«جامعة القرويين هي الأقدم في العالم. تأسست سنة 857 ميلادية في فاس، وأدخلت عليها إصلاحات سنة 918 م. حيث افتتح فيها مسجد كان يؤدي فيه الأدارسة صلاة الجمعة بصفة رسمية، وكانت أهم حدث سياسي أسبوعي في المغرب، وربما في العالم.
إذ لم يسجل دوليا وجود جامعة أو مؤسسة علمية أقدم من جامع القرويين في فاس. كانت الصبغة الدينية تطغى على صورة القرويين. لكن تاريخها الغائب، أو المُغيب يشهد أنها كانت مؤسسة علمية وبحثية مرموقة بكل المقاييس، منحت أول شهادة طب في تاريخ البشرية، وسجلت إجازات لعدد من الأذكياء المغاربة الذين برعوا في العلوم، قبل أن تتأسس جامعة أخرى في أي مكان آخر في العالم.
واكبت جامعة القرويين ميلاد دولة الأدارسة، وشهدت جدرانها ميلاد الدولة الموحدية، واحتمى علماؤها بها في عز أزمة انتقال السلطة إلى المرابطين، ثم جاء الموحدون الذين كان عهدهم قياسيا في مجال البحث العلمي والأكاديمي، حيث ظهر جيل من العلماء المغاربة الجدد، من بينهم الطبيب المغربي الذي تعتبر شهادة عالميته اليوم أقدم شهادة علمية في التاريخ الإنساني، وباعتراف عالمي رسمي.
جاء المرينيون وبعدهم السعديون، وبقيت «القرويين» قائمة، مؤسسة علمية وجامعا يمثل السلطة الدينية والرمزية الروحية في المغرب. ومع العلويين جاء عهد الاعتناء بالأرشيف الذي يشهد على أن المغرب كان متقدما جدا في مجال العلم، واحتضن العلماء حتى قبل أن تولد جل دول العالم».
أقدم شهادة طب في العالم كتبت في «القرويين» وحصل عليها مغربي اسمه عبد الله بن صالح
كُتبت على «رق الغزال» بخط مغربي أصيل. شهادة إجازة لمزاولة الطب، هي أقدم نموذج للشهادات التي كانت تمنحها جامعة القرويين للمنتسبين إليها. لم يتم الحسم حتى الآن ما إن كانت هذه الشهادة العلمية الأقدم من نوعها في مجال الطب بالقرويين، ولكن تأكد رسميا، أنها أقدم شهادة في العالم. حيث صدرت سنة 603 هجرية كما هو مدون فيها، وهو ما يوافق سنة 1207 للميلاد. ولا توجد أي شهادة في العالم أقدم من هذا التاريخ.
توقع الأكاديميون وجود شهادة مشابهة، ما دام قد تأكد دوليا ووفق مؤسسات وأكاديميات مرموقة، أن أقدم جامعة ومؤسسة علمية في العالم على الإطلاق هي جامعة القرويين في فاس. لكن أقدم شهادة معروفة حتى الآن هي هذه التي منحت في عهد الموحدين لطبيب يُدعى عبد الله بن صالح الكتامي. منحتها له لجنة من العلماء في القرويين يترأسهم العالم المغربي عبد الله الطاهر، والذي كان اسمه موضوع أوراق بحثية كثيرة، خصوصا لدى المهتمين بتاريخ القرويين.
تتوفر مكتبة جامعة فاس على نسخة من هذه الشهادة الجامعية الأقدم في العالم، التي مُنحت لهذا الطبيب المغربي خلال حكم السلطان الموحدي أبو يعقوب. وهو أحد أبرز الذين تعاقبوا على حكم الدولة الموحدية قبل أفولها بسبب المشاكل الداخلية. وفي عهده أيضا كان هناك انفتاح كبير في جامعة القرويين، حيث ولجها علماء وباحثون مغاربة من مختلف مناطق المغرب، وكان يتم إيواء الطلبة فيها بتوصية خاصة من أبي يعقوب الموحدي، الذي أمر بإدخال إصلاحات كثيرة على النظام الداخلي للقرويين والاهتمام بعدد من المدارس العتيقة في مناطق متفرقة من المغرب.
