«عبد الرحمان اليوسفي آخر الذين كشفت تقارير الـ«CIA»، التي رفعت عنها السرية هذه الأيام، أن الملك الحسن الثاني اتصل به في قضايا وطنية، وهو معارض بل ومنفي خارج المغرب.
كان يكره العسكريين، الأمريكيون يقولون أيضا إنه كان يزور معسكرات تدريب المعارضين المغاربة، الذين فروا من أحكام بالإعدام من المغرب ما بين سنوات 1963 و1973، أي ما بين مؤامرتي يوليوز ومارس على التوالي. ورغم أن اليوسفي زار تلك المعسكرات، إلا أن علاقته بهواري بومدين لم تكن جيدة، بل كان يكرهه. وأيضا لم يلتق حافظ الأسد، الذي لم يبادر بدوره إلى دعوته إلى القصر الرئاسي، رغم أن اليوسفي كان معروفا لدى السوريين بمعارضته لنظام الملك الراحل الحسن الثاني.
الوثائق بين أيدينا تقول أيضا إن اليوسفي قدم استشارات للملك الحسن الثاني بخصوص أزمة الصحراء خلال ثمانينيات القرن الماضي، أي بعد عودته من المنفى، وأيضا قبيل عقد اتفاقية وجدة مع العقيد القذافي.
بعيدا عن اليوسفي، هناك وثائق أخرى تطرقت إلى الوزير بلافريج، وعبد الله إبراهيم. وذهب الأمريكيون بعيدا واتهموا علال الفاسي بالمشاركة في الإطاحة بحكومة عبد الله إبراهيم».
لم يكن مفاجئا أن يتابع الأمريكيون علاقة معارضي الملك الراحل الحسن الثاني بالدول الجارة للمغرب، خصوصا الجزائر. في هذا السياق، برز اسم عبد الرحمان اليوسفي الذي راقبته الـ«CIA» المخابرات المركزية الأمريكية، قبل حتى أن يصير وزيرا أول، بل وقبل سنوات طويلة أيضا.
محاكمات كثيرة ومنفى واحد
راقبت الـ«CIA» من خلال عملائها على الأرض، علاقة المغرب بالجزائر، وتشير تقارير للوكالة رفعت عنها السرية سنة 2010 و2012، إلى أن السفارة الأمريكية في الرباط تابعت محاكمة عبد الرحمان اليوسفي، بسبب افتتاحيات الجريدة التي كان يترأس تحريرها، والتي تتحدث بلسان حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي تأسس سنة 1959.
وبعد مؤامرة يوليوز 1963، التي وُجهت فيها التهمة لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بمحاولة قلب النظام والتخطيط لمؤامرة باستعمال السلاح، كان عبد الرحمان اليوسفي من بين الأسماء القليلة التي اهتم بها الأمريكيون، سيما بعد إخلاء سبيله وقراره اللجوء خارج المغرب. وفي محاكمة 1973، كان رأس اليوسفي مطلوبا مرة أخرى وتمت المطالبة بإصدار حكم الإعدام ضده، لكنه نال عفوا سنة 1980، لتبدأ عندها مفاوضات إقناعه بالعودة إلى المغرب والمشاركة سياسيا، لكن الأمر لم يتم إلا في سنة 1998، بعد أن تلقى ضمانات من الملك الراحل الحسن الثاني بعدم تزوير الانتخابات.
صديق الجزائريين
ماذا وقع بين سنتي 1963 و1973. ثلاث سنوات تغير خلالها عبد الرحمان اليوسفي كثيرا، ليس لأنه جرب الوقوف في قفص الاتهام وجرب المنفى، لكن لأنه توجه مع الكثيرين غيره صوب الجزائر. الأمريكيون تابعوا باهتمام كبير هذا التفصيل، خصوصا وأنهم كانوا يتابعون أصدقاء المهدي بن بركة جميعا. كان الفقيه البصري يقود تياره في فرنسا متنقلا إلى سوريا والجزائر، ومعه أيضا عبد الرحمان اليوسفي الذي زار معسكرات تدريبية. حيث نقل الأمريكيون أن اليوسفي الرجل المثقف والمحامي المتمكن الهادئ، كان لديه ميول نحو دعم التدرب على السلاح، لتجاوز التضييق الذي تعرض له سياسيا رفقة أعضاء الحزب وقدماء المقاومة، خصوصا وأنه كان يشتغل سابقا على الميدان في المجال النقابي بمدينة الدار البيضاء، خلال بداية الخمسينيات.
