«في أرشيف الإقامة العامة الفرنسية في المغرب، والذي يوجد اليوم محفوظا في مؤسسة الأرشيف الفرنسية وتضعه الحكومة رهن إشارة الباحثين الفرنسيين والأجانب أيضا، توجد تقارير للشرطة الفرنسية في المدن المغربية، وهي تؤرخ لعمليات صنفتها الإقامة العامة «جرائم» كانت المقاهي مسرحا لها، بناء على الفتوى التي أطلقتها الحركة الوطنية خلال بداية الخمسينيات.
تبقى إفادة الدكتور عبد الكريم الفيلالي صحيحة، بحكم توفر أرشيف إداري فرنسي يدعمها. إذ تقول هذه التقارير إن وطنيين مغاربة محسوبين على المنظمات السرية، استطاعوا تنفيذ عمليات إطلاق رصاص وتخريب للمقاهي المملوكة للفرنسيين، حتى أنهم في عملية بالدار البيضاء قتلوا النادل الذي يعمل في المقهى، والذي كان ينتمي إلى أسرة بسيطة تقيم خارج الدار البيضاء، واضطر هو إلى العمل لإعالتها.
في قصر الكلاوي، كانت القهوة طقسا مقدسا، وعبّر أمريكيون من البحرية الأمريكية عن إعجابهم بجودة القهوة التي قدمها لهم الباشا في مكتبه سنة 1944، عندما زاره عدد كبير منهم في الذكرى الأولى للإنزال الأمريكي في الشواطئ المغربية للمشاركة في الحرب العالمية الثانية. تلك القهوة كان مصدرها أفخر الماركات التي تباع في أوربا، إذ كان الباشا يقتنيها بنفسه أو تقدم له كهدايا من أصدقائه الأجانب، الذين كانوا وزراء وسفراء وعسكريين وإداريين فرنسيين.
هناك حكاية ترتبط بميلاد مقهى في مدينة مراكش. والسبب أن الباشا الكلاوي تعرض لإهانة خلال ثلاثينيات القرن الماضي، عندما كان في زيارة إلى الدار البيضاء. إذ أن عامل فندق «إكسيلسيور» في قلب الدار البيضاء، والذي لا يزال موجودا إلى اليوم، لم يتعرف على الباشا ومنعه بالتالي من دخول الفندق حيث كان المقهى يطل على الشارع الرئيسي، فأحس الباشا بإهانة كبيرة. وعندما عاد إلى مراكش، أمر ببناء مقهى على شاكلة «إكسيلسيور» بحيث يكون المقهى في الطابق السفلي وفوقه فندق لاستقبال الزوار الأجانب. وفعلا أتم الباشا انتقامه، وأسس أحد أفخم مقاهي مدينة مراكش، حيث عمّر المقهى لفترة طويلة. وكان في مقدمة المقاهي التي أسستها فرنسا في مراكش منذ فرض الحماية على المغرب».
ماذا تعرفون عن المقاهي المغربية قبل 120 سنة؟
أرباب المقاهي يفتحون النقاش هذه الأيام على قطاع لا يعرف المغاربة تاريخه. كيف بدأ وكيف سيصبح بعد جائحة فيروس كورونا المستجد؟
لماذا يرفض أرباب المقاهي استئناف العمل إلا بعد أن تجلس معهم الحكومة إلى الطاولة؟ هذا مؤشر على أن القطاع ووضعه يحتاجان إلى وقفة تأمل ومطالبة بحقوق أو لإسماع مطالب الذين يروجون أموالهم في مجال يربط علاقة مباشرة ويومية بالمواطنين جميعا.
«بين مقهى ومقهى تجد مقهى آخر». هذه مقولة مغربية خالصة تعكس واقع الحال المغربي وخصوصية «القهوة» أو المقهى في حياة المغاربة. لا يمكن تصور أحياء شعبية في المغرب بدون مقاه. ولا يمكن أيضا تصور حياة النافذين وصناع القرار بدون مقاهيهم الخاصة التي تدار فيها المشاريع وتعقد فيها الصفقات.
