سترتبط نهاية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين باندلاع جائحة (كورونا) التي تسببت في زعزعة العديد من اليقينيات وفضحت خلال أسابيع محدودة مدى هشاشة الإنسان في محطة متقدمة من العولمة من خلال حدة الصدمة الاقتصادية التي أفرزتها عالميا.
ورغم أننا لا نزال غير متحكمين في الخروج من هذه الأزمة الصحية فإن كل الملاحظين يتفقون على أن مسار العولمة سيتأثر حتما بعواقبها نتيجة الانخراط العالمي في الحجر الصحي الذي فرض نفسه كظاهرة معولمة. ذلك أنهم يتفقون على أن هذه الأزمة ستؤدي مستقبلا لمراجعات عميقة للتدبير الاقتصادي وللسياسات العمومية بل للمنظومات السياسية والمجتمعية وللعلاقات الدولية بين الأقطار. فالعالم يعيش بشكل مؤكد منعرجا بين ما قبل وما بعد كوفيد19.
من الواضح أن الأزمة الاقتصادية والمالية لسنة 2008 كانت قد أفرزت اهتزازات ضمن حركيّة العولمة وعجلت بتغيير موازين القوى الاقتصادية داخل العالم لصالح القارة الآسيوية. وبينما لا تزال نيران هذه الأزمة مشتعلة لحدما، جاء فيروس صغير ليدخل العالم كله في أزمة جديدة أكثر حدة من التي سبقتها.
هكذا فخلال عقد من الزمن فقط كان على العالم وعلى العولمة مواجهة أزمتين اقتصاديتين كبيرتين. قد تكون أزمة 2020 مطابقة لتعريف أنتونيو كرامشي «تكون الأزمة حينما ينقرض وضع ما قبل أن ينبعث وضع جديد».
لا شك أن أزمة 2020 تختلف من الناحية الاقتصادية عن أزمة 2008، لأنها اندلعت من قلب الاقتصاد الحقيقي في حين أن أزمة 2008 (وكما هو الأمر كذلك بالنسبة لأزمة 1929) كانت في أصلها أزمة مالية قبل أن تنتقل إلى مجال الإنتاج وبعد ذلك إلى الفضاء الاجتماعي، حيث كان لها تأثير سلبي واسع تجلى في ارتفاع مستوى البطالة وتفقير أجزاء من ساكنة المعمور. وكل المؤشرات تدل على أن مخلفات الأزمة الجديدة على التنمية وعلى التوازنات الاجتماعية ستكون أكثر حدة. وهذا سيفرض تعبئة هائلة للسياسات المالية للحكومات وتدخلات جريئة للبنوك المركزية ولكل مكونات المنظومات التمويلية عبر العالم. من حسن الحظ أن كبريات البنوك تتسم اليوم في البلدان المتقدمة بمناعة مؤكدة بالنظر لمستوى راسميلها التي تمثل اليوم ضعف ما كانت عليه قبل 2008 بفضل الضوابط المشددة التي فرضت عليها في بداية العقد الثاني، الشيء الذي يسمح لها اليوم بمقاومة الصدمات التي تولدت عن الأزمة الجديدة.
مادام أصل هذه الأخيرة مرتبط بالمجال الصحي فقد كان من الطبيعي أن تعطي السلطات العمومية في كل الأقطار الأولوية هذه المرة للجبهة الصحية من أجل إنقاذ حياة الناس وتحجيم جائحة الفيروس والبحث عن التعرف على طبيعتها وتشجيع الأبحاث العلمية وصناعة الأدوية قبل الوصول إلى اختراع اللقاح الضروري من أجل التحكم مستقبلا في الوقاية.
هكذا ستفرض الحاجة إلى الصحة ومعها ضرورة إنقاذ البشر نفسه مستقبلا ضمن الاختيارات الاستراتيجية للسياسات العمومية. بل ستصبح الصحة ضمن الخيرات المشتركة للإنسانية على غرار الاستقرار والسلم.
بالإضافة إلى ضرورة إنقاذ حياة الناس، ستكون الحكومات قبل وبعد مغادرة الحجر الصحي مطالبة بالتحرك بسرعة للحيلولة دون انهيار النشاط الاقتصادي والمنظومات الإنتاجية وبعد ذلك وضع أدوات انطلاقة جديدة.