إذ إن المدارس العتيقة وقتها لم تكن متخصصة في تحفيظ القرآن الكريم فقط، وإنما كان طلبتها يتنافسون في العلوم الأخرى أبرزها الفلك والمنطق، ولا تزال بعض المخطوطات شاهدة على اهتمام التعليم في المساجد والزوايا بالعلوم المعمقة، وبينها الطب. وكان المتفوقون من الطلبة يقصدون جامعة القرويين للحصول منها على شهادات على يد كبار العلماء، وتمتيعهم بإجازة الممارسة أو التأليف في العلوم.
أتيح للباحثين الوصول إلى نسخة الإجازة، والتي تتوفر جامعة فاس الآن على نسخة منها في مكتبتها، حيث تتضمن تعليقا يشرح سياق كتابتها ومحتواها والموقعين عليها.
بينما النسخة الأصلية لهذه الإجازة توجد حاليا في مقر مديرية التاريخ العسكري بالرباط، والتي افتتحت سنة 2015، بأمر من الملك محمد السادس. حيث يوجد بها متحف يضم أرشيفا مهما وثروة حقيقية من الوثائق.
المتحف يأتي في إطار المشاريع التي تولتها اللجنة المغربية للتاريخ العسكري، والتي تأسست سنة 1996 بأمر ملكي.
لكن الظهير المنظم لعمل هذه اللجنة واختصاصاتها، لم ير النور إلا في سنة 2000، عندما أمر الملك محمد السادس بتمكين اللجنة من الموارد الكافية، بما فيها الموارد البشرية والتقنية لإنجاز مشاريع تتعلق بالتاريخ العسكري بالمغرب.
ومن ضمن الوثائق التي يتضمنها المتحف، ما يؤكد عراقة المدارس التي تأسست في مراحل مختلفة من تاريخ المغرب.
التاريخ المنسي للعلماء المغاربة.. أقدم مستشفى في العالم مراكشي!
لا يمكن إلا أن يشعر الباحث بالحسرة وهو يطالع حقائق عن ضياع وثائق وكتب علمية، بسبب التصدعات السياسية في المغرب. فمثلا خلال الحروب التي تسبق تأسيس أي دولة من الدول التي تعاقبت على حكم المغرب، حدث أن تم إحراق بعض المكتبات وإتلاف مدارس بسبب المواقف السياسية لأصحابها أو قربهم من المُطاح بهم.
لقد أدى العلماء المغاربة ضريبة التقلبات السياسية التي مر بها تاريخ المغرب، خلال الألف سنة الأخيرة. لكن جل رصيدنا العلمي نجا، بفضل عناية أهله به، لكي يصل إلينا اليوم «مُعتقا» في رفوف خزانات أحدثت خلال فترة الاستقلال، منذ عهد الملك الراحل محمد الخامس، للعناية بالأرشيف المغربي. رغم أن جزءا مهما منه لم يكن رهن إشارة الباحثين المغاربة إلا في سنوات السبعينيات، فترة بعد تأسيس الجامعة المغربية.
هي لائحة طويلة من الأسماء، بعضها وصل إلى العالمية بفضل أبحاثهم المؤسسة للطب وعلم النفس والاجتماع والفلسفة والفلك، بينما آخرون ظلت أسماؤهم حبيسة الوثائق التي تؤرخ لوجودهم العلمي في المغرب.
يكفي مثلا أن تعرف وجود أقدم مصحة للأمراض النفسية في العالم بمدينة فاس، حيث تأسست سنة 1286 ميلادية، وكان يطلق عليها المغرب القديم «سيدي فرج»، حتى أنها كانت كناية للفاسيين على الأمراض النفسية. ساد اعتقاد أن الأمر يتعلق بضريح تسيطر على مرتاديه الأساطير، لكن البحث العلمي والوثائق أكدت أن الأمر يتعلق بمصحة لعلاج المرضى نفسيا على يد متخصصين مغاربة ألفوا كتبا ومجلدات في مقدمات شرح علم النفس والاضطرابات النفسية التي يتعرض لها الإنسان. وكانت بناية المستشفى مقرا لهؤلاء الأطباء المغاربة القدامى والمرضى معا. وظل العمل بالمستشفى قائما، حيث كان لا يزال يستقبل المرضى نفسيا إلى حدود عهد المولى يوسف، والد الملك الراحل محمد الخامس، بمدينة فاس.
