عندما انفتح المغرب خلال القرن 19 على علاقات تجارية دولية، كان للاختلاف الشاسع بين النظامين الاقتصاديين السائدين، وقع الصدمة على النظام المالي المغربي، وظهرت الحاجة إلى تطويره لمسايرة المحيط الدولي.
فقد أدى الاحتكاك بين النظامين إلى نشأة طبقة بورجوازية وسيطة مكونة أساسا من اليهود المغاربة، ومن بعض الأسر التجارية العريقة، وهي الفئة التي استفادت من التبادل التجاري مع الغرب، وحصلت على حمايات قنصلياته، وأصبحت تتطلع إلى المزيد من الثروة.
وقد دخل إلى المغرب رجال أعمال ورأسماليون يرغبون في الاستثمار على أرضه العذراء الواعدة بالفرص، وإنشاء مشاريع صناعية واقتصادية غير مسبوقة. لكن المغرب لم يكن يتوفر على البنية الضرورية لاستقبال تلك الرساميل، فقد كان البلد يتوفر على بعض البنوك في نهاية القرن 19 وبداية القرن العشرين، لكن أغلبها كان مستقرا بمدينة طنجة، ويتخذ شكل ملحقات أو فروع لبنوك أوربية مثل بنك «ترانزاطلانتيك» و«الأفريكان بنك كوبوريشن»، أو مؤسسات تجارية ذات علاقة ضيقة مع تلك الأبناك.
من بين تلك المؤسسات كانت هناك مؤسستان لليهود، الأولى لصاحبها «موشي باربانطي» والتي أنشئت سنة 1844، وتتعامل أساسا مع «البنك الأنجلو- مصري للندن وجبل طارق»، و«مؤسسة موشي إسحاق ناهون»، التي أنشئت سنة 1860 والتي تمثل «البنك الإسباني» و«الكريدي ليوني».
وفي سنة 1879 استقرت بطنجة مؤسسة ألمانية تسمى «هانسنر جاواكيم وأولاده» التي تحولت سنة 1897 إلى وكيل عام «للدوتش بنك لألمانيا»، والتي تخصصت منذ ذلك التاريخ في العمليات المالية.
كما أنشئت مؤسستان فرنسيتان هما «مؤسسة بنجمان برونشفيك وابنه جورج» منذ سنة 1875 و«مؤسسة شارل غوتش» سنة 1892، التي ورثت «مؤسسة جالوزو بطنجة»، صاحبة «محلات الربيع»، وفي ارتباط مع «بنك أللارد لباريس».
في سنة 1902 أعلن «سان روني طايندي»، الوزير المفوض لفرنسا بالمغرب، بأن كل من يتوفر على رساميل ويمنح قروضا فهو في الوقت نفسه بنكي، ويحق له أن يضارب في سعر صرف العملات، على النحو الذي كان ساريا بقوة في تلك الفترة بين العملة الإسبانية والعملة المغربية، وأن يضارب أيضا في الأوراق التجارية المسحوبة على الأبناك الأوربية، والتي قد يشتريها في الموانئ الأطلسية.
وبالإضافة إلى المضاربة في العملة والأوراق التجارية، فقد كانت المعاملات الربوية شائعة ومنتشرة في المغرب، فرغم أن الإقراض بفائدة محرم شرعا، فقد ظل يمارس على يد اليهود الذين احتكروا هذا النشاط، وكان أغلبهم محميين أوربيين، وكانوا يقرضون المغاربة بفوائد تصل إلى 100 في المائة، ويحتمون بصفتهم محميين من أجل جر مدينيهم إلى المحاكم القنصلية التابعين لها، والتسبب في سجنهم لعدة سنوات، وأحيانا كان المكرهون بدنيا يموتون في السجن.
ومن أجل القضاء على المضاربة والتعامل الربوي المتوحش وتشجيع القروض، كانت هناك ضرورة لإنشاء مؤسسة بنكية تقوم بالعملية في إطار منظم، وتلبي حاجيات التجار من القروض.
ومن جانب آخر فقد كانت تلك المؤسسات أو «الدورMAISONS » تدخل غالبا في علاقات مع المخزن من خلال عمليات اقتناء سلعها من طرف الحكومة والسلطان، خاصة في ظل حكم المولى عبد العزيز، الذي كان زبونا دائما لها، لذلك ظهرت فكرة تأسيس بنك مكلف بمصالح المخزن المالية، يمتلك الوسائل الكفيلة بمنح القروض وسك النقود باسم الدولة وحماية خزينتها، وإيجاد حل مستعجل للانهيار المالي الذي كان يعرفه البلد آنذاك.
