شكلت جائحة انتشار وباء فيروس كورونا المستجد، حدثا عالميا مهما، ففي الوقت الذي مازال الفيروس ينتشر في جميع أنحاء العالم، مخلفا آلاف الإصابات الجديدة، ومئات الوفيات كل يوم، وأدخل دولا ومدنا كاملة في حالة عزلة وإغلاق تام وتم إلغاء الرحلات الجوية والأحداث الدولية والمهرجانات السنوية، وتوقيف الأنشطة الثقافية، انصب الاهتمام الدولي حول الحلول العلمية لتجاوز الأزمة، بدءا من تطوير بحوث المختبرات العلمية عن اللقاح، إلى بحث جميع السيناريوهات المتاحة لتحريك الاقتصاد بعد نهاية الأزمة.
وفي خضم انخراط مجمل مواطني دول العالم في إجراءات الحجر الصحي لكبح انتشار الوباء، بدا لزاما تتبع الآثار المباشرة لهذه الوضعية الاستثنائية في الجانب الاجتماعي، وباشرت مختبرات العلوم الإنسانية دراساتها في بعض البلدان عن الآثار النفسية والاجتماعية للجائحة، في الارتباط بارتفاع ظواهر اجتماعية بدأت تطفو نتيجة الأزمات الاقتصادية والنفسية وربما الخوف من المجهول.
في هذا الحوار مع المفكر محمد نور الدين أفاية، نسبر أغوار مكنون الوباء، والآثار المتوقعة للجائحة على الجانبين النفسي والاجتماعي ومنظومة القيم الاجتماعية، في عالم بات يتطلع إلى استنشاق هواء الأمل من تقارير المختبرات الطبية.
- دفعت جائحة انتشار فيروس كورونا المستجد، المغرب لاتخاذ عدد من القرارات للحد من آثارها، ما تعليقك على هذه القرارات؟
لا يمكن للمتتبع النزيه إلا أن يؤكد على صواب ما اتخذ من قرارات للحد من الآثار المدمرة لجائحة فيروس كورونا المستجد، لأن الحدث ضخم سياسيا واقتصاديا وإنسانيا، وبمثابة زلزال وجودي للبناءات الوجودية والنفسية للبشرية. وأمام هذا الحدث الصعب لا جدال في الإقرار بأن الجهود المبذولة لمواجهةالجائحة كانت مطلوبة وضرورية للحد من الخسائر البشرية؛ وقد لاحظنا أن السلطة السياسية عبرت، من خلال قرارتها وتدخلاتها، عن اهتمام كبير بقيمة الحياة وبصحة المواطنين.
ومن المؤكد أن المغرب يعيش، بسبب هذا الوباء الخطير، لحظة استثنائية في تاريخ التمريض والعناية بالمريض؛ إذ باستثناء تعثرات البدايات، بدأت المنظومة الصحية تشتغل بالشكل الذي عليها دائما أن تشتغل به للتعامل مع الجسد والمرض والحق العمومي في العلاج.
وأعتبر أن ما خطاه المغرب خلال هذه المرحلة من مواجهة الوباء، والزخم الذي واكب عددا من القرارات في هذا الجانب، عليه استثماره وتعزيزه، في مواصلة المعارك الكبرى على مستوى عدد من الجبهات المترابطة بمحاربة الفقر والهشاشة وترسيخ قيم التضامن والتآزر والتعاضد والمساواة، وتشجيع ونشر سلوكات الإحساس بمعاناة الآخرين، والدفع نحو الأمام لتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة لفئات عريضة في المجتمع التي لها الحق في أن تكون لها حقوق في عيش كريم.