كيف تآلف المغاربة إذن مع المقاهي؟ وكيف بدأ العمر الافتراضي للمقاهي المغربية يُحتسب سواء قبل الحماية وخلالها ثم بعدها؟
ينتظر المغاربة هذه الأيام الإعلان الرسمي من الحكومة عن تاريخ محدد لعودة عمل المقاهي في المغرب بعد أسابيع طويلة من الإغلاق والحجر الصحي الذي «اشتاق» خلاله المغاربة إلى «القهوة» أكثر من غيرها. حتى أن بعض الظرفاء علقوا بالقول إنهم ما إن رأوا بعض عمال المقاهي يفتحونها هذه الأيام لتنظيفها من الأتربة وينفضوا الغبار عن كراسيها، حتى أرادوا مساعدتهم في التنظيف لشدة فرحهم بقرب افتتاح المقاهي. فالتنظيف والاستعداد مؤشران واضحان لقرب عودة المقاهي إلى العمل، رغم تلويح أرباب المقاهي بعدم عودتهم إلى العمل إلا بعد سماع الحكومة لمطالبهم.
«استغلال» لانتظار المغاربة وللظرفية القائمة، لإسماع أرباب المقاهي لكلمتهم، يجعلنا جميعا نتساءل عن ماهية المشاكل التي يغرق فيها قطاع حيوي لا يكاد حي أو تجمع سكاني يخلو منه.
سيكون مثيرا أن تعرفوا مثلا أن المغاربة قبل ستين سنة من اليوم كانوا يعتبرون ولوج المقاهي خيانة لقضية المغاربة الأولى ضد الحماية الفرنسية، والمتحمسون من شباب المقاومة بادروا إلى اغتيال مغاربة مساكين كانوا يعملون في تلك المقاهي، وبعضهم كانوا عيون المقاومة على موظفي الاستعمار والإدارة الفرنسية، لكن جهل المتحمسين جعلهم يغتالون «النادل» أكثر من مرة دون أن يعرفوا أنه مقاوم أقدم منهم ويلعب دورا مخابراتيا كبيرا.
أما في أربعينيات القرن الماضي، خصوصا في محيط القاعدة الجوية الأمريكية في مدينة القنيطرة، فقد كانت المقاهي على الطراز الأمريكي مجالا خصبا للروايات البوليسية حيث يفوق عدد الجواسيس والمخبرين الأجانب عدد الكراسي في تلك المقاهي.
ربما تكون مذكرات القنصل الأمريكي إدموند هولت في المغرب سنة 1909، والذي سوف نعود إليه في هذا الملف، واحدة من أقدم الشهادات التاريخية التي تعرضت لوصف المقاهي المغربية على الإطلاق. فهذا القنصل الأمريكي الذي حل بطنجة ممثلا لواشنطن في المغرب، كتب مذكراته عن العمل الدبلوماسي في أكثر من بلد عربي ومسلم، وخصص حيزا مهما منها للمغرب. وجاء في وصفه للمقاهي مقتطف نترجمه من الإنجليزية يتحدث فيه القنصل الأمريكي مع موظفه المغربي الذي كان مرشدا له في طنجة خلال الأسابيع الأولى لتعيينه في المغرب:
«- آه. أنظر. هل ترى ذلك المغربي الذي جلس الآن بجانب المسيو Q؟ إنه يولح الآن للنادل لكي يحضر له شرابا. إنه سي أحمد بن محمد بن عبد القادر. هل سمعت به يوما؟ لا؟
طيب. إنه الآن محقق للشرطة الدولية في طنجة. إنه أمير جزائري، ويحصل على أجرة سنوية من فرنسا لكي يبقى خارج الجزائر. والده كان ثائرا كبيرا. وقاد المواجهات الجزائرية الأخيرة أمام الفرنسيين سنة 1840.
-كيف أصبح سي أحمد فرنسيا إذن؟
-هذا أمر لا أعرفه. ربما كان... لكن لا. لا أستطيع قول هذا الأمر. كل ما أعرفه فقط أنه أصبح محقق الشرطة الدولية في طنجة لأنه نجح في إشعال ثورة كبيرة في قبيلة ضد الفرنسيين على الحدود.