أصبح إذن صديقا للجزائريين، خصوصا لابن بلة وبوضياف، قبل أن يصبح رئيسا للجزائر، وبالضبط في الفترة التي مارس فيها العمل السياسي، قبل أن يتم التضييق عليه أيام هواري بومدين، ويجبر على العيش بين فرنسا، سويسرا والمغرب. لكن اليوسفي لم يكن أبدا صديقا للعسكريين. تقول وثيقة رفعت عنها السرية قبل قرابة الأسبوعين، أي إنها حديثة جدا وتزامن رفع السرية عنها مع حدث وفاة عبد الرحمان اليوسفي عن عمر يناهز 96 سنة، إن اليوسفي كان يكره الجنرالات ولا يثق بهم ويرى أنهم ليسوا جديرين بثقة أي رجل سياسي، لأنهم أبعدوا أصدقاءه من السلطة. ويقصد الأمريكيون بأصدقاء اليوسفي كلا من ابن بلة، الذي كانت لديه علاقة وطيدة جدا مع المغرب، بالإضافة إلى بوضياف.
أمام هذا المعطى، تقول الوثيقة، فإن الملك الحسن الثاني استعان بعبد الرحمان اليوسفي وهو في المنفى في مهمة سرية لم يتحدث عنها اليوسفي نهائيا قيد حياته، وها هي اليوم تكشفها الوثائق الأمريكية.
جاء في الوثيقة التي شكلت صفحة فقط من بين 17 صفحة عن شمال إفريقيا تعود لفترة ما بين سنة 1985 وما بعدها، أن عبد الرحمان اليوسفي تلقى اتصالا من مستشار الملك الحسن الثاني، حيث طلب منه المستشار معلومات عن موقف الجزائر من قضية الصحراء، فقام اليوسفي بطمأنة المستشار إلى أن المعارضة المغربية، ممثلة في حزب الاتحاد الاشتراكي الذي كان يترأسه عبد الرحيم بوعبيد في الداخل، ويمثل عبد الرحمان اليوسفي ثقلا كبيرا له في الخارج، لن تقوم أبدا بأي خطوة من شأنها أن تؤثر على القضية الوطنية. كانت علاقة عبد الرحمان اليوسفي بسياسيين جزائريين بارزة، لكن علاقته بهواري بومدين لم تكن جيدة، فقد جاء في الوثيقة أن اليوسفي تحاشى مرات كثيرة لقاء بومدين، ولم يكن يتفق معه في مواقفه من المغرب وتدخله في قضية الصحراء المغربية.
حافظ الأسد رفض لقاء اليوسفي
أسابيع قليلة قبل أحداث 1973، التي عرفت بمؤامرة 23 مارس، رفض حافظ الأسد لقاء عبد الرحمان اليوسفي الذي كان يزور دمشق لتفقد مقاومين مغاربة قدامى، ممن يتدربون في سوريا وقتها على حمل السلاح. تقول الوثيقة إن حافظ الأسد تم إخطاره بأن عبد الرحمان اليوسفي، المعارض لنظام الملك الحسن الثاني، يزور سوريا وسوف يلتقي بشخصيات مهمة من محيط حافظ الأسد، لكن الأمريكيين لم يوضحوا ما إن كان اليوسفي طلب لقاء الأسد، أم أن ديوانه فقط من اقترح عقد اللقاء.