كانت للانهيار المالي بالمغرب أسباب متعددة، منها انهيار سعر الفضة الذي بلغ أوجه منذ سنة 1880 والذي أثر سلبا على «البسيطة» الإسبانية وعلى «الدورو» الحسني، لأن المغرب كان يعتمد معيار نقد مرتبط بالفضة، في حين أن أغلب البلدان الأوربية كانت تعتمد المعيار الذهبي، ينضاف إلى ذلك أن المضاربين كانوا يجمعون العملات الجيدة و«يهربونها» إلى الخارج، مما تسبب في ندرتها مثل قطع «البليون» و«الإيزابيلين» و«الفيليبين» التي لم تعد تروج في إسبانيا.
كانت الخزينة الشريفة تتغذى على مداخيل الضرائب التقليدية المتمثلة في الزكاة ونسبتها 2.5 في المائة من الرأسمال؛ والعشور أي عشر المحاصيل الزراعية؛ والهدايا المقدمة للسلطان بمناسبة الأعياد الدينية الكبرى، وحقوق الجمرك، ومن مداخيل احتكار بيع الكيف والتبغ والكبريت؛ وحقوق الأبواب التي كانت عبارة عن رسوم ثابتة تجبى بأبواب المدن على كل حمولة جمل أو بغل أو حمار؛ وحقوق الأسواق التي كانت تجبى عن كل صفقة تعقد داخل سوق من الأسواق وتخضع لضريبة نسبتها 5 في المائة، يؤدي نصفها المشتري والنصف الآخر البائع. ومن موارد الخزينة أيضا، كانت هناك الجبايات الاستثنائية المفروضة على القبائل زجرا لها، في حال حدوث تمرد أو عصيان، وكذلك التركات الشاغرة، أو تركة من لا وارث له، والأداءات العينية لدار المخزن والجيش، لكن مردود جل هاته الضرائب والجبايات كان هزيلا لا يفي بالغرض اللازم وذلك بسبب فوضى نظام الجباية في حد ذاته، وكذا قلة ضعف الوعاء الضريبي خلال تلك الفترة.
غير أن في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ومع التدخل الأوربي المكثف، بدأ التوازن المالي يختل بين المداخيل والمصاريف، فرغم نمو المبادلات البحرية لم تتطور مداخيل الديوانة، نظرا لكون التجار الأجانب المدعومين بهيأتهم الدبلوماسية ضغطوا على المخزن للتخلي عن جباية مستحقات الديوانة من الأجانب، ونظرا لفساد الإدارة المغربية. كما أن انتشار الحمايات القنصلية أدى إلى إعفاء المحميين من الضرائب، مما زاد في أزمة مالية المخزن، أمام تفاقم نفقاته بسبب تكاليف الإصلاحات، وقد ازداد الوضع المالي استفحالا، بعد وفاة الحسن الأول بسبب الاضطرابات التي صاحبت أزمة ولاية العهد وتمرد بعض القبائل.
كما عرف عهد باحماد «1894-1900» أزمة اقتصادية خطيرة، ضربت المغرب من سنة 1895 إلى سنة 1898 جراء مواسم زراعية سيئة، كل هاته العوامل جعلت الخزينة الشريفة تمر بضائقة مالية خانقة.
وقد نتج عن كل تلك الأزمات الاقتصادية المتوالية، تفاقم الاقتناءات التي يقوم بها السلطان نقدا من الخارج، والثورات والتمردات التي ترهق كاهل ميزانيته، والتعويضات التي تفرض عليه بسبب نزاعات معينة مثل تعويض إسبانيا بمبلغ مليوني بسيطة سنة 1893، وكذا العجز التجاري الذي أدى إلى انهيار الدرهم الحسني بالمقارنة مع العملة الإسبانية، المنهارة أصلا.
وكان مولاي الحسن الأول قد حاول قبل وفاته إدخال إصلاحات سنة 1881 و1891 لكنها باءت بالفشل، فقد اختفى «الدورو» المسكوك في عهده سنة 1891، كما اختفى الدورو المسكوك في عهد خلفه مولاي عبد العزيز سنة 1895، كما فقدت العملة المغربية سنة 1900 نسبة 15 في المائة من قيمتها بالمقارنة مع البسيطة الإسبانية التي ارتبطت بها، والتي قد فقدت بدورها 30 في المائة من قيمتها بالمقارنة مع باقي العملات الأوربية الأخرى، بسبب ما كانت تعرفه إسبانيا من متاعب سياسية ومالية مزمنة.
ومن أجل وقف هذا الانهيار المالي الخطير لاحظ بعض الأوربيين بأن عملية سك النقود ليست كافية لوحدها، وبأن إحداث «بنك الدولة» بصلاحيات وإمكانات شراء العملة الحسنية وإعادة إرجاعها إلى السوق في الوقت المناسب، سيكون الوسيلة الأنجع لإصلاح مالي بالمغرب.