-غريب؟
-أوه. لا. هذا ليس أمرا غريبا في المغرب. سي أحمد الذي تراه الآن، ذهب إلى قبيلة «الهياينة» حيث النفوذ، وحثهم على الثورة ضد السلطان. لذلك أرسل الفرنسيون في طلبه، وقدموا له منصبا مغريا، لكي يفسد الثورة.
-نعم. هذه هي السياسة.
-لا. ليس كل شخص يقدر على إشعال ثورة. وإلا لما كانت كل المناصب كافية لإبقاء السلام في البلاد. الآن أنظر إلى ذلك الرجل الذي يرتدي البياض ويمر راكبا فوق الحصان، وإلى جانبيه عبد في كل جهة. إنه «الكباص». إنه ممثل السلطان. لكنه ليس بقوة «طورّيس»، أقوى مفتش للشؤون الخارجية حل بالمغرب. لأربعين سنة، لعب «طورّيس» مع الدول الأوروبية التي أرادت الهيمنة على المغرب. إنه هو الذي قال: كذبة واحدة سوف تُبقي أوربا مشغولة لسنة واحدة. ونحن لدينا خزنة كبيرة من الأكاذيب. لقد كان دبلوماسيا حقيقيا».
كانت هذه بعض أجواء المقهى الذي يرتاده المغاربة والأجانب عندما كان المقهى حديثا في المغرب، وبالكاد يتعرف عليه المغاربة يوما بعد يوم.
انتعاش المقاهي بعد ما عرف بالحملة التطهيرية سنة 1996
عندما كان الاقتصاد المغربي يواجه الإفلاس في تسعينيات القرن الماضي، كان الملك الراحل الحسن الثاني يجتمع بالحكومة مرات كثيرة خلال السنة، لكي يبحث مع الوزراء مقترحات لإنقاذ البلاد ما عرف وقتها بـ«السكتة القلبية». حكومة الفيلالي، كما يلقبها المغاربة اختصارا، والتي امتدت في ثلاث تجارب متتالية، خلفا لكريم العمراني، ولم يغادرها إلا لترك مكانه لتجربة التناوب الذي قاده عبد الرحمن اليوسفي سنة 1998، كانت في قلب ما عرف بالحملة التطهيرية. ورغم أن الفيلالي كان وزيرا أول وقتها، إلا أن إدريس البصري، وزير الداخلية، استطاع بسهولة أن يخطف منه الأضواء ويقود الحملة التي اتهم لاحقا باستغلالها لكي يتخلص من معارضيه مستعملا ذراع «الداخلية» الطويل للزج بهم في السجن ومصادرة أموالهم.
من بين الملفات الحساسة التي كانت فوق مكتب الملك الراحل الحسن الثاني، ملف غسيل الأموال والملايير التي كانت الدولة عاجزة عن تعقبها، والتي كانت حصيلة التجارة والصفقات خارج القانون بما فيها تجارة المخدرات.
وبما أن البلاد كانت على وشك الإصابة بسكتة اقتصادية حقيقية لم يستجب خلالها المستثمرون لدعوة الملك الحسن الثاني في خطابات ملكية صريحة، كان ضروريا السماح بترويج رؤوس أموال وسن تسهيلات ضريبية لتشجيع المغاربة، خصوصا المقيمين بالخارج، على الاستثمار في المغرب وجلب رؤوس أموال لإنعاش الاقتصاد الوطني.
كانت المقاهي من بين المشاريع التي ازدهرت ما بعد نهاية الحملة التطهيرية التي توعد خلالها إدريس البصري بمعاقبة مختلسي الأموال، خصوصا في مجال الجمارك والضرائب، سنة 1996. إذ بعد طي الملف، كان ازدهار ملحوظ لمشاريع إنشاء المقاهي والفنادق، بعد التسهيلات التي سنتها الدولة بخصوص الأموال التي يراكمها أصحابها خارج الأبناك. وتحولت هذه المقاهي، مع نهاية التسعينيات، إلى قاعدة لتبييض الأموال، وهو ما شكل وقتها تحديا حكوميا كبيرا، إذ كانت تضخ فيها أموال من أنشطة غير مصرح بها، على أساس أنها مداخيل للمقاهي والتي تؤدى عنها ضرائب قانونية للدولة.