- ماذا يشكل انتشار فيروس كورونا؟ وما تداعياته على العالم؟
جائحة فيروس كورونا المستجد هي «جائحة كوكبية»، باستثناء مناطق معزولة من العالم، بل إنها زلزال وجودي كما قلت، زعزع عددا من اليقينيات على مستويات عدة،في الطبقات والأجناس والأديان والثقافات والأفراد، في الجانب العلمي والسياسي والاقتصادي وحتى العسكري والديني وغيرها، بل امتدت لهدم عدد من التفسيرات التي يصر فيها البعض على ربط عدد من الظواهر بالدين والغضب الإلهي، وهو ما كانت قد ذهبت إليه بعض التفسيرات في بداية انتشار الوباء. والمؤكد أن هذا الفيروس شكل حدثا ضخما غيرمسبوق، وبهوله ومخاطره وماخلقه من زعزعة كلية للاعتيادي واليومي، بدأ يحدث وسيحدث، حسب ما يظهر، تغييرات في علاقتنا بذواتنا، وبالزمن، وبالمكان، وبالآخر، وبالأوطان وبالحدود.
- مع بلوغ جائحة انتشار فيروس كورونا ذروتها في عدد من الدول، بدأت تطفو على السطح بقوة تصريحات لمسؤولين في تلك البلدان تصب في منحى نظرية المؤامرة والحرب البيولوجية، ما مدى صدقية هذا الطرح؟
إن القول بأن عددا من التصريحات تصب في منحى فرضيةالمؤامرة حول انتشار الوباء قولرائج،وقد تابعنا في عدد من المناسبات تلميحات لمسؤولين في دول كبرى تحمل اتهامات مباشرة إلى دول أخرى بالوقوف وراء إطلاق هذا الوباء. فأمريكا تتهم الصين بشكل صريح، والصين ترد عليها بأن الجيش الأمريكي هو الذي أتى بالفيروس إلى «يوهان». غير أنه لا يمكن الحسم في صدقية هذه الاتهامات من عدمها، ولا يمكن تأكيد أو نفي هذا الحديث الآن، خصوصا إذا ربطنا هذا الأمر بعدد من المعطيات التي تؤكد أنعددا من الدول الكبرى تتوفر على مختبرات لتطوير الأسلحة الجرثومية، وبأن أنواعا من فيروس كورونا معروفة لدى علماء الأوبئة والباحثين، وبأن فرنسا كانت قد باعت المختبر الموجود بـ»يوهان» إلى الصين، وبأن زوج وزيرة الصحة الفرنسية السابقة يعرف تفاصيل وأسرار هذا المختبر، وأن مسؤولين فرنسيين أشروا وأشرفوا ووافقوا على هذه الصفقة التي تدخل ضمن الأبحاث في مجال الأسلحة الجرثومية.
كل هذه الأمور معروفة، غير أن هذه المعلومات، كما أشرت، لا تؤكد صحة هذه الفرضية أو تلك فيما يخص انتشار الوباء، ووجود أياد وراء هذه الكارثة التي هزت العالم. ويبقى في تقديري أن النقاش الذي يجب أن ينصب عليه التفكير الدولي، ليس في معرفة من هي الجهة التي كانت وراء إطلاق هذا الفيروس، بل الوصول إلى لقاح من شأنه الحد من انتشار الوباء ومن تأثيراته الكبيرة جدا على عدة مستويات، في مقدمتها المستوى الاجتماعي والاقتصادي والثقافي.
- هل يمكن القول إن الأزمة الحالية غيرت بوصلة العالم؟
بما أن فيروس كورونا المستجد خلق أزمة عالمية غير مسبوقة، ويشكل حدثا بارزا وعظيما، فإن له تأثيرات جوهرية على جانب كبير من حياتنا وحريتنا وتوجهاتنا، ولعل أبرز الآثار التي أحدثتها الأزمة الحالية تتمثل في الإعلاء من قيمة العقل العلمي، باعتباره الملاذ ووسيلة الخلاص بالنسبة للإنسانية، وبات هذا العقل يسترجع شيئا فشيئا جانبا من المكانة التي كان يجب أن يحظى بها، حيث بات الكل يشرئب إلى مايمكن أن تجودبه مختبرات البحث من أمصال ووسائل تلقيح لمحاصرة العدوى ومقاومتها وإبعادها.
