيرات سنة 1971.
كان هؤلاء قد كرسوا تجربة المدرسة المولوية، بينما كرس آخرون لتجارب المدارس الحرة المناوئة لفرنسا، والتي تقدم تعليما عصريا لأبناء المغاربة يجعلهم قادرين على مواجهة المد الفرنسي. لأن التعليم في المسيد أو الكُتاب كان تقليديا لا يواكب متطلبات المرحلة.
أما في مرحلة ما بعد الاستقلال فقد اتخذت المدارس الخاصة منحى آخر. إذ أن تأسيس وزارة التعليم في النسخة الأولى لحكومة 1956، جعل فكرة المدارس الحرة في الرف، بعد أن وظفت المشتغلين بها رسميا في وزارة التعليم في نسختها المغربية. وقبل نهاية الخمسينيات، نظمت الحكومة المغربية مباريات ولوج للوظيفة العمومية لقدماء التعليم العتيق لكي يصبحوا أساتذة للغة العربية، لإدماجهم من جهة، ولصناعة منهاج تعليمي مغربي، باشراك كافة المكونات للتعليم الحر والعتيق. وهكذا تأسست المدرسة المغربية.
لكن مع بداية الستينيات، ظهرت المدارس الخاصة بشكل غير نظامي. حمزة الأمين، قيادي سابق بحزب «الشورى والاستقلال» وعضو دائم بمؤسسة عبد الهادي بوطالب للثقافة والعلم والتنوير الفكري، واحد من قدماء مؤسسي المدارس الخاصة في الدار البيضاء، حكى لـ «الأخبار» عن تجربة إنشائه لمدرسة خاصة في بداية الستينيات. يقول إن التجربة كانت بفكرة منه، حيث كان من أوائل مؤسسي هذه المدارس رغبة في توفير المزيد من المقاعد الدراسية لأبناء المغاربة.
يؤكد أيضا أن هدفه لم يكن ربحيا بالدرجة الأولى، وأنه أسس مدرسته لتكون بديلا للذين لم تكن تتوفر فيهم شروط الالتحاق بمدارس الدولة. إذ كانت هناك قوانين رسمية للتسجيل من بينها السن.
كما أن أحد أهم الأهداف، حسب حمزة الأمين، كان هو توفير مناصب للشغل لشبان مغاربة من قدماء الحركة الوطنية، الذين طالبوا بعودة الملك الراحل محمد الخامس من المنفى، وكانت هناك صعوبات لإدماجهم في المدارس النظامية التابعة لوزارة التعليم، فكانت فكرة المدرسة الخصوصية مناسبة لتوظيفهم وانتشالهم من البطالة، خصوصا وأنهم كانوا يتوفرون على مؤهلات علمية تسمح لهم بمزاولة التدريس غير النظامي من خلال هذه المؤسسات التي بدأت في الانتشار في الدار البيضاء والرباط، بعد الاستقلال طبعا، ومنها إلى باقي المناطق.
يصعب تحديد أول مدرسة خاصة بالمغرب، خصوصا وأن مصادر أخرى تحدثت عن مبادرة قادها المقاوم السابق عبد السلام بناني، الذي كان مشرفا على أنشطة الشباب في حزب الاستقلال، حيث تتوفر معطيات تنسب له القيام بتأسيس مدرسة خاصة لتوفير فرص التعليم لأبناء بعض العائلات الذين كانوا مستعدين للدفع مقابل تدريس أبنائهم. وتقول نفس المعطيات إن عبد السلام بناني، الذي توفي في نهاية الثمانينات وترك خلفه مسودة بخط يده، مشروعا لمذكرات عن حياته، أطلق عليها عنوان «الأب الهادئ»، تحدث فيها عن دواعي بعض المبادرات كتأسيس مدارس تعليم السياقة وسيارة نقل الأموات ثم المدارس الخاصة في الدار البيضاء بعد الاستقلال، كان الهدف منها توفير فرص لولوج المغاربة لتلك الخدمات، وتوفير مناصب الشغل، وليس الربح بالدرجة الأولى.
