«مع مرور الأيام، بدأ بوضياف، على طريقة السياسيين القدامى، عملية اكتشاف نقط ضعف النظام ورجاله. شرع في اكتساب بعض الحرية وإحاطة نفسه ببعض المقربين النزهاء. نزهاء، لكنهم للأسف لم يكونوا مُدركين للواقع الجزائري، بحكم أنهم كانوا أيضا يعيشون خارج الجزائر».
لكم أن تتصوروا، إذن، الصعاب التي كانت تحيط بالرئيس محمد بوضياف عند وصوله إلى السلطة سنة 1992.
يحكي هشام عبود أن شعبية بوضياف كانت كبيرة في أوساط الجزائريين، خصوصا وأنه كان مفوها في خطاباته، وأعاد الجزائريين إلى أيام أحمد بن بلة، أول رئيس للجمهورية، والذي كان يخاطب الجزائريين وكأنه واحد منهم، عكس الهواري بومدين الذي كانت خطاباته كلها عداء ووعيدا. أما بالنسبة للشاذلي بن جديد فلم تكن خطاباته للجزائريين تعدو أن تكون نقطا كتبها له الجنرالات لكي يرددها أمام الكاميرات.
مراد وكامل
سبق لهشام عبود أن تحدث عن رجلين وثق فيهما بوضياف لكي يكونا عينه التي يرى بها الملفات السرية للمخابرات الجزائرية. استعان بوضياف بعميل اسمه كامل، كان متغلغلا في قلب المخابرات الجزائرية وبدأ ينقل إليه أخبار المؤامرات والدسائس والملفات السرية للمخابرات العسكرية، والتي كان الجنرالات يحيطونها بكثير من السرية حتى لا تصل إلى القصر الرئاسي. استعان كامل برجل آخر اسمه مراد، كان مطلعا على أسرار الضباط، وكان يثق به كثيرا. وقام الاثنان معا بتنفيذ مخطط للتنصت على المكالمات الهاتفية لكبار المسؤولين في الدولة ونقل مضامينها إلى بوضياف شخصيا.
لكن الجنرالات كانوا في المقابل قد شرعوا في التجسس على بوضياف في قلب القصر الجمهوري.
يقول هشام عبود: «التنصت على المكالمات الهاتفية والمحادثات السرية داخل القصر الرئاسي كان من العمليات الرئيسية التي كُلف بها الكولونيل إسماعيل العماري.
«إنه شخص لا يمكن توقع تحركاته. تجب مراقبته عن قُرب». هكذا كان يردد الجنرال توفيق خلال الاجتماعات داخل المركب العسكري السياحي في منطقة سيدي فرج وهو يتحدث عن الرئيس».
المفاجأة
كان الجنرال توفيق محقا وهو يحذر زملاءه العسكريين، أو بالأحرى رفاقه في الجريمة، من الرئيس محمد بوضياف. فقد كان هذا الأخير فعلا من النوع الذي لا يمكن نهائيا توقع خطواته. وهكذا وجد الجنرالات أنفسهم ذات يوم، رغم أنهم يراقبون الرئيس ومكالماته واجتماعاته، أمام مفاجأة من العيار الثقيل، وأحسوا لأول مرة بتهديد حقيقي.
يحكي هشام عبود قائلا: «بدأ خطاب بوضياف يصبح مزعجا شيئا فشيئا لأعضاء الديوان السري. ووضع الخطوط العريضة لسياسة محاربة الفساد. ولأول مرة على الإطلاق، قام رئيس الدولة علنيا باستنكار ممارسات المافيا السياسية والاقتصادية. ورغم أنه لم يشر لأسماء الجنرالات، إلا أنهم أحسوا باستهدافهم بكلام الرئيس.
قاموا بعزل أنفسهم قدر الإمكان حتى يتجنبوا لقاء مع قادسي مرباح، الذي كان يترأس المعارضة ممثلة في MAJD (الحركة الجزائرية للشباب والديموقراطية)».
يقول هشام عبود إن بوضياف ومرباح كانا يسمعان أن الجنرال بنعيال وبعض الجنرالات الآخرين المُبعدين حاولوا سابقا قلب الأوضاع، لكن محاولتهم باءت بالفشل.
لكن الفرق بين الجنرالات وبين الرئيس بوضياف أنه كان يتمتع بحرية يضمنها له موقعه السياسي والدستوري. وهكذا فقد قام بإبعاد محمد العماري، الذي كان مزهوا برتبة الجنرال ماجور. وصف هشام عبود هذه الخطوة التي قام بها الرئيس بوضياف، بالخطأ الجسيم.
لماذا؟ يشرح هشام عبود الأمر بأن بوضياف غامر بسلامته وبحُكمه عندما قام باستهداف مباشر لأحد أبرز أعضاء المافيا الذين كانوا 11 رجلا. إبعاد العماري لا يمكن أبدا أن يقابله بقية الأعضاء الذين يسيطرون على كل أركان الدولة ومفاصلها، بالصمت. ولا بد أن بوضياف لم يكن يتوفر على ما يكفي من المعلومات بخصوص نفوذ الجنرال ماجور العماري حتى يقوم بإبعاده من القصر الجمهوري. إذ لم يكن الأمر يتعلق بإبعاد جنرال في الجيش، وإنما بإزالة أحد أركان النظام والمتحكمين في دواليب الاقتصاد والجيش والمخابرات.