وبذلك فقد كان «بنك الدولة» إجابة حقيقية عن متطلبات الاقتصاد المغربي في نهاية القرن 19، وهو ما استغله رجال أعمال مستقرين في المغرب، من أجل البحث عن سبل الدعم المالي لمشاريعهم عبر مساعدة المؤسسات المالية، وإيجاد وسائل الدعم السياسي لها من طرف سفارات بلدانهم.
وهذا ما أعطى للعملية بعدا آخر، وتطلب تدخل قوى أكثر فعالية، فقد كانت الدول الأوربية تتنافس في ما بينها حول من منها يستولي على المغرب قبل الآخر، وللحيلولة دون استفراد أي دولة بالغنيمة اتفقت في ما بينها على الحفاظ على الوضع القائم به، الذي أقره مؤتمر مدريد لسنة 1880، فأصبح المغرب مجال تنافس قوي كان سببا في تأخر احتلاله، وأضحت كل دولة تراقب عن كثب تحركات الدول الأخرى، وتطالب السلطان بمعاملة مماثلة في حالة تمتيع إحداها بأي صفقة أو امتياز، وهو الإطار الذي تبلورت فيه فكرة «البنك المخزني».
المشروع الأول.. مبادرات فردية من هنا وهناك
ما بين 1883 و1887 أقيمت ثلاثة مشاريع بريطانية لتأسيس بنك مخزني، لكنها باءت بالفشل، قبل أن يتم تأسيس «بنك طنجة» برساميل بريطانية، والذي تخصص في القرض المضمون برهن، ولذلك لم يستطع تطوير منتوجه.
ثم جاءت فكرة تأسيس «بنك ترانزاطلانتيك لطنجة»، الذي أصبح مؤسسة مستقلة سنة 1889 وكان يديرها «حاييم بنشيمول» المعروف آنذاك لدى الأوساط الطنجية، والذي لقي تشجيعا من سفارة بريطانيا للدخول في مفاوضات مع شركة «باكي» من أجل القيام بتسبيقات مالية لخزينة الدولة الشريفة، وإصدار أوراق تجارية، لكن الاتفاق لم يكتمل.
وفي غشت من سنة 1889 قام رجل أعمال إنجليزي مستقر في طنجة يدعى «ديكسون سيغر» بتقديم مشروع بنك دولي بالمغرب، لكن الخارجية الفرنسية عارضت المشروع، لأنها كانت تخطط لأن يكون البنك المرتقب فرنسيا خالصا.
وفي سنة 1892 كان قد عرض على السلطان الحسن الأول فكرة تأسيس بنك مخزني عبر سفارة بريطانيا، لكن السلطان رفض المشروع بإيعاز من طبيبه الخاص الفرنسي «ليناريس»، الذي لم يكن إلا جاسوسا فرنسيا مندسا في البلاط.
وفي شتنبر من سنة 1889 قام الوزير الفرنسي المفوض في طنجة «آبيني» بتقديم طلب لفائدة «حاييم بنشيمول»، بالإذن في أن يحول بنكه «ترانزاطلانتيك» إلى بنك دولة، فرفض السلطان مولاي عبد العزيز أو على الأصح الصدر الأعظم «باحماد» الطلب بمبررات دينية.
الألمان بدورهم حاولوا عبر «مؤسسة هايسنر» التي كانت تمثل مصالحهم في المغرب، والتي كان لرئيسها أصدقاء كثيرون في القصر السلطاني، والذي كان «الكونت طاطنباخ»، سفير ألمانيا في طنجة، يفكر في منحه إدارة «البنك الجرماني المغربي»، لكن الحكومة الألمانية لم تول الموضوع الاهتمام الكافي، لضعف استثماراتها في المغرب حينها.
وفي سنة 1894 وهي السنة التي توفي فيها السلطان الحسن الأول، وصل إلى طنجة رجل الأعمال «غوستاف فرانك»، والذي اتفق مع «هايسنر» على تأسيس «الدويتش ماروكانيش بنك» والتي تطمح في أن تكون لها صلاحيات بنك دولة، وزار «فرانك» العاصمة فاس سنة 1895 والتقى «باحماد»، الذي رفض المشروع لأسباب دينية كما سبق القول.
في أكتوبر 1894 جاء رجلا أعمال فرنسيان هما «ديلهان» و«كيدريك» يعرضان على سفارة بلدهما مقترح تأسيس «البنك الإمبراطوري «الشريفي» أو «المغربي». والذي سيكون في ظاهره دوليا، على أن تكون فرنسا من الناحية الواقعية هي المالكة لأكثر من نصف أسهمه، ويكون له صلاحية سك النقود، ومركزة العمليات المالية بين المغرب والخارج، وأن يكون البنك خصوصيا حتى لا يثير حساسية الحكومة المغربية.
