لا تزال تصريحات إثيوبيا العلنية والمتكررة، واعتمادها سياسة فرض الأمر الواقع، حول نيتها تنفيذ الملء الثاني حتى وإن لم يتم الاتفاق مع مصر والسودان، تثير قلق الأخيرين. وتعتبر المحادثات الأخيرة في كينشاسا الفرصة الأخيرة لإثيوبيا والتي فشلت مجددا، إذ لم يعرف بعد الإجراءات التي قد تتخذها دولتا المصب ضد إثيوبيا التي فاجأت الجميع بتعنتها الحاد وإصرارها على المضي قدما في المشروع على حساب حق الآخرين في إمداداتهما المائية وفق القوانين الدولية.
يعتبر سد النهضة، وهو مشروع طموح للطاقة الكهرومائية بتكلفة 4.5 مليارات دولار، رمزا لهدف إثيوبيا في أن تصبح لاعبا إقليميا رئيسيا. ويهدف مشروع السد لتغطية احتياجات 60% من المنازل الإثيوبية من الكهرباء والذين ما زالوا خارج نطاق شبكة الكهرباء، وذلك في إطار خطة رئيس الوزراء أبي أحمد علي لتحويل الدولة إلى مُصدّر طاقة رئيسي في المنطقة.
وقال بيرهانو لينجيسو، الشريك المؤسس لمعهد أبحاث سياسات شرق إفريقيا: «إن العديد من الإثيوبيين، بدون الكهرباء، يعتمدون على الغابات المتقلصة من أجل الحطب، بينما يعاني الـ40% الآخرون من السكان من انقطاعات مستمرة للكهرباء». وأضاف: «إنه وضع محزن وصعب للغاية، لطالما عشنا فيه لقرون. نحن نساهم بـ85% من مياه النيل ولا نستخدم أياً من هذه المياه».
ولكن بالنسبة لمصر، يهدد السد واحدا من أغلى مواردها، حيث يعيش معظم المصريين، الذين يتجاوز عددهم 100 مليون نسمة، حول وادي النيل الضيق على طول النهر، ويعتمدون عليه في كل شيء من مياه الشرب إلى الصناعة والري. وسد النهضة قد يقلص 60 في المائة من المحصول الزراعي السنوي للمزارعين كما سيزيد تكلفة المياه.
أما السودان فإنه قد يستفيد على الأرجح من سعر كهرباء السد المخفض وتدفق المياه المستقر الذي سيقلل من الفيضانات ويزيد من الري، وفقاً لمجموعة الأزمات الدولية. ولكن قرب سد النهضة من السودان، حيث يقع على مسافة 12.5 ميل من حدوده، قد يعرّض سد الروصيرص السوداني لخطر الفيضان، في حال غياب التنسيق بين الدولتين.
في إثيوبيا، يعتبر نجاح مشروع سد النهضة ضروريا ليس من أجل تعزيز دور أديس أبابا في المنطقة فحسب بل لتوحيد الوطن الممزق بسبب العنف العرقي. وأصبح مشروع السد مصدراً للفخر الوطني، فهو ممول ذاتياً عن طريق سندات بنسبة 20%، و80% من أموال دافعي الضرائب في إثيوبيا. وأظهر السد نجاحاً في توحيد الوطن. وكسب تأييد الحكومة والمعارضة والشعب، فهو يعتبر بمثابة قوة موحِدة لإثيوبيا لأنه بني بأموال الإثيوبيين.
أهم نقاط الخلاف
معظم المحادثات بين الدول الثلاث تدور حول الجدول الزمني وسرعة ملء السد، وكيفية تخفيف أثر الجفاف. واقترحت إثيوبيا في البداية ملء السد خلال 3 أعوام بينما تريد مصر فترة من 10 إلى 15 عاما. وكان بعد ذلك اتفاقا شفهيا بملء السد خلال 8 أعوام.
ومن جهته، قال وزير الري المصري السابق محمد عبد العاطي، عام 2018، إن انخفاض 2% من مياه النيل سيؤدي إلى خسارة 200 ألف فدان زراعي وحوالي مليون وظيفة. ولكن يبقى التأثير المحدد للسد على تدفقات المياه غير معروف.