قانون المدارس الخاصة لم ير النور إلا في سنة 1992 وهذه قصته
أقدم تجارب تأسيس الحياة العصرية في المغرب كانت في مدينة طنجة بحكم أنها كانت منطقة دولية بها خليفة سلطاني، وتسيرها مجموعة من التمثيليات الأجنبية في المغرب من خلال قنصلياتها في طنجة منذ بداية القرن 19. أي قبل أزيد من 150 سنة من اليوم.
في هذه المدينة، أقصى الشمال، تأسست أولى المدارس العصرية في المغرب حيث كان يدرس بها أبناء القناصلة والجاليات الأجنبية في المغرب. وكان المغاربة القادرون على تحمل نفقات الحياة العصرية يرغبون في تعليم أبنائهم تعليما عصريا لكي يصبحوا أطباء ومهندسين. هذا الانفتاح لدى أعيان طنجة، سرعان ما تلاه هجوم شرس عليهم من طرف محافظي الداخل، خصوصا في فاس التي كانت معقلا للسلطة.
وحتى لا نغوص أكثر في المتاهات التاريخية للموضوع. فإن تأسيس المدارس المغربية لم يكن يعرف معنى للربح من وراء عملية التعليم. وكان الدفع اختياريا لتمويل أجور المدرسين واستمرار مدارس الحركة الوطنية التي بدأت ترى النور منذ نهاية ثلاثينيات القرن الماضي، كبديل في الساحة، للمدارس العصرية الفرنسية التي كانت تستقطب الجميع، ويتحفظ الوطنيون من إرسال أبنائهم إليها حتى لا تحتويهم فرنسا بأفكارها الاستعمارية. بالإضافة إلى فريق آخر كان يرى في إرسال أبنائه، ذكورا وإناثا، إلى المدارس الفرنسية بمدرائها الفرنسيين ومدرسيها الشقر، خيانة للوطن، خصوصا بعد أحداث تصفيات المقاومين واحتلال القرى بالقوة وإبادات جماعية، وتعزز الموقف أكثر بعد نفي الملك الراحل محمد الخامس سنة 1953.
لكن وجود المدارس الخاصة في المغرب، بالصورة التي هي عليها اليوم، جاء بالتدريج. بدأ بعد الاستقلال، كما سوف نرى في هذا الملف، لكنه كان يعاني من فراغ قانوني بحكم أن الدولة كانت تؤطر وجود المدارس بعد الاستقلال بتبعيتها لوزارة التربية الوطنية التي تعين بها أطر مغاربة ليعوضوا الفرنسيين وأدمج فيها أطر المدارس الحرة للوطنيين لمغربتها بالإضافة إلى فقهاء اللغة العربية. الوزارة أشرفت أيضا بعد سنة 1956 على مدارس الأقليات، خصوصا اليهود ومدارس الراهبات التي انكمشت بعد الاستقلال.
أما المدارس الخاصة التي ظهرت بدورها في بداية الستينيات تقريبا، فقد كانت تعاني من فراغ قانوني كبير يؤطر وجودها.
والدليل أن المدارس الخصوصية التي أنشئت في المغرب منذ بداية الاستقلال سنة 1956، إلى حدود بداية التسعينيات، كان يسري عليها ظهير تأسيس المدارس العمومية الذي أصدره الملك الراحل محمد الخامس لخلق صلاحيات وزارة التعليم المغربية في نسختها المغربية خلال أول تجربة حكومية.
ولم يتم إنهاء هذا الفراغ القانوني إلا في سنة 1992، حيث صدر ظهير شريف، وأحدث قانون تحت رقم 15/86 هو القانون المنظم للتعليم الخصوصي في المغرب.