العهد الموحدي كان عهدا ألمعيا، فالشهادة التي تعتبر أقدم شهادة جامعية للطب في العالم مُنحت في العهد الموحدي، بالإضافة إلى أن أقدم مستشفى في العالم، بمفهوم المستشفى، يعود تأسيسه إلى عهد الدولة الموحدية أيضا، وحمل اسم العالم المغربي والطبيب المشهور «ابن زهر» بمدينة مراكش، والذي يعود تاريخ تأسيسه إلى سنة 1270 ميلادية. أي إنه كان قائما قبل 750 سنة من اليوم. وقد صنفته مراكز بحثية وعلمية على أنه أقدم مستشفى في التاريخ، حيث كان في عهد الموحدين يستقبل المرضى ويوفر لهم العناية، كما أن الأطباء المغاربة في ذلك العهد، كانوا قد وجهوا عمال البناء الذين أمرهم السلطان الموحدي ببناء المستشفى، إلى اختيار الأماكن الملائمة للتهوية والإضاءة لمساعدة المرضى على الشفاء.
الاستعمار حاول طمس الهوية العلمية للمغرب وهمش حقيقة مكتبات الطب والفلك..
عندما أصدرت فرنسا تقاريرها العلمية والبحثية الأولى عن المغرب، في إطار الأبحاث الاستعمارية العلمية والعسكرية التي بدأتها قبل 1912، صنفتنا على أساس يغلب عليه طابع الميز الاستعماري. بلد متخلف بدون هيكلة، يغلب عليه طابع القبيلة، وانعدام البنيات التحتية.
لكنها أغفلت جانبا مهما يتعلق بتاريخ المغرب العلمي والأكاديمي، ليس فقط على اعتبار وجود جامعة القرويين في فاس، التي تعتبر الآن أقدم جامعة في العالم على الإطلاق، حتى أنها سبقت تأسيس جامع الأزهر بمصر ذي السمعة العالمية الكبيرة، بمائة عام كاملة. ولكن أيضا لوجود مكتبات تضم مخطوطات قيمة وتاريخية تعود إلى الفترة التي كانت فيها فرنسا غارقة في الجهل والحروب الأهلية والاقتتال بدون أي رصيد علمي.
بعض التقارير كانت قريبة من الموضوعية، مثل تقرير «دو أمسيس»، الذي تناول الموضوع من زاوية مجردة مقارنة مع غيره، وتحدث عن وجود زوايا وأضرحة لشخصيات كانت قامة علمية، وذكر أن مؤلفات هذه الشخصيات خصوصا في الطب والفلك، لا تزال محمية في مكتبات تحرسها عائلات توارثت الإشراف على تلك الزوايا.
هنا بالضبط برز دور جامعة القرويين. فمكتبتها كانت قِبلة لنسخ من أبحاث ومؤلفات علماء مغاربة، وصلوا إلى العالمية قبل ألف سنة في مجال الطب والفيزياء والفلك.
واحتفظت مكتبة الجامعة بتلك المؤلفات إلى أن وصلت إلى يد الباحثين الغربيين، الذين اعتمدوا عليها كليا في تطوير الطب لاحقا، بل وفي الأبحاث الفضائية أيضا. فلولا القاعدة العلمية الأولى التي حرستها هذه المكتبة، لما كان ممكنا الوصول إلى منجزات علمية في العصر الحالي، أو سيكون الوصول إليها متأخرا نوعا ما.
من أهم الدول التي تعاقبت على حكم المغرب، نجد الدولة الموحدية، والتي قامت ما بين سنوات 1147 و1269 للميلاد. قرون طويلة جدا مضت على ولادة وموت هذه الدولة، التي اعتمدت أساسا على الزوايا والعلماء لحشد القاعدة الشعبية لتأسيسها، إلا أن أثر الإنجازات العلمية التي وقعت خلالها لا تزال معالمها حاضرة إلى اليوم.
