على إيقاع المد والجزر، تعيش العلاقات المغربية- الليبية يومياتها، فالغيوم ظلت تلبد سماء البلدين منذ أن حكم ليبيا الملك إدريس السنوسي، الذي لم تشفع له أصول أجداده المغربية لضمان علاقة ود دائم ما بين طرابلس والرباط.
لقد غضب الملك محمد الخامس، وهو في منفاه من ملك ليبيا، بعدما نشرت صحف فرنسية صور السنوسي وهو يحل بالمغرب قادما من رحلة علاج في أوربا، حيث أصر على زيارة قبر جده في زرهون، قبل أن يرتب له الفرنسيون لقاء مع محمد بن عرفة حين زار هذا الأخير الفندق الذي كان يقيم فيه ملك ليبيا. ورغم حصول المغرب على استقلاله، ظل الصقيع جاثما على العلاقات بين الملكين، حتى أن محمد الخامس لم يرد على تهنئة حصول المغرب على استقلاله إلا بعد مضي ستة أشهر.
عندما كانت العلاقات بين البلدين في مرحلة الترويض الطبي، حصل انقلاب عسكري حمل إلى سدة الحكم العقيد معمر القذافي، وتبين أن المغرب سيعيش مع الزعيم الجديد أوقاتا عصيبة وهو ما حدث، إذ انقطع حبل الود بين الرباط وطرابلس، سيما بعدما أعلن العقيد نفسه راعيا رسميا لانفصاليي البوليساريو، لكن الدفء تسرب لخطوط التوتر في الفترة الممتدة بين 1984 و1986، حيث تم توقيع اتفاقية تعاون بين المغرب وليبيا، في مرحلة كانت تدعم فيها هذه الأخيرة جبهة البوليساريو في حربها ضد المغرب، أو ما عرف بمعاهدة وجدة، وهي المعاهدة التي جف مدادها بعد عامين، مباشرة بعد زيارة رئيس الحكومة الإسرائيلية شمعون بيريز للمغرب.
انتهى القذافي جثة هامدة في المجاري، دون أن ينتهي الصراع على السلطة، فيما تحول المغرب إلى راع لمبادرات جمع الشمل ووقف الاحتقان الذي عمر طويلا.
في هذا الملف، سنسلط الضوء على شخصيات ليبية مؤثرة سجلت حضورها في المحيط الملكي، منهم مبعوثون من طرابلس ومنهم لاجئون اختاروا المغرب مستقرا لهم.
محمد الصيد يذوب الخلاف بين الملك السنوسي والرباط
يعتبر محمد عثمان الصيد مهندس أول دستور ليبي، فقد شغل عددا من المناصب المؤثرة في عهد الملك إدريس السنوسي الذي حكم ليبيا منذ استقلالها إلى أن انقلب عليه معمر القذافي سنة 1969، لينتهي به المطاف مقيما في المغرب.
عمل الرجل على تذويب جليد الخلاف بين ملكي البلدين: محمد الخامس وإدريس السنوسي، خاصة بعد غضبة العاهل المغربي، وهو في منفى مدغشقر، من صورة لقاء جمع في فرنسا بن عرفة البديل الذي فوضته فرنسا على الشأن السياسي المغربي بعد نفي السلطان الشرعي، وإدريس السنوسي ملك ليبيا، بل إن هذا الأخير كان قد أرسل تهنئة إلى محمد الخامس بعد استقلال المغرب دون أن يتلقى الرد من الرباط في حينه.
في «مذكرات من تاريخ ليبيا»، التي هي عبارة عن سلسلة حوارات مع الصحافي طلحة جبريل على صحيفة "الشرق الأوسط"، يقدم الوزير الأول السابق للمملكة الليبية الرواية الصحيحة للخلاف بين الملك السنوسي ومحمد الخامس، ويؤكد أن فرنسا ورطت إدريس في لقاء لم يكن يعتقد أن تداعياته ستكون بهذا الحجم.
ارتبط محمد عثمان الصيد بعلاقات متينة مع ملك المغرب الراحل الحسن الثاني، حيث قضى سنوات منفاه بالرباط، ولعب في أكثر من مرة دورا مهما في تطبيع العلاقات المغربية- الليبية على الرغم من مواقفه المناوئة لسياسات بلاده.