كما فشلت الدول الثلاث في الاتفاق على الجهة التي ستجري الدراسات البيئية، والصلاحيات التي ستُمنح للباحثين، وإلى أي مدى ستكون النتائج ملزمة. وتأتي بعد ذلك مسألة ما قد يحدث حال ضرب الجفاف المنطقة لفترات طويلة.
ومع موسم الأمطار الغزيرة واتفاق من حيث المبدأ على جدول زمني لملء السد خلال 8 سنوات، لا توجد مشكلات آنية، لكن القاهرة قلقة بشأن أي جفاف مستقبلي أو أي مشروعات أخرى قد تعرقل تدفق مياه النيل.
وإثيوبيا تريد أن يتحمل كل طرف مسؤولية تخفيف آثار الجفاف لديه، مثل أن تستخدم مصر احتياطاتها من المياه في السد العالي. وتريد أيضا حل المشكلات عندما تطرأ، دون الالتزام باتفاقيات مسبقة مثل الإفراج عن كميات محددة من المياه باتجاه المصب من الخزان خلال فترات الجفاف.
كما أن إثيوبيا تنظر للمفاوضات على أنها مسار للاتفاق حول ملء وتشغيل سد النهضة بدلا من كونها قضية أمن مائي واتفاق حول حصص المياه كما تنظر إليها مصر. وهذا هو الخلاف الأساسي من الناحية القانونية والتقنية.
ورغم حضّ مصر والسودان إثيوبيا على تأجيل خططها لملء خزان السد حتى التوصل إلى اتفاق شامل، أعلنت أديس أبابا في 21 يوليو 2020 أنها أنجزت المرحلة الأولى من ملء الخزان البالغة سعته 4,9 مليارات متر مكعب والتي تسمح باختبار أول مضختين في السد. وتؤكد إثيوبيا أن الطاقة الكهرومائية الناجمة عن السد ستكون حيوية لتلبية حاجات الطاقة لسكانها البالغ عددهم 110 ملايين.
ويمتد النهر لأكثر من 4 آلاف ميل ويمر بـ11 دولة. يبدأ النيل الأزرق، وهو الشريان الذي يزود النهر بـ80% من مياهه، عند بحيرة تانا في إثيوبيا، ويلتقي النيل الأبيض في الخرطوم، ويتدفق بعد ذلك لمصر.
الفرصة الأخيرة
رغم الضغوط الدولية، فشلت مصر والسودان وإثيوبيا، حتى الآن في التوصل إلى اتفاق بشأن منهجية التفاوض في قضية سد النهضة. وطالبت مصر والسودان مجددا في الاجتماع السداسي الذي عقد في الكونغو، منذ الأحد 4 من الشهر الجاري، وتم تمديده ليوم إضافي، بتوسيع مظلة المفاوضات بشأن ملء السد الذي أعلنت دولتا المصب أنه سيمثل خطورة كبيرة عليهما، إلا أن إثيوبيا رفضت وأكدت أنها مستمرة في العمل على تجهيز الملء الثاني للسد.
وقال وزير الخارجية المصري، سامح شكري، في تصريح لوسائل الإعلام المصرية: «تُعتبر هذه المفاوضات بمثابة فرصة أخيرة يجب أن تقتنصها الدول الثلاث من أجل التوصل لاتفاق على ملء وتشغيل سد النهضة خلال الأشهر المقبلة وقبل موسم الفيضان المقبل».
وأضاف شكري أن مصر «تفاوضت على مدار عشر سنوات بإرادة سياسية صادقة من أجل التوصل لاتفاق يحقق لإثيوبيا أهدافها التنموية ويحفظ في الوقت ذاته حقوق ومصالح دولتَي المصب».
وتابع «إذا توافرت الإرادة السياسية والنوايا الحسنة لدى كل الأطراف، فإنه سيكون بوسعنا أن نصل للاتفاق المنشود الذي سيفتح آفاق رحبة للتعاون والتكامل بين دول المنطقة وشعوبها».
