من رموز الريف المنسيين شخص اسمه الحزموري نسبة إلى قبيلة بني حزمر نواحي تطوان. وهي واحدة من القبائل المنسية التي شارك أبناؤها في حرب الريف الكبرى ما بين سنوات 1920 و1927. مات الحزموري وهو يحارب مع الخطابي عن سن تناهز 30 سنة فقط، ويبقى أبرز شاهد على القطيعة بين الخطابي والريسولي، الثائر الشهير، إذ إن سليل بني حزمر كان في البداية يقاتل مع الريسولي شأنه شأن أبناء قبيلته، قبل أن يقرر، بطريقته الخاصة والفريدة، الانضمام إلى الخطابي. وبعد وفاته، أزيلت سيرته وأقبرت ذكراه وكأنه لم يكن، ولولا أن أحد أشهر المؤرخين الإسبان نفض عنه الغبار لربما نُسي مساره تماما في ظل غياب مراجع محلية توثق لأبطال حرب الريف المغاربة.
سوء الفهم الكبير بين الخطابي والريسولي
تفاصيل كثيرة من حرب الريف ما بين سنوات 1920 و1927 تبقى غير معروفة اليوم. وقد نكون واقعيين، غير متشائمين، إذا قلنا إنه بات من المستحيل الوصول إليها ما دام الشهود الذين عاشوا أمجادها انتهوا مشتتين في الأرض. حتى أن الناجين منهم ممن عكفوا على حكاية ما عاشوه والتوثيق له شفهيا، لم يتمكنوا من لفت الانتباه إلى صوتهم لتوضيح ملابسات كثيرة أحاطت بثورة الريف والحرب ضد الإسبان.
من بين الأمور الغامضة، الصراع بين الخطابي والريسولي. هذا الأخير الذي دخل في ما يشبه عداء كبيرا مع القبائل التي واصلت حمل السلاح ضد الأجانب، والإسبان على وجه الخصوص، لأنه كان يحظى بعدد من الصداقات مع أجانب، وحصل منهم على عمولات كبيرة مقابل إخلاء سبيل أجانب سقطوا في أسر قوات القبائل التي حاربت الوجود الأجنبي في منطقة الريف وصولا إلى مشارف تطوان ما بين سنوات 1900 و1927.
لم يكن الريسولي، إذن، من النوع المفضل لمحمد عبد الكريم الخطابي. كلاهما من مدرستين مختلفتين. رغم أن الريسولي كان في بداياته اسما مرعبا للإسبان والإنجليز عندما كان الخطابي في بداية حياته المهنية على اعتبار أنه ينحدر من عائلة تمارس القضاء ولديها خبرة في الإدارة، وسبق لها التعامل مع الوجود الإسباني في شمال المغرب.
الخطابي الذي فتح عينيه في هذه العائلة، قرر أن يتمرد ويخوض أعنف حرب ضد إسبانيا منهيا بذلك راحة الجيش الإسباني. فالحرب التي بدأها الريسولي لم تكن بتلك الحدة الضرورية لكي تسمى فعلا حربا تحريرية. بل إن الإسبان أنفسهم صنفوا عملياته في خانة حرب العصابات التي يحركها المال. وبدا الأمر واضحا عندما بدأ الريسولي يطلب المال مقابل إطلاق سراح الأسرى الذين يصلون إليه من مختلف الجنسيات الأجنبية في الشمال، بعد أن يلقي عليهم القبض رجال القبائل الذين تركوا الريسولي في الأخير وآمنوا بالخطابي وتبعوه في حربه الكبرى ضد الوجود الإسباني في شمال المغرب.
أشهر متمرد بعيون الصحافة الأجنبية.. بطل أم قاطع طريق؟
كتبت صحيفة «التايمز» البريطانية سنة 1907 استطلاعا مطولا عن لقاء مع الريسولي، الثائر الذي كان ينظر إليه الإنجليز على أنه عدو لكل ما هو غير مغربي. بينما كان يرى فيه جل بني قومه مجرد «طاغية» من الطغاة.
جاء في ما نشرته «التايمز» بتوقيع من الصحافي الذي زار المغرب سنة 1907، لاورنس هاريس، ما يلي:
«اليوم سوف نتناول طعام العشاء في منزل عبد الله الفاسي وزير الخارجية. بعد الساعة السادسة مساء بقليل، كنت في طريقي إلى منزل المقام العالي.