في مذكراته يتحدث الصيد عن الغيوم التي عكرت صفو العلاقات بين البلدين ودوره في إزالتها. بل إن زيارة وفد ليبي رفيع المستوى لحضور مراسيم دفن الملك محمد الخامس، لم تكن كافية لرأب الصدع، ليستمر برود العلاقات بين البلدين بعد ذلك إلى أواخر يوليوز من سنة 1962، وحين قرر الملك الحسن الثاني التوقف في طرابلس أثناء رحلة كانت تقوده من الرباط إلى القاهرة، لحضور مؤتمر قمة إفريقي، خصص الملك الليبي استقبالا كبيرا للعاهل المغربي الشاب. «كنت في استقباله ورافقته في سيارة إلى قصر «الخلد» في طرابلس لينال قسطا من الراحة. وعلى متن السيارة نسجت علاقة شخصية، تطورت مع مرور الأيام إلى زيارتي كرئيس للحكومة الليبية إلى المغرب، وقمت بمحاولات لوضع قطيعة مع التوتر بين المملكتين».
لكن بعد إعفاء الصيد من رئاسة الحكومة الليبية سنة 1963، عادت الأمور إلى سابق عهدها، ولم تعد ليبيا مهتمة بتطوير علاقاتها مع المغرب، ولم يعد الحسن الثاني بدوره مكترثا بالعلاقة مع طرابلس، خصوصا مع الظروف السياسية الصعبة التي كان يعيشها المغرب.
قضى الصيد ما تبقى من العمر في المغرب، رغم أن نظام القذافي اقترح عليه مرارا العودة إلى ليبيا، لكنه ظل في منزله في الرباط، إلى حين وفاته يوم الاثنين 31 دجنبر 2007 عن سن تناهز 83 سنة. أما حفيدته الدكتورة رانيا عبد السلام محمد عثمان الصيد، فقد اختارت الاستقرار في المغرب وتحمل جنسية مغربية وتتقلد مناصب ديبلوماسية في هرم السلطة الليبية.
قذاف الدم يقترح عقد لقاء بين الحسن الثاني والقذافي بمدريد
كان أحمد قذاف الدم، ابن عم الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي، بمثابة علبة أسراره، لذا ظل العقيد يعتمد عليه في كثير من المهام الخارجية. في مذكراته التي نشرتها صحيفة «الشرق الأوسط» تحت عنوان «مسيرة نصف قرن مع معمر القذافي»، كشف قذاف الدم عن ميل الجماهيرية للطرح الجزائري، ومساندة الجارة الشرقية في صراعها مع المغرب، في عهد هواري بومدين، قبل أن تراجع الموقف بعد تطبيع الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد لعلاقاته مع المغرب.
تلقت جماهيرية القذافي باستغراب زيارة بن جديد للمغرب، وكان قذاف الدم حينها في لندن، لم يتلق إشارة من طرابلس بالتوجه إلى فاس، لكنه أصر على السفر، مما أصاب الإعلام العربي والدولي بنوع من الغموض، في ظرفية جد حرجة من تاريخ العلاقات بين البلدين، خاصة وأن الجماهيرية كانت تدعم «البوليساريو» بالمال والسلاح.
بعد اللقاء بين الزعيمين المغربي والجزائري سنة 1983، بدأ قذاف الدم في إجراء الاتصالات مع عدد من أصدقائه المغاربة ممن كانوا يدعونه في السابق لزيارة المغرب، ليقرر زيارة المغرب لأول مرة في حياته، حيث حدد له ادريس البصري موعدا مع الملك الحسن الثاني.
يقول قذاف الدم في مذكراته عن هذه الرحلة: «نزلنا من الطائرة، وأخذتنا سيارة إلى مزرعة على ربوة جميلة، ولم أكن أعرف أنها للملك الحسن، جاءت سيارة فجأة، وكانت ماركة مورس (إنجليزية الصنع) صغيرة يقودها سائق يرتدي الملابس المغربية التقليدية. فإذا بي أمام الملك الحسن الثاني شخصيا، قال لي مرحبا سي أحمد في بلدك. سلمت عليه، وقلت له: ها أنا جئت.. ثم توجهنا ناحية الخيمة، وقبل أن نجلس داخلها، أخبرته أني جئت دون علم معمر، وبدأنا بعدها في مناقشة العلاقات الليبية – المغربية، واتفقنا بعدها، أي بعد حوار طويل، على أنه حان الوقت لاستعادة العلاقات بين البلدين. وفي الحقيقة سألني الملك سؤالا مباشرا، وهو: لماذا تعادوننا؟ فقلت له: نحن لا نعاديكم، طالما صافحت الرئيس الشاذلي، فأنت صافحت معمر القذافي.