ربما يكون واقع أرباب المقاهي اليوم، ومشاكلهم التي يريدون الاجتماع مع الحكومة لحلها قبل عودتهم لاستئناف أنشطتهم، جزء من المشكلة الكبيرة التي بدأت بعد الحملة التطهيرية لسنة 1996، والتي عرفت إقامة مشاريع فندقية، بينها مقاه فاخرة وأخرى متوسطة في المدن الكبرى، خصوصا الشاطئية منها، بأموال كان أغلبها مجهول المصدر.
طنجة.. مدينة المقاهي التي أسسها الدبلوماسيون قبل 150 سنة
أولى المقاهي التي ظهرت في المغرب كانت بمدينة طنجة، والحقيقة أنها لم تكن مقاه عادية وإنما كانت فنادق، خصصت واجهتها وبهوها لارتياد ضيوف طنجة من جنسيات أوربية مختلفة.
أما فكرة تأسيسها فقد كان خلفها دبلوماسيون أجانب، خصوصا الإنجليز والإيطاليين والإسبان الذين كانوا من أوائل رواد طنجة ومستكشفيها، وهؤلاء هم الذين عمدوا إلى إنشائها حتى يتوفر لهم جو يسمح بالترفيه وعقد اللقاءات.
الثقافة المتوسطية للإيطاليين والإسبان، جعلت مقامهم في طنجة جحيما في السنوات الأولى للمد الأوربي على المدينة قبل سنة 1880، وهم الذين فكروا في تأسيس مقاه في الطوابق السفلية للفنادق التي شيدت قرب شاطئ طنجة. وهو ما أكده عدد من الكتاب والباحثين، الذين لا تزال مذكراتهم وكتب مغامراتهم في المغرب وطنجة على الخصوص شاهدة على تلك المرحلة.
بعد سنة 1880، أصبحت في طنجة فنادق معروفة يرتادها الأجانب، لكنها لم تكن في الحقيقة فنادق مصنفة أو بالفخامة التي اعتاد عليها السياح الأوربيون. لكنها كانت تفي بالغرض، وتجعل الأجانب يعيشون على قدر ما من الحياة الأوربية التي اعتادوها.
أول قنصل أمريكي حل بالمغرب، وهو السيد هولت، أشار في مذكراته التي كتبها بعد تقاعده في نيويورك سنة 1910، ذكر فيها بعض ذكرياته عن طنجة بكثير من التشويق، وتحدث عن تأسيس المقاهي وطبيعة روادها. حيث قسمهم إلى قسمين: الدبلوماسيون الأجانب الذين يعملون في طنجة ومعاونوهم المسلمون، ثم الضيوف العابرون، وهم أجانب بطبيعة الحال.
أما الدبلوماسيون فقد كانوا يبددون وقت فراغهم هناك وحولوا المقاهي إلى ما يشبه قاعة لقراءة الجرائد، وأحيانا لعقد الصفقات والاتفاقيات في ما بينهم. أما معاونوهم المسلمون فقد كانوا من المغاربة الذين استطاعوا تعلم اللغة الإنجليزية، وتمكنوا من الحصول على عمل كمترجمين. حسب السفير، فإن هؤلاء سرعان ما نزعوا الجلباب المغربي، وارتدوا البدلة الأوربية وأصبحوا من أوائل مرتادي المقاهي الأجنبية. ومنهم صنف مهم هم الجزائريون الذين كانوا يعملون لصالح فرنسا. وقد ذكر القنصل هولت قصة قريب المجاهد الجزائري الأمير عبد القادر، الذي عمل مع الإدارة الفرنسية في المغرب واستقر في طنجة عندما انتهت مهمته في الدار البيضاء، وكان يرتاد مقاهيها رفقة أصدقائه الأجانب.
