في مقدمة الأسباب التي جعلت العديد من دول العالم تعرف مظاهرات واحتجاجات ضد جواز التلقيح، يوجد هذا المزيج من مشاعر الإحباط والملل واللاجدوى، التي أطبقت على الناس مع هذه الجائحة التي تطول وتطول مثل مسلسل مكسيكي سمج لا ينتهي، إذ ليس الجميع مزودا بما يكفي من الطاقة النفسية الضرورية التي تجعله يتحمل حرب استنزاف على مثل هذا المستوى من الشراسة، التي يشنها عليه فيروس بغيض لا ينفك يتحور ويغير الخطط، مطيحا بدفاعات الأشخاص والحكومات، فلقد عز لدى البعض ذاك التفاؤل الذي يريهم رغم كل هذه الموجات والإغلاقات والوفيات ضوءا ولو خافتا في نهاية النفق، يبشرهم بقرب التخلص من الكابوس.
ولعلنا نستطيع أن نسبر غور أفكار هؤلاء المعارضين. فنخمن أنهم إنما يرتابون في دواخلهم ومع تزايد عدد الجرعات المطلوبة منهم لتحصين المناعة، إن كانوا قد أصبحوا رغما عنهم لقمة سائغة لكبريات شركات الأدوية العالمية، التي يشكون أنها تمطط لهم جدول التلقيح إلى ما لا نهاية، لتراكم فقط الأرباح الطائلة على حساب كل من صحتهم وحريتهم في الآن نفسه. إلا أن كل عناصر التحليل هاته، وعلى الرغم من وجاهتها، فإنها في الحقيقة لا تساهم إلا في إضاءة الجوانب الظاهرة من الموضوع، ذلك أننا نعتقد أن رفض جواز التلقيح من قبل هذه الفئة، يعود في الحقيقة إلى أمر أعمق من ذلك... إلى سبب نفسي دفين يتعلق بالإيمان المتولد لديها، باستحالة الخلاص من الوباء الذي أنهك البشرية مدة عامين، هي تتظاهر احتجاجا على الهزيمة التي تعتقد أن جيوش الخبراء والعلماء قد منيت بها في الحرب العلمية ضد الداء، فلا دواء جذريا له لحد الآن، ولا لقاح يحمي من الإصابات مائة في المائة بوسعه أن يرد إلى البشر طقوسهم وعاداتهم القديمة، وحياتهم العفوية المطمئنة المنطلقة. ولذلك تتمرد هذه الفئة الغاضبة على المطلوب منها من الإجراءات الاحترازية، وتهرب إلى الأمام، بل وقد تتطرف في موقفها، وتتصرف وكأن الجائحة غير موجودة، وهذا ما يفسر أن نرى ازدحامات ومظاهرات في عدد من دول العالم دون تباعد اجتماعي ولا كمامات، إنها تنشد أو بالأحرى تحتج من أجل الحقوق التي قد كانت لها من قبل أن يسرقها منها الوباء، ولذلك لا تتردد أن تعلن كفرها بجواز التلقيح. جواز التلقيح هذا أصبح يعني لها ترسيم الطلاق مع الحياة الطبيعية لما قبل كورونا، التي تتحرق شوقا لها.. إنه الإحساس الفادح بنهاية الأمل وبجسامة الخسارة، ما يخلقان لدى مناهضي الجواز ردة الفعل هاته الرافضة لهذا التحول الهائل، الذي يتم ويا لسخف الأقدار على أيدي فيروس لا يرى. هم في الحقيقة يعرفون أهمية اللقاح في الحالة الراهنة، ولكنهم يتخوفون إن استسلموا لجواز التلقيح أن تستمرئ الحكومات هذه الإجراءات فتبالغ فيها، بل ويتوجسون أن يتعودوا هم أيضا إجراءات التقليص من حرياتهم، فلا يثورون مستقبلا ضدها. ولهذا يمانعون ويمانعون، لأن فكرة أن تصير الأحوال الطارئة هي الأحوال العادية ترهقهم وترعبهم. كل هذه التخوفات، وهي نفسها لدى رافضي الجواز عالميا، يمكن الترافع عنها والنضال من أجلها، ولكن دعونا نقول إنه بالنظر إلى دقة اللحظة التي يمر بها العالم، وتعقد الورطة التي وقعنا فيها جميعا، يمكن أن نعتبر أن هذه الدفوعات لا تنفع في الحقيقة سوى في تفسير السلوك المناهض لللقاح ولجواز كورونا، ولكنها لا تسعف أبدا في تبريره بالمرة. ففي الحرب ضد كورونا يجب أن لا تقودنا مخاوفنا وهواجسنا وبشكل أكبر متمنياتنا، بل ينبغي أن نسترشد بالمعطيات الواقعية حسب تغيرات الوضعية الجديدة في الميدان، لكي نقتطف الممكن من الحياة الطبيعية التي قد كانت لنا.
نحن نحتاج إلى أن نتسلح بالواقعية وببراغماتية مفيدة وذكية، للخروج من الجائحة بأخف الخسائر. ولذلك علينا أولا أن نعي أن القضاء النهائي على الوباء هو مطلب بعيد المنال، فالهدف المعقول الآن هو تدجين الفيروس، وتحويل الوباء إلى مرض متوطن تتغلب عليه المنظومات الصحية عبر العالم، وهذا لا يتأتى سوى باستكشاف القواعد الجديدة للحياة ومستلزماتها الطارئة علينا، كالكمامة والجواز بطبيعة الحال. ثم إنه يتعين علينا استيعاب أن الجواز قد صار بطاقة هوية عالمية جديدة فرضتها تصاريف الأقدار والوباء علينا جميعا، ولا مفر من اعتمادها ووضعها في محفظتنا جنبا إلى جنب مع باقي البطاقات الكثيرة الأخرى التي نحتاجها، خصوصا وأنها تحمل علامة وأسماء الحاكمين الفعليين للعالم... الشركات العابرة للقارات، التي تمسك منذ زمن بدل السياسيين بخناق الاقتصاد العالمي.
نافذة:
رفض جواز التلقيح من قبل هذه الفئة يعود في الحقيقة إلى أمر أعمق من ذلك إلى سبب نفسي دفين يتعلق بالإيمان المتولد لديها باستحالة الخلاص من الوباء الذي أنهك البشرية مدة عامين.