ترجح الوثيقة أن يكون موقف عبد الرحمان اليوسفي من القذافي، وراء تجاهل حافظ الأسد لزيارة عبد الرحمان اليوسفي إلى سوريا. إذ كان عبد الرحمان اليوسفي يتحاشى لقاء القذافي الذي عرض على المعارضة المغربية وقتها، خصوصا تيار الفقيه البصري، مساعدات في مناسبات كثيرة.
اليوسفي والقذافي
الوثيقة نفسها تؤكد أن الملك الحسن الثاني عاد ليتصل مرة أخرى بعبد الرحمان اليوسفي، في نهاية السبعينيات وبداية التمانينيات، عندما كانت بوادر تحسن العلاقة بين القذافي والملك الحسن الثاني تلوح في الأفق، أي قبل اتفاق وجدة الذي حرص الملك الحسن الثاني شخصيا على أن يكون بعيدا عن أعين السفير الأمريكي. وثائق سابقة أكدت أن إدريس البصري مارس الحيلة لتضليل السفير الأمريكي، حيث نظم له حفلا حضره في الساعة نفسها التي توجه فيها الملك الحسن الثاني إلى وجدة للقاء القذافي وتوقيع الاتفاقية.
حدث هذا سنة 1984، في تطور مفاجئ للعلاقات بين البلدين بعد فترة طويلة من القطيعة والحرب الباردة والكلامية، وصولا إلى تورط ليبيا بالدليل في تمويل البوليساريو ومدها بالمال والسلاح دعما للانفصال.
تقول الوثيقة التي رفعت عنها الـ«CIA» السرية، إن عملاء وكالة المخابرات المركزية الأمريكية رصدوا اتصالا بين الملك الحسن الثاني وعبد الرحمان اليوسفي، قبيل الاتفاقية. حيث كان الملك الراحل الحسن الثاني يبحث عن أكبر قدر من الاستشارات لوضع الاحتمالات كاملة، وكان يحتاج إلى من يعرف حدود توقعات القذافي ومدى التزامه، فكان عبد الرحمان اليوسفي هو الشخصية السياسية التي تواصل معها الملك الراحل بهذا الصدد. لم تفصل الوثيقة في طريقة أو وسيلة تواصل الملك الراحل مع اليوسفي، الذي لم يتحدث أبدا عن هذه الواقعة ولم يذكر أي تفاصيل تتعلق بها قيد حياته. لكن المرجح أن تكون قد تمت بالطريقة نفسها التي استشاره فيها الملك الحسن الثاني بخصوص الجزائر. أي من خلال أحد المستشارين المقربين، والمرجح أن يكون هو رضا اكديرة الذي كان محاميا أيضا، أي زميلا لليوسفي.
ورغم أن اليوسفي لم تكن له علاقة وطيدة بالقذافي، إلا أنه كان على اطلاع بطبيعة العلاقة التي تربط القذافي بمعارضين مغاربة.
أحمد بلافريج.. «يحبه محمد الخامس» لكن أصدقاءه لم يثقوا به!
حاول عدد من الصحافيين أن يجروا حوارا مع الوزير الأول الأسبق أحمد بلافريج سنة 1958، وبالضبط في ماي من تلك السنة. لكن الملك الراحل الحسن الثاني، وكان وقتها وليا للعهد، فضل ألا يخرج الوزير الأول الذي خلف امبارك البكاي، أول وزير أول مغربي بعد الاستقلال، إلى الإعلام الدولي، خصوصا الصحافة الأمريكية التي كانت تواكب التجربة المغربية بعد الاستقلال. وعنونت مجلة «لايف» الشهيرة غلافها: «دولة جديدة ولدت في إفريقيا»، ووضعت خلف العنوان صورة كبيرة للملك الراحل محمد الخامس مع أعضاء الحكومة الأولى، التي ترأسها البكاي في دجنبر 1955. كان وقتها بلافريج وزيرا للخارجية، وبالكاد كتبت عنه مقالات بمعلومات رسمية، أشرف ولي العهد الأمير مولاي الحسن بنفسه على إخراجها للصحافة، الفرنسية على الخصوص.