أما العابرون من جنسيات مختلفة فقد كانوا إما صحافيين أو عسكريين وأيضا منهم مغامرون من الباحثين عن الذهب في القارة الافريقية، حيث كانوا يقضون أياما في طنجة خلال رحلتي الذهاب والإياب. وهؤلاء كانوا أيضا من بين أهم أسباب افتتاح مقاه في مدينة طنجة، لكي تصبح أول مدينة في إفريقيا تشهد هذا التحول الحضاري والعمراني الصارخ، بمعايير ذلك الوقت.
الوطنيون حرموا الجلوس بالمقاهي وأفتوا بقتل مرتاديها سنة 1953
حسب المؤرخ الراحل عبد الكريم الفيلالي، فإن أرشيف الحركة الوطنية أكد تحريمها في فترات كثيرة تعاطي التدخين وأمرت أعضاءها وأنصارها باغتيال باعة السجائر، رغم أنهم كانوا مغاربة بسطاء مغلوبين على أمرهم، فإنه عرج أيضا على ما يشبه «الفتاوى» الغريبة التي تعلقت في جزء منها بتحريم ارتياد المقاهي، في الفترة التي توترت فيها العلاقة بين الإقامة العامة الفرنسية والقصر، وبالتالي مع الحركة الوطنية أيضا، والتي بلغت ذروتها بنفي الملك الراحل محمد الخامس سنة 1953.
في أرشيف الإقامة العامة الفرنسية في المغرب، والذي يوجد اليوم محفوظا في مؤسسة الأرشيف الفرنسية وتضعه الحكومة رهن إشارة الباحثين الفرنسيين والأجانب أيضا، توجد تقارير للشرطة الفرنسية في المدن المغربية، وهي تؤرخ لعمليات صنفتها الإقامة العامة «جرائم» كانت المقاهي مسرحا لها، بناء على الفتوى التي أطلقتها الحركة الوطنية خلال بداية الخمسينيات.
تبقى إفادة الدكتور عبد الكريم الفيلالي صحيحة، بحكم توفر أرشيف إداري فرنسي يدعمها. إذ تقول هذه التقارير إن وطنيين مغاربة محسوبين على المنظمات السرية، استطاعوا تنفيذ عمليات إطلاق رصاص وتخريب للمقاهي المملوكة للفرنسيين، حتى أنهم في عملية بالدار البيضاء قتلوا النادل الذي يعمل في المقهى، والذي كان ينتمي إلى أسرة بسيطة تقيم خارج الدار البيضاء، واضطر إلى العمل لإعالتها.
وحسب بعض إفادات قدماء المقاومة، خصوصا الحاج الحسين برادة، فإن بعض الشبان المغاربة والفتيان الذين عملوا في مقاهي الفرنسيين كانوا في الحقيقة متعاونين مع المقاومة وينقلون أخبار بعض موظفي الإدارة الفرنسية والبوليس الفرنسي إلى المقاومة. بعض العمليات التي تكللت بالنجاح واغتيلت على إثرها رؤوس بارزة في الأمن الفرنسي بالمغرب، ما كانت لتتم لولا إخباريات فتيان المقاهي. وللأسف، يضيف الحاج الحسين برادة، الذي توفي قبل شهرين فقط، في حديث سابق مع «الأخبار» عن ذكرى المقاومة، فإن أحد هؤلاء الشبان تعرض لاغتيال على يد منظمة سرية في الدار البيضاء، في الوقت الذي كان فيه الحسين برادة وآخرون من مؤسسي النواة الأولى منفيين إلى تطوان. لم يكن منفذو العملية يدركون أن الشاب الذي قتلوه رميا بالرصاص يوم 2 أكتوبر 1954، كان في الحقيقة عنصرا مهما لتزويد مجموعة الزرقطوني الأولى بالمعلومات، والتي استمر نشاطها بعد اعتقال الزرقطوني ووفاته قبل التحقيق معه.