وقد اهتمت الحكومة الفرنسية بالاقتراح لكن «مونبل»، وزير فرنسا المفوض بطنجة آنذاك، استبعد أي دعم للسفارة الفرنسية للمشروع، مما أدى إلى فشله، لكن «ديلهان» و«كيدريك» لم يتخليا عن مشروعهما، فقاما بمحاولة فاشلة مع «بنك الجزائر» من أجل إحداث فرع له بطنجة، ثم اتصل «ديلهان» في محاولة ثالثة بوزير خارجية فرنسا «بيرطولو» لإقناعه بالمشروع سنة 1896، فتمت اتصالات بين «بورجوا»، رئيس المجلس، و«دومير»، وزير المالية، وتمت استشارة الحاكم العام للجزائر «جول كامبون» الذي تحمس للموضوع، واستطاع وزير المالية أن يقنع «الكونطوار الوطني للخصم» بأن يحدث فرعا له بطنجة، غير أن المشروع أسس بعيدا عن «ديلهان» و«كيدريك»، اللذين رأيا مشروعهما يسرق منهما، لأن الخارجية الفرنسية لم تكن تثق فيهما، وقررت التعامل مباشرة مع البنوك الفرنسية، لكن تلك البنوك لم تكن تستطيع أن تتجرأ على المغامرة بأموالها في بلد لا تزال أوضاعه السياسية هشة، وقابلة للانفجار في أي وقت.
وحاول أحد البنوك الفرنسية إحداث فرع له بالمغرب، لكنه لم يحقق النتائج المرجوة، فضلا عن اصطدامه بتحفظات الحكومة الفرنسية تجاه مبادرات من هذا القبيل ولو من طرف بنوك فرنسية، خوفا من أن تحذو حذوها دول أخرى، وأن يؤدي الوضع إلى «تدويل الحماية» على المغرب، الذي تريده لها وحدها.
في البداية كان «الكونطوار الوطني للخصم» يتمتع بدعم سفارة فرنسا ويحظى بظروف تشجيعية أخرى، حيث احتضن إرث «بنك ترازاطلانتيك» بعد وفاة «حاييم بنشيمول» الذي لم يترك وريثا له، ولكنه لم يكن يرغب في أن يترك زبناء بنكه يذهبون إلى بنك منافسه «ناهون».
وقد ازدهر «الكونطوار الوطني للخصم» بسرعة في ظل هذا الوضع، وخلق فروعا ثانوية له على الشواطئ المغربية وحتى في بعض مدن الداخل، واقترح سنة 1898 على المخزن بأن يسمح له بالتحول إلى بنك دولة، لكنه عرف في تلك السنة عملية تفتيش خلص من خلالها المفتش القادم من باريس إلى أن الفرع لا يتقيد في نشاطاته بالقوانين الأساسية للبنك الأم، وبأنه ملزم بالتخلي عن بعض الأنشطة غير المسموح له بها، ومن بينها الإقراض المضمون برهن، والذي يشكل أهم منتوجاته، مما نتج عنه تقلص كبير في أنشطته وإغلاق فروعه الثانوية، واقتصر على جمع ودائع التجار وتحويلها إلى فرنسا.
وقد فقدت تلك المؤسسة حريتها في باريس، عندما انخرطت في نقابة الأبناك الباريسية الكبرى المهيمن عليها من طرف «بنك باريس والأراضي المنخفضة».
دخول «بنك باريس والأراضي المنخفضة» على الخط
منذ تأسيسه سنة 1872 كان «بنك باريس والأراضي المنخفضة» مهتما بالأسواق الخارجية، ومنذ سنة 1886 اهتم البنك بمشروع القروض المغربية لبنك «الكونطوار الوطني للخصم»، وفي يوليوز 1901 انتقل مديره «طورس» إلى طنجة واستعلم حول الأوضاع المالية للمغرب لدى أحد وكلائه المسمى «ثيو فورت»، الذي كان يحاول تأسيس بنك مغربي فرنسي مع «برونشفيك» و«سلفادور حسن»، بهدف المساهمة في تنمية المغرب.
وقد استفاد «بنك باريبا» من تجربة الفشل التي عرفها «الكونطوار»، ورغب في تضمين قوانينه بنودا مرنة تستجيب لمتطلبات القيام بأنشطة مختلفة، تلائم الوضع المغربي، وقد تحمس «طورس» للمشروع، لكن «لامارتيير»، المكلف بالأعمال الفرنسية بطنجة، كان منحازا «للكونطوار» واقترح أن يؤسس «بنك باريبا» بنكا محليا صغيرا، من أجل تفادي أي منافسة مستقبلية، سواء كانت فرنسية أو أجنبية.