والظاهر أن هذا الكائن المجهري مثَّل تحديًا فعليا للعقل البشري، كما شكل حافزا من أجل التضامن وتبادل الخبرات قصد الاكتشاف والابتكار العلمي، وهو الأمر الذي يمكن أن نسجله على عدة أصعدة، كما على الصعيد الوطني، حيث لاحظنا إعلانات عديدة عن ابتكارات على تواضعها، لكنها تؤشر إلى أن هناك ذكاء وقدرات في البحث والتطوير يتعين الانتباه إليها من طرف أصحاب القرار الاقتصادي والسياسي.
- في هذا السياق، هل شكلت أزمة كورونا دافعا نحو تطوير مجال البحث العلمي والابتكار في مجال التعليم؟
لقد عملت الدولة على تعبئة كل ممكنات الاستشفاء وإيواء المصابين، وتوفير وسائل الحماية والوقاية، غير أن هول الجائحة وإغلاق المؤسسات التعليمية خلفا ارتباكات لاحصر لها على مستوى قطاع أساسي هو قطاع التعليم. وأعتقد أنه رغم الجهود التي بذلت لأجل تقديم الدروس عن بُعد وتجنيد القنوات التلفزية من أجل ذلك، فإن الأمر لم يعمل إلاعلى كشف اختلالات المنظومة وطرق التدريس بشكل عمومي ومصور؛ وفي هذا الباب أعتبر أن قطاع التعليم يعرف حالة طوارئ دائمة، وهذه الطوارئ يجب أن تدفعنا لتجاوز الانحرافات والارتباكات الحاصلة في تبليغ وتنظيم الدروس والتواصل مع الأساتذة، فقد كشفت عن فوارق وتفاوتات كبيرة، وإحساس بالاستبعاد والهوان شعرت به عائلات وتلاميذ وسكان البوادي، ومن تُعوزهم الإمكانيات لمواكبة عمليات التعلم عن بُعد في هذا الوقت.
وأعتبر أن الأزمة الحالية تدعو إلى تغيير التوجه لصالح منح الأولوية للعلم والعلماء والبحث العلمي على السواء، وكشفت هشاشة منظومتنا التعليمية والبحثية، وبالتالي فالمجهود الذي بذلته الدولة خلال الفترة الحالية يجب أن يستثمر بشكل مماثل لإنقاذ التعليم من مآزقه ومتاهاته، بعدما بينت ظروف ترجمة رافعات «رؤية 2030» كيف تعرضت للإفراغ من مضامينها ومقاصدها.
- هل غيرت أزمة كورونا من الوعي الجمعي المغربي؟
لا يمكن الجواب عن هذا السؤال أو الحديث فيه بشكل مطلق، بل للاقتراب منه يتعين الارتكاز على بحث علمي وميداني، لأن الحديث عن الوعي بإطلاق ليسأمرا سهلا، لأنه يتطلب التساؤل عن مكونات هذا الوعي، وكيف كانت تتجلى هذه المكونات في التفكير والسلوكات والعلاقات، وكيف تحول أو كيف صار، وما هي مؤشرات هذا التحول، وهي أسئلة لا تمكن الإجابة عنها دون الاعتماد على شروط البحث الاستقصائي ومناهج علمي الاجتماع والأنثروبولوجيا الثقافية. ومعلوم أن مراكز ومعاهد بحوث باشرت الاشتغال على هذا الموضوع، لدراسة الآثار السوسيولوجية والنفسية والاقتصادية للوباء، وسنرى نتائجها لتنير فهمنا لما جرى ويجري.
لذلك لا يمكن الاقتصار على بعض التكهنات أو المغامرة بإطلاق تنبؤات بلهاء، فتداعيات هذا الفيروس تغير كل التوقعات في كل يوم.
وما يمكن قوله في هذا الجانب هو أن جائحة كورونا ساعدت في ظهور وبروز عدد من العناصر، من قبيل منح مصداقية أكبر للعلم في مقابل المصادر التي كانت محط اعتقاداتقريبة من الشعوذة والسحر، أو من كانوا يحتلون منابر الخطابة والوعظ، الذينلاذوا بالصمت إما تقية أو اضطرارا، وأصبح للرأي العلمي دور وازن في اتخاذ القرار السياسي، والجميع بات ينصت لتشخيصات ومعاينات الأطباء وعلماء الاقتصاد، الذين لا يمكن الاقتصار عليهم وحدهم في تدبير زلزال كبير مثل هذا الذي نعيش.