هذا المعطى، يعكس أهمية المقاهي في عمل المقاومة خصوصا في الدار البيضاء. ولأنها كانت فضاء للقاء المقيمين والموظفين الفرنسيين لكي يطالعوا الصحف ويدخنوا بأريحية، فإن بعض أعضاء الخلايا السرية كانوا يرون فيها هدفا سهلا لتصفية أكبر عدد ممكن من الأجانب. ولأن هؤلاء لم يكونوا في الصفوف الأولى لعمل المنظمات السرية، فقد كانوا يجهلون أن بعض الشبان العاملين في تلك المقاهي، كانوا مقاومين أيضا ينقلون أخبار الفرنسيين بعد أن استطاعوا التغلغل بينهم بنجاح.
ما يؤكد هذا الطرح، هو أرشيف الإدارة العامة للأمن في الدار البيضاء. إذ إن محاضر السجل اليومي لأحداث المدينة، والتي كانت توثق في «كوميسارية» المعاريف، تشهد أن النادل كان شابا في عقده الثالث ينحدر من منطقة الغرب، حسب التقرير الذي أرفق مع المحضر الأمني. لم يكلف الأمنيون أنفسهم عناء إنقاذ الشاب المصاب، بقدر ما كان يهمهم الوصول إلى مُطلق النار. ففور وصول البوليس إلى المكان باشروا التحقيقات للوصول إلى الفاعل، ولم يعاينوا ضحية إطلاق النار إلا عندما وصل المكلفون بنقل الجثة إلى منزل القتيل، لإتمام إجراءات الدفن.
كان النادل قيد حياته منبوذا في أوساط الشباب الذين كانوا يتعاطفون مع عمليات الخلايا السرية، والسبب أن عمله يحتم عليه الاحتكاك مع الأمنيين والمخبرين و«الخونة» الذين كانوا يترددون باستمرار على المقهى. وهكذا أصبح متهما بالتعامل مع المخبرين الذين يتعاونون مع البوليس الفرنسي.
اليوم. بعد ستة عقود على هذه الوقائع الدامية، لا يزال البعض يوجهون أصابع الاتهام إلى قيادات سابقة في حزب الاستقلال، ويتهمونها بتجييش الشبان المتحمسين للانخراط في المقاومة، لتصفية باعة السجائر ونادلي المقاهي، الذين لم يكونوا جميعا مخبرين لصالح فرنسا. بقدر ما كانوا يحيون شظف العيش في سبيل اللقمة. في وقت كان فيه المخبرون الحقيقيون، يفاوضون فرنسا على الطاولات في الصالونات المغلقة التي لم يكن أغلب المقاومين يعرفون وجودها أصلا!
وما غاب عن هؤلاء، خصوصا منهم الذين ادعوا انتسابهم إلى المقاومة، أو الذين كانوا متحمسين فقط ويحملون السلاح دون تنسيق مع القيادات البارزة، أنهما قاموا في مرات كثيرة بتصفية مقاومين متخفين داخل مقاهي الفرنسيين، حيث كانت تعقد اللقاءات بين أبرز قيادات الإدارة الفرنسية.
إن تاريخ المقاهي المغربية يحتفظ بشق سري ودموي، ليس معروفا اليوم.
الوزير المنبهي والباشا الكلاوي.. أول مغربيين تحمسا للقهوة والمقاهي!