واضح أن هذه الأزمة لها خصوصيتها كما يقول دومنيك ستروسكان المدير السابق لصندوق النقد الدولي: فهي أزمة مثلثة الأطراف تمس الكائن (من خلال هشاشته) والملكية (العرض والطلب) والسلطة (الحكامة المحلية والإقليمية والعالمية).
إن المقارنة بين أزمتي 2008 و2020 تبرز تلاقيهما في نقطة انطلاقهما من القوتين الاقتصاديتين الأساسيتين. هكذا كانت الولايات المتحدة مصدر الأزمة الأولى، والصين منبع الأزمة الثانية. وفي كلتا الحالتين استوطنت أوروبا الشيء الذي يدل على هشاشة القارة العجوز التي كانت تاريخيا نقطة ميلاد العولمة. وهو ما يعنينا نحن جنوب المتوسطيين والأفارقة بحكم جوارنا للأوروبيين. كما أن الخروج من أزمة 2020 سينطلق من مصدرها الصين القوة الاقتصادية الكبرى على غرار ما كان الخروج من أزمة 2008 من الولايات المتحدة، القوة الاقتصادية الكبرى التي انطلقت منها.
واضح أن مأساة الفيروس التاجي تعكس أحد تجليات عولمة القرن الواحد والعشرين بانحرافاتها وبسبب حدة التبعية المتبادلة القائمة بين الأنسجة الإنتاجية بالعالم. هكذا فاندلاع الوباء من الصين يمثل أحد أوجه العولمة الجديدة باعتبار أن هذا البلد أصبح قاطرة الاقتصاد العالمي. فهو يغطي وحده 30% من دينامكية نموه و15%من مبادلاته.
هكذا أدى انهيار الطلب الصيني إلى انخفاض سريع في أسعار المحروقات الذي غدته في ذات الوقت وبشكل غير منتظر حدة الخلافات بين كبريات الأقطار المنتجة للنفط: العربية السعودية ووراءها أقطار الأوبيك من جهة وروسيا من جهة ثانية إلى حد أن سعر النفط انهار إلى حدود عشرين دولار للبرميل في نهاية مارس 2020. تجلت هذه الصدمة المضادة (التي تذكرنا بما حدث سنتي 1986و2014) عبر تداخل العوامل الاقتصادية بالعوامل الجيوسياسية ضمن فعل القوى العظمى (الولايات المتحدة، الصين، روسيا) وكذا تأثير التناقضات الصاعدة بين القوى الإقليمية خاصة السعودية وايران، حيث تسعى الأولى إلى تكثيف الضغوط على الثانية، فيما رفض الرئيس بوتين في البداية السير وراء السعودية لتقليص الانتاج ساعيا نحو زعزعة الموقع الغالب الذي أصبحت تحتله الولايات المتحدة بفضل تعاظم إنتاجها من النفط الصخري. ضمن هذه المعادلة المعقدة كان الرئيس الأمريكي ترامب ينشرح من تشديد الخناق على إيران في ذات الوقت الذي أصبحت فيه هذه الأخيرة البؤرة الأولى للجائحة في الشرق الأوسط وكان يتردد بين موقفين متناقضين: من خلال ميله إلى الدفع لتحافظ أسعار النفط على مستوياتها (60 دولار للبرميل) استجابة لرغبات مالكي الشركات الأمريكية الذين كان يعتمد عليهم كمساندين سياسيا له من جهة، ورغبته من جهة ثانية في أن تنحدر أسعار البنزين ليستفيد منها المستهلك الأمريكي خلال الظرفية الحالية المهيأة لانتخابات الرئاسة المنتظرة (نونبر 2020). في آخر الأمر تمكنت كل هذه الأطراف من الوصول إلى توافق ( 12 أبريل 2020) يقضي بتقليص إنتاج النفط بعشرة ملايين برميل يوميا ابتداء من فاتح ماي، وهو قرار قد لا يكون له مفعول جلي بالنظر لظروف الأزمة ومحدودية الطلب عالميا.