وهذا الموقف أدى إلى فشل محاولة «بنك باريس والأراضي المنخفضة»، والتي جربت مرة أخرى عبر الاستحواذ على «مؤسسات شارل غوتش»، الذي قبل في النهاية عروض «شنيدر» في 5 فبراير 1902، وحصل على موافقة الخارجية الفرنسية من أجل أن يؤسس في المغرب «شركة مؤسسات غوتش»، والتي حملت في السنة الموالية تسمية «الكبانية المغربية»، لكن اهتمامات المؤسسة كانت اقتصادية أكثر منها مالية، وكان «شنايدر» يطمح إلى أن يحصل عبرها على صفقات تزويد المخزن بالأسلحة، والحصول على صفقات أشغال عمومية.
كانت فكرة تأسيس بنك مخزني نابعة من مبادرات لبعض الخواص من رجال الأعمال الباحثين عن دعم بنكي، في وقت كانت البنوك متخوفة من خوض غمار ميدان الأعمال بالمغرب إلى حدود سنة 1901.
وعندما أصبحت الظرفية الاقتصادية مواتية بالنسبة إليها تشجعت الأبناك واستعدت للمغامرة برساميل في تأسيس بنك وإقراض المخزن، وجندت ممثليها بالمغرب ولدى حكوماتها رغم تحفظات الخارجية الفرنسية على وجه الخصوص، نظرا لإشكالات «المسألة المغربية» التي لم تعرف طريقها إلى الحل بالنسبة إليها بعد.
وهكذا تم منح أول قرض للمغرب في دجنبر من سنة 1902 بقيمة 7.500.000 فرنك، من طرف تحالف الأبناك الفرنسية، وتحت رعاية حكومتها، واعتبر الوزير الفرنسي أنه لا يستطيع أن يفعل أكثر من ذلك، مما دفع الحكومة المغربية إلى أن تقترض في مارس 1903 مبلغا مساويا من بريطانيا، وفي نهاية ماي عرضت عليها إسبانيا أن تمنحها قرضا بالمبلغ نفسه من طرف نقابة البنوك الإسبانية.
كان التحالف البنكي الفرنسي الدائن للمغرب مشكلا من: «الشركة المارسلية» بمساهمة 1.100.000 فرنك، «بنك باريس والأراضي المنخفضة»، و«الشركة العامة» و«مكتب الخصم» مليون فرنك لكل واحدة منها، «أللارد وشركاؤه» و«الشركة الفرنسية للتجارة والصناعة» 750.000 فرنك، «المكتب الصناعي والتجاري» و«القرض الجزائري» و«بنك الهند الصينية» 500.000 فرنك لكل واحدة، «البنك العثماني» 400.000 فرنك.
دور «سان روني طايندي» في الدفاع عن الفكرة
عين «سان روني طايندي» وزيرا مفوضا لفرنسا بالمغرب في 21 ماي 1901، خلفا لسلفه «ريفولي» الذي تولى بدوره منصب الحاكم العام للجزائر، وكان «طايندي» يعلم أن غزو المغرب قد فات أوانه، لأن أسلوب الغزو العسكري لم يعد موضة العصر، وأن عليه أن يطبق سياسة فرنسا في التوغل السلس والتدريجي بالمغرب، والحرص على أن يكون التدخل بطلب من الحكومة المغربية ذاتها ما أمكن.
رفعت فرنسا شعار مبدأ احترام سيادة المغرب والحفاظ على وحدة أراضيه، لمنع بقية الدول المنافسة من القيام بأي خطوة استباقية تجاهه، وشرعت في الوقت ذاته في استكمال وضع أسس سيطرتها عليه والاستفراد به، عبر تقديم مساعدات مرهقة له، وتكريس أزماته المتوالية، وقد كان لإصلاح ضريبة الترتيب من طرف السلطان أثرا سلبيا على خزينة الدولة، وعلى الموقف من السلطان مولاي عبد العزيز في حد ذاته، فقد أدى القانون الجديد إلى إلغاء الضرائب التقليدية القائمة، دون أن يستطيع فرض الضريبة الجديدة، وكان لفرنسا عبر صحافتها وخدامها ومحمييها دور في إفشالها والتحريض على العصيان عن أدائها، وانضاف إلى ذلك تعقد الوضعية المالية للبلد من خلال سك 300.000 كيلوغرام من الفضة سنة 1902، والتي أدت إلى إدخال كميات كبيرة من القطع النقدية إلى السوق، دفعة واحدة وبشكل فجائي، مما تسبب في انهيار «الدورو الحسني»، واضطر المغرب إلى طلب قروض إضافية.
