مر حزب العدالة والتنمية إلى السرعة القصوى في شد الحبل مع مؤسسات الدولة والطبقة السياسية برمتها، وخرج رموزه بشكل منظم ومتساوق يتوعدون ويتهددون بلهجة أبوية متعالية مرة باتخاذ «ما يلزم» للرد على أي قرار يتعارض مع مصالحهم الانتخابية، وتارة بالتهديد بنسف الانتخابات المقبلة في حالة ما إذا تم التوافق السياسي على تمرير تعديل قانوني يقضي بتغيير «القاسم الانتخابي».
نحن إذن أمام مؤشر خطير داخل الخطاب السياسي قد يهدد قواعد اللعبة السياسية القائمة منذ عقود على منطق التوازنات. ففي عز الصراع بين أحزاب الحركة الوطنية والدولة حول التصميم الانتخابي لم يكن الأمر يصل إلى هذا المستوى من الابتزاز والكفر بالمؤسسات الدستورية، طالما أن الحزب القائد للحكومة يتوفر على كل الأسلحة الدستورية التي تمكنه من إقبار التعديل المحتمل بحركة بسيطة من رئيس الحكومة سعد الدين العثماني ولا يحتاج إلى الاستعانة بقاموس التنظيمات الانكشارية التي لا تؤمن بالمؤسسات وتعمل على تغييرها بالقوة من خارج الأنساق السياسية القائمة.
يبدو أن الحزب الحاكم لم يستوعب بعد أنه طيلة نصف قرن ظلت القواعد الانتخابية محط توافق سياسي لا يخضع لمنطق كسر العظام أو المقايضة الفجة، ولولا ذلك التوافق تحديدًا ما أتيحت الفرصة للإسلاميين لولوج المؤسسات.
لكن ما سبب جذبة «البيجيدي» بهاته الطريقة الرهيبة؟
بلا شك فقد أصبح حزب العدالة والتنمية يشعر بأنه تنظيم معزول سياسيا بعد حروب «طواحين الهواء» التي أعلنها ضد كل الأحزاب بلا تمييز، لذلك فهو يسعى إلى الحشد والمجابهة عبر خطاب التصعيد واللجوء إلى العنف اللفظي والخطاب الجذري بهدف تسويق حالة عدم الاستقرار، ففي منطق قادة الحزب الحاكم فإما أن يقودوا الحكومة المقبلة بالقدر البرلماني الذي يريدون أو أن يحملوا الطبقة السياسية مسؤولية نسف الانتخابات والإجهاز على مسلسل الانتقال الديمقراطي الذي تحقق إلى حدود اليوم.
ويظهر أن «البيجيدي» حسم أمر الشعار الذي سيرفعه خلال استحقاقات 2021 في وجه من يرفض تزكية قواعد اللعبة الانتخابية القائمة، أو يفكر في الاقتراب منها مختزلا ذلك في شعار «نحن أو لا أحد»، وطبعا هذا مبدأ أصيل بالنسبة للحزب الحاكم، فقادته لا يكترثون بديمقراطية أو دستورية قواعد اللعبة السياسية طالما وجدوا فيها مصالحهم لكنهم يثورون في وجه أي تهديد للأركان التي تهدد امتيازاتهم ونفوذهم، وفي السابق استخدموا الاقتراع الفردي على مضض ومن منطق مرحلة الاستضعاف لدخول المؤسسة البرلمانية، وبمجرد ما تمكنوا طالبوا بالإطاحة بنمط الاقتراع الذي جعلهم يحوزون جزءا من السلطة التشريعية في عهد إدريس البصري، وبعد ذلك توسع نفوذهم بتغيير قواعد اللعبة، واليوم يرفضون أي تعديل يؤثر على خطة التمكين السياسي وينزلهم من سفينة الحكومة مهما كان الثمن، فلا شك أن «البيجيدي» يخشى من سيناريو الانهيار الانتخابي بعد 10 سنوات عجاف، لهذا بدأ مبكرا في الترويج لفزاعة الفوضى وإرباك العملية الانتخابية التي لا تساير هواه، لكنه في خضم حماسته ينسى أن المؤسسات التي يصر على تهديدها لن تتراجع بسبب الفزاعة التي يشهرها، وهي تفضل مواجهة التحدي على أن يتحول حزب إلى سلطة ديكتاتورية يفرض إرادته على الجميع.