إثر تهاوي أسعار النفط وبعدها أسعار المواد الأولية (على حساب الأقطار النامية والصاعدة) تراجع الطلب على كل السلع الصناعية والتجهيزية والوسيطة والاستهلاكية باستثناء المواد الغذائية والأدوية والى حد ما سلع الاستهلاك الرفيع التي أصبحت مبادلاتها تنظم عن بعد. هكذا فرض تفشي الوباء حجرا صحيا معولما أدى إلى شلل المنظومات الإنتاجية وإغلاق المتاجر وافلاس المقاولات وانكسار شبكات التزود وتهاوي القيم في البورصات العالمية إلى حد أن بعض الأصوات تعالت في البداية لتطلب الإقفال المؤقت للأسواق المالية.
يعرف العالم كله أن التعافي من الركود الاقتصادي سينطلق من الصين وكذا من اقتصاديات اليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة التي تحضر نفسها قبل غيرها لمغادرة الحجر الصحي. لكن عودة الحياة الاقتصادية لن تصبح عملية إلا بعد أن تتمكن أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية من توقيف تفشي الفيروس، وبعد أن يتمكن بلد كبير كالهند من مغادرة مرحلة الحجر وبعد أن تظهر بوادر إيجابية لتطويق الجائحة حتى لا تلج القارة الإفريقية المعروفة بهشاشتها. وإذا كانت العديد من المؤشرات تدل على أن هذه الأخيرة ستبقى على هامش شيوع الجائحة فإن أكبر الأخطار المحيطة بهذه القارة ترتبط بانهيار أسعار المحروقات والمواد الأولية. فخطر الموت بإفريقيا من مخلفات الفقر المدقع أكبر من خطر الموت بالفيروس التاجي.
رجوع إلى التاريخ
إن تموقع جائحة كفيد 19 ضمن العولمة المتقدمة بالقرن الواحد والعشرين يرجعنا إلى تاريخ البشرية الذي يبرز أن انتشار الجائحات والأمراض الفتاكة لم يكن يأخذ بعين الاعتبار الحدود الوطنية. لقد بين المؤرخون أن غياب الأدوية واللقاحات ساعد الجائحات على غزو مختلف القارات عبر موجات متلاحقة وخلال عدة قرون أحدثت قطائع ديموغرافية بما يفسر جمود عدد الساكنة بالمعمور إلى غاية القرن التاسع عشر. هكذا جاء الطاعون الذي ارتبط باسم الأمبراطور البيزنطي قستنطين ليتفشى بين 541 و592 في فضاء البحر الأبيض المتوسط الذي كان يعتبر بمفهوم (بروديل) مهد العولمة، حيث تجاوز عدد ضحاياه 25 مليون نسمة. كما جاءت حملة الطاعون الأسود بين 1348و1352 لتقضي على أكثر من ثلث ساكنة القارة الأوروبية، وكانت في نفس الوقت من أسباب بروز تحولات سياسية واقتصادية هائلة داخل كيانها. كما تجب الإشارة إلى مخلفات اكتشاف الأمريكتين من طرف الإبيريين والذي أدى إلى ولوج العديد من الأمراض إلى العالم الجديد مثل الزكام والسل والجذري والملاريا والحمى الصفراء. وهي أمراض ساهمت في الإبادة السريعة لجزء كبير من الساكنة المحلية التي كانت تفتقد المناعة الضرورية. كما أن استعمار البلدان الجنوب المتوسطية والإفريقية أخضع ساكنتها للعديد من الأمراض المعدية المستوردة من أوروبا التي انضافت إلى الأمراض ذات الأصول المحلية والتي كانت تتفشى في سنوات الجفاف والمجاعة. ومع حملات الاحتلال الأوروبي ولجت أدوات الوقاية الصحية مختلف المستعمرات، فارتفع النمو الديمغرافي بها بشكل مُلفت لأول مرة.
كما انتشرت عبر العالم منذ القرن الثامن عشر عدة موجات من الأمراض المعدية ذهب ضحيتها حسب المؤرخين 40% من ساكنة المعمور. فعلى سبيل المثال حصد طاعون 1720 عشرات الآلاف من الأرواح في جنوب فرنسا. وجاءت جائحة الطاعون الصيني سنة 1855 انطلاقا من موقع هويان لتنتشر عبر العالم. كما عرف القرن 19 ستة موجات قاتلة لداء الكوليرا بين 1817و1881. وعند انتهاء الحرب العالمية الأولى انطلق الزكام الإسباني من الولايات المتحدة عبر ثلاث موجات بين 1919 و1920 ليصيب أكثر من ثلث ساكنة العالم حيث وصل عدد ضحاياه إلى أكثر من 50 مليون فرد ليكون أكبر جائحة عرفها العالم.
