ولعلو: اقتصاديات دول آسيوية هي التي ستقود مرحلة التعافي من الركود - تيلي ماروك

ولعلو - اقتصاديات دول آسيوية - التعافي من الركود ولعلو: اقتصاديات دول آسيوية هي التي ستقود مرحلة التعافي من الركود

ولعلو: اقتصاديات دول آسيوية هي التي ستقود مرحلة التعافي من الركود
  • 64x64
    تيلي ماروك
    نشرت في : 18/05/2020

إن الأقطار الذكية هي التي توظف الصعوبات لتخلق الفرص. هذا ما حدث بعد الحرب العالمية الثانية (1945) عندما قررت البلدان الأوروبية المنهارة بفعل الحرب اغتنام التحديات لتوحد أطرافها انطلاقا من التقارب الحاصل بين ألمانيا وفرنسا. من الدروس التي يجب أن نستخرجها من هذه الأزمة ضرورة العمل من أجل تقليص التبعية إزاء الفضاءات البعيدة على مستوى شبكات القيم العالمية ومقابل ذلك خلق روابط قوية مع فضاء القرب. في هذا الإطار تدخل إعادة تموقع الأنشطة الاقتصادية ضمن بُعد إقليمي يهم الفضاء الإفريقي المتوسطي مما قد يسمح بإعادة الاعتبار لمركزية المتوسط بوصفه بحرا أوروبيا وإفريقيا في ذات الوقت. لابد هنا من الإشارة لبعض المبادرات المفيدة على غرار ما أقدمت عليه الهند بتنظيم لقاء بين البلدان الجنوب آسيوية لوضع خطة إقليمية مشتركة لمواجهة الجائحة وكذا الفكرة المتميزة التي طرحها العاهل المغربي محمد السادس بتقاسم الإجراءات الجيدة بين البلدان الإفريقية فيما يخص تدبير الأزمة الصحية الحالية، وهي مبادرات من شأنها بعث التضامن والترابط على المستوى الإقليمي وترسيخ التعاون جنوب/ جنوب. فالعديد من المؤشرات تدل على أن بعد 2020 ستحل لحد كبير شبكات القيم الإقليمية مكان شبكات القيم العالمية. وبذلك سيتمكن القرب من الثأر على حساب البعد.

ضمن هذه المقاربة سيكون علينا أن نسائل أوروبا الجارة التي أبانت مرة أخرى على ترددها في توحيد مكوناتها سياسيا واقتصاديا وتكنولوجيا وعلميا. فلها اليوم أن تقوي اندماجها وأن تمدّ اليد إلى جوارها المتمثل في الفضاء الجنوبي المتوسطي والإفريقي لتشيد معه قطبا جديدا له إشعاعه، وتساهم عبر ذلك في بعث أسس عولمة جديدة متكافئة ومتقاسمة. سيكون على أوروبا أن تستخرج قبل غيرها في منطقتنا الأفرو-الأورو-المتوسطية الدروس من الأزمة الصحية والاقتصادية من أجل تقليص التبعية إزاء شبكات القيم العالمية مع الفضاءات البعيدة وخلق ترابطات منيعة مع الفضاءات القريبة. هذا يتطلب إعادة تموقع بعض الأنشطة الصناعية من أجل إدماجها في الفضاء الأفرو متوسطي مما سيعيد للبحر الأبيض المتوسط مركزيته كما سبق ذكره.