ففي عهد الدولة الموحدية، وبالضبط سنة 1207 م، تم تسجيل أول شهادة إجازة لممارسة مهنة الطب، وهي الآن أقدم شهادة جامعية في العالم ولم يتم تسجيل وجود أي شهادة أقدم منها حتى الآن في أي مكان في العالم.
كان العهد الموحدي، رغم الانتكاسة التي عاشها في السنوات الأخيرة التي سبقت أفول الدولة الموحدية، عهد «زوايا» ومدارس عتيقة لم يكن يدرس فيها القرآن الكريم وحده، وإنما برع أئمتها في الفلك والمنطق، الذي تمخضت عنه أولى الكتابات المغربية في الفلسفة والفكر الديني، بالإضافة إلى الفيزياء والكمياء والفلك والطب والرياضيات.
وتوجد اليوم مخطوطات تؤرخ لأسماء مغربية، لن يتسع المجال هنا لذكرها جميعا أسست لنظريات علمية، اكتشفها الباحثون في مخطوطات المكتبات في مناطق معزولة في المغرب.
حتى أن المختار السوسي في بحثه المعمق، المعسول، في تاريخ الزوايا والدور العتيقة التي وضع لائحة مطولة بأسمائها وتاريخها، وقف شخصيا على مكتبات بها مخطوطات نادرة، كان أمر الحفاظ عليها من التلف لقرون طويلة مثيرا فعلا للإعجاب.
القصر الحامي الأول لـ«القرويين» وهذه قصة حماية طقوس ومخطوطات الجامعة
رغم أن جامعة القرويين تأسست سنة 859 للميلاد، لتكون أول وأقدم جامعة في العالم كله، إذ لم يثبت نهائيا في أي بلد في العالم، أن كانت به بناية علمية تجمع فيها الطلبة للدراسة والبحث، أقدم من «القرويين». وهي الآن رسميا أقدم جامعة في العالم. وعرفت توسيعا لطاقتها الاستيعابية منذ سنة 918 م، أي بعد أقل من قرن واحد فقط على تأسيسها، وذلك بسبب الإشعاع الذي وصلت إليه، ليس في المغرب فقط، وإنما في بلاد الشرق أيضا.
واكب جامع القرويين ميلاد دول كثيرة تعاقبت على الحكم في المغرب، وجل هذه الدول عاشت بعواصم علمية وروحية خارج فاس، وبعيدا عن القرويين، لكن تاريخها كله آل إلى مكتبة تلك الجامعة. مع العلويين، خصوصا عندما أصبحت فاس عاصمة للدولة العلوية، أصبح لجامعة القرويين بُعد آخر، إذ تمتعت باهتمام الدولة بها، ووصل علماؤها إلى أعلى مراتب المسؤولية، بل شكلوا مجالس استشارية يتواصل معها القصر رسميا للخروج بالأحكام والقوانين والقرارات السيادية. وكانت تلك قمة ومجد جامعة القرويين منذ سنة 1672م، وقبلها بقليل، أي الفترة التي وصل فيها المولى إسماعيل إلى الحكم. فقد كان هذا السلطان العلوي الذي وصل بدوره إلى العالمية، مساهما في تكريس السلطة الدينية لجامع القرويين بشكل كبير، واهتم بعلمائه ونظم لهم احتفالات سنوية، وكان أيضا مهتما بتعليمات تعيين حراس المكتبات والمُدرسين. كما أمر مرات كثيرة بإعداد نسخ من كتب كانت في طريقها إلى الضياع. فقد مضى في عهده على تأسيس القرويين قرابة ثمانية قرون تقريبا، وهي مدة طويلة جدا مقارنة بإمكانيات ذلك الوقت في صيانة الأرشيف، ولولا التعليمات التي أطلقها المولى إسماعيل لما كانت رؤية شهادات علمية منحتها جامعة القرويين ولا نسخ المخطوطات النادرة، التي تؤرخ اليوم لنبوغ المغاربة الحقيقي في مجال الطب والفلك والرياضيات والفلسفة وعلم النفس أيضا.