وزير الحرب المهدي المنبهي، الذي يمكن تشبيهه بإدريس البصري، خصوصا وأنهما يشتركان في عدد من النقاط، سوى أنهما ظهرا في فترتين مختلفتين. هذا الوزير الذي عمل مخزنيا بسيطا سنة 1894، ليصبح وزيرا سنة 1900 تقريبا ويتدرج بسرعة خاطفة لكي يتحكم في الحكومة وبقية الوزراء ويصبح مستشارا للسلطان وتقلد منصب وزير الحرب، قبل أن يطيح به وزراء آخرون ويغادر القصر الملكي بفاس، صوب طنجة هاربا وخائفا على حياته. وجد في الإنجليز الذين يقطنون في طنجة حماية كبيرة له ولأمواله التي هرب بها من فاس، وبنى لنفسه إقامة فاخرة في طنجة، وأسس ملعبا للتنس وآخر للغولف، بل ومنح جمعية بريطانية مهبط طائرات لكي تمارس هواية الطيران سنة 1914. لكن ما اشتهر به وسط الدبلوماسيين الأجانب وأثرياء أوربا الذين كانوا يأتون إلى طنجة للاستجمام، أنه كان عاشقا كبيرا للقهوة العربية، وكان داعما لبناء المقاهي في مدينة طنجة، وكان يتردد عليها كثيرا ليجلس مع البريطانيين والفرنسيين وأعيان طنجة الدولية. حتى أنه أهدى الملك الراحل محمد الخامس سنة 1928، في الذكرى السنوية الأولى لوصوله إلى الحكم، كيس قهوة مستوردة من البرازيل، ومنحه معها خادما مكلفا بإعدادها.
ولم يكن ينافسه في معرفته بالقهوة سوى الباشا الكلاوي في مراكش. رغم أن نجم الباشا الكلاوي لم يسطع إلا بعد اختفاء الوزير المهدي المنبهي، الذي كان آخر عهده بالملك الراحل محمد الخامس يعود إلى أربعينيات القرن الماضي.
أما الباشا الكلاوي، الذي ساعد الفرنسيين في تأسيس المقاهي بمدينة مراكش، فتربطه علاقة مثيرة بالقهوة والمقاهي. فقد كتب بعض أصدقائه وزواره من الأجانب، وأشهرهم هو «غافين ماكسويل» الكاتب الأسكتلندي الذي كتب عن المغرب في ستينيات القرن الماضي، أن الباشا كانت لديه خادمة إفريقية كرست حياتها كلها لإعداد القهوة للباشا. لسنوات طويلة وهي تعمل خادمة في البيت لا تمارس طيلة حياتها، بعد أن اشتراها الباشا طفلة صغيرة، أي شيء سوى إعداد القهوة للباشا الكلاوي وزواره من الأجانب، خصوصا الذين كانوا يجلسون معه في مكتبه، حيث قضى أيامه الأخيرة سنة 1956.
في قصر الكلاوي، كانت القهوة طقسا مقدسا، وعبر أمريكيون من البحرية الأمريكية عن إعجابهم بجودة القهوة التي قدمها لهم الباشا بمكتبه سنة 1944، عندما زاره عدد كبير منهم في الذكرى الأولى للإنزال الأمريكي في الشواطئ المغربية للمشاركة في الحرب العالمية الثانية. تلك القهوة كان مصدرها أفخر الماركات التي تباع في أوربا، إذ كان الباشا يقتنيها بنفسه أو تقدم له كهدايا من أصدقائه الأجانب، الذين كانوا وزراء وسفراء وعسكريين وإداريين فرنسيين.
هناك حكاية ترتبط بميلاد مقهى في مدينة مراكش، والسبب أن الباشا الكلاوي تعرض لإهانة خلال ثلاثينيات القرن الماضي، عندما كان في زيارة إلى الدار البيضاء. إذ إن عامل فندق «إكسيلسيور» في قلب الدار البيضاء، والذي لا يزال موجودا إلى اليوم، لم يتعرف على الباشا ومنعه بالتالي من دخول الفندق، حيث كان المقهى يطل على الشارع الرئيسي، فأحس الباشا بإهانة كبيرة. وعندما عاد إلى مراكش، أمر ببناء مقهى على شاكلة «إكسيلسيور»، بحيث يكون المقهى في الطابق السفلي وفوقه فندق لاستقبال الزوار الأجانب. وفعلا أتم الباشا انتقامه، وأسس أحد أفخم مقاهي مدينة مراكش، حيث عمر المقهى لفترة طويلة. وكان في مقدمة المقاهي التي أسستها فرنسا في مراكش، منذ فرض الحماية على المغرب.