كان «طايندي» يعي جيدا ظروف المغرب الاقتصادية والمالية، وفي غضون سنة 1903 أعد خطة محكمة لإنشاء بنك جديد بتنسيق مع تحالف البنوك المقرضة للمغرب، على أن يكون قانونها الأساسي ملائما للأوضاع المحلية المغربية، وذلك لتتبع وضعية الديون، وأن يتخذ البنك الجديد شكل «بنك شريفي» بمشاركة عناصر محلية مغربية يتم انتقاؤها بعناية فائقة، وأن تكون مهمة هذه المؤسسة البنكية مركزة المصالح المالية للمخزن.
وإذا كان «طايندي» قد قبل هذا المشروع، في تحول ملحوظ للسياسة الخارجية الفرنسية في الموضوع، فلأن الظروف الموضوعية قد تغيرت لصالح فرنسا بعدما أبرمت اتفاقا مبدئيا مع بريطانيا، تصرح من خلاله الحكومة البريطانية بعدم معاكسة التطلعات الفرنسية في المنطقة، وشروعها في اتفاق مماثل مع إسبانيا.
دور الحكومة الفرنسية في ولادة المشروع
في غضون سنة 1903 وبينما كان المخزن متعطشا للحصول على مزيد من القروض من أي جانب كان، سحبت الحكومة الفرنسية دعمها لمجموعة «شنايدر»، من أجل الدخول في ترتيبات مع «بنك باريس والأراضي المنخفضة» وقد تم الاتفاق على منح المغرب قرضا كبيرا لشراء وتوطيد الديون المغربية لفائدة التحالف البنكي الفرنسي، الذي أصبح الدائن الوحيد للمغرب.
ومع تأزم الوضعية الاقتصادية والمالية للمغرب طلب محمد التازي، وزير مالية المغرب، بتاريخ 18 يناير 1904 مساعدة فرنسا بشكل رسمي، من أجل تمكينه من الحصول على القرض الموعود، فقامت الخارجية الفرنسية بإجراء تنسيق مع «بنك باريبا» بالموازاة مع توقيعها للاتفاق بينها وبين بريطانيا في 8 أبريل، الذي اعتقدت بأنه ضمن لها تثبيت وضعيتها تجاه المغرب، لكي ترسل إلى القصر السلطاني بفاس «الكونت سانت أولير»، الكاتب الأول لمفوضيتها بطنجة، الذي سيمثل الحكومة الفرنسية ويدعم مشروع القرض، فيما سيمثل «زانغاروسيانو» التحالف البنكي، وسيحرص الطرفان في إطار تقاسم للأدوار مخدوم سلفا على الاحتفاظ بمسافة بينهما، تسمح للجانب الحكومي الفرنسي بالتدخل لتليين موقف الجانب البنكي المتصلب، حتى تتمكن الحكومة الفرنسية من كسب تعاطف المخزن.
وفي 23 ماي 1904 قدم المشروع للمصادقة عليه من طرف السلطان، ولكن مولاي عبد العزيز تحفظ على البند المتعلق باحتفاظ التحالف البنكي لنفسه بالحق في الأولوية في تأسيس بنك الدولة، في حال ما إذا رغب السلطان في تأسيس هذا البنك، فبقيت هذه النقطة محل خلاف بين الطرف المخزني والطرف البنكي، مما عطل التوقيع على الاتفاقية.
أمام استفحال الخلاف بين الطرفين وتشبث كل جهة بموقفها، راسل «التازي» وزير الخارجية الفرنسي وطالبه بالتدخل لدى التحالف البنكي، فتظاهرت الحكومة الفرنسية بالضغط على التحالف البنكي لسحب شرطه والوصول إلى توافق، يتمثل في اعتراف السلطان بتأسيس بنك مخزني من حيث المبدأ، مع تأجيل تاريخ تحقيقه على أرض الواقع إلى الوقت الذي تراه الحكومة الفرنسية مناسبا لكي تطلب من السلطان إنشاءه، وهذه الضمانة الحكومية الفرنسية جعلت السلطان يوقع على الاتفاقية في 12 يونيو 1904.
وهكذا تكون فرنسا قد استطاعت أن تمسك بخيوط اللعبة وأن تتولى إدارة القضية كما تريد على حساب الأبناك، وستحاول استغلال هذه النقطة من أجل إحكام سيطرتها على المغرب.
بلورة مشروع بنك الدولة 1904/1905
عند توقيع القرض اتفقت الحكومة الفرنسية مع التحالف البنكي على أن يرسلا للمغرب السيد «أوجين رينو» ممثلا لهما حاملا لوثائق القرض، وقد كان هذا الأخير قنصلا عاما لفرنسا في جنيف، وسيكون لهذا الدبلوماسي أدوار مهمة في تأسيس «بنك الدولة» .