وفي نهاية عهد المولى الحسن الأول، ومجيء أبنائه ودخول المغرب في فترة الإعداد الاستعماري للحماية، فقد دونت الصحافة العالمية واقع جامعة القرويين واهتمام القصر بها واعتبارها من معالم «السلطة» في المغرب. لاورنس هاريس، موفد «التايمز» إلى فاس سنة 1907 لإنجاز مقالات واستطلاعات عن المغرب، ذكر جامعة القرويين وأوصل صورة عنها إلى الرأي العام البريطاني، الذي كان يعتقد أن المغرب مجرد بلد بدائي لا مكان فيه للعلم.
يقول ناقلا الواقع السياسي الذي كانت «القرويين» جزءا منه سنة 1907 دائما على لسان نافذ فاسي اسمه عبد الله بن مقتة: «الحاكمون الحقيقيون في فاس هم القضاة أو رجال الدين. وإدارة شؤون المدينة تتم بواسطة عائدات الحبوس، ومنها أيضا تنجز الإصلاحات العمومية لمرافق المدينة.
إلى جانب المدراس التقليدية العتيقة، توجد جامعة القرويين، وهي أكبر مسجد في فاس، وقبلة العلم في المغرب كله. قيل إنه قبل سنوات طويلة جدا، كان طلبة العلم يأتون إلى جامعة القرويين بفاس من كل أنحاء العالم. وينهلوا من كتب مكتبتها الشهيرة.
لدي ابن يدرس في جامعة القرويين، وقال لي إن مكتبة الجامعة كانت تسمح للطلبة بإخراج الكتب لنسخها والاستعانة بها في الدراسة، لكن الكثيرين لم يكونوا يرجعون تلك الكتب إلى مكانها، وهو ما جعل الجامعة تمنع إخراج الكتب من رفوف مكتبة القرويين. الجامعة أيضا مأوى وملاذ للكثيرين. وفيها يمكن أن يبيت المسافر وعابر السبيل ممن لا يجدون مكانا يبيتون فيه أو لا يستطيعون تأدية قيمة المبيت في فنادق المدينة. وفيها أيضا يكون اللاجئ محميا حتى من السلطان نفسه. لا أحد يجرؤ هنا على اقتحام حرمة المولى إدريس. ولا يكلف الأمر كثيرا من المال لكي تصبح طالب علم في جامعة القرويين. الحمد لله، اشتريت مفتاح غرفة لابني كي يسكن فيها واشتريت له كل ما يحتاج لكي يكمل تعليمه في القرويين. الفقراء يعيشون على إعانات المحسنين والدولة إلى أن يتموا تعليمهم، فيتحولون من طلبة إلى معلمين في السلم الخامس. بعد ذلك يصبحون موظفين رسميين في الدولة ويحصلون على أجورهم من أموال الحبوس، ويحصلون على هبات من الدولة في الأعياد الدينية. الهبة التي يحصلون عليها عبارة عن قدر من المال وكسوة سنوية ومؤونة من الطعام والحبوب.
انتقل عبد الله إلى الحديث عن لباس «الطلبة» وعلاقته بلباس السلطان. بالنسبة إلينا أنا وهاردويك، فقد بدا لنا الأمر بخصوص الملابس، شبيها بقصة علي بابا والأربعون لصا، لكنني سوف أرويها كما سمعتها من عبد الله نفسه.
يقول عبد الله: «قبل أزيد من أربعمائة سنة، كان مولاي الرشيد، يهتم بقصر أخيه بعين، والعين الأخرى يرعى بها سيدة جميلة داخل القصر. ذات مرة جمع العشائر ومضى بها إلى فاس. في ذلك الوقت، كانت طريق تازة تخضع لسيطرة رجل يسمى بن مشعل، كان رجلا يهوديا غنيا ونافذا.