أخرني موكب من بضعة رجال صادفتهم في طريق ضيقة يحملون حصانا نافقا. كان المنظر استثنائيا، لأن الحيوانات تبقى ممددة في المكان الذي نفقت فيه. إنه أمر شائع أن ترى الجثث المقرفة للحيوانات ممدة في الشوارع، أو أن تصطدم بها في الأماكن المظلمة، وتقاطع الفئران وهي تتناول وجبتها في الظلام.
يبدو أن هذا الحصان المسكين نفق في زنقة ضيقة، لذلك حمله الرجال بعيدا عن المكان الضيق، حتى يرمى في مدخل الحي المفتوح، لتأكله بسرعة الكلاب الضالة التي تحوم في المكان بحثا عن الجثث والفضلات المرمية في أنحاء المدينة للاقتيات عليها.
بوصولنا إلى منزل عبد الله الفاسي، جلسنا في غرفة رفقة خمسة أو ستة مدعوين رفيعي المستوى. أخذ عبد الله بيدي وقدمني إلى ضيوفه. وضعت في المجلس وسائد من الحرير، واتكأت على واحدة منها.
بدأ العشاء بتوزيع كؤوس صغيرة من الشاي الأخضر. هناك عرف خاص بتحضير الشاي في المغرب. ويعطى شرف تحضيره لأهم ضيف مغربي في المجلس.
في هذه الجلسة، أعطي الشرف للريسولي، وهو من المحميين التابعين لبريطانيا. وقد دعي إلى العشاء على شرفي. إنه قاطع طريق، وهو يتمتع الآن بحماية بريطانيا. جاء إلى فاس ليلتمس من المولى عبد الحفيظ أن يعينه «قايد»، لكن السلطان رفض أن يعينه إلا إذا تخلى عن الحماية البريطانية التي يتمتع بها. إلى حدود كتابة هذه الأسطر، فإن الريسولي قبل المنصب وأرجع قدرا من المال الذي حصل عليه من الحكومة الإنجليزية.
إذا أذعن لجميع شروط السلطان وطلباته، فإنه قد يصبح قائدا، لكنه ربما سيفقد رأسه أيضا، لتزين به إحدى بوابات مدينة فاس.
قبل الدعوة التي وجهت له لإعداد الشاي، وأمر عبدة سوداء أن تضع صينية من النحاس حيث يجلس متكئا على وسائد الحرير. القواعد المتبعة في إعداد الشاي المغربي تختلف كثيرا عن حفلات الشاي الإنجليزية».
ثم يمضي هاريس، مواصلا حكيه عن الريسولي، حيث تطرق إليه في مناسبة أخرى، بعيدا عن أجواء الضيافة وطاولات العشاء المغربية، حيث شرح كيف أن الريسولي كان يجري وراء المكافآت المالية التي قدمت له مقابل إطلاق سراح مواطنين أجانب. ويقول: «.. ذهبت إلى منزل مساعد القنصل الإنجليزي، السيد بيبي كارلتون. كان هذا السيد رائعا وعاملني بكل لباقة ولطف. يا له من إحساس بالترف بعد الحمام، ومتعة بطعام العشاء المطهو جيدا وقنينة من الشامبانيا.
علامات العياء بادية علي، قادني السيد كارلتون إلى الأعلى ليريني غرفة النوم، وأجل الحديث كله إلى الغد. إحساس من الجنة ينتابك عندما تنزع ثيابك وتنام بين الأغطية النظيفة.
أيقظتني باكرا أشعة الشمس التي لفحتني في وجهي متسللة من النافذة. بعد إفطار لذيذ مع مضيفي، توجهنا إلى الحديقة لنحظى بحديث وندخن معا. أول شيء قمت به أن أرسلت إلى صاحب البغال وأمرته أن يجهزها في نفس اليوم لأنني أردت أن أصل إلى طنجة في الليلة الموالية إن أمكن.
ما إن ظهر محمد، حتى اتخذ جميع الوسائل والأعذار ليحصل على يوم إضافي مع عائلته. لكن السيد بيبي كارلتون كان له تأثير كبير على المغاربة، وأمره أن يكون جاهزا مع تمام الساعة العاشرة حتى نصل إلى طنجة في اليوم الموالي تماما. وعدته أيضا بمكافأة إن نجح في إيصالي باكرا إلى طنجة. واصلت التدخين والجلوس في الحديقة لساعتين مع هذا الرجل الذي لم أر أكرم منه ضيافة.