يجب كسب الحرب.. وما بعد الحرب

عرف القرن العشرون حربين عالميتين في شكل مواجهة بين كبريات القوى كما فرض على البلدان الضعيفة المشاركة فيها الشيء الذي كان له تأثير على مستقبلها. هكذا تمكنت الدول الكبرى بعد 1945 من وضع أسس منظومة دولية سياسيا واقتصاديا فيما انخرطت المستعمرات في نضالات تحررية أدت إلى استقلالها. لم يعرف القرن الواحد والعشرين مواجهات حربية ذات بُعد عالمي، لكنه عرف خلال العشرين سنة الأولى أحداث ذات تأثير كبير على مسار العولمة جيوسياسيا واقتصاديا أولها حدث 11 شتنبر 2001 الذي اعتبر زلزالا جيوسياسيا أدخل العالم في مواجهات دينية وممارسات إرهابية. ثانيهما الأزمة المالية ل2008 التي كانت لها عواقب اقتصادية واجتماعية هائلة وأدخلت تغييرات في توازن القوى الاقتصادية بالعالم، وثالثها سنة 2020 أزمة صحية أصبحت ذات طابع معولم خلال شهرين من الزمن. فانهارت كل المنظومات الإنتاجية في المعمور. لكن الاهتمام انصب عالميا على محاربة الفيروس وإنقاذ الحياة.

بعد تجاوز الأزمة الصحية ولو جزئيا، سيكون على العالم أن يتكلف بإنقاذ الاقتصاد العالمي. لكن النجاح في هذا الرهان وإدخال الحياة الاقتصادية ضمن مسار سليم يقضي باستخراج الدروس من كل ما عرفه العالم من الأحداث والاهتزازات التي عرفها خلال العشرين سنة الأخيرة واستيعاب أسبابها العميقة. كما يجب في ذات الوقت إيجاد الأجوبة للالتزامات التي اتخذتها الدول لمحاربة الانحصار الحراري بباريس في دجنبر 2015.

إذن بعد نهاية الحرب يجب كسب رهان ما بعد الحرب والحد أولا وقبل كل شيء من مخلفات الانكماش المنتظر (يتوقع صندوق النقد الدولي إنهيار النشاط الاقتصادي سنة 2020 بسبب الحجر الصحي في حدود -3% عالميا حيث سينقص ب -7,5% بمنطقة الأورو، و-6,5% بانجلترا، و-5,9% بالولايات المتحدة، -0,6%. بأمريكا اللاتينية و-1,6% بافريقيا جنوب الصحراء، بينما سيزيد ب 1% بالبلدان الصاعدة الآسيوية ومن بينها الصين 1,2%) لكن لن يكون الأمر هينا فعندما ستصل الأزمة الاقتصادية إلى ذروتها سيصل معدل المديونية بالنسبة للإنتاج الداخلي الاجمالي إلى 181% بإيطاليا و141% بفرنسا و133% بإسبانيا حسب البنك السويسري UBS، وهي مستويات تتجاوز بكثير معيار 60% التقليدي المحدد من طرف عهد التثبيت الأوروبي. كما يؤكد نفس المصدر أن برامج الانطلاقة التي أقرتها الحكومات ستتجاوز 2,6% بالنسبة للإنتاج الداخلي الإجمالي (وقد تصل إلى 10% بالولايات المتحدة) مقابل 1,7% غداة أزمة 2008. كما لن تتمكن الصين من التدخل بقوة كما فعلت سنة 2009 لمساعدة العالم على القيام من كبوته آنذاك لأن معدل مديونيتها سيصل إلى 300%. هكذا ستطرح إشكالية رد كل هذه الديون مما يفرض تنظيم مشاورات على المستوى الدولي. كما أن ملف تدبير المديونية المرتفعة بأوروبا وتحضير انطلاقة جديدة لاقتصادياتها يتطلبان مزيدا من التضامن بين الدول الأوروبية وتدخلا عنيفا من طرف البنك المركزي الأوروبي من أجل «تنقيد» الديون العمومية لمختلف الدول في إطار التعاضد بينها.