الرشيد كان لا يملك المال ليؤدي رشوة لعبور الطريق التي يسيطر عليها رجال اليهودي النافذ، ولم يكن يملك القوة لقتال رجاله، ولم ينقذه من الورطة إلا طلبة «أنكاد» الذين هبوا لنصرته. فقد قاموا بحشر 40 منهم داخل صناديق ضخمة، وتم ترحيلهم إلى بيت اليهودي يوم السبت وبقوا يوما كاملا ينتظرون مرور السبت، لأنه يوم مقدس عند اليهود، لكي يفتح بن مشعل الصناديق. ما إن حل الليل، حتى خرج الطلبة من الصناديق وقتلوا بن مشعل وحرروا مولاي الرشيد. وكاعتراف لهم بالجميل، فقد أمر بإعلان سلطان للطلبة كل سنة. وإلى يومنا هذا فإنه ومع اقتراب وقت «كالة»، فإن الخيام تنصب بأمر من ممثل السلطان، على مشارف النهر، خارج أسوار الضفتين. وترسل إلى القايد والمسؤولين رسائل تحث على العمل لإنجاح الاحتفال والذكرى.
بعد الاحتفال يحظى سلطان الطلبة بعدة امتيازات، ويمكن أن يحصل على منافع له ولعائلته ويأمر بها أيضا. كما أنه لا يؤدي أي نوع من الضرائب».
أنهى عبد الله حديثه، وأعربنا له عن إعجابنا وتمنينا أن نرى ابنه يوما سلطانا للطلبة».
سلطان الطلبة، الطقس الذي استمر إلى عهد الملك محمد الخامس، حيث كان يحرص شخصيا على إحيائه وترؤسه بنفسه وتوشيح الطالب الذي وقع عليه الاختيار، كان وجها من أوجه اهتمام القصر بالقرويين. حتى أن عبد الهادي بوطالب، مستشار الملك الحسن الثاني، كان أحد أبناء القرويين وأحد الذين توجوا في طقس سلطان الطلبة بالجامعة، خلال بداية الأربعينيات من القرن الماضي.
وثائق أخرى بالقرويين قد تعيد كتابة تاريخ العلوم!
يبقى الراحل محمد الفاسي، الذي ترأس سابقا جامعة محمد الخامس بالرباط، أحد أبرز الذين كلفهم الملك الحسن الثاني برعاية أرشيف مكتبة جامعة القرويين وإعداد تقارير عن محتوياتها. هناك وثائق تنام في أرشيف المكتبة لأزيد من ألف سنة، ولم يتم نسخها للاحتفاظ بها إلا مرة واحدة.
لكن الملك الراحل الحسن الثاني، منذ ستينيات القرن الماضي، كان قد أعطى تعليمات لكي يتم الاهتمام بأرشيف الوثائق التي تضمها المكتبة، وكان هذا الاهتمام سابقا لتأسيس الخزانة الملكية التي تعنى بأرشيف القصر الملكي، فالملك الراحل محمد الخامس أيضا مول طباعة دراسات عن وثائق جامعة القرويين، وكان يولي اهتماما كبيرا بشخصيات عامة تتلمذت في مكتبة الجامعة.
محمد الفاسي، كان قد أطلق حملة تنقيب خلال سبعينيات القرن الماضي، في محتويات أرشيف مكتبة القرويين ووقف على كتب كانت عبارة عن مذكرات في أدب الرحلة ومقدمات في علم الفلك، لعلماء مغاربة لم يسبق لهم الدراسة في أي مكان آخر باستثناء القرويين. أي إنهم كانوا صناعة محلية لتلك الجامعة، ودرسوا بها العلوم الشرعية التي كانت وحدها المؤهل الوحيد لولوج العلوم والتعمق في الفلك والطب وحتى العلوم الإنسانية أيضا.
من بين الوثائق أيضا التي تضمها المكتبة، تلك التي تتعلق بالمنقولات التي أحضرها المغاربة معهم من الأندلس، والتي تؤرخ للوجود المغربي في أوربا. تلك المنقولات كانت عبارة عن وثائق تؤرخ للنبوغ المغربي في الطب، خصوصا في الفلك وعلم الأحياء. حيث انكب بعض المغاربة الذين ذهبوا إلى الأندلس على إنجاز دراسات ميدانية في أوربا، وتوصلوا إلى ابتكارات علمية سجلت في تلك الوثائق ولا تزال آثارها واضحة إلى اليوم في الأندلس، مثل الساعات الشمسية لضبط الوقت في قصور الأندلس والنافورات التي توزع مياه السقي وفق تنظيم زمني محكم.