كان الإنجليزي الوحيد في المنطقة، بالإضافة إلى أخته التي كانت تتحدث العربية أكثر من الإنجليزية. كان يدير أعمالا تجارية مع المغاربة الذين كانوا يهابونه ويحترمونه. أخبرني بقصص كثيرة لكن أهمها قصة مفاوضاته مع صديقه الريسولي لإطلاق سراح القايد ماكلين».
من يكون، إذن، هذا الريسولي الذي سوف يصبح، بعد هذا التاريخ بقليل، أحد أهم الوجوه المغربية التي نافست عبد الكريم الخطابي في منطقة الريف على قيادة التمردات. تشير بعض المعطيات التاريخية إلى أنهما كانا عدوين لذودين.. كل شيء ممكن.
ما مصير أرشيف حرب الريف؟
تاريخ منطقة الريف تعرض للتخريب في أكثر من موقع من المواقع التي شهدت بعض أطوار حرب الريف الكبرى التي مُني خلالها الإسبان بهزائم كبيرة. دواوير ساهمت في التنكيل بوحدات الجيش الإسباني وتلقينها درسا في الدفاع باستماتة عن الأرض، وكانت النتيجة محو تلك الدواوير، وإتلاف أرشيفها تماما. حتى الذين نجوا من تلك الحروب، ما بين 1920 و1927، رحل معظمهم دون أن توثق شهاداتهم. يتعلق الأمر بشخصيات من القرى الريفية الذين اشتغلوا تحت إمرة المجاهد محمد عبد الكريم الخطابي قبل نهاية ثورته ونفيه من طرف فرنسا إلى الخارج.
وهكذا ضاعت حقائق كثيرة تتعلق بعدد من الأحداث، إذ إن الخطابي عقب عودته إلى قرية أجدير 1919، بعد مضايقات كثيرة تعرض لها من طرف الإسبان والفرنسيين بسبب موقفه من الحرب العالمية الأولى سنة 1915، تعرض لمضايقات من الإدارة الإسبانية أشهرها منعه من العودة إلى منطقته ومنعه من لقاء أصدقائه في مسقط رأسه. لكنه سيتمكن فور انتهاء الحرب العالمية الأولى من توحيد صفوف رجال قبيلة والده، وهكذا انطلقت حربه ضد الإسبان في الريف.
أشهر المحطات كانت حرب أنوال التي كتبت عنها جل صحف العالم، بل وصل صداها إلى اليابان عندما كتبت أعرق الصحف اليابانية، بعضها لا تزال تصدر إلى اليوم، عن أحداث الريف في المغرب سنة 1921 وتطرقت إلى هزيمة الإسبان على يد مقاتلي عبد الكريم الخطابي. إذ كان ملفتا أن يتعرض جيش إسبانيا، الذي كان يتوفر على معدات حديثة وترسانة قوية، على يد مقاتلين محليين.
وإلى اليوم، لا تزال تداعيات معركة أنوال تخيم على أجواء العلاقات بين المغاربة والإسبان. إذ إن الحصار الذي ضربه رجال القبائل الذين كانوا متحالفين مع محمد عبد الكريم الخطابي أنهك الجيش الإسباني. ورغم الحملة الإعلامية التي كانت أطلقت في إسبانيا ووعود الجنرالات البارزين بأن يشربوا «الشاي» في قلب أجدير، إلا أن المطاف انتهى بهم محاصرين في المنطقة بدون أي مؤونة، ولم يجدوا حتى ماء الشرب.
الأرشيف الإسباني غطى على ملاحم المقاتلين المغاربة في الريف، وقلل من أهمية التكتيك القبائلي الذي وُوجه به الجيش الإسباني الذي تلقى ضربة موجعة جدا في تلك الفترة. إذ إن الحرب استمرت لخمس أو ست سنوات إضافية ولم تنته إلا بإجبار الخطابي على الاستسلام عندما لجأ الإسبان في تحالفهم مع فرنسا إلى التهديد بنسف القرى كاملة جوا، وهو ما جعل الخطابي يوقف حربه ضد الإسبان.