إن مواجهة تحديات ما بعد كفيد 19 يقضي بانخراط كل القوى الكبرى ضمن منطق القطبية المتعددة استنادا على توافق بين الولايات المتحدة والصين وأوروبا من أجل إحداث أسس حكامة جديدة للعالم والتي يجب أن تأخذ بعين الاعتبار مستلزمات نمو بلدان الجنوب وأساساً إفريقيا في كليتها. وإذا لم يحدث ذلك سنرجع إلى مقولة تيري دومونتبريال مؤسس المعهد الفرنسي للأبحاث الدولية حيث كتب سنة 2008 «بدون مراجعة عملية وسريعة للحكامة عالميا سيواجه المعمور بشكل ممكن بل مؤكد مآسي عظمى». أن اعتبار الهشاشة و»غير المنتظر» يفرض على السياسات الاقتصادية وهي تتفاوض مع العولمة المتقدمة أن تأخذ بعين الاعتبار مزيدا من التواضع واعتبار الإنسية والهوية الوطنية والثقافة وكذلك نوع من الروحانية التي تخترق مجتمعات المسلمين في شهر رمضان وهو يصاحب هذه السنة ظاهرة الحجر الصحي.

هكذا فإن كسب الحرب وما بعد الحرب يفرض الانتصار لمنطق الترابط والتقاسم. فالعالم يحتاج اليوم إلى برنامج تحول كبير وإعادة بناء وابتكار جديد وليس فقط لبرامج انطلاقة. والعالم يحتاج إلى برامج تدمج الكيف والكم من أجل تطويع هشاشة الجميع وتأطير «التشظي المنتظر".

من الجهاد.. إلى الجهاد الأكبر

كل المتتبعين اعتبروا أن المغرب نجح في تدبير الأزمة الصحية بالرغم من أن لا أحد يمكن أن يؤكد الآن متى وكيف سيخرج العالم من هذا المنغلق الصحي. لقد اتخذت السلطات العمومية المغربية قرارات استباقية صائبة من بينها إقفال الحدود مبكرا ووضع خطة متكاملة لمواجهة الوباء متلائمة مع مستوى تقدم البلاد. كما أن تأسيس صندوق متخصص وتقعيده على أساس قيم التضامن وتدبيره من طرف لجنة اليقظة وتوظيف الإمدادات الخارجية ( تسهيلات صندوق النقد الدولي والاتحاد الاوروبي لدعم ميزان الآداءات ) كانت كلها أدوات ساعدت البلاد على مواجهة تفشي الوباء.

لكن من المؤكد أن روح الانضباط والمواطنة التي أبان عنها المغاربة خلال مرحلة الحجر الصحي كانت وراء نجاح تدبير الأزمة.

في الواقع لقد شعر المغاربة بثقة أن الدولة عازمة على القيام بدورها لحماية الذات وأن وراء ذلك ريادة ملكية مؤكدة حيث سمحت بتعبئة العمل على مختلف الجبهات. هكذا عاش المغرب مرحلة «جهاد» تذكرنا بنضاله من أجل الاستقلال قبل 1956 وعند استرجاع الصحراء سنة 1975.

إذا كان الأوروبيون كما سبق ذكره قد استعملوا مفهوم الحرب في مواجهة الجائحة فمن حق المغاربة استعمال مفهوم الجهاد بالمعنى الإيجابي بالنسبة لمرحلة حماية الذات صحيا. وسيكون عليهم الآن كسب ما بعد كوفيد 19 أي تحقيق انطلاقة للاقتصاد الوطني وهو موضوع الجهاد الأكبر.

كما سبق القول قد تخلق الصعوبات فرصا للوصول إلى الحلول المفيدة. سيكون الآن على الدولة أن توظف دورها الاستراتيجي لمواجهة مخلفات الانكماش المنتظر خاصة أنه يصاحب هذه السنة موسم جفاف طبيعي قلص من الانتاج الفلاحي. فبلادنا مطالبة بمواجهة الإكراهات الناتجة عن توقف نشاط المقاولات والتأثير السلبي للأزمة عالميا على النشاط السياحي والصادرات سواء منها المهن العالمية (السيارات، الطيران) أو النسيج فضلا عن تجميد حركيّة الانتاج والخدمات داخليا.

في هذا الإطار سيكون على الدولة وضع برنامج لإعادة الحياة للاقتصاد على المدى القصير والمتوسط والبعيد يأخذ بعين الاعتبار كذلك ما ستصل اليه أعمال اللجنة الوطنية المكلفة بمراجعة النموذج التنموي والتي سيكون عليها بدورها إغناء أعمالها عن طريق استخلاص الدروس من الأزمة الحالية.