لماذا إذن كل هذه السنوات من الاشتغال بدون تأطير قانوني، تطورت خلاله المدارس الخصوصية وخرجت عن فكرة تأسيسها الأولى التي كانت ترمي أساسا إلى توفير قناة ثانوية لسد الخصاص أو لتوظيف شبان متعلمين لتدريس حالات خاصة كانت عائلاتها قادرة على الدفع مقابل تعليمها؟
الواضح أيضا أن تعثرا كبيرا واكب إصدار القانون. فقد صودق عليه سنة 1985، لكنه لم يدخل حيز التنفيذ إلا في الموسم الدراسي لسنة 1992/1993. ثمان سنوات من الارتباك والتأجيل، أصبح وجود المدارس الخاصة قانونيا بموجبه، بعد عقود من العمل في الظل. خصوصا إذا علمنا أن وزارة التربية الوطنية لم تتأسس بشكل تام إلا في سنة 1959، بعد أن كانت ملاحظات كثيرة وتحفظات للوطنيين على وزارة التعليم في نسخها الأولى التي كانت تدين بتنظيمها وهيكلتها للإدارة الفرنسية.
المدارس الحرة.. عندما كان التعليم بعيدا عن «الشكارة»
لا بد أن نعلم أن المدارس الحرة لم يكن الهدف منها ربحيا في المغرب. والدليل أن بعض أبناء العائلات الفقيرة درسوا بها دون أن يكونوا مضطرين لدفع مقابل للدراسة. وكان الشرط الوحيد هو التفوق.
كانت هذه المدارس حرة وغير نظامية، وحسب الباحث محمد الحداوي الذي صرّح لـ «الأخبار» بالقول إن المدارس الحرة لعبت دورا كبيرا في الوعي الوطني بالمغرب، وكانت بديلا محليا لمن كانوا يقاطعون برامج التعليم الفرنسية التي كانت معممة في كل المدارس التي بنتها فرنسا.
ذ. الحداوي يؤكد لـ «الأخبار» أن تأسيس المدارس الحرة في المغرب عندما تأسست، لم يكن الهدف منها ربحيا بالمطلق، وإنما كانت بديلا في الساحة للمدارس النظامية الفرنسية التي أسستها الإقامة العامة في المغرب.
صحيح أن أبناء الأعيان المغاربة، درسوا في هذه المدارس الحرة، لكنهم كانوا يدفعون أموالا لإدارات تلك المدارس في الرباط والدار البيضاء وطنجة ومراكش وأكادير ووجدة بشكل تطوعي، عبر رسوم لصالح إدارات تلك المدارس التي كان أغلب المشرفين عليها تابعين لحزب الاستقلال، ومن أنصار الحركة الوطنية.
بينما كان أبناء العائلات الفقيرة، ممن كان لديهم حس وطني ورفضوا إلحاق أبنائهم بالمدارس الفرنسية، يستفيدون من تعليم مجاني على يد مُدرسين من أنصار الحركة الوطنية دائما، دون أن يكونوا مُجبرين على دفع مقابل.
المثير أن بعض الأسر تبرعت ببقع أرضية لصالح بناء مدارس حرة بإشراف من الحركة الوطنية خصوصا في الأربعينيات، وتاريخ المدينة القديمة في الدار البيضاء يشهد بهذا الأمر، حيث إن بعض العائلات من ملاك العقار في المدينة، تبرعوا ببنايات لتأسيس مدارس حرة وضعوها رهن إشارة الحركة الوطنية.
تبقى هذه المدارس الحرة أقدم أثر في التاريخ المغربي الحديث على تأسيس المدارس خارج المدارس الرسمية التابعة للسلطات.