أقام قذاف الدم في ضيافة الملك الحسن الثاني ثلاثة أيام، اتفقا خلالها على ترتيب لقاء مع القذافي، لكن الإشكال كان حول مكان اللقاء، حيث اقترح قذاف الدم مكانا آخر غير المغرب، فيما رفض الملك مقترح إقامته في طرابلس، قبل أن يفاجئ الحسن الثاني الضيف الليبي بعبارة: «لو ألتقي ساعة مع الأخ معمر سنحل كل مشاكلنا». فتم الاتفاق على الاجتماع في مدريد برعاية من فيليب غونزاليس، الذي كان صديقا لليبيا والمغرب.
رفض القذافي إجراء المقابلة في إسبانيا، وتساءل: «كيف نلتقي في بلد ثالث، نحن عرب. إذا كان لا يريد أن يأتي إلينا، فلنذهب نحن إليه»، وفي شهر رمضان حل قذاف الدم للمرة الثانية بالمغرب من أجل وضع ترتيبات زيارة تمت بعد شهر.
الحسن الثاني يعرض شريطا إذاعيا أمام موفد القذافي ويعلمه مفهوم «الرجعية»
ظل الزعيم الليبي معمر القذافي يصر على تعيين علي عبد السلام التريكي موفدا له كلما تعلق الأمر بمهمة في المغرب، وعلى امتداد مساره كوزير للخارجية الليبية أو رئيس للجمعية العامة للأمم المتحدة، ظل الرجل يتردد على المغرب ويلتقي بالملك الحسن الثاني حاملا رسائل كتابية أو شفوية من العقيد.
في اعترافات التريكي بعد الإطاحة بنظام القذافي، قال إن معمر لم يكن يراعي الأصول الديبلوماسية. «طلب مني مثلا أن أنقل رسالة إلى الملك الحسن الثاني وأصر أن أقول للعاهل المغربي إن «نظامه رجعي» واتهامات أخرى. «تصور أن يصل مبعوث إلى دولة ليبلغ ملكها أو رئيسها بأنه رجعي لم نكن ننقل مثل هذا الكلام طبعا».
استقبل الحسن الثاني التريكي أكثر من ثلاث مرات، وظل حبل الود قائما بين الرجلين بالرغم من الغيوم التي خيمت على سماء العلاقات السياسية بين المغرب وليبيا. يحكي عبد السلام، في حديث صحفي عن آخر لقاء له مع الحسن الثاني، فيقول:
«ذهبت إلى الملك الحسن الثاني لأسلمه دعوة لحضور القمة الإفريقية المقرر عقدها في طرابلس. استقبلني الملك في قصره بحضور وزير خارجيته واثنين من مستشاريه. قال لي قبل تسلم رسالتك أحب أن أسمعك شريطا. وبدون مقدمات كان جهاز التسجيل يعلن انطلاقة الشريط الصوتي، وإذ هو عبارة عن تعليق في الإذاعة الليبية تضمن ألفاظا بذيئة ضد الملك ومواقفه. صدم الحاضرون من الجانب المغربي لكن الملك كان يهدئهم ويقول لهم رجاء انتظروا هناك ما هو أفظع».
لم يرد موفد القذافي الاستماع للمزيد من التسجيلات الصوتية التي كان الملك قد هيأها، يضيف التريكي: «مباشرة بعد ذلك عقدت جلسة طويلة مع العاهل المغربي امتدت من الثامنة مساء حتى الثانية صباحا. في نهاية الجلسة قال الملك ما رأيك يا علي أن نقوم نحن الرجعيون بتعيين شخص وتقومون أنتم كتقدميين بتعيين شخص ويكون الحوار بينهما. سألته من ترشح فسمى مسؤولا مقربا من الرئيس الشاذلي بن جديد. وسألني من نرشح فأوردت اسم العراقي سعدون حمادي فقال نحن نحسب سعدون معنا، أي مع الرجعيين».
بعد ست ساعات من النقاش حول العلاقات العربية والصراع الخفي والظاهر بين القذافي والحسن الثاني، اقتنع الموفد الليبي بدفوعات الملك، وقبل أن يخلد للنوم دون ملاحظاته في تقرير مطول قرر عرضه على القذافي فور العودة إلى طرابلس.
الملك يمنح المعارض المقريف جواز سفر باسم الإدريسي
كشف محمد المقريف، أحد أبرز معارضي نظام الرئيس الليبي السابق معمر القذافي، والأمين العام للجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا، عن العلاقة التي جمعته بالمغرب خلال مدة إقامته بالمغرب، بعد انشقاقه عن القذافي.
وقال المقريف، في برنامج «شاهد على العصر»، على قناة «الجزيرة»، إن نظام الحسن الثاني احتضنه وقدم له غطاء سياسيا وحماية أمنية، لكنه لم يتسلم أي أموال من المغرب، بل إن السلطات المغربية سلمته جوازات سفر بأسماء مستعارة، واحد منها كان باسم «محمد الإدريسي»، كما وفرت له حماية أمنية.
وتحدث محمد المقريف، أول رئيس للبرلمان العام الليبي، في نفس المنبر الإعلامي، عن سبب العداء بين الزعيم الليبي معمر القذافي وبين الملك المغربي الحسن الثاني، وقال إنه يرجع لدعم القذافي للانقلابيين المغاربة، فضلا عن دعمه لجبهة البوليساريو.
وأقر المقريف بأنه التقى في المغرب بالسلطات العليا للبلاد وبالقنصل الأمريكي في المغرب الذي تولى ترتيب زيارة له لواشنطن، شاكرا العاهل المغربي الذي منحه الغطاء السياسي وجواز السفر دون مقابل، شاكرا الجنرال حسني بن سليمان الذي كلفه العاهل المغربي بتسهيل مأموريته، داعيا إلى احتضان المغرب لمؤتمر الحركة الوطنية الديمقراطية سنة 1982، وقال «إنه هو الذي اقترح تغيير مكان المؤتمر من القاهرة إلى الرباط».
فنان تشكيلي ليبي مغترب بحضرة الحسن الثاني
في معرض للفنان عوض عبيدة، والذي أقيم بالمغرب تحت الرعاية السامية للملك الحسن الثاني، كتب محمد علال سيناصر، وزير الشؤون الثقافية، في مستهل النشرة المصورة والفخمة لهذا المعرض، تعريفا بالفنان عبيدة، نذكر منه قوله: «انكب عوض عبيدة طوال نصف قرن من الزمن على أعماله الفائقة وأن يعيد إلينا بسحر الريشة عالمه ووطنه الليبي».
قلده الحسن الثاني وسام الفن عام 1994 بعدما أقام معرضا تحت رعايته السامية، وطالب البصري باقتناء بعض لوحات الفنان الليبي الذي رفض بيعها، وقال للملك إن اللوحات التي تعبر عن تقاليد ليبيا لا يبيعها بل يهديها.
لكن الغريب في هذه الواقعة، أن بعض التشكيليين الليبيين روجوا كلاما أغضب الملك، حين شككوا في مصداقية لوحاته، وذهبوا إلى حد القول بأن عوض خدع الملك، خاصة لوحة «صيادي السمك». ووعد البصري الملك بفتح تحقيق لا أحد يعرف مصيره.
ولأنه ابن بنغازي فقد قال تشكيليو المدينة لسفارة المغرب في ليبيا، إن الحسن الثاني انخدع، «قيل له إنها لوحات فنان ليبي، فدعاه وجهزت له مطوية تعريف ومعرض، وطلب منه الملك أن يرسم الحياة الشعبية في المغرب. كان هذا ذكاء من الملك الحسن الذي يريد التأكد من إمكانيات الفنان الذي دار حوله لغط كبير، وتبين أن أغلب لوحاته نقلت من صور فوتوغرافية»، يقول فنانون ليبيون.
محمد السادس يستقبل رئيس الحكومة الليبية بعاصمة التمور
فضل الملك محمد السادس استقبال رئيس الحكومة الليبية علي زيدان، خارج البروتوكول المعتاد، فالتقى به في مدينة أرفود على هامش زيارة ملكية لعاصمة التمور. المسؤول الليبي كان من معارضي نظام القذافي، وبعد سقوطه كان له دور كبير في انتزاع اعتراف المغرب ودول أوربية بالمجلس الانتقالي، وهو الذي أسس في أعقاب الثورة الليبية حزب الوطن للتنمية والرفاه.
طمأن الملك رئيس الحكومة الليبية بكون المملكة المغربية تتابع باهتمام بالغ مسلسل الانتقال السياسي والمؤسساتي الحالي في ليبيا. وأعرب محمد السادس للمسؤول الليبي عن استعداد المغرب لمواكبة الجهود التي تقوم بها ليبيا، من أجل كتابة صفحة جديدة من تاريخها في إطار الوحدة الوطنية القائمة على مؤسسات قوية. في هذا اللقاء تم الحديث عن إمكانية إحياء عظام «اتحاد المغرب العربي» الذي ولد ميتا.
وأكد الملك محمد السادس لرئيس الحكومة الليبية دعمه الشخصي ودعم الحكومة، للجهود التي تبذلها ليبيا في هذه المرحلة الهامة من الانتقال، بما يمكن الشعب الليبي من تحقيق مختلف تطلعاته في الاستقرار.
ونوه رئيس الدبلوماسية الليبية بمؤسسات التكوين والجامعات المغربية التي فتحت أبوابها أمام الليبيين وساهمت بالتالي في مسعى بلاده لإدماج شبابها من خلال التدريب والتكوين، مضيفا أن التعاون الثنائي مدعو أيضا ليشمل النقل البحري والجوي وربط القطاعين الخاصين في البلدين.
مرت الأيام فحملت قصاصات الأخبار نبأ قيام مجموعة مسلحة باختطاف رئيس الوزراء الليبي خلال تواجده بأحد الفنادق بالعاصمة الليبية طرابلس. واقتادته إلى جهة غير معروفة، دون أن يتضح على الفور الجهة التي تتبعها، وسبب اختطافها للمسؤول الليبي السابق، قبل أن يتم الإفراج عنه.
محمد الزوي.. عراب العلاقات المغربية- الليبية
جرت العادة أن يكون سفير الرباط في طرابلس مقربا من القصر الملكي، ذلك أن سفارة طرابلس مر بها سفراء مثل المكي الناصري ومولاي إدريس العلوي والمعطي جوريو وإدريس الفلاح وعبد الهادي التازي، وهو عرف يكشف عن التوجس من انفلاتات معمر القذافي وتوخي الحذر في ممثلي الديبلوماسية المغربية في طرابلس.
في كتاب «بين المغرب وليبيا» لعبد الهادي التازي، الذي شغل طويلا مهمة سفير في جماهيرية القذافي، يرصد الديبلوماسي المغربي الكثير من المحطات الهامة في تاريخ علاقات كالبحر فيها مد وجزر. لكن أصعب المنعرجات التي أقلقت سفراء المغرب في ليبيا هي تدهور العلاقات بين الطرفين عقب زيارة شمعون بيريز للمغرب، وحكاية حرق العلم المغربي من طرف اللجان الشعبية والغارة على السفارة المغربية.
ومن المفارقات العجيبة أن يعاد طبع كتاب «بين المغرب وليبيا»، في فترة مرت فيها العلاقات المغربية- الليبية بأزمة كادت تؤدي إلى قطعها من جديد، بعد رفع دعوى قضائية من طرف معمر على ثلاث صحف مغربية، والانسحاب غير المعلن للسفير الليبي محمد بلقاسم الزوي من الرباط، ثم مأزق قضية دعوة البوليساريو لاحتفالات الذكرى الأربعين للفاتح من شتنبر، وانسحاب الوفد المغربي، الأمر الذي استدعي تدخلا شخصيا من طرف العقيد الذي مسح الواقعة في لجنة التنظيم.
لكن المغرب ظل يتعامل بحذر «ديبلوماسي» مع ليبيا، فيغمض العين تارة على انفلاتات العقيد وتارة يثير الانتباه، ويرجع التصدع إلى ما بعد اندلاع الثورة التي أسقطت الملك الليبي إدريس السنوسي، واختيار محمد عثمان الصيد، رئيس الوزراء في العهد الملكي، الإقامة في المغرب بعد الانقلاب العسكري. الصيد سيتعاون مع المغاربة، بل إنه اتفق مع الملك الراحل الحسن الثاني «على التعاون ضد المد الناصري وهيمنته على العالم العربي».
قبل الحسن الثاني على الفور مقترحا للعقيد يقضي بتعيين محمد بلقاسم الزوي، أحد المقربين من قائد الثورة الليبية، سفيرا لطرابلس لدى الرباط، ويعتبر من المتحمسين لعلاقات قوية ومتينة مع المغرب، ويعد الزوي واحدا من رجال التواصل بامتياز وهو الذي شغل في الماضي مناصب متنوعة مثل مدير الإذاعة الليبية ثم وزيرا للإعلام والعدل.
