هناك قصة فرنسية وجيزة وجديرة بالاهتمام بطلها رئيس الجمهورية الفرنسية رينيه كوتي يقدم فيها تمييزا بين رجل السياسة ورجل الدولة، ففي إحدى المناسبات ذكر له أحد وزرائه اسم زعيم بارز من زعماء الحياة السياسية في فرنسا، فاستخف الرئيس كوتي به وقال: «إنه ليس سوى رجل عادي بسيط من رجال السياسة». فسأله أحد الحاضرين: ولكن يا حضرة الرئيس ما الفرق بين السياسي ورجل الدولة في رأيك؟ فأجابه قائلا: الفرق بسيط جدا، رجل الدولة يريد أن يعمل شيئاً من أجل بلاده، والرجل السياسي يريد من بلاده أن تفعل شيئاً من أجله. ولا يكتمل معنى هاته القصة دون استحضار قولة الجنرال «ديغول» حينما قال إنه لم يأت لحكم فرنسا لمرتين بالشرعية الانتخابية، بل استدعاه للحكم نداء فرنسا.
استعنا بهذه العبارات المعبرة، لأننا نعيش هذا الأسبوع لحظة سياسية فاصلة، ستكشف معدن رئيس الحكومة، هل نحن بصدد رجل دولة يضع على عاتقه مصلحة المؤسسات ومستقبل البلد واستقراره، أم إزاء رجل سياسة يضع الدولة تحت مصلحة حزبه لربح بعض المقاعد البرلمانية وبعض المناصب الوزارية حتى لو كان ذلك مقابل التعددية الحزبية والتوازن السياسي؟
في الحقيقة الأنظار تتجه إلى السيد العثماني بشأن موقفه من تعديل القاسم الانتخابي، الذي لم يعد مجرد إجراء انتخابي بل معركة سياسية بين كل الأحزاب السياسية وبين حزب يريد أن يستفرد بالمشهد الحزبي ويملي قراراته على الباقي، ويضرب بعرض الحائط كل التوافقات السياسية التي أوصلت حزب العدالة والتنمية إلى قبة البرلمان وباب المشور السعيد.
من حق العثماني رجل السياسة أن يعد أنصاره في الحزب بتحقيق كل شيء وأي شيء في القوانين الانتخابية لاستمرار احتكار المشهد السياسي. لكن العثماني رئيس الحكومة والذي يدبر جزءا من السلطة ينبغي أن يتجاوز النظرة الحزبية الضيقة وحسابات حرب المواقع الداخلية، وينفتح على مصالح الوطن والأخطار الخارجية والداخلية التي تهدده من كل جانب اليوم أكثر من أي وقت مضى.
لكن ماذا لو أصر رئيس الحكومة على الانتصار لحزبه وتأييد مواقف إخوانه التي وصلت إلى حد تهديد المؤسسات والمس بسلامة العملية الانتخابية المحصنة دستوريا؟
في هاته الحالة ينبغي للمؤسسات رفع يدها وترتيب المسؤوليات السياسية والقانونية اللازمة والتي يتطلبها الحفاظ على قاعدة التوازن، فعندها لن نكون أمام حزب يشتغل من داخل المؤسسات ويحترم الأطر القانونية القائمة ويخضع للتوافقات السياسية، بل أمام قوة سياسية جذرية مستعدة لفعل أي شيء من أجل الحفاظ على امتيازاتها الظرفية، ناسية أنه في لحظات صعبة من تاريخها القصير تم إنقاذها من قرار الحل القانوني بسبب تحولها إلى مصدر يغذي الحركات المتطرفة وينتصر لها سياسيا.
الصراحة تقتضي أن يفهم حزب العدالة والتنمية، أنه مجرد لاعب سياسي إلى جانب لاعبين آخرين، داخل رقعة ملعب، وأن تلك اللعبة مصممة بقواعد تضمن للجميع حق التواجد دون تغول من أحد. لكن إذا أصبحت الأنانية والاستعلاء وحب السلطة مشاعر تدفع الحزب الحاكم لخرق قواعد اللعبة والمس بالتوازن والتهديد للضغط على المؤسسات غير عابئ بتداعيات ذلك، هنا فقط ينبغي للعبة أن تتوقف ويتم تحذير اللاعب المخل بالقواعد المعمول بها، وربما إذا استمر في تحديه اللجوء لقرارات قاسية حماية له وللجميع.