الباحث المغربي ذ. محمد الحداوي أكد لـ «الأخبار» أنه لا يجب أبدا الخلط بين المدارس الخاصة والمدارس الحرة التي جاءت في سياق مختلف تماما. إذ أن المدارس الحرة تأسست بدافع خلق قوة مواجهة لأفكار فرنسا التي كانت ترسخها من خلال مقرراتها الدراسية، ولمنافستها في الجودة أيضا، بحكم أن المدارس الفرنسية استقطبت أبناء المغاربة بتوفير تخصصات فلاحية وتقنية، منذ التعليم الابتدائي. وهكذا كانت الحركة الوطنية مجبرة على احتضان التعليم العتيق المغربي وتطويره على شكل مدارس حرة، وضعت برامجها بإشراف حكماء مغاربة من مؤسسي الحركة الوطنية خلال نهاية ثلاثينيات القرن الماضي، لتُخرج تلقين اللغة العربية من قالبه القديم في المسيد على يد الفقيه فوق الحصير، لكي يصبح مسايرا للتعليم العصري، بأفكار مغربية تناصر الحركة الوطنية وتناهض الاستعمار. لكن من أين لهؤلاء المشرفين بالبرامج الدراسية والتجربة لم تكن مسبوقة في المغرب؟
يؤكد ذ. محمد الحداوي مرة أخرى أن البرامج التي اعتمدت عليها هذه المدارس الحرة في البداية كانت مستوحاة من الشرق. وكان معروفا أن جل مؤسسي الحركة الوطنية كانوا متأثرين بالشرق ويطالعون الكتب والصحف القادمة من مصر على الخصوص، واستنبطوا نظاما دراسيا مشرقيا بمنهاج تعليمي هو نفسه الذي كان سائدا في مصر وسوريا وغيرهما، حيث إن أبناء المغاربة الذين استفادوا من التعليم في المدارس الحرة درسوا المواد الأدبية والعلمية باللغة العربية فقط، ولم يكن هناك انفتاح كبير على اللغة الفرنسية، بحكم أن هذه المدارس تأسست أصلا للحد من اكتساح الفرنسية لحياة المغاربة.
نبش في تاريخ المدارس الخصوصية.. أسسها المغاربة من جيوبهم واليهود هم السبّاقون
كان اليهود المغاربة من أوائل من أسسوا مدارس بنظام محدد في عدد من المدن مثل الدار البيضاء، فاس، الصويرة، بجعد، مراكش.. كان الدافع هو رغبة عدد من الأسر اليهودية في أن يتلقى أبناؤها تربية دينية يهودية في بلادهم المغرب. وكان الأمر يتم بموافقة الدولة المغربية، حتى لا تتخلله الفوضى. كان اليهود المغاربة مستقلين في اختيار المناهج التي يلقنونها لأبنائهم، خصوصا في الشق الديني. كانت هناك مدارس تأسست منذ 1919، وكانت فرصة لإحصاء اليهود المغاربة عموما، وهي المعلومات التي اعتمدها الاتحاد الإسرائيلي العالمي لترحيلهم خلال بداية الستينيات.
لكن علاقة اليهود بالسلطة، من خلال تمثيلياتهم التي كانت تُنتخب وتقدم ممثليها للدولة بشكل رسمي، كانت خاضعة دائما لاحترام القوانين المخزنية، وهو ما جعل هذه المدارس تكون نظامية بشكل كامل.
شخصيات يهودية مغربية وصلت إلى العالمية سبق لها الدراسة في المغرب بهذه المدارس الخاصة التي كانت توفر التعليم المجاني لأبناء اليهود المغاربة في المغرب، وفق برامج تعليمية وافق عليها المخزن منذ الأربعينيات تقريبا.
كانت هذه المدارس تمول من الاتحاد الإسرائيلي العالمي وتمثيليات اليهود في العالم، وقد تم استغلال معطيات تلك المدارس بخصوص عدد العائلات والأطفال اليهود لترحيلهم من المغرب لاحقا. أي أنها كانت مجانية لجل أبناء اليهود المغاربة، لكنها من الناحية الشكلية كانت مدارس خاصة في المغرب، رغم أن الهدف من تأسيسها لم يكن ربحيا.
الدار البيضاء احتضنت أهم تلك المدارس، ليس بحكم اعتبارها عاصمة اقتصادية للمغرب بعد سنة 1912، ولكن لأن أقوى تمثيليات اليهود المغاربة تركزت فيها، ووفرت بالتالي مدارس لأبناء اليهود بمواصفات عالية. أشهرها كانت مدرسة اليهود في المدينة القديمة بالدار البيضاء والتي لا تزال أنقاضها قائمة إلى اليوم شاهدة على التاريخ المنسي، بل والمقبور تماما، لأرشيف التعليم الخاص بالمغرب.