بالنسبة للذين كانوا مقربين من الخطابي في تلك الفترة، فقد تم التخلص منهم تباعا، حتى أنه إلى حدود ثلاثينيات القرن الماضي، كان من المستحيل استقاء شهادات هؤلاء الناس الذين عاشوا انتصارات عشرينيات القرن الماضي ضد الجيش الإسباني. فأغلبهم إما ماتوا في السجون وإما أنهم تعرضوا للنفي من الريف إلى مناطق أخرى بعيدا لتشتيتهم وقطع الاتصال بينهم.
الريسولي.. هل كان فعلا عدوا للخطابي؟
تتحدث بعض الشهادات لدبلوماسيين أجانب التقوا الريسولي خلال الربع الأول من القرن الماضي، عن عداوة بينه وبين محمد عبد الكريم الخطابي. لكن تقصي الأمر يشبه كثيرا المشي في حقل للألغام، بحكم أن الرجلين اشتركا في محاربة الإسبان. لكن بعض المصادر وصفت الريسولي بالإقطاعي وحربه ضد الإسبان بـ«المهنة». بعكس الخطابي الذي بقي الجميع ينظرون إليه على أنه محارب جمع قبائل الريف لمواجهة إسبانيا ونجح إلى حد ما في إزعاج الإسبان لسنوات قبل أن يتم نفيه رفقة أسرته خارج الريف، ويرسل إلى جزيرة «لارينيون» التي كانت تتبع للحكومة الفرنسية.
الريسولي كانت له نهاية أخرى مختلفة تماما. فقد أشيع عنه أنه تواطأ مع الثري الأمريكي بريدريكاريس ليطلب المال فدية من الحكومة الأمريكية في الفترة نفسها التي كان فيها محمد عبد الكريم الخطابي يستعد ليدخل مرحلة خلافاته الأولى مع الإسبان.
حتى أن الصحافة الأجنبية تحدثت عن الريسولي بصفته «قاطع طريق»، وليس رجل دولة تفاوض معه دبلوماسيون أجانب. بعكس الخطابي الذي اعتبرته الصحافة الإسبانية، رغم العداوة، محاربا يشكل عرقلة كبيرة أمام الجيش الإسباني.
من جملة الأمور التي بات من المستحيل تقريبا الجزم بشأنها، مسألة العداوة بين الريسولي والخطابي بسبب الهدنة التي عقدها الريسولي مع الجيش الإسباني قبل استسلام الخطابي بسنوات. إذ في عز حرب الريفيين ضد الإسبان، كان الريسولي قد أوقف رجاله عن خوض أي حرب أو مواجهة مع قوات الجيش الإسباني رغم أنها كانت تتحرك في نفوذ قبائل عرفت تاريخيا أنها تابعة للريسولي.
بل إن الأمريكيين قالوا إن الريسولي كان لديه جواسيس يعملون معه في كل مكان، وينقلون إليه الأخبار التي لم يكن يتردد في بيعها للإسبان، ومن بينها أخبار تتعلق بولاء قبائل الريف لمقاتلي الخطابي، خصوصا في المرحلة المبكرة التي كان خلالها محمد عبد الكريم الخطابي يؤسس جيشه الذي لقن به إسبانيا دروسا تاريخية لا تُنسى.
القصة المنسية للقائد أحمد الحزموري
كان رجلا مشهورا جدا في عشرينيات القرن الماضي. والإسبان تحديدا كانوا يعرفونه أكثر من غيرهم. كان معروفا أيضا باسم «أحمد الخريرو»، واختلفت الروايات وراء اللقب.
عرف بأنه أحد رجال الحرب الذين وثق بهم محمد عبد الكريم الخطابي، حيث سلمه مسؤوليات كبيرة خلال حرب الريف رغم أن سنه وقتها لم يتجاوز الثلاثين سنة.
فقد وُلد بقبيلة بني حزمر نواحي تطوان.
والمثير في قصة هذا الشاب المغربي الذي شُهد له بكفاءة عسكرية قل نظيرها، أن الإسبان هم الذين وثقوا لحياته، ولولا أن أحد المؤرخين العسكريين لم يتطرق لمساره، لربما نُسي مساره تماما، في ظل غياب مراجع محلية توثق لأبطال حرب الريف المغاربة.
المؤرخ الإسباني «توماس غارسيا فيغيراس» تناول سيرة هذا المحارب المغربي وقال إنه توفي في إحدى المعارك بالضبط يوم 3 نونبر 1926. وحتى هذا المؤرخ الإسباني تحدث بأسف قائلا إن الأجهزة العسكرية الإسبانية لا تتوفر على أي صورة لهذا المجاهد المغربي الشاب في الأرشيف، لكنها كانت تملك عنه ترسانة كاملة من التقارير، لأنه حارب ضد إسبانيا في الصفوف الأمامية لقوات الخطابي.
وُلد بمدشر دار الغازي نواحي تطوان، ولم يكن ينتمي مثل القادة الآخرين إلى الأسر الميسورة التي كانت تجمع السلطة والمال، بل على العكس كان ينحدر من أسرة فقيرة جدا في المنطقة. وعاش طفولة صعبة جدا بسبب الفقر والأحداث السياسية في المنطقة، منها ثورة بوحمارة وحريق فاس وغيرها من الأحداث التي تلتها مجاعة كبيرة وموجة جفاف.
بل إن سنه لم يكن يتجاوز 15 سنة عندما جاء الاحتلال الإسباني إلى تطوان، وفتح عينيه وقتها على العدو الذي سوف يحاربه في المستقبل، بعد التحاقه بقوات المجاهد محمد عبد الكريم الخطابي. لكن أين كانت بدايته؟
بحسب وثائق الأرشيف، فإن أول عمل عسكري شارك فيه أحمد الحزموري كان في إطار حركة سي الحسن، وهو من قبائل بني عروس، حيث شارك في غارات على وحدات الجيش الإسباني، وأبان عن كفاءة عالية في القتال. إذ كانت منطقة تطوان وشفشاون أولى الميادين التي حارب فيها، ولم يكن سنه يتجاوز 17 سنة.
ما علاقة محمد عبد الكريم الخطابي بكل هذا؟ خصوصا وأن المنطقة التي حارب فيها الحزموري لم تكن تابعة له في ذلك الوقت.
الحقيقة أن الحزموري شارك في البداية داخل القوات التابع رجالها للريسولي. لكنه لم يهضم تلك العلاقة المزاجية التي كانت بين الريسولي وبين الإسبان، فهو تارة يحاربهم وتارة أخرى يعلن معهم الهدنة، وهو ما جعل الشاب الحزموري يدخل في مرحلة من الرغبة في التغيير والتفوق وهو ابن عشرين سنة. إذ عندما جاءت أحداث سنة 1918، وعلى إثر التغيرات التي عرفها قادة الجيش الإسباني، حيث غيروا من استراتيجيتهم في التعامل مع مقاتلي الريسولي، قرر هذا الشاب أن يكون جماعته الخاصة، وفعلا نجح في قيادة عملية اختطاف ضابط إسباني. وحسب وثائق الأرشيف الإسباني، فإن العملية تمت بالضبط يوم 21 نونبر 1921. عملية الاختطاف خلقت حالة استنفار قصوى لدى الجيش الإسباني وسرعان ما أصبح رأس منفذي العملية مطلوبا بالدرجة الأولى لدى قادة الجيش الإسباني.
تحول هذا الشاب فورا إلى بطل داخل جموع مقاتلي قبائل الريسولي، وبسبب الغيرة المفرطة لبعض قدامى المحاربين، نشبت الخلافات بينهم وبين الشاب الذي أصبحت لديه مجموعته الخاصة، وهكذا فإن الريسولي سمح لهم بإبعاد «الخريرو» كما أصبح يُلقب. وذهب إلى الخطابي لكي ينخرط في الصف الأول لمساعديه العسكريين بعد أن أعلن قطيعته مع الريسولي. وهكذا شارك في عدد من المعارك والهجمات على الثكنات الإسبانية، ولم يكن معه من زاد سوى تراكم العمليات التي نفذها في السابق، وعهد إليه الخطابي بعدد من المهام إلى أن مات في مواجهة مع الجيش الإسباني وأسدل الستار على سيرته، واحتفل وقتها الجيش الإسباني بالقضاء على واحد من أكثر المقاتلين المغاربة الذين قضّوا مضجع كبار ضباط وعسكريي الجيش الإسباني.
البغدادي.. عدو الريسولي الذي كتب عنه الأمريكيون
البطل هذه المرة محارب شهير كان مُنافسا للريسولي. ووثق القنصل الأمريكي في المغرب، الذي كان رئيسا للمفوضية الأمريكية في طنجة مع بداية القرن الماضي، للقائه به، بحكم أن الأمريكيين وقتها كانوا مهتمين بالريسولي ورجاله، خصوصا وأنه كان يقود تمردا كبيرا ضد الأجانب.
القنصل الأمريكي السيد هولت وصف البغدادي، الذي كان يحكم منطقة القصر الكبير ونواحيها بأنه الرجل الوحيد الذي كان قادرا على مواجهة الريسولي ما بين سنوات 1900 و1910. أي أنه كان قادرا عسكريا على فرض سلطته على قوات الريسولي الذي كان يريد التحكم في كل الطرقات بمنطقة الشمال.
يقول عنه القنصل هولت، في مذكراته التي عنونها بـ«أرض الغروب العجيب»، متحدثا عن القايد البغدادي في منطقة القصر الكبير: «القصر الكبير تشبه اسمها فعلا. رغم أن بعض منازلها مبني بطريقة غير أنيقة. بالإضافة إلى أن شوارعها فوضوية وبدائية وبها روائح نتنة. إنها أسخن منطقة مغربية زرتها حتى الآن. لم أر شتاءها نهائيا، لكني في هذا الجو المعتدل، أحس وكأن الشمس تركز على مدينة القصر الكبير لتجعل حرارتها مرتفعة. ما بين الربيع والخريف، يبقى الجو حارا دائما ولا يكون معتدلا نهائيا.
كانت هناك مساجد كثيرة في القصر الكبير. من سطح المنزل، كانت تبدو هناك عشرات القباب.
لحسن الحظ، لم يكن علينا أن نقيم في المدينة، وإنما مررنا عند الباشا، «القايد البغدادي». وحللنا بمنزل فخم بحديقة كبيرة، كان هدية من السلطان لهذا الباشا.
كان القايد البغدادي شخصا مثيرا للاهتمام بطريقة ما. لقد سبق له مرة أن جاء إلى مدينة طنجة فوق حصانه، واقتحم سوقها. كان يحمل في يده خنجرا وفي الثانية بندقية، وكان يصيح: أين الريسولي؟ أروني أين هو هذا الكلب ابن الكلب.
لم يعثر البغدادي على الريسولي، وإلا لكان عليّ أن أكتب عن أحدهما الآن بصيغة الماضي. لكن رجال البغدادي عثروا على أحد الحراس الشخصيين للريسولي، ومعه ثلاثون محاربا تحولوا فجأة من سوق طنجة إلى مكان عال. هناك آثار طلقات نارية لا تزال موجودة في باب الفندق الذي تركناه خلفنا في طنجة، ولا تزال شاهدة على تلك الواقعة».
والمثير أنه بالقرب من منطقة نفوذ البغدادي كان هناك أعيان كان لهم تأثير كبير على ما وقع في منطقة الريف خلال الحرب التي خاضها محمد عبد الكريم الخطابي ضد الإسبان. وأحد هؤلاء الأعيان هو عبد الصادق بن عمر، الذي كان يشغل منصب باشا مدينة العرائش. أي أنه كان يجمع بين السلطة والثراء معا.
وتحدث عنه القنصل الأمريكي، بحكم أنه حل ضيفا عنده، في «دار السلطان»، عندما كان يبحث عن حلفاء الريسولي الكبار ومموليه.
كانت الدار مبنية أعلى السور، ونوافذها مسيجة بقضبان حديدية، ويتولى الخدم الإشراف على حراسة البوابة الكبيرة وفتحها وإغلاقها. لم تكن هذه الدار تبعد كثيرا عن دار الباشا.
يقول هولت إنه بمجرد ما استقر في الدار رفقة أسرته الصغيرة، حتى جاءت خادمة أخبرت هولت أن «سي عبد الرحمن» أرسلها خصيصا من منزله لخدمة ضيوفه.. يقول هولت: «
كانت قد جلبت معها خادمات أخريات لمساعدتها. كلهن مسخرات من طرف سعادة الباشا.
كانت الخادمة سوداء البشرة، تطبخ بشكل رائع. غمرتنا بالدجاج المشوي والحلويات والخضر طيلة فترة إقامتنا التي كانت ثلاثