«في سنة 2012، صدرت رواية تحمل عنوان «زوجة السلطان». العنوان بقدر ما كان مثيرا، بقدر ما كان واعدا، خصوصا للباحثين في مجال التاريخ وعالم الحريم السلطاني الغامض. الرواية تمزج بين المعلومة التاريخية وخيال الكاتبة «جاين جونسون»، حيث تتناول الجانب العاطفي من حياة هذا السلطان العلوي، الذي دخل التاريخ من أوسع أبوابه عندما عقد اتفاقيات مع مملكات أوربية عريقة، على رأسها بريطانيا وفرنسا، اللتان كانتا في تلك الفترة تسعيان إلى إبرام اتفاقيات هدنة وتجارة مع المغرب.
أما الزوجة التي جعلت منها الكاتبة بطلة الرواية، فقد كانت قصتها مؤثرة، إذ جعلتها مجبرة على اعتناق الإسلام لكي يرضى عنها السلطان. وتدور الأحداث خلال فترة أشغال بناء سور مدينة مكناس التاريخي، الذي نسجت عنه أساطير كثيرة أهمها أنه يضم رفات آلاف العمال، الذين كانوا يتوقفون عن العمل بسبب التعب أو المرض، فتتم معاقبتهم بدفنهم في التراب الذي يبنى به أساس السور التاريخي.
هناك أيضا قصص مغربيات أصبحن بطلات لأعمال أجنبية ومذكرات أوصلتهن إلى العالمية.. وهذه إحدى أكثر قصصهن إثارة وسرية».
كتاب عن ثريا الشاوي بعيون أصدقائها.. مشروع لم ير النور
بما أننا سوف نتحدث هنا عن مغربيات من الأزمنة الغابرة، وصلن إلى العالمية من خلال الأعمال الأدبية والنشر، لا بأس أن نتحدث عن مشروع كتاب أقبر في مهده عن حياة ثريا الشاوي، كان فرنسيون مقيمون في المغرب، بالضبط في الدار البيضاء، ينوون إصداره عن حياة الشابة المغربية التي ماتت بطريقة غامضة، مباشرة بعد استقلال المغرب.
في ربيع سنة 1959، وأصدقاؤها يحاولون إحياء ذكرى وفاتها الثالثة، طرحت فكرة تأليف كتاب بالفرنسية، يتناول شهادات في حق ثريا الشاوي، سواء خلال مرحلة طفولتها أو خلال مرحلة شغفها الكبير بالطيران وترددها على مدرسة تيط مليل، لتعلم أولى خطوات التحليق بالطائرات الصغيرة.
كان جل أصدقائها فرنسيين بحكم المكانة الاجتماعية لأسرتها في ذلك الوقت. إذ كان معظم أصدقاء العائلة العصرية من المقيمين الفرنسيين في المغرب، من بينهم أطباء ونقاد وأدباء ورجال أعمال اختاروا الإقامة في المغرب بعيدا عن ضجيج الحياة المتسارعة في فرنسا.
كانت ثريا الشاوي على علاقة طيبة مع عدد من الفرنسيين في الدار البيضاء والرباط، وهؤلاء حاولوا تخليد ذكراها، لكن المشروع أقبر في حينه. وحسب مصدر لـ«تيلي ماروك» فإن السبب كان غير معروف، لكن أصدقاءها توصلوا بأخبار تؤكد أن تيارا داخل حزب الاستقلال وقتها، كان وراء المنع وبشدة.
كان ممكنا نشر الكتاب في فرنسا، لتعريف الرأي العام الفرنسي بقصة ثريا الشاوي التي تصنف اليوم أول سيدة عربية مارست الطيران واستطاعت فعلا التحليق بطائرة، وحصلت على رخصة طيران بعد تكوين احترافي، لكن المشروع لم يكتب له أن يصدر في فرنسا لأسباب مجهولة.
خطفت ثريا الشاوي الأضواء حية وميتة، وربما كان ذلك مصدر إزعاج لعدد من القيادات التي كانت تريد التحكم في المشهد العام. الكتاب، لو صدر في تلك السنة، أي 1959، لربما كان اليوم وثيقة تاريخية نادرة وغاية في الأهمية، وربما تعرف الأجيال الجديدة ملامح واضحة لشخصية ثريا الشاوي، المرأة التي خلدت اسمها مرتين، مرة في السماء وأخرى فوق الأرض.
لو أن مشروع الكتاب خرج إلى الوجود لكانت ثريا الشاوي على لائحة المغربيات اللواتي أوصلتهن الكتابات إلى العالمية، لكنها وصلت إليها على كل حال بفضل قصتها التي تمزج بين الألم والنجاح، والنهاية غير المتوقعة.
في هذا الملف، قصص مغربيات أخريات أصبحن مواضيع كتابات، روايات، ومذكرات لشخصيات أجنبية عن المغرب، بفضلها وصلن إلى العالمية قبل حتى أن يحل زمن التلفزيون والصورة.
«بيضاويات» في مذكرات مغامر آسيوي خلال الحرب العالمية الثانية
نشر مغامر من شرق آسيا، صور نساء من الدار البيضاء، بالضبط من حي بوسبير، في كتاب مصور أصدره في بداية الخمسينيات عن رحلته حول العالم، خلال الحرب العالمية الثانية. «وينهو مينه» اسم هذا المغامر الذي زار أزيد من ثلاثين بلدا خلال الحرب العالمية الثانية، وتوقف في الدار البيضاء لأسابيع زار خلالها مجمل المناطق الفرنسية. كما زار حي «بوسبير» حيث كانت تنتشر منازل تعيش داخلها مغربيات مغلوبات على أمرهن، تم إجبارهن على ممارسة الدعارة لتلبية رغبات الجنود الفرنسيين وجنود من جنسيات أخرى، جاؤوا لدعم الجيش الفرنسي وأقاموا في ثكنات مدينة الدار البيضاء، في انتظار نقلهم بحرا نحو مناطق أخرى للمشاركة في الحرب العالمية الثانية.
ورغم أن هذا المغامر لم يذكر أيا منهن باسمها، إلا أن الاستطلاع المصور الذي قام بإعداده عن زيارته إلى الدار البيضاء، لقي إقبالا كبيرا، حيث أثارت الصور فضول المتابعين، لمعرفة حقيقة الحياة التي يعشنها داخل تلك المنازل الصفيحية الصغيرة.
قصتهن الإنسانية خلدت بفضل استطلاع هذا المصور الآسيوي، الذي وثق خلال رحلته لعشرات القصص الإنسانية من مختلف أنحاء العالم. لكن أقواها على الإطلاق كانت قصص النساء المغربيات اللواتي ظهرن ضاحكات في الصور، وكأنهن يعشن حياة بعيدة تماما عن تعاسة الأجواء التي فرضتها الحرب العالمية الثانية على العالم.
سبق لصحافيين أجانب زاروا المغرب خلال تغطية الإنزال الأمريكي في الدار البيضاء والجديدة سنة 1943، أن نقلوا أجواء من قلب الأحياء الشعبية المغربية، وكيف واكب سكانها البسطاء حدثا دوليا كبيرا بحجم قرار أمريكا المشاركة في الحرب، ونشر قواتها من المغرب لتتحرك صوب الخطوط الأمامية للحرب في أوربا.
هؤلاء الصحافيون بقدر ما اهتموا بتفاصيل تقنية عن الحرب، اهتموا أيضا بالقصص الإنسانية الكامنة على خلفية تلك الأحداث. ومن بين أهم القصص التي تم التوثيق لها، ما نقلته مجلة «لايف» الأمريكية، عن المغاربة جيران القاعدة الأمريكية في القنيطرة، وعن النساء المغربيات البسيطات والفلاحات اللواتي أعجبن بالنموذج الأمريكي، وصرن يفضلن المنتجات الأمريكية التي يوزعها الجنود عليهن وعلى الأطفال مجانا.
هذه النقطة جعلت شعبية الأمريكيين تصبح كبيرة في أحياء مدينة القنيطرة، خلال الأربعينيات. وقد نشرت مجلة «لايف» آراء الشارع المغربي بخصوص وجود جنود أمريكيين بينهم حتى بعد انتهاء الحرب سنة 1945، وكان موضوع النساء المغربيات اللواتي تحدثت إليهن المجلة مثيرا لاهتمام الأمريكيات على وجه الخصوص.
ليست هذه المرة الأولى التي تحظى فيها المغربيات بالصدارة في المواد الإعلامية الغربية، إذ إن حياة المغاربة ظلت مثار فضول المتابعين في الغرب، خصوصا أن الصورة النمطية التي تم تكريسها عن المغربيات كانت تختزل قصصهن في الغموض الكامن خلال الأسوار الشاهقة للمنازل، والوجوه المغطاة بإحكام حتى لا تظهر ملامحهن إلى العالم.
«سيدة» أكرمت أسيرا فرنسيا بالمغرب فأصبحت بطلة مذكراته
«جاء ثلاثة من سادتي الذين لم يكونوا يملكون مني سوى النصف، ليروني حالا. يسمى أكبرهم محمد المراكشي، وكان يستأجر غابات الملك. ويسمى الثاني محمد البيوس، تاجر في الصوف والزيت، وهو رجل طيب كما عرفته في ما بعد. أما الثالث فكان يهوديا واسمه ربي يمين. فاشتروا لي بعض الأسمال، ثم ذهب بي المراكشي إلى منزله ليقدمني إلى زوجته. فأحضرت إلي على الفور خبزا أبيض وسمنا وعسلا وقليلا من التمر والعنب. وهي تقول: «كل، كل». وبما أنني كنت جائعا لم آكل بعد، فسرعان ما أتيت على جميع ما قدمت لي. وأرادت أن تزيدني، عندما رأت أنني أكلت كل شيء، لكنني أشرت إليها برفع قبعتي، أنني اكتفيت..
(..) في اليوم الموالي وضعوني بين يدي محمد اليبوس، فأخذني هذا الأخير معه إلى منزله. حيث وجدت حماته وزوجته اللتين كانتا أندلسيتين، فأخذتا ترثيان لتعاستي. وأطعمتاني جيدا، ثم أعطتاني كيس قمح لطحنه في طاحونة يدوية كانت في مطبخهما. ذلك هو العمل العادي الأكثر بالنسبة إلى الأسرى الموجودين في المراسي البحرية، لعدم وجود طاحونات أخرى. إن هذه الحرفة القاسية تتطلب مجهودات كبيرة. وبما أنني لم يسبق لي أن عملت، فقد أخذ ذلك يزعجني منذ الحين الذي استخدمت فيه. وجعلت أنجز العمل وأصنع لهما دقيقا غليظا لا يمكن عجنه. فاضطرت سيدتي إلى أن تسلم إلي طفلا صغيرا لها لأتجول به عبر المدينة. وقد ألفني بحيث لم يعد يريد الذهاب مع الآخرين، ولا أن يضطجع إلا بجانبي. وسيدتي التي كانت شابة جميلة جدا تتكلم الإسبانية بطلاقة. عندما رأت ما يكنه لي ابنها من محبة، رخصت لي في أن أذهب به أينما شئت. وكانت تمتعني بخبز السميد الأبيض. وأزاحت عني سلسلة كانت تزن خمسة وعشرين رطلا كان زوجها قد أغلني بها، وكانت تناشدني تحمل أسري بصبر، وحمتني من ضرب زوجها وسبابه، وطلبت مني مرارا أن أسلم لتبرهن لي أكثر عن محبتها، وتزوجني من إحدى بنات أخيها».
لم تكن هذه سوى البداية. المقتطف هنا من الترجمة العربية المنشورة لمذكرات الأسير الفرنسي «موييط»، الذي عاش في المغرب خلال القرن 17، بعد أن تم احتجاز السفينة التي كان فيها رفقة علية القوم الفرنسيين، ليحل بين مدينتي فاس ومكناس في أيام المولى إسماعيل. السيدة التي تحدث عنها، خصص لها مقاطع كثيرة في مذكراته التي تناول فيها تفاصيل أيامه في الأسر والأشغال الشاقة التي عانى معها كثيرا، قبل أن يتم فك أسره ليعود إلى فرنسا ويكتب هذه المذكرات.
المثير أن السيدة التي قال إنها تعاملت معه بلطف، حكى عنها كثيرا وأصبحت بطلة في عيون الفرنسيين، الذين قرؤوا تلك المذكرات قبل قرابة 400 سنة من اليوم. هذه البطلة المغربية التي ظهر أنها لم تكن متحمسة لتعذيب الأسرى غير المسلمين، وأعطت للجميع درسا في الإنسانية، كانت صورتها في الحقيقة تصحيحا للتصور النمطي عن المغرب، سيما أن الأسير «موييط» وصف جمالها مرات كثيرة وجعل قراء مذكراته يقعون في حبها.
«زوجة السلطان».. رواية عن الحياة بقصور المولى إسماعيل
«جاين جونسون» هو اسم كاتبة الرواية التي تحكي عن سيدة إنجليزية اسمها «آليس»، كان قدرها أن تأتي إلى المغرب أسيرة حرب، ليلفت جمالها السلطان المولى إسماعيل ويتزوجها، بعد أن تعتنق الإسلام وتعيش مغامرات كثيرة، لكي تدافع عن قدرها وتحاول الانعتاق من وضع «العبودية» المغلف بالزواج.
الرواية صدرت سنة 2012، واعتبرت أحد أهم الأعمال المتخيلة التي تركز على حقبة سوداء من تاريخ منطقة أوربا وشمال إفريقيا.
تدور أحداث الرواية في سنة 1677، وتسلط الضوء على حقيقة تاريخية تتعلق بنجاح المولى إسماعيل في الضرب بيد من حديد على الغزو الأوربي للمغرب وإيقافه.
إذ إن هذا السلطان المغربي القوي، كان من القلائل في العالم الذين استطاعوا الانتصار على الجيوش الإسبانية والبرتغالية، بل وأخذ آلاف الأسرى منهم والمفاوضة بهم لاحقا على اتفاقيات هدنة مع أوربا.
تحاول الرواية تصوير عالم المولى إسماعيل، الذي لا يعرف المغاربة اليوم عنه سوى القليل. إذ إن هذا السلطان الذي بنى مدينة مكناس، ووضع أسس «المخزن» المغربي وجمع القبائل المتنافرة تحت راية واحدة، وأسس أحد أقوى الجيوش في القارة الإفريقية، نظر إليه الأوربيون على أنه دموي لم يكن يعرف سوى أسر الأوربيين وتعذيبهم. في حين أن الرواية تتناول الجانب العاطفي من حياة هذا السلطان العلوي، الذي دخل التاريخ من أوسع أبوابه، عندما عقد اتفاقيات مع مملكات أوربية عريقة على رأسها بريطانيا وفرنسا، اللتان كانتا في تلك الفترة تسعيان إلى إبرام اتفاقيات هدنة وتجارة مع المغرب.
أما الزوجة التي جعلت منها الكاتبة بطلة الرواية، فقد كانت قصتها مؤثرة، إذ جعلتها مجبرة على اعتناق الإسلام لكي يرضى عنها السلطان. وتدور الأحداث خلال فترة أشغال بناء سور مدينة مكناس التاريخي، الذي نسجت عنه أساطير كثيرة أهمها أنه يضم رفات آلاف العمال الذين كانوا يتوقفون عن العمل بسبب التعب أو المرض، فتتم معاقبتهم بدفنهم في التراب الذي يبنى به أساس السور التاريخي. امتدت تلك الأشغال لسنوات كان خلالها المولى إسماعيل منشغلا كثيرا بتثبيت حكمه، لكنه لم يكن منشغلا عن حياته الخاصة وتكوين أسرة كبيرة، حيث يصنف هذا السلطان العلوي تاريخيا واحدا من أكثر الرجال إنجابا في تاريخ البشرية، وتحدثت بعض الدراسات التاريخية الأجنبية عن كونه أنجب أزيد من ألف ابن، طيلة حياته التي تزوج خلالها نساء كثيرات.
كانت بطلة الرواية إذن إحدى الأسيرات اللواتي تم تخييرهن بين اعتناق الإسلام والحصول على الحرية، أو البقاء على المسيحية والمعاناة مع الأشغال الشاقة، التي تفضي في حالات كثيرة إلى الموت تحت الركام.
اختارت «آليس» اعتناق الإسلام لكي تنجو بحياتها، وتحكي الرواية عن علاقتها بأحد أعوان السلطان المشرفين على الحريم، لكي تذعن لرغبات السلطان وتتخلى عن طباعها الحادة والمتمردة، لكي تصبح سيدة القصر بلا منازع. انتهت الرواية بشكل مأساوي، بحكم أن حياة الكثيرين خلال تلك الفترة انتهت بتلك الطريقة. كانت مهمة الوسيط بين السلطان المولى إسماعيل و«آليس» عسيرة. إما أن يقنع الأسيرة باعتناق الإسلام والزواج من السلطان، وإما أن يموتا معا بسبب فشله في إقناعها. وكان على «آليس» أن تلجأ إلى المراوغة لكي تصبح قصتها أكثر إثارة.
أهم ما في الرواية أنها سلطت الضوء على أجواء القرون الأربعة الماضية، وأهم الأحداث التي ميزت فترة حكم المولى إسماعيل، الذي كان أحد أقوى الملوك في تاريخ شمال إفريقيا والشرق الأوسط.
«الجبلية» التي كتب عنها السفير الأمريكي وبحثت الصحافة عن صورتها
في سنة 1909 نشر القنصل الأمريكي جورج إدمون هولت مذكراته في نيويورك الأمريكية. ومن بين ما تطرق إليه في مذكراته التي أقامت وقتها الدنيا ولم تقعدها، قصص مغربيات التقاهن خلال مقامه في المغرب، أو سمع عن قصصهن الكثيرة.
القصة الأكثر تأثيرا في مذكرات القنصل الأمريكي الأول في مدينة طنجة، كانت لسيدة حظيت بشهرة كبيرة في طنجة، لأنها التقت المولى عبد العزيز، أياما قبل مغادرته المغرب تاركا خلفه العرش والبلاد.
سبق لنا في «الأخبار» أن نشرنا بعض مضامين مذكرات «هولت»، في إطار سلسلة من ترجمات لكتابات نادرة عن المغرب.
هذه هي الحكاية كما نقلها القنصل الأمريكي السابق في طنجة: «انتشر خبر بين المغاربة يتعلق بقصة عاشها المولى عبد العزيز. عندما كان يعيش في منطقة جبل الكبير في انتظار أن تنتهي أشغال بناء إقامته الجديدة في طنجة، كان في أحد الأيام يتمشى في محيط المنزل الذي خصص له هناك، عندما مرت سيدة مسنة قربه، كانت تحمل أكواما من حطب التدفئة فوق ظهرها المعوج. وعندما وصلت إلى المكان الذي كان يقف فيه، رمت الثقل الذي كانت تحمله على ظهرها، لتستريح. وبدأت تتحدث معه دون أن تتعرف على هويته الحقيقية:
- «اشهد يا سيدي. اشهد على نتيجة أن يكون حكام البلاد حمقى. في الأيام القديمة، في عهد المولى الحسن كانت حزمة الأعواد هذه، تبلغ خمسة ريالات في السوق، وتكفيني لأعيل أبنائي لأيام. الآن لا تتجاوز قيمتها أربعة ريالات، ولا تكفي لشيء. يا إلهي، تغيرت الدنيا كثيرا، والمولى عبد العزيز الذي لم أعد أذكره، غير حياتنا جميعا. أتمنى الآن، مع السلطان الجديد، أن يعود ثمن الحطب إلى سابق عهده. وهذا ما أشك فيه».
- سألها السلطان المعزول: «هل كنت تحملين هذا الحطب من مسافة بعيدة؟».
-«نعم. استغرقني الأمر خمس ساعات، منذ شروق الشمس. عندما كنت شابة، وكان مولاي الحسن سلطانا، كنت أقطع المسافة في أربع ساعات فقط. «أويلي».. الزمان تغير كثيرا».
كان المولى عبد العزيز يضحك. أخرج من «شكارته» قطعة نقدية ومنحها للسيدة قائلا:
- «يا أماه. ضعي حملك على جانب الطريق، وسيقوم الخدم بنقلها من أجلك. لقد اشتريتها منك. وهذه القطعة النقدية تفوق قيمة الأعواد. اذهبي الآن إلى منزلك واستريحي».
ردت السيدة:
-«الراحة؟ أية راحة مع هؤلاء الذين يغيرون ثمن الحطب باستمرار. من يدري، لكن أيام المولى عبد الحفيظ لن تكون أسوأ من أيام المولى عبد العزيز. لكن أشكرك يا سيدي على شرائك للأعواد. وأتمنى ألا يجعلك الله تعاني بين يدي الحُكام».
لم تكد تتحرك من مكانها، بمسافة قصيرة، حتى صادفت أحد العبيد قادما في اتجاه السلطان، وعندما تواجهت معه في الطريق، سألته من يكون سيده الذي أكرمها واشترى منها الأعواد بثمن كبير؟
رد عليها العبد:
- «أيتها الحمقاء. ألا تعلمين أنك كنت تتحدثين مع سيدنا المولى عبد العزيز؟».
- «أويلي».. «أويلي». بدأت المرأة في البكاء. وفجأة غيرت اتجاهها وجاءت تجري في اتجاه المولى عبد العزيز، وسقطت أمامه أرضا تطلب منه الصفح ولتقول له إنها مجرد حمقاء. وطلبت منه ألا يزعج نفسه بقضية الحطب لأنها لا تستحق، وأن عمر البلاد أصبح قصيرا مع سلطان جديد.
ابتسم المولى عبد العزيز ورد عليها:
- «يا أماه، الكلام الذي قلتيه يحمل حقيقة صادقة. هناك فرق بسيط جدا بين أحمق لا يعرف السلطان، وبين سلطان لا يعرف ربه.
وعندما يأتي الأمر إلى الأعواد، فإنها تساوي دائما أقل مما يقدر السلطان على دفعه. لذلك، لا تزعجي نفسك».
عادت العجوز إلى طريقها، وهي تجهر بأدعية لإطالة عمر السلطان وحمايته».
يقول هولت إن هذه القصة كانت متداولة بين الطنجاويين، في الأيام التي كان فيها المولى عبد العزيز مقيما بينهم. ربما كان الوضع مختلفا في مدن أخرى، كان حكامها غاضبين من سياسة المولى عبد العزيز، وربما لما تجرأ أحد على حكاية هذه القصة وسط تلك المدن، لأن مشاكل المغرب كلها كانت معلقة في اسم المولى عبد العزيز.
المثير في هذه القصة الاستثنائية أن مجلة نسائية في الولايات المتحدة رغبت في لقاء السيدة لنقل قصتها، خصوصا أن القنصل الأمريكي تحدث عن الظروف الصعبة التي تعيش فيها نساء المناطق المحيطة بطنجة. لكن البحث عنها كان أشبه فعلا بالبحث عن إبرة في كومة قش.
زوجة الباشا التي رغب روائي أمريكي في محاورتها ورفض طلبه
في سنة 1944، زار عدد من الأمريكيين منزل الباشا الكلاوي لإحياء احتفالات رأس السنة الميلادية، في قصره بمدينة مراكش.
أحد الحاضرين لم يكن سوى كاتب شاب، عمل لاحقا أستاذا جامعيا اهتم بتاريخ الشعوب، اسمه «آندرو شانون». كان لقاء الباشا الكلاوي بالنسبة إليه فرصة لكي يسأل عن حقيقة الإشاعات التي سرت بين الأمريكيين، بخصوص زوجات الباشا. إذ رغم الود الكبير الذي كان بين الكلاوي وعدد من العسكريين الأمريكيين في القاعدة الأمريكية بالقنيطرة، إلا أنهم كانوا يتداولون بينهم حكايات عن ثروته الضخمة وزوجاته، وطريقته في تأديب الخدم والحشم.
كان «آندرو» في الثالثة والثلاثين من عمره عندما زار إقامة الباشا الكلاوي، ولم يصبح أستاذا محاضرا بعد، لذلك رغب في الحديث مع الباشا عن زوجته الإفريقية التي يقال إنه جاء بها من «تمبوكتو»، لكي تكون بطلة إحدى الروايات التي يعمل على تأليفها. لكنه تلقى نصيحة من بعض العسكريين الأمريكيين، لكي لا يثير الموضوع، لأن مسألة زوجات الباشا تبقى أمرا شخصيا لا يحب الخوض فيه مع الأجانب ولا حتى مع الأصدقاء، لأنه يتعلق بالكرامة قبل أن يكون مرتبطا بالخصوصية.
قام الدكتور «آندرو» سنة 1954 بإصدار روايته في الولايات المتحدة، لكنه لم يطبع غير طبعة واحدة من آلاف النسخ، لكن أرشيف جامعة كاليفورنيا يحفظ نسخة منها للتاريخ. وبطلة تلك الرواية كان اسمها «الأميرة الحرة»، وقد كتب في تقديم الرواية أن تلك الشخصية ألهمته حكايات من المغرب لكي يكتب عنها رواية عندما زار قصر الباشا الكلاوي وسمع من معارفه وسكان مدينة مراكش حكايات لا حصر لها عن «الحريم».
تدور أحداث الرواية داخل قصر لأحد الأثرياء، وربما يكون ذلك إشارة غير مباشرة إلى الباشا الكلاوي، الذي لم يكن في الحقيقة محور الرواية. وإنما زوجته هي التي كانت بطلة الرواية. إذ يحكي الدكتور «آندرو» عن سيدة جميلة تم اختطافها من قبيلتها في السهول الإفريقية ليتم تهجيرها سرا، وكان عليها أن تنجو من الاغتصاب وتقطع الصحراء مع قوافل تجارة الملح، لكي تصل إلى مراكش بعد أشهر من المعاناة في الصحراء مع العطش.
ثم تغيرت حياتها عندما رآها أثرى رجل في مراكش، لكي يضمها إلى حريمه وتصبح بعد ذلك سيدة القصر الأولى التي لا يرفض لها طلب، لكنها في الوقت نفسه تعاني كثيرا لكي تحافظ على مكانتها الاجتماعية، وانتهت قصتها بالموت في سبيل بقاء زوجها على رأس قائمة الأثرياء والزعماء.
هذه النهاية التراجيدية كانت تشبه كثيرا قصة السيدة التي كانت تتزعم جناح حريم الباشا الكلاوي. فقد سرت إشاعات كثيرة بشأنها، لكن أهم ما قيل عنها إنها كانت جليسة مفضلة لزوجات الملوك العلويين، خصوصا والدة الملك الراحل محمد الخامس وزوجته أيضا، كما أنها كانت معروفة بأنها موطن الثقة الكبرى للباشا الكلاوي، وهي المرتبة التي لم تصل إليها أبدا أي من زوجاته.