عرف «رينو» بسرعة المتطلبات المالية للمغرب، وخلص إلى ضرورة إنشاء «مؤسسة مالية قوية، تكون لها سلطات المؤسسة العمومية، وتحمل اسم «بنك الدولة» على أن يكون لها امتياز سك النقود، وإصدار الأوراق القابلة للتداول القانوني، والتي يمكن للبنك بواسطة خزينتها التأثير على سعر «الحسني» بشكل يعيد قيمته إلى قيمة «البسيطة» الإسبانية في أفق تجاوزها، وستكون المهمة الأساسية للبنك المنشود تنظيم تداول النقود واستقرار سعر الصرف».
قررت الخارجية الفرنسية أن تضع بسرعة مشروع قانون أساسي للبنك، لكي يكون من ضمن برنامج الإصلاحات التي يعتزم «طايندي» عرضها على السلطان مولاي عبد العزيز، في القريب، وكلفت «رينو» ببلورة مشروع القانون باتفاق وتنسيق مع «نقابة البنوك الفرنسية».
انتهى «رينو» من صياغة المشروع وسلمه إلى «ديلكاسي» يوم 6 يناير 1905، في هذا المشروع يقترح «رينو» أن يمارس «البنك» وظائف متعددة، بأن يشتغل كبنك للودائع، وبنك للأعمال، وكذا بنك دولة يملك احتكار سك النقود والإصدارات المالية للصناديق والخزينة، مع منح القروض واقتراضها، وإمكانية منح تسبيقات للدولة.
في 12 يناير من السنة نفسها سيتقدم «رينو» بورقة إضافية لوزارة الخارجية، كلفته هذه الأخيرة بإعدادها، تحت عنوان «رقابة الحكومة الفرنسية على العمليات البنكية»، وهو الاقتراح الذي لن يمر بدون مشاكل.
كانت الخارجية الفرنسية تخشى أن يتم تأسيس بنك منفلت من رقابة الحكومة الفرنسية، وأن تصطدم بهذا الواقع عندما تبسط حمايتها على المغرب، لأن بسط حمايتها على المغرب بالنسبة إليها أضحى مسألة وقت فقط، لذلك طلبت من «رينو» أن يضع نظاما للضمانات الكفيلة بتمكينها من بسط رقابتها على البنك المزمع إنشاؤه، كما اشترطت ضمانة ثانية تتمثل في تضمين القانون الأساسي شرط عدم قابلية تعديله مستقبلا إلا بإرادة الجانب الحكومي الفرنسي.
من جانب آخر، اشترطت الحكومة الفرنسية في شخص وزارة خارجيتها أن تسمي المؤسسة مراقبا ومسيرا مفوضا، يقوم المراقب بفحص وضعية الصندوق، فيما يرأس الثاني اللجنة المشتركة المشكلة بالمغرب، ويختار مستخدمي البنك، وينتمي إلى مجموعة مسيري المؤسسة، كما اشترطت بكون كل المسائل المالية العالقة لا يمكن حلها إلا بمواقفة الحكومة الفرنسية.
«ريفولي» يوافق على تأسيس بنك الدولة بالمغرب
عرض «ديلكاسي» النصين المعدين من طرف «رينو» على «ريفولي»، الذي كان يتولى رئاسة الحكومة ووزارة المالية في الوقت ذاته، الذي وافق على تأسيس بنك الدولة بالمغرب، مقترحا استبدال البند الذي ينص على احتكار البنك لعمليات القرض والاقتراض، بحق للأولوية في ذلك فقط، على أن تكون الأولوية بالشروط نفسها، وكذا التنصيص على حق الحكومة الفرنسية في تعديل القوانين الأساسية للبنك متى رغبت في ذلك، متوقعا حماية وشيكة لفرنسا على المغرب.
كانت الخارجية الفرنسية ملزمة بأن تأخذ بعين الاعتبار ملاحظات «ريفولي»، لذلك قام «بنك برايبا» بإعداد صيغة ثانية لمشروع القانون الأساسي، وثلاثة نصوص ملحقة تتضمن عقد الامتياز الذي سيوقعه السلطان.
قدم المشروع الثاني للخارجية يوم 24 فبراير 1905، متضمنا ما جاء بمشروع «رينو» من ضمانات مع بعض الاختلافات الواضحة، منها أن «المسير المفوض» المقترح من طرف «رينو» أصبح يحمل اسم «المدير العام»، الذي يخضع في تعيينه لموافقة الحكومة الفرنسية والذي يبقى خاضعا لمجلس إدارة البنك.
في 7 مارس و30 منه قام «كوين» بإعداد صيغة جديدة لعقد الامتياز، وتضمن أن يستمر الاتفاق بين الطرفين لمدة 25 سنة، سيكون للبنك خلالها الحق في إصدار أوراق مالية إلى غاية 3 أضعاف الموجودات البنكية بالصندوق الحديدي، وبقية الأوراق التجارية المسحوبة على الخارج، وسندات الخزينة العامة ومحفظتها، كما كرس شرط «ريفولي» القاضي بتخلي البنك عن حق احتكار الإقراض والاقتراض مقابل حق الأولوية.