أما بخصوص المدارس الحرة، التي تعتبر بحق شقا كبيرا من تاريخ المدرسة المغربية، فإن الباحث المغربي ذ. الحداوي، في اتصال مع «الأخبار» أكد أن المدارس الحرة في بعض المناطق المغربية، خصوصا القرى، بُنيت من خلال جمع تبرعات من أعيان المناطق والغيورين على البلاد والمناهضين للحماية لتوفير بديل لتعليم أبنائهم بعيدا عن الهيمنة الاستعمارية للمدارس النظامية الفرنسية. والدليل التاريخي، حسب ذ. الحداوي، على أن هذه المدارس لم تُنشأ من أجل الربح أو التكسب، أنها وفرت بعد تأسيسها من مال المتبرعين، تعليما مجانيا لأبناء الفقراء والمعوزين الذين اعتبروا إرسال أبنائهم إلى المدارس الفرنسية المجانية خيانة للبلاد.
ولعل أهم الذين درسوا في المدارس الحرة المغربية، ومنهم من درّس بها لاحقا، نجد مجموعة من المقاومين منهم من حكم عليهم بالإعدام بسبب أنشطتهم، ومنهم من أسسوا المجموعات السرية المسلحة لمكافحة الاستعمار الفرنسي في المدن والقرى.
لقد لعبت المدارس الحرة دورا كبيرا في تكوين فكرهم المعارض لفرنسا. من بين هذه المدارس نجد سلسلة مدارس محمد الخامس، التي أسستها الحركة الوطنية سابقا وأطلقت عليها الاسم سنة 1953 كإشارة لضرورة عودة الملك الشرعي من المنفى. ومدارس الصفاء الحسنية، التي بُنيت في مدينة الجديدة، ودرس بها تلاميذ أعدم أغلبهم في أحداث 1954 ومنهم من قضوا عقوبات سجنية طويلة في سجن القنيطرة الذي كان أبرز من سجنوا به المقاوم عبد السلام الجبلي، وعبد الفتاح سباطة الذي حكم عليه بالمؤبد في نفس الفترة.
نجد أيضا عثمان جوريو، الذي كان من بين الموقعين على عريضة المطالبين بالاستقلال سنة 1944، وهو أحد أعمدة المدارس الحرة أيضا، حيث إنه كان من مؤسسيها ودرس بها ثم درّس بها لاحقا.
دماء سالت من أجل تأسيس المدارس المغربية أيام الاستعمار
لحسن الحظ أن للتاريخ مصادر تسجله حتى لا يُمحى وكأنه لم يكن. عندما نقلب صفحات أرشيف البوليس الفرنسي في المغرب، خصوصا أحداث سنة 1955، فإننا سنجد تاريخا حافلا من الحوادث التي كانت تعتبر وقتها جرائم يعاقب عليها القانون الذي وضعته فرنسا. والآن، نفس الأحداث تدخل في إطار الملاحم الوطنية من أجل الاستقلال. تغير التقييم لكن الوثائق هي نفسها لم تتغير. أصدرت المندوبية السامية للمقاومة هذه المحاضر التي حصلت عليها من أرشيف الإدارة العامة للأمن، وقدمتها على شكل وثيقة تاريخية، بتوصية من الملك الراحل الحسن الثاني في بداية الثمانينيات، لكي تبقى تأريخا لبعض الأحداث.
أحد هذه الوقائع يتعلق بحرب المقاومة مع الاستعمار بخصوص المدارس والمناهج التعليمية. وهو ما يكشف أن تأسيس المدارس الحرة في المغرب، لم يكن إلا تأكيدا لتلك الحرب الرافضة لكل ما هو فرنسي في المغرب.
رواد الحركة الوطنية كانوا يطالبون بعدم المساس بالهوية المغربية في المقررات الدراسية الفرنسية. كان الأمر شبه روتيني يتكرر كل شتنبر، منذ أن أصبح المغاربة يلجون إلى المدارس النظامية. لكن المختلف في سنة 1955، أنها كانت آخر موسم دراسي ترعاه فرنسا في المغرب، وكانت الإقامة العامة الفرنسية تدرك أن استمرار الحماية الفرنسية أصبح أمرا غير ممكن، بالرجوع إلى ظروف الحكم، وضرورة عودة الملك محمد الخامس إلى المغرب، في ظل الضغط الدولي الذي أصبحت فرنسا تتعرض له في هذا السياق.