- ما الآثار الاجتماعية التي نجمت عن كارثة كورونا وإجراءات التباعد الاجتماعي؟
اسمح لي أن أعترف لك بأنه يصعب علي ادعاء الحديث عن «الآثار الاجتماعية» لهذا الحدث. فالأمر لا يمكن الاكتفاء فيه بكلام بلاغي. لا شك أن جائحة كورونا وإجراءات الحجر الصحي سيكون لهما تأثير كبير على النسيج الاجتماعي والنفسي للمغاربة، وأعتبر أن أكثر الفئات التي ستكون في واجهة الآثار الاجتماعية للفاجعة هم الفئات الهشة نفسيا واجتماعيا واقتصاديا، وإن كان ما يسري على دراسة آثار الجائحة على منظومة القيم المجتمعية، يسري كذلك على هذا الجانب، الذي يتطلب بدوره بحوثا علمية ودراسات من طرف متخصصي علمي الاجتماع والنفس، لتشخيص الآثار المحتملة حول ما يمكن أن يحصل على مستوى التوازن النفسي والاجتماعي.
لقد اعتبر إمانويلليفيناس أن القضية الكبرى التي شغلت الفكر الإنساني، والفلسفة بشكل أخص، تتمثل في إبراز ما هو إنساني في الإنسان، والعمل المستمرلفهم معنى العلاقة بالآخر باعتباره أصل كل علاقة بالوجود. السؤال هو كيف ستتغير ملامح وجوهنا ووجوه الآخرين؟ ذلك أننا أصبحنا مضطرين إلى وضع أقنعة على وجوهنا التي ستضاف إلى الأقنعة الاجتماعية التي نحملها معنا بشكل عادي. ذلك أن العلاقةمع الآخر تظهر مباشرة على الوجه وتتخذ شكلها المناسب بواسطة تعبيراته عن الفرح كما عن الشقاء والهشاشة والحرمان والاستبعاد، وهو يحمل هذه المعاني بدون أن يتكلم بالضرورة. فكيف لنا أن نتواصل مع وجوه مُقَنَّعة، أو تضع على بعض مناطقها «كمامات»؟ وفي كل الأحوال فإن العزل المنزلي والتباعد الاجتماعي زج بنا، ولا شك سيدخلنا في عوالم تجعلنا نعيش تحولا من طبيعة أنثروبولوجية لم نشهده من قبل في العلاقات بين الناس.
محمد نور الدين أفاية في أسطر
مفكر وباحث، ولد بسلا سنة 1956، يشتغل أستاذا للفلسفة المعاصرة والجماليات بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، وهو عضو سابق بالمجلس الأعلى للاتصال السمعي البصري، وخبير باللجنة الثقافية بالمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي.
من مؤلفاته الأخيرة
- الديمقراطية المنقوصة، في ممكنات الخروج من التسلطية وعوائقه، منتدى المعارف، (بيروت)، 2013.
- في النقد الفلسفي المعاصر، مصادره الغربية وتجلياته العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، (بيروت)، 2014، الذي حصل على جائزة أهم كتاب عربي برسم سنة 2015 تمنحها مؤسسة الفكر العربي ببيروت.
- التواصل الخلافي، في الهوية، الديمقراطية والإبداع (بالفرنسية)، (الرباط)، منشورات الزمن، 2015.
- الوعي بالاعتراف، (بيروت- الدارالبيضاء)، المركز الثقافي للكتاب، 2017.
- صور الغيرية؛ تجليات الآخر في الفكر العربي-الإسلامي (بيروت- الدارالبيضاء)، المركز الثقافي للكتاب، 2018.
- الصورة والمعنى؛ السينما والكتابة بالفعل، بيروت- الدار البيضاء، المركز الثقافي للكتاب، 2019.