أحمد بلافريج وزيرا للخارجية، ليس فقط لأنه درس في السوربون وتخصص في الأدب والعلوم السياسية، وليس فقط لأنه درس في القاهرة، قبل أن يتوجه إلى فرنسا وراكم صداقات مع سياسيين في البلدين، ولكن لأنه ذهب إلى نيويورك سنة 1952 ومثل المغرب أمام الأمم المتحدة.
كانت لديه تجربة في تمثيل المغرب بالخارج، وتم تعيينه وزيرا للخارجية، قبل حتى أن يتأسس الحقل الدبلوماسي وقبل تأسيس السفارات والتمثيليات الدبلوماسية للمغرب بالخارج.
لقد كان أحمد بلافريج طاقة حزبية كبيرة داخل حزب الاستقلال، ونسبت إليه المساهمة في تأسيس جريدة «العلم»، حيث كان خلال سنوات الثلاثينيات والأربعينيات نشيطا في كتابة المقالات، ووضع النقاط التأسيسية لعدد من القرارات التنظيمية. وكان أيضا من مهندسي وثيقة المطالبة بالاستقلال، التي صدرت سنة 1944.
تتضمن وثائق الـ«CIA» المسربة أخيرا، معلومة عن بلافريج، مفادها أن الملك الراحل محمد الخامس كان يحبه لأنه شاب متعلم، وخجول، ويحظى بثقة كبيرة داخل الحزب. لذلك فكر فيه الملك الراحل لحل الأزمة بين حزب الاستقلال والحكومة، التي كان يقودها امبارك البكاي. فعين وزيرا أول في ماي 1958، لكن حكومته نسفت بسرعة ولم يكتب لها أن تعيش إلا فترة قصيرة انتهت في دجنبر، أي نصف سنة فقط.
الـ«CIA» كانت تعلم جيدا من يكون أحمد بلافريج، وجمعت عنه معلومات، منذ منفاه في منتصف الأربعينيات في جزيرة كورسيكا، بسبب مواقفه المعارضة للحماية الفرنسية، بل وقبله عندما كان يصدر مجلة من سويسرا، ويحاول التعريف بالقضية المغربية في الأوساط الدولية. فعندما وصل أول مرة إلى نيويورك سنة 1952، كانت الـ«CIA» تعرف جيدا من يكون. وتقول الوثيقة التي بين أيدينا إن الأمريكيين راقبوا مكالماته الهاتفية في نيويورك، وكانوا يعرفون أنه صديق حميم لشخصيات عربية من مصر، وكان اتصاله بها من أجل التعريف بالقضية المغربية في الأمم المتحدة، وكسب تعاطف دول من شرق آسيا لدعم القضية المغربية.
«أحبه الملك الراحل محمد الخامس، لكن أصدقاءه تخلوا عنه»، جملة تقول كل شيء. هذه هي الخلاصة الأمريكية بخصوص الوزير الأول أحمد بلافريج، الذي كان رجل دولة بمواصفات لم تكن تتوفر لدى أعتى الأسماء التي رشحت قبله وبعده أيضا. فقد كان متعلما في الشرق وأوربا، ويتواصل بشكل جيد مع الأمريكيين، وراكم تجربة في التأليف وصياغة البلاغات التي تمتص الخصومات. وعندما وضعه الملك الراحل محمد الخامس على رأس الحكومة، كان يتوقع أن يدعمه أعضاء حزب الاستقلال، لكن العكس وقع. نُسفت الحكومة التي كان يقودها ووصفت بأنها حكومة القصر، لأن بلافريج كان دائم الحضور في مكتب الملك الراحل محمد الخامس.