مقاهي الخيام والأسواق الشعبية.. تاريخ مقبور للمقاومة
يصعب ربما تصديق أن المقاهي القديمة في المغرب المنسي كانت أيضا محاكم يجلس فيها القضاة للتداول في الأحكام، عندما كانت مداشر المغرب وقراه تحتكم إلى المحاكم العرفية، ويتم تعيين رؤسائها وقضاتها بالظهائر الشريفة وبأمر سلطاني مباشر.
لكن واقع الحال يؤكد فعلا أن المغاربة قبل فرض الحماية على المغرب سنة 1912، كانوا يحتكمون إلى محاكم الأسواق الأسبوعية، والتي كان يديرها القضاة والفقهاء من المقاهي التي تقام في الأسواق الأسبوعية.
هذا النوع من المقاهي لا يزال قائما في المغرب المنسي إلى اليوم. تكون هذه المقاهي عبارة عن بناء من الطين، وتغطى في العادة بخيام كبيرة من الثوب، ويفترش روادها الحصير، حيث يشربون القهوة في صينية مغربية وهم يفترشون الأرض.
هذه المقاهي تتحول في ليالي موعد تلك الأسواق الأسبوعية إلى فنادق لاستقبال التجار والباعة، ليلة قبل انعقاد السوق ويدفعون لأصحابها مقابل المبيت تحت سقفها في انتظار الصباح.
وفي النهار تنشط المقاهي بشكل عادي، قبل أن تشد الرحال في اليوم الموالي إلى السوق الذي يليه.
الأرشيف الفرنسي يدون أن عمليات عسكرية عرفتها هذه المقاهي وقتل على إثرها آلاف المغاربة، بسبب عمليات المقاومة التي شنتها القبائل في الأطلس ضد الوجود الفرنسي في المغرب.
سنة 1919، عند وصول فرنسا إلى ورزازات، قُتل آلاف المغاربة لكي يتمكن الفرنسيون من تأسيس ثكنة عسكرية بعلم فرنسي يرفرف فوقها. وكان أول ما قامت به فرنسا هو تأسيس مقهى بورزازات لا يزال قائما إلى اليوم، حيث كان من أوائل المقاهي في الجنوب المغربي. وكان يتردد عليه الجنود الفرنسيون بكثرة، غير أنه لم يتم استهدافه أيام المقاومة كما استهدفت مقاه المدن الكبرى.
مؤسف أن يُقبر هذا الشطر المهم من تاريخ المقاومة المغربية، وألا يبقى له أثر إلا في التقارير الفرنسية العسكرية. وأبرزها ما دونه العسكري غوستاف بابين سنة 1914، حيث تحدث عن الغارات الفرنسية على الأسواق الأسبوعية في منطقة الأطلس، خصوصا جنوب مدينة مراكش، حيث كان يتم استهداف هذه المقاهي البسيطة. في إحدى العمليات بوشر هجوم ليلي على سوق أسبوعي وقتل كل من كان نائما في تلك الخيام. وفي ليلة 8 غشت 1914، حسب تقرير الملحق العسكري، فإن سوقا أسبوعيا غير بعيد عن «تولوا» في اتجاه قبيلة بسوس تعرض لمداهمة مفاجئة، كان الهدف منها تمرن الجنود الفرنسيين على التصويب، وكان السوق الأسبوعي ومقاهيه هدفا لتلك المناورات التدريبية التي جرت بالرصاص الحي. أي إن الأهداف العشوائية التي اختارها الجنود، كان يتم التصويب عليها بالرصاص الحي. وكانت التعليمات التي تلقاها الضباط لكي يلقنوها لجنودهم، هي إصابة الأهداف بعد اختبائها وراء الأواني والمخابئ داخل تلك المقاهي. وكانت النتيجة مقتل آلاف رواد السوق الأسبوعي.
أما بخصوص مسألة تحول المقاهي إلى مقرات للمحاكم العرفية، فالأمر موثق في التاريخ، حيث كانت فعلا هذه المقاهي التي تقام في الخيام، مقرات للقضاة، وبعدهم للحكام العسكريين الفرنسيين، حيث كانوا يجلسون تحت سقفها الظليل، ليبتوا في نزاعات الفلاحين والبسطاء وهم يرتشفون القهوة.