اكتملت في باريس كل الترتيبات لإنشاء بنك دولة بالمغرب، لكن في فاس كان هناك موقف آخر.
نشأة بنك الدولة في مؤتمر الجزيرة الخضراء
سوف تتحول نقطة إنشاء بنك الدولة، ونقطة تنظيم الشرطة بالمغرب، إلى أهم نقاط جدول أعمال مؤتمر الجزيرة الخضراء، وقد رافق «ريفولي» الذي حضر المؤتمر ممثلا للدولة الفرنسية، «أوجين رينو» للدفاع عن مشروعه الأصلي.
ومن خلال تحليل لخلاصات المؤتمر المنشورة يوم 7 أبريل 1906، نجد أن تأسيس بنك الدولة المغربي قد استقى أسسه من مشروع «رينو»، مع تضمينه مستجدات مثل مدة الامتياز التي انتقلت من 25 إلى 40 سنة، ومحاولة تدويل تلك المؤسسة، عبر تقسيم رأسمالها على الدول المشاركة في المؤتمر.
كما تضمنت خلاصات المؤتمر الاتفاق على تدويل مجلس إدارة البنك، الذي سيتشكل من عدد مواز من الأعضاء لمقدار مساهمات الدول في رأسماله الأصلي، وتشكيل لجنة الصياغة لمشروع قانونه الأساسي مكونة من 14 عضوا مفوضين من المجموعات المساهمة، وتزويده بـ4 مراقبين يعينون من 4 كبريات بنوك الدولة وهي بنوك فرنسا، ألمانيا، بريطانيا وإسبانيا، يكون دورهم مراقبة البنك على النحو الذي فكر فيه «رينو».
أما المدير العام الذي ثارت حوله العديد من النقاشات قد تم التخلي عنه، وإنشاء لجنة إشراف في شكل «لجنة أعيان مقيمين في طنجة»، التي سيكون من صلاحياتها إبداء الرأي حول عمليات الخصم البنكي وفتح القروض.
لقد أصبحت بنية البنك دولية، لكن أجهزة التسيير المتفق عليها كانت هي تلك التي تصورها «رينو» في مشاريعه السابقة، وقد منح البنك حق احتكار إصدار الأوراق المالية، كما سيتولى البنك مهمة خازن المملكة، وسيشكل البنك الجهاز المنظم للوضعية النقدية وسيتوصل مقابل ذلك بحق احتكار شراء المعادن النفيسة، وسك النقود، وكل عملية لفائدة الحكومة، وسيكون له حق الأولوية في منح القروض المستقبلية بشروط مساوية على كل مؤسسة مالية أو بنك أو مؤسسة قروض.
وسيكون للبنك المؤسس أن يقدم للدولة تسبيقات في حسابها الجاري، وفتح قرض سيمكنها من تغطية نفقات إنشاء وتدبير جهاز الشرطة.
أما المقر الاجتماعي للبنك فسيظل بطنجة، ومقر المجلس الإداري بباريس، ويخضع البنك للقوانين الفرنسية.
غير أنه على خلاف رغبة فرنسا في أن يكون بنك الدولة المغربي فرنسيا خالصا وأداة من أدوات توغلها الاقتصادي في المغرب، فإن باقي الدول حولته إلى أداة بيد المخزن، تحت وصاية دولية.
من جانب المغرب فإنه لم يستفد شيئا من الصيغة النهائية لمؤتمر الجزيرة، وبقي دور المندوب السلطاني به دورا باهتا، الذي يبقى دورا رقابيا صرفا.
أما مجلس إدارة البنك فرغم طابعه الدولي فإن فرنسا احتفظت به لنفسها بالأغلبية، فبين 14 صوتا من أصواته تملك فرنسا 8 أصوات، والشيء نفسه بالنسبة إلى لجنة صياغة القانون الأساسي، ولجنة المراقبة التي ضمنت إمكانية اتفاق المراقب البريطاني والإسباني مع نظيرهما الفرنسي، ضد أي خلاف مع المراقب الألماني.
وفي الأخير احتفظ للبنك بطابع مالي صرف، وتم رفض محاولات «طاطنباخ» الرامية إلى خلق مجلس رقابة للبنك من طرف بقية المؤتمرين.
وبذلك تكون فرنسا قد أنقذت ما يمكن إنقاذه من مشروعها الأصلي، وضمنت الاعتراف غير المباشر بوضعها المتميز بالمغرب، بعدما تم تأسيس بنك دولة المغرب وفق رؤيتها.