النتيجة أن بلافريج أبعد تدريجيا عن قيادة حزب «الميزان»، واتهم علال الفاسي بإبعاده عن الحياة السياسية رغم الكفاءة الكبيرة التي كان يتوفر عليها كرجل دولة. فرغم أنه عاد إلى وزارة الخارجية، مباشرة بعد وضع استقالته من الوزارة الأولى، لأن الضغط كان عليه كبيرا وقاطعه وزراء من حزبه. وفي سنة 1963، أي بعد وفاة الملك محمد الخامس بسنتين، عينه الملك الحسن الثاني ممثلا شخصيا له في عدد من المهام خارج المغرب. ومع بداية السبعينيات اعتزل الحياة السياسية تماما، بسبب مشاكل صحية، خصوصا وأنه كان يقترب من السبعين، وكان مُبعدا تماما عن أي دور داخل الحزب. وهو ما يؤكد أن العبارة التي تضمنها تقرير الـ«CIA» عنه، لم تكن نابعة من فراغ.
علال الفاسي كان سببا في إقالة حكومة عبد الله إبراهيم!
هذا على الأقل ما تقوله استخبارات الـ«CIA» التي واكبت من خلال المعلومات التي حصلت عليها أولا بأول، أزمة حكومة عبد الله إبراهيم، منذ تعيينها في 16 دجنبر 1958. تقول الوثيقة التي رفعت عنها السرية والتي تعود لإدارة الـ«CIA»، إن علال الفاسي كان غاضبا من عبد الله إبراهيم، منذ اليوم الأول لتعيينه وزيرا أول من طرف الملك الراحل محمد الخامس، أملا من الأخير في احتواء أزمة الحكومة واعتراض وزراء حزب الاستقلال على عملية توزيع الحقائب الوزارية، ومطالبتهم في كل مرة بالمزيد من الحقائب والمسؤوليات.
يواصل تقرير الـ«CIA»، الذي يحمل ترقيم CIA-RDP79T975A، ليصف حالة الانقسام التي كان يعيشها حزب الاستقلال في أجواء تعيين حكومة عبد الله إبراهيم من طرف الملك الراحل محمد الخامس، والتي جاءت بعد حكومة بلافريج، الذي كان أيضا منتميا لحزب الاستقلال. لماذا تقول الاستخبارات الأمريكية إن علال الفاسي ساهم في إسقاط عبد الله إبراهيم، الذي كان استقلاليا وقتها. تفيد الوثيقة التي جاءت على شكل تقرير من 13 صفحة، بأن علال الفاسي لم يكن موافقا على رؤية عبد الله إبراهيم بخصوص النشاط النقابي. كان هناك تياران متجاذبان داخل نقابة الحزب، التي كان مهندسها هو المحجوب بن الصديق، وعندما وصل عبد الله إبراهيم إلى الوزارة الأولى، كان طبيعيا أن يدعم التيار الذي كان يرتاح له، أو يضم أصدقاءه بالأحرى، بينما كان لعلال الفاسي موقف آخر، تدخلت فيه بقوة علاقته بولي العهد.
تفيد الوثيقة أن علال الفاسي لم يستسغ تدخل قوات الأمن في 24 أبريل 1959، حيث أصيب 400 من أنصاره في الدار البيضاء بجروح وهم يحاولون حضور مؤتمر نقابي. وحمل عبد الله إبراهيم المسؤولية كاملة في ما وقع لهم.
تؤكد الوثيقة أيضا أن علال الفاسي ساهم في نسف حكومة عبد الله إبراهيم التي أقيلت سنة 1960، لتعين مكانها حكومة أخرى ترأسها الملك الراحل محمد الخامس شخصيا، وكان حضور ولي العهد في كواليسها قويا جدا.