ورغم ذلك، فقد حاول الأمن الفرنسي تخصيص دوريات لتفقد أجواء المدارس قبيل يوم الدخول المدرسي خلال الأسبوع الأول من شتنبر. وهو ما تدل عليه محاضر البوليس الفرنسي بهذا الخصوص، والمؤرخة كلها في فترة ما بين 2 و18 شتنبر 1955.
وحدثت مناوشات بين أساتذة فرنسيين وتلاميذ سابقين، انقطعوا عن الدراسة بسبب اختلافهم مع الأفكار الاستعمارية لبعض الأساتذة، وقرروا استغلال بداية الموسم الدراسي للانتقام بطريقتهم.
في الدار البيضاء، تعرض أستاذ فرنسي لمادة التاريخ لإصابة عنيفة على مستوى الرأس ألزمته الفراش لأسابيع، يوم 5 شتنبر على الساعة التاسعة صباحا، بعد أن نجا من موت محقق. تلقى ضربة بأداة حديدية على مستوى الرأس تسببت له في ارتجاج قوي أفقده الوعي، وكاد الأمر أن يتحول إلى نزيف داخلي على مستوى الدماغ لولا أن الطبيب تدخل في الوقت المناسب لإنقاذه.
وسُجل تعاطف كبير مع التلميذ من خلال منشورات نُسبت إلى المقاومة، وكتابات على سور المدرسة التي كان يشتغل بها الأستاذ المصاب. منشورات تدعو إلى ضرورة رحيل فرنسا نهائيا عن المغرب.
كانت هذه الوقائع، قد تكررت في مدن كثيرة من المغرب وليس في الدار البيضاء فقط. اختلفت أسماء الأساتذة الفرنسيين والتلاميذ المغاربة، لكن القضية كانت واحدة: نعم للمدارس الحرة المغربية، لا للمدارس النظامية الفرنسية.
مدرسة أزرو الخاصة: أقدم استثمار مالي في تعليم المغاربة أثار جدلا كبيرا منذ 1914
هذه المدرسة التي ساهمت في صناعة الجيل الأول للمغاربة من أبناء الأعيان الذين توظفوا في الإدارة الفرنسية لكي يكونوا مترجمين، كان تاريخها دائما محط جدل كبير. من أبرز تلاميذها الضباط الكبار في جيش الملك الراحل الحسن الثاني الذين تكونوا عسكريا في الحرب العالمية الثانية. كلهم بدأوا مسارهم في مدرسة أزرو. من المذبوح إلى أوفقير ووالد الجنرال الدليمي والمحجوبي أحرضان بالإضافة إلى الكولونيل اعبابو.
ذ. الباحث محمد بن هلال، أبرز من نقبوا في تاريخ مدرسة أزرو، أو «كوليج» أزرو، وأنجز عنه دراسة، بعنوان: « Le collège d'Azrou la formation d'une élite berbère civile et militaire au Maroc »، ننقل منها ما يلي:
« في البلدان التي خضعت سابقا للاستعمار، تكونت فئات اجتماعية جديدة بناء على مساهمة الأنظمة التربوية والإدارية التي أدخلتها السلطات المستعمِرة إلى حد بعيد. وأبرز ما أفرزته هذه التركيبة تكوين متجانس على الأصعدة السياسية والفكرية والادارية، في إطار معهد تربوي واحد، ألا وهو معهد أزرو التربوي».
