في عام 325 للميلاد حصلت أزمة عقائدية في العالم المسيحي، بعد فوز المسيحية بالحكم والإطاحة بالنظام القيصري. فبعد أن زال الاضطهاد اختلف حراس العقيدة حول الشخصية الجوهرية في المسيحية، هل هي إله أم بشر. ومن أجل هذا دعا الإمبراطور قسطنطين لحل هذه الإشكالية إلى مؤتمر في نيقية حيث تركيا الحالية، فاجتمعت نخبة الأدمغة العقائدية من الحزب الجديد للتعريف بحقيقة المسيح.
كان عدد مفكري وقساوسة العالم المسيحي المجتمعين من كل أصقاع الإمبراطورية 2048 مفكرا. ولكن ما خرج به المؤتمر، حسب ما جاء في كتاب «تاريخ الأمة القبطية»، هو ما قرره سيف الإمبراطور، حيث اقتنع بفكرة مجموعة بلغ عددها 318 تقول إن «الجامعة المقدسة والكنيسة الرسولية تحرم كل قول بوجود زمن لم يكن ابن الله موجودا فيه، وإنه لم يوجد قبل أن يولد، وإنه وجد من لا شيء. أو من يقول إن الابن وجد من مادة أو جوهر غير جوهر الأب. وكل من يؤمن أنه خلق أو من يقول إنه قابل للتغيير ويعتريه ظل الدوران». وبذلك خلقت الكنيسة من البشر إلها متعاليا، مع أنه لا يوجد نص واحد في الإنجيل يصرح بهذا.
وهناك من اعترض في المؤتمر مثل آريوس على هذا الاختلاق، ولكنه أخرس ضربا بالعصي على الوجوه والأدبار. ثم تمت إدانته بمجمع لاحق ولوحق وأتباعه وكتبه في كل الإمبراطورية، فهذه هي سخرية التاريخ.
ونحن نعرف في الكيمياء العضوية أن الفرق بين الترياق والسم، هو في قلب بسيط في تركيب المادة بدون إضافة على المادة. وأن الفرق بين الفحم والسكر والماس هو طبيعة تراص الذرات الداخلي. ومنه نذوق الحلاوة أو يتلألأ الماس أو يوسخ الثياب شحار الفحم. والفرق بين البشر والشمبانزي في الكود الوراثي DNA لا يزيد على 1 في المائة، ومع هذا فمن هذا الفرق يخرج بنو آدم مكرمين أو قردة خاسئين.
وفي عام 1755 اهتزت الأرض في لشبونة ومات في عيد (كل القديسين) بضربة واحدة أكثر من ثلاثين ألف ضحية، أوحت لفولتير أن يكتب قصته الرائعة «كانديد»، فصرخ المغاربة أن الله انتقم لهم من محاكم التفتيش، ولكن أكبر مسجد بالرباط خر على وجهه بالزلزال نفسه. أما البروتستانت في بريطانيا فقد أثلج صدورهم ما حصل، وقالوا: كانت إرادة الله هائلة في البطش بهؤلاء الكاثوليك. ولكن لم يطل الوقت كثيرا، فبعد 18 يوما قتل من البروتستانت أكثر في مدينة بوسطن بزلزال أعتى.
وفي حرب عجاف دامت ثماني سنوات بين العراق وإيران هلك فيها مليون إنسان، وخسارة 400 مليار دولار، كان صدام يسمي معاركه القادسية والأنفال، وكان الإيرانيون يسمونها بدرا وكربلاء، وفي النهاية أباد صدام الإيرانيين بالغازات السامة، بمساعدة أمريكية في حملة الساجدات العابدات.
والكل يوظف الله إلى جانبه مسلحا بالأدلة العقلية والنقلية، والفقهاء منهم من اشُتروا بدراهم معدودة، ومنهم من لا يفقه من الفقه سوى عمامة كبيرة. وهناك من احتكر اسم الله لحزبه، والله غير حزبي ولا يعترف بالحزبيين أكثر من كونهم زبرا، كل حزب لما لديهم فرحون.
وفي عام 1975 اجتمع الشاه وصدام، وفي جو حميم من العناق والقهوة، وقعا اتفاقا أن يقتسما شط العرب بينهما بالسوية. ولكن الاتفاق لم يساو الحبر الذي كتب به. وفي شتنبر من عام 1980 زحفت 11 فرقة عسكرية إلى إيران من أصل 12 فرقة يملكها العراق، على أمل أن يصبح بطل الأمة العربية، ولكنه كتب الآن في الأذلين ويوم القيامة هو من المقبوحين.
وعندما دعا محمد علي باشا المماليك إلى سهرة عائلية، لم يرجع منهم أحد إلى عائلته. وعندما زحف أبو ليث الصفار باتجاه بغداد، وكان زعيم العيارين في خراسان، قيل له: اتق الله في بيعة الخليفة، فنادى أحد أصحابه الأشقياء فقال: هات لنا عهد الخليفة نقرأه على الناس، فأحضر له سيفا ملفوفا بخرقة فأشهره، ثم صاح: هذا ما أجلس الخليفة في بغداد على عرش الخلافة وهو الذي جعل مني سيد العيارين.
وفي عدن ذبح الرفاق الرفاق في اجتماع حزبي، ومن تبقى خرج يزحف كالسلحفاة. وفي بغداد قتل صدام كل القيادة الحزبية من الرفاق المناضلين، مصورا بشريط فيديو مثل حفلات أعياد ميلاده.
وعندما اجتمع صدام مع الملا مصطفى البارزاني لحل الخلافات، نشبت المعركة في الغرفة نفسها بالقنابل والسكاكين، ونجا البارزاني بأعجوبة. ولم تجتمع قريش في تاريخها إلا لقتل النبي، ولم تحصل وحدة عربية إلا في معركة الخندق لإبادة الإسلام وأهله. ويقول ابن خلدون في المقدمة إن الخراب يسرع إلى الأمصار إذا وضعت العرب يدها عليها، وهو حكم لا يخلو من عنصرية، ولكن الرجل عالم اجتماع يجب الاستماع إلى رأيه.
ومنذ العصر العباسي وصل الفقهاء إلى مخرج للأزمة السياسية، فقالوا: حلال على الشاطر فمن يستطيع التغلب وقهر العباد ركب على ظهرهم، حتى يأتي من يتغلب أكثر بعصبية أشد بأسا وأشد تنكيلا. وهو الكلام ذاته الذي كرره عزيز في العراق: نحن قوم ثوريون وصلنا إلى الحكم بالدبابة والبندقية، فمن يريد أن يجرب حظه فليتفضل.
وحاصل هذا الكلام أن الانتخابات مهزلة، وأن المجالس نكتة كبيرة لا يضحك لها أحد، وأن القواعد توضع لخرق القواعد، وأن الاجتماعات تستخدم لمنع أي تجمع، وأن المؤتمرات تعقد للتآمر، وأن توظيف النصوص لحل المشاكل لا يقترب إلا بعدا عنها، وأننا أمة أمية نخضع للسيف ونعبد القوة. وأن الانتخابات تزور بشراء الذمم والأصوات، أو بخناجر الحشاشين من رجال الشبيحة والبلطجية في جملوكيات العرب. وأننا في زمن التيه التاريخي. وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من الله من وال.