فهل كان علال الفاسي قد أسدى خدمة العمر لمن كانوا يريدون نسف تجربة عبد الله إبراهيم، التي تناولتها دراسات سياسية وتاريخية عديدة، وقالت عنها إنها كانت تجربة إصلاحية حقيقية، ولكنها أجهضت؟
مرت سنوات طويلة جدا قبل أن ترفع السرية عن هذا التقرير، الذي بنته الولايات المتحدة الأمريكية على معطيات دقيقة حصلت عليها من خلال اجتماعات سرية وتنصتها على مكالمات هاتفية، وأيضا معلومات حصلت عليها من مقربين من الملك الراحل محمد الخامس وولي العهد. هذه المعلومة التي تقول إن علال الفاسي ساهم في نسف تجربة حكومة الوزير الأول عبد الله إبراهيم، لن تمر مرور الكرام بالتأكيد. فحتى مع انشقاق عبد الله إبراهيم رفقة محمد الفقيه البصري، عبد الرحمان اليوسفي، ليلحقوا بالمهدي بن بركة ويؤسسوا رفقة آخرين حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وهو سبب آخر أفقد عبد الله إبراهيم حظوظ استمراره في الحكومة، ما دام داعما لحزب معارض لم يحظ بأي قبول رسمي، خصوصا وأن مؤسسيه كانت لديهم قناعات يسارية لم يكن مرحبا بها وقتها.
عندما أصدر آيت إيدر مذكراته، تحدث عن أزمة حكومة 1958 و1960 وقال إن الملك الراحل محمد الخامس فاجأهم مرة عندما كانوا مجتمعين للبت في طريقة احتجاجية ضد الحكومة، وأخبرهم الأمير مولاي الحسن أن والده يعلم تفاصيل الاجتماعات التي كان يترأسها تارة علال الفاسي، وتارة أخرى المهدي بن بركة. وكانت تلك الاجتماعات تشهد تدخلات من الحضور، رغم أن عددهم كان محدودا جدا، إلا أنهم كانوا يعبرون صراحة عن نيتهم جر خيوط التحكم في الوزارات من القصر، وترك سلطة الملك محمد الخامس رمزية، والتضييق على أي حكومة يقوم بتعيينها ليتم إعفاؤها وتعيين أخرى.
لكن هذا التفصيل المهم الذي انفردت به وكالة الـ«CIA» الأمريكية، لا شك أنه يعري بعض الكواليس التي بقيت خفية، بل وسرية، لأزيد من ستة عقود من الزمن.
محمد بنهيمة وأحمد العراقي.. راقبهما عملاء أمريكيون لفهم شخصيتيهما
هنا رجلان جلسا على كرسي الوزارة الأولى بالتتابع. بنهيمة في صيف 1967، ثم أحمد العراقي في أكتوبر 1969.
كان المغرب يستعد للخروج من تبعات حالة الاستثناء التي فرضها الملك الحسن الثاني، مستعملا صلاحياته الدستورية لتعويض ضعف أداء الحكومة وانفجار البرلمان، بعد صراع كبير بين المعارضة الاتحادية، ووزراء حكومة باحنيني. خصوصا وأن اختفاء المهدي بن بركة كان نقطة نسفت أكثر من جلسة برلمانية، سيما جلسات توجيه الأسئلة إلى الوزراء. وصل الاتحاديون حد اتهام بعض وزراء الحكومة بالخيانة، وتزكية نفي الملك الراحل محمد الخامس.
جاء بنهيمة لتعويض حالة الاستثناء، ومباشرة إعادة الحياة إلى وزارات كثيرة. عُينت الحكومة من طرف الملك الراحل الحسن الثاني، لكن شكايات بخصوص تظلمات لرجال أعمال أمريكيين وصلت إلى الكونغرس الأمريكي ومنه إلى السفير الأمريكي في الرباط، كانت قد وجدت طريقها إلى مكتب بنهيمة، الذي تردد كثيرا قبل إثارة الموضوع لدى الملك الراحل. سيما وأن الشكاية، التي كانت شفهية في البداية، تضمنت أسماء وزراء مغاربة طالبوا مستثمرين أمريكيين ورجال أعمال بامتيازات. حتى أن تلك الطلبات كانت مكتوبة وموثقة، وهو ما جعل المغرب في وضع محرج.
كان عملاء الـ«CIA» في شمال إفريقيا يحتاجون إلى معرفة حدود صلاحيات وخبرات الوزير الأول الذي كان يقود الحكومة، لكن تلك التقارير جعلت الوزير الأول غير ذي أهمية. وهكذا لجأ بعض رجال الأعمال المعنيين بالموضوع إلى الجنرال المذبوح، الذي كان رجل ثقة الملك الحسن الثاني، وصديقا لسيناتور أمريكي، بالإضافة إلى أن الـ«CIA» كانت تعرف من يكون المذبوح جيدا، وكتبت عنه تقارير مطولة وصفته فيها بالنزيه الذي كان يكره المرتشين.