بالإضافة إلى وثائق عبارة عن مخطوطات أصلية لمشاهدات السفراء المغاربة الأوائل إلى أوربا وغيرها من الوثائق التاريخية، التي قد تعيد كتابة تاريخ العلوم والاكتشافات الأولى، سيما في مجالي الطب والفلك. إذ إن بعض الاكتشافات تُنسب لعلماء غربيين، وسط تشكيك في استحقاقهم لها، ويمكن الفصل في الملكية الفكرية لتلك الاختراعات بالرجوع إلى مكتبة القرويين، التي تعتبر إحدى أقدم المكتبات العالمية على الإطلاق.
شهادات علمية قديمة تذكر بالتاريخ المنسي لعلماء مغاربة لا يعرفهم أحد
من شأن موضوع الاحتفاظ بأقدم شهادة طب في العالم، بأرشيف القرويين، فتح باب النبوغ المغربي في العلوم. إذ إن هذه الجامعة تحتوي على مخطوطات ولوائح جرد بأسماء مغاربة كانوا متفوقين جدا في العلوم، وألفوا فيها وماتوا قبل قرون خلت، تاركين خلفهم إنجازات علمية بأسمائهم، كانت أساسية في تطوير العلوم بالصورة التي نراها عليها اليوم. وفي الوقت الذي كان يُنتظر أن يتم تكريم هذه الأسماء محليا، نجد أن جامعات غربية مرموقة تحتفي بهم، وفي أسوأ الحالات كان يتم استغلال إنجازاتهم العلمية ونسبها إلى علماء غربيين. جاء في مجلة «دعوة الحق»، في العدد 13، والتي تأسست منذ سنة 1957، والتي كان بعض أعدادها تنقيبا مهما في أرشيف القرويين، نقلا عن بحث للكاتب «روم لاند»، حيث نقله إلى العربية محمد الخطيب: «مكتبة القرويين اليوم، ليست إلا ظلا لما كانت عليه أيام السلطان أبي عنان المريني، حيث كانت تحتوي على الآلاف من المخطوطات التي غنمت للملك المسيحي في إشبيلية. وزائر القرويين ابن خلدون، نص فيها المؤلف بخط يده، على أنها النسخة الأصلية لكتابه، كما يعثر على نسخة من كتاب ابن رشد، ونسخة أخرى بخط يد ابن خاتمة، ولسنا في حاجة إلى ذكر نسخ أخرى لكتاب حديث البخاري.
وجميع هذه الكتب في حالة جيدة، وإن كان لا يزال على الحكومة المغربية، أن تعتني أكثر بالمحافظة عليها وحفظها للمستقبل.
كان العصر الذهبي للقرويين خلال القرون الثاني والثالث والرابع والخامس عشر، أي أيام دولتي الموحدين والمرينيين، اللتين كانت أيامهما عصر علم، وعهد تشييد مدن تحتوي على مآثر تاريخية جميلة. ولم تكن (القرويين) مقصد التلاميذ من إفريقيا والعالم الإسلامي فحسب، بل كانت مقصد الأوربيين أنفسهم في ذلك العصر.
ونجد من بين أساتذة القرويين: ابن خلدون، ابن الخطيب، ابن حرازم وابن باجة، ولربما ابن العربي، ويظن أن البابا (سلفستر) الثاني قد درس بالقرويين، وأنه تعلم فيها الأرقام العربية واستعمال الصفر، وأنه هو الذي أدخلها إلى أوربا، كما يظن أن (ابن ميمون) والمؤرخ الإفريقي (حسن بن الوزان) المعروف (بليون الإفريقي) كانا من تلامذة القرويين».
هذا جزء فقط من التاريخ المنسي لكبار العلماء، الذين عاشوا مجدهم العلمي والفكري تحت سقف القرويين.