وبينما أعلن الجانب الإثيوبي أن الملء الثاني للسد، المقرر في يوليو أو غشت المقبل، سيبلغ حوالي 14 مليار متر مكعب، تتمسك القاهرة والخرطوم بتوسيع الوساطة في أزمة سد النهضة لتشمل الولايات المتحدة والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي برعاية الاتحاد الإفريقي، لكن إثيوبيا رفضت مجددا، واقترحت في المقابل دعوة مراقبين حسب المسارات التفاوضية.
تصريحات السيسي
صرح الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، بأنه لن يستطيع أحد أن يأخذ نقطة ماء واحدة من مصر، مشددا على أن «ذراع مصر طويلة وقادرة على مواجهة أي تهديد»، مشيراً إلى أن المساس بمياه مصر خط أحمر وسيؤثر على استقرار المنطقة بالكامل .وأشار إلى أنه «سيحدث عدم استقرار إقليمي لو انتهك أحد حقوق مصر المائية».
وقال خلال تصريحات له، على هامش زيارته التفقدية لمرافق قناة السويس، إنه لن يستطيع أحد أن يأخذ نقطة مياه من مصر، وهذا ليس تهديداً لأحد، مضيفاً بالقول إن حوارنا رشيد جدا وصبور جدا ولا أحد يتصور أنه سيكون بعيدا عن قدراتنا ورد فعلنا على المساس بمياه مصر.
وأضاف السيسي بالقول «إن معركتنا معركة تفاوض والعمل العدائي مرفوض.. ولكن إذا تأثرت إمداداتنا المائية فإن رد مصر سيتردد صداه في المنطقة». وأضاف الرئيس المصري أن العمل العدائي قبيح وله تأثيرات تمتد لسنوات طويلة، والشعوب لا تنسى ذلك، وما نطلبه أمر لا يخرج عن القوانين في ما يتعلق بالمياه العابرة للحدود. وأضاف، في إشارة لمفاوضات سد النهضة، أن هناك تحركاً إضافياً للموضوع خلال الأسابيع المقبلة، ونتمنى أن نصل لاتفاق، مؤكداً على ثوابت مصر التي تسعى للتوصل إلى اتفاق قانوني عادل وملزم لملء وتشغيل السد.
تأييد عربي لمصر والسودان
أكدت دولة الإمارات في بيان على اهتمامها البالغ وحرصها الشديد على استمرار الحوار الدبلوماسي البناء والمفاوضات المثمرة لتجاوز أية خلافات حول سد النهضة بين الدول الثلاث، مصر وإثيوبيا والسودان، وأهمية العمل من خلال القوانين والمعايير الدولية للوصول إلى حل يقبله الجميع ويؤمن حقوق الدول الثلاث وأمنها المائي، وبما يحقق لها الأمن والاستقرار والتنمية المستدامة، ويضمن ازدهار وتعاون جميع دول المنطقة.
وبدورها، أعربت وزارة الخارجية الكويتية عن «تضامن دولة الكويت مع جمهورية مصر العربية وجمهورية السودان الشقيقتين في جهودهما الحثيثة في الحفاظ على الاستقرار الإقليمي ومساعيهما لحل أزمة ملء وتشغيل سد النهضة، بما يحفظ لدول مصب نهر النيل حقوقهم المائية والاقتصادية وفق القوانين الدولية، وبما يمكن هذه الدول من تحقيق طموحاتهم في التنمية».
وشددت الوزارة على أن «أمن مصر والسودان المائي جزء لا يتجزأ من الأمن القومي العربي مؤكدة دعم دولة الكويت للمساعي الرامية إلى إنهاء ملف سد النهضة، بما يراعي مصالح كافة الأطراف».
كما أكدت الأردن، في بيان، أن «أمن مصر المائي من الأمن القومي العربي.. ونقف مع الأشقاء في حماية حقوقهم».
وبدوره، أكد البرلمان العربي رفضه القاطع لأي إجراءات أحادية من جانب إثيوبيا، وطالبها بالابتعاد عن سياسة فرض الأمر الواقع. وأعرب عن تأييده التام لمصر والسودان في ضمان حقوقهما المشروعة في حصتيهما من مياه نهر النيل.
كما دعت منظمة التعاون الإسلامي إلى مواصلة المفاوضات للتوصل إلى اتفاق شامل وعادل يحفظ حقوق ومصالح كل من مصر والسودان وإثيوبيا.