أثير الموضوع عند الملك الحسن الثاني بخطوة بادر إليها الجنرال، لكن الأمريكيين ظلوا يراقبون الوزير الأول عن كثب، لمعرفة تطورات الوضع داخل الحكومة.
ذهب بنهيمة، وجاء أحمد العراقي الذي كان عليه أن يعايش وضعية عسيرة لم تتكرر في أي حكومة أخرى. سياسي من حزب الاستقلال وصل إلى الوزارة الأولى، وخلال أشهر فقط اعتُقل وزراء من حكومته بتهمة الفساد. وجاء بعدها انقلاب الصخيرات في يوليوز 1971، لينتهي بعده عمر حكومته في غشت.
التقرير الذي تناول حكومتي بنهيمة والعراقي، في تسع صفحات، قدم خلاصة عن طبيعة اشتغال الرجلين في حكومتين جمعت بينهما الأزمة. لم يكن سهلا نهائيا الجلوس في كرسي غير مستقر نهائيا. فقد كانت قبلهما حالة الاستثناء سنة 1965، وانتهت الفترة المضطربة بانقلاب الصخيرات، حيث خطب الملك الحسن الثاني بعده بأيام، معلنا القيام بعدد من الإصلاحات، أولها إعادة الحياة إلى الحياة السياسية، ومباشرة إصلاحات كثيرة على مستوى الإدارة.
تقول الوثيقة إن السفارة الأمريكية في الرباط ترجمت أول خطاب ملكي، بعد انقلاب الصخيرات، وضمنته مع ترجمة دقيقة وشاملة لأول مؤتمر صحافي عقده الملك الحسن الثاني، حكى فيه للعالم تفاصيل المؤامرة على عرشه، واقتحام قصر الصخيرات الذي كان يحتفل فيه بعيد ميلاده.
وبخلاف التقارير المعروفة الـ«CIA» التي تناولناها سابقا، خصوصا التي رفعت عنها السرية سنة 2010، فإن الوثائق المتعلقة بحكومتي بنهيمة وأحمد العراقي، كانت بالأساس تحاول تسليط الضوء على الحياة السياسية، وربطها بالسياق العام الذي كان يمر به المغرب.
تحركات الوزير الأول كانت مراقبة خصوصا خلال السفريات والأنشطة بالخارج
ليس سرا أن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية كانت تتابع سفريات الوزير الأول المغربي لسنوات، خصوصا في ما يتعلق بالقضايا الحدودية والعلاقات مع الدول الجارة. فالمغرب كان دائما على صفيح ساخن بخصوص العلاقة مع الجزائر وموريتانيا، ليس فقط بشأن مسألة الصحراء المغربية، وإنما أيضا بخصوص قضايا تتعلق بالاقتصاد والتسلح.
هنا نورد مضمون وثيقة راقبت من خلالها المخابرات الأمريكية سفرا للوزير الأول أحمد عصمان، سنة 1979، إلى موريتانيا.
الوفد المغربي في مهمة موريتانيا كان مكونا من الوزير الأول أحمد عصمان ووزراء آخرين، استقلوا الطائرة في مهمة خاصة إلى نواكشوط لعقد مباحثات مع الجانب الموريتاني، وقد كانت وقتها مشكلة الصحراء المغربية على رأس اللائحة. وصف تقرير السفارة الذي كان مختوما بطابع السرية الحدث بأنه غاية في الأهمية، وأن الإعلام المغربي يتحدث عن الموضوع وقتها للمرة الأولى، منذ عقد الاتفاق رسميا مع الموريتانيين في ماي. (كان الاتفاق قد عقد في وقت سابق، بين الملك الحسن الثاني والرئيس الموريتاني ولد داداه، وكان الملك الحسن الثاني قد أرسل وزير الخارجية ليحضر اللقاء مع الرئيس الموريتاني، ويوقع الاتفاق الذي ينص على التعاون بين البلدين في قضايا مشتركة).