تطرق هذا الباحث إلى مسألة تكريس الفرنسية. وهي التهمة الأبرز للمدارس التي أسستها فرنسا، وظهرت جليا في «كوليج أزرو». يقول: «هذه العملية (يقصد تغييب العربية في التعليم) المتعمدة أصبحت الحجة الرئيسية لتجريد الشباب المتطور من كلية أزرو من هويته الوطنية. ويمكننا البحث عن دوافع هذه الحركة الاحتجاجية في العلاقات التي أخذت تحاك بين شباب المدن والشباب المتعلم في الجبال البربرية. ومن جهة أخرى، فإن القرب الجغرافي من محطة إفران ونمو المصايف الجبلية والعلاقات التي عقدها القصر الملكي منذ العام 1939 مع الزعماء والأعيان في جبال الأطلس المتوسطة أزالت عزلة البربر. واستفاد محمد الخامس من فرصة وجوده للراحة بإفران، وهي محطة تزلج شهيرة تبعد عشرين كيلومترا عن أزرو ليذهب إلى أزرو ويدخل تكميليتها متنكرا في الرابع عشر من يناير 1942. وتظهر الأسئلة المطروحة والإصرار الذي أبداه الملك لمعرفة الأوقات المخصصة للغة العربية في برامج التلامذة، وإذا كان الأستاذ المكلف بهذه المادة عربيا أم فرنسيا، وأين يقيم التلاميذ صلاتهم، تعطي براهين جديدة على الاهتمام الذي أبداه الملك للقضاء على الطابع الخاص للتعليم..».
المثير أن هذا البحث الأكاديمي تطرق إلى مسألة صناعة مواطن مغربي بمواصفات فرنسية. حتى أن بعض التهم التي لاحقت المدرسة، كانت بخصوص العنصرية ضد التلاميذ المغاربة الذين وجههم آباؤهم إلى الدراسة بهذا «الكوليج» التاريخي. إذ أنهم كانوا من الأعيان وجلهم وصفوا لاحقا بالخونة لتعاونهم مع الإدارة الفرنسية. لكن هذه الأخيرة كانت تلقبهم داخل المدرسة بـ «الهمج البيض» رغم خدمات آبائهم للإدارة، وتأدبا أطلقت عليهم لقب «البربر»، وهو التوصيف الذي رفضه الأمازيغ المحليون لاحقا لأبعاده القدحية.
حسب الباحث بن هلال فإن الملك الراحل محمد الخامس نظم زيارة تفقدية لكوليج آزرو، وكان أول ما استفسر عنه نظام اللغة العربية للتلاميذ بها، والمكان المخصص للصلاة. وهي رسالة واضحة للقائمين على المدرسة من الفرنسيين، بخصوص احترام الخصوصية الدينية لأبناء المغاربة الذين درسوا هناك.
نختم بعصارة أكاديمية خطها هذا الباحث. تقول كل شيء: فقد أورد محمد بن هلال الظهير الصادر في 16 مارس 1916، والذي حدد صفة وتنظيم المدارس الابتدائية بالمغرب: «وقد قام ظهير آخر صادر في مارس 1916 يحدد صفة وتنظيم مدارس المستعمرين الابتدائية بتكريس التمييز العنصري والاجتماعي الرائج منذ الظهور الخجول للتعليم الحديث بالمغرب: «مدارس أبناء الأعيان» المخصصة للنخبة المسلمة والمدارس الشعبية. وبقي الأمر على حاله حتى صدور مذكرة أبريل 1920 والقرار الوزاري الصادر في يونيو 1920، لكي تظهر ملامح سياسة مدرسية مندمجة بنظام سياسة المستعمَرين.. لم تكن مهمة مدرسة الاستعمار المحافظة جدا بمفهومها، تطبيق نفس القوانين التربوية على جميع التلاميذ، وإدخال الديموقراطية إلى مجتمع نجهل أغواره، وتربية تلاميذنا تطلعا لمجتمع مستقبلي مثالي لا يكون النجاح فيه إلا للجدارة والاستحقاق. بل بالعكس كان على مهمتها أن تنحصر في أخذ الناس والأشياء كما هم وتحسينهم من خلال تطور بطيء».
إنها مضمون قوي يشرح كيف أن فرنسا خططت منذ البداية لتأسيس مدارس نظامية تحارب بها المدرسة المغربية القديمة. وبعد الاستقلال سنة 1956، كما نعلم جميعا، بقيت بعض هذه القوانين معمولا بها في الإدارة المغربية. وهو ما شكّل قنبلة موقوتة تسببت في إجهاض تجارب حكومية كثيرة خلال السنوات الأولى للاستقلال ولم تنطفئ بعض تبعاتها إلا بعد دستور 1962، خلال السنة الأولى لحكم الملك الراحل الحسن الثاني.