ولعب الزوي أدوارا كبرى سواء أيام الملك الراحل الحسن الثاني أو في العهد الجديد بقيادة الملك محمد السادس، سعيا إلى تحسين العلاقات بين البلدين، وكان دوره بارزا في تضميد جراح هزة عنيفة ضربت العلاقات المغربية – الليبية، بعد انسحاب وفد مغربي بقيادة الوزير الأول عباس الفاسي، من منصة الاحتفالات بالذكرى الأربعين لثورة «الفاتح من سبتمبر» في طرابلس، احتجاجا على وجود وفد من جبهة البوليساريو في منصة الاحتفالات الرسمية.
المطرب الليبي محمد حسن يتغني بلقاء القذافي والحسن الثاني
في سنة 1984، وبينما كان المغرب يعيش على إيقاع حرب الصحراء، قررت الرباط التقارب مع طرابلس. وفي مدينة وجدة وقع الزعيم الليبي معمر القذافي والملك الحسن الثاني معاهدة «الاتحاد العربي الإفريقي».
رافق معمر القذافي في رحلته إلى المغرب فنانه المحبوب، محمد حسن، الذي زار مدينة وجدة والتقى عددا من الفنانين المغاربة، داعيا إلى تقارب فني بين المبدعين بموازاة مع التقارب السياسي.
في الليلة نفسها كتب محمد حسن أغنية نادرة تغنى فيها الفنان بمدينة وجدة المغربية والتسجيل يعود لسنة 1984 عندما زار هذا الفنان المغرب مخلدا الاحتفال بالوحدة بين المغرب وليبيا بعد طول قطيعة. لم يتوقف التلفزيون المغربي والليبي عن بث الأغنية التي يقول مطلعها:
وجدة يا هوى العشاق
سجدة للفرح سجدة
عادت للربيع أوراق
فاض الوجد من وجدة
وجدة والبشاير خير
أول الغيث قطرة
فتحت هذه المبادرة السياسية للفنان الليبي، الذي تمتد مسيرته الفنية لأكثر من أربعة عقود، فرصة الانفتاح على الفنانين المغاربة والعرب، حيث غنى ولحن خلالها لأبرز الفنانين العرب أمثال الفنانة الراحلة وردة الجزائرية والمغربية سميرة بن سعيد والتونسيتين لطيفة والراحلة ذكرى. بل إن التلفزيون الليبي أقام ملحمة أطلق عليها اسم ملحمة الوحدة دعي إليها وغنى فيها مطربون مغاربة وليبيون، ووصل التعاون الفني حدود الفن السينمائي.
لكن السياسة ظلت تتحكم في المطرب الليبي محمد حسن الذي سرعان ما انقلب وطالب التلفزيون الليبي بوقف بث أغنية وجدة، فقط لأن معمر القذافي قرر وقف التعامل بالاتفاقية مباشرة بعد زيارة شمعون بيريز رئيس الوزراء الإسرائيلي للمغرب سنة 1986، حينها تغير كل شيء وتوقفت المشاريع الفنية وأصبحت بنود الاتفاقية مجرد حبر على ورق.
كان محمد حسن مؤثرا في القرار على مستوى الإذاعة والتلفزة الليبية، بالنظر لقربه من العقيد معمر القذافي، رغم أن بدايته الفعلية كانت بانضمامه للمجموعة الصوتية في فرقة الإذاعة، وضمن كورال الفنان حسن عريبي، الذي استفاد منه كثيرا، عندما بدأ في ترديد الموشحات.
دفع هذا الفنان من صحته ضريبة ارتباطه بالعقيد الراحل معمر القذافي، وظل يعيش مع آلامه، عزلة كاملة عن الناس والفن في مسقط رأسه «الخمس»، قبل أن يرحل إلى تونس قصد العلاج وهروبا من الوضع الأمني المتردي، خاصة وأن ثوار مصراتة اعتقلوه وحاكموه وكادوا أن يعنفوه لولا تحكيم العقل.
وعندما أُعلنت وفاة المطرب محمد حسن في إحدى مصحات تونس، في منتصف دجنبر 2017، ساد حزن عميق في عموم ليبيا لأنه يمثل جانبا مضيئا من التراث المحلي، بغض النظر عن انتمائه للنظام البائد، بل إنه غنى في آخر أيامه أغنية تشيد بمن أسماهم «أحرار ليبيا».