برز اسم إدريس البصري في هذا التقرير بالذات، وكان وقتها كاتب الدولة في وزارة الداخلية.
لا شك أن المقعد الذي جلس فيه إدريس البصري في تلك الطائرة الحكومية الصغيرة، لم يكن ينبئ بمستقبل كبير للرجل في أعلى السلطة، لكنه على الأقل، بمساره المتواضع جدا بل والمنعدم في المجال الدبلوماسي، كان أكثر الأسماء داخل الوفد إثارة للجدل.
حتى أن التعليق الذي أرفقه السفير الأمريكي في الرباط مع المراسلة السرية، لم يعر اهتماما لإدريس البصري وخصص كل ملاحظاته للسياق العام الذي أتت فيه الزيارة، دون أن يقلل من أهمية أحمد عصمان، الوزير الأول الذي كان صديقا مقربا جدا للملك الراحل، وصهرا له أيضا، وممثلا له في تلك المباحثات التي وصفت بـ«الأمنية» أمام الرئيس الموريتاني ولد داداه.
بالإضافة إلى وزير الخارجية وقتها أحمد العراقي، ووزير المالية عبد القادر بنسليمان والوزير أحمد التازي، ثم إدريس البصري، الكاتب العام لوزارة الداخلية، بالإضافة إلى المرافق الخاص للملك الحسن الثاني (هكذا وصفه التقرير) الكولونيل ماجور (لم يصبح جنرالا بعد وقتها) أحمد الدليمي، وممثل آخر عن المؤسسة العسكرية، ويتعلق الأمر بالكولونيل أشهبار، وبعض العسكريين من مرافقي الدليمي.
لقد كانت هذه البعثة المغربية إلى الموريتانيين واضحة التوجهات، بدون الرجوع إلى جدول النقاط، إذ يكفي تفرس لائحة الأسماء لمعرفة التوجه العام للنقاش السري، الذي دار بين الوزير الأول أحمد عصمان والرئيس الموريتاني ولد داداه.
لماذا إذن كان إدريس البصري موفدا عن وزارة الداخلية، وليس وزير الداخلية بنفسه؟ لقد كان اسم البصري وقتها يُصنع على مهل، رغم أنه كان يرفض قيد حياته أن يوصف بأنه تعلم أصول المحادثات من أحد، فقد كان يصر دائما على أنه رجل الدولة الذي تجاوز الجميع ليمسك بخيوط «أم الوزارات». لكن هل كان الأمريكيون يعلمون أن إدريس البصري كان يتم إعداده ليصبح «الوزير» الذي عرفناه؟ إلى حدود 1977 لم يكن البصري مهما بالنسبة إلى الأمريكيين.
المثير أن القصاصة الرسمية لم تكن تتضمن اسم إدريس البصري، الذي سيتعرف عليه الأمريكيون أكثر بعد سنة 1979. حيث إن الوزير الأول أحمد عصمان، كان آخر وزير أول يجلس في كرسي الوزارة الأولى، دون أن تسرق منه أضواء الحكومة إلى وزارة الداخلية.
كان أحمد عصمان بالإضافة إلى أنه صهر الملك الراحل الحسن الثاني، صديقا له منذ مراحل الدراسة المبكرة في المدرسة المولوية، وهو ما جعل اسمه على قائمة الأسماء التي تناولتها تقارير الـ«CIA» الأمريكية، سيما وأنه كان ممثلا للملك الحسن الثاني في عدد من المهام الدبلوماسية خارج المغرب، وهو ما جعل أعين السفارة الأمريكية في الرباط تتركز عليه، بالإضافة إلى الأعين الأخرى الخفية التي كانت مهمتها الإحاطة بأكبر قدر من المعلومات عن الجالسين في كرسي الوزارة.