ومع ذلك فإن جائحة الفيروس التاجي التي اجتاحت المعمور تعكس أكثر من سابقاتها ظاهرة العولمة، لأنها أدت في بضعة أيام إلى إحداث قطيعة في دينامية الاقتصاد العالمي. فارتبطت بالعولمة من خلال عواقبها السلبية على كل أبعادها (إنتاج، تجارة، تنقل البشر) وهي العولمة التي أصبحت تتسم في مراحلها المتقدمة بثنائية القطبية المتمثلة في الولايات المتحدة والصين وتأثيرها ما يزال ملموسا من طرف أوروبا رغم تراجعاتها المؤكدة.
هكذا انطلق الوباء من قلب الصين، القوة الاقتصادية الثانية بالعالم ثم استقر مركزه بأوروبا قبل أن ينتقل بعنف إلى الولايات المتحدة، القوة الاقتصادية الأولى والتي أصبحت بعد ثلاثة أشهر بؤرته الأساسية. ولقد تجلى من خلال متابعة تفشي مختلف أشواط الجائحة أن أنجح سلاح للحد منها يتمثل في الحجر الصحي على مجموع الساكنة عالميا منذ اعتماده من طرف الصين إلى أن أصبح ظاهرة معولمة تغذي أكبر انكماش اقتصادي عرفه العالم منذ بداية القرن.
أزمة عولمة جديدة
لا شك إذن أن للأزمة الحالية طابع عالمي لأنها أثرت سلبا على الإنتاج والنمو العالميين. انطلقت كما هو معروف من يوهان، مدينة صناعية وسط الصين وواحدة من كبريات معامل العالم. فهي تمثل بالتالي المحطة الأولى لشبكة القيم العالمية بالنسبة للعديد من القطاعات الصناعية مثل قطاع السيارات المنكوبة اليوم، إلى قطاع الأدوية الذي أصبح بفعل الأزمة الصحية السائدة موضع ضغط كبير عبر العالم. إن تعقيدات شبكات الإنتاج يفرض على كل المنتوجات الصناعية استعمال مكونات (قطع الغيار) التي تنتج في كل مناطق العالم. وهذا يعني أن أي انكسار داخل الشبكة (خاصة إذا حدث منذ ميلادها كما هو الحال اليوم انطلاقا من يوهان) تكون له عواقب سلبية على كل محطات الإنتاج عبر الأقطار ويؤدي إلى انكماش يتفشى عبر العالم (على سبيل المثال المحطات الصناعية النهائية لشركتي رونو وبوجو بالمغرب).
ولقد تولد عن توقيف الانتاج العالمي داخل محطات الشبكات تقلص للطلب على المواد والخدمات وانهيار لأنشطة المبادلات الخارجية ولحركية الدوائر اللوجيستيكية التي تمثل قاعدتها: النقل بكل أنواعه الطرقي والحديدي والبحري والجوي وكذلك منصاتها من موانئ ومطارات ومحطات.
كما أن لهذه الصدمة الاقتصادية الحادة تأثير سلبي على الأسواق المالية والبورصات التي تهاوت قيمها بعنف قبل أن تتعافى جزئيا. وفي ذات الوقت تعبأت الموازنات الحكومية من أجل دعم الواجهة الصحية وتوقيف نزيف انهيار المنظومات الإنتاجية قبل التحضير لمصاحبة انطلاقها من جديد.
هكذا أقبلت الحكومات والبنوك المركزية للبلدان المتقدمة في بداية النصف الثاني من شهر مارس 2020، في عز تفشي الجائحة، على التدخل بقوة قطريا وإقليميا ودوليا. هكذا انطلقت مشاورات دولية ضمن مجموعة السبع وبعدها مجموعة العشرين (26 مارس 2020) في محاولة لتحجيم العواقب المدمرة للأزمة وإنقاذ الاقتصاديات الوطنية.