فعلى المدى القصير سيكون الهدف هو تحقيق إعادة حياة جديدة للنشاط الاقتصادي مع إعطاء الاولوية للقطاعات المنكوبة (السياحة والنقل الجوي) ولوحدات الانتاج والخدمات الصغيرة وللاقتصاد الغير مهيكل ومصاحبة إعادة الحياة للمقاولات المتوسطة والكبرى في قطاع النسيج والمهن العالمية اعتبارا بطبيعة الحال لتدرج خروج الاسواق العالمية من كبوتها. كما سيكون على الإدارة العمومية أن توجه استثماراتها وطلبياتها لإخراج المقاولات من المأزق الذي توجد فيه مع إعطاء العناية طبعا للفقراء والمعوزين.

على المدى المتوسط والبعيد على بلادنا أن تستوعب التحولات المنتظرة وأن تسعى للاستفادة منها. فعالم ما بعد 2020 سيعرف بشكل تدريجي تحولات مؤكدة استمرارا للتحولات التي ظهرت ملامحها الأولى منذ 2010. فرغم أن عامل أللاّ يقين سيترسخ حضوره مستقبلا سيكون على بلادنا الأخذ بعين الاعتبار التوجهات التالية:

- ستعرف وظائف الدولة اقتصاديا تغييرات تفرض عليها الاهتمام بقضايا حماية الذات والصحة وقضايا البيئة (بالرغم من التهاوي الظرفي لأسعار النفط) وقضايا التوزيع والعدالة الاجتماعية والتكافؤ. ستعرف ثورة التكنولوجيا الجديدة مزيدا من التحولات تتمحور على مركزية البيك داطا (big Data) والرقميات والذكاء الاصطناعي، وهي كلها آليات استعملت بكثافة مرحلة الحجر الصحي ( العمل عن بعد مثلا) مما يفرض التعجيل بإصلاح المنظومة التعليمية والتكوينية وإعطاء الاعتبار للبحث العلمي والتطور التكنولوجي.

- المتابعة عن قرب للتغييرات التي سيعرفها العالم في توازن القوى بين الأقطاب الكبرى (الولايات المتحدة، الصين، أوروبا) ضمن حركيّة تتقاطع فيها المواجهات والمطاحنات من جهة مع إمكانيات التفاوض والتعاون بالنظر لارتباط مصالح كل الأطراف. كل ذلك سيؤدي إلى تأكيد مسار العولمة حول القطبية المتعددة مع صعود متنام للصين وللقارة الآسيوية. كما قد يؤدي إلى إدخال تطورات جديدة في مجال الحكامة الدولية سياسيا واقتصاديا.

 - الاستعداد من أجل توظيف إمكانية تراجع ديناميات شبكات القيم العالمية لصالح شبكات القيم الإقليمية (القرب على حساب البعد) مما يقضي بفتح نقاش مع القارة الأوروبية من أجل تطوير علاقة الشراكة معها لتستند على الإنتاج المشترك وليس على مجرد تحرير المبادلات، وترسيخ التعاون جنوب-جنوب مع القارة الإفريقية. الهدف هو دفع الأوروبيين ليعملوا على بعث قطب جديد انطلاقا من قارتهم إلى القارة الإفريقية يفرز انبثاق مركزية جديدة للبحر الأبيض المتوسط. هذا ما سيجعل مكونات منطقتنا تساهم في بناء العولمة الجديدة على أساس مزيد من الاقتسام والتكافؤ والتوازن.

- ضمن كل ذلك سيكون على بلادنا تقعيد نموذجها التنموي على مزيد من التضامن والفعالية. أن العمل من أجل مزاوجة التضامن والفعالية ضمن إطار إقليمي أفرو-أورو-متوسطي ( مع التمني أن يكون يومها الفضاء المغاربي حاضرا) هو الذي سيمكن بلادنا من الانتقال من الجهاد لحماية الذات إلى الجهاد الأكبر جهاد ما بعد 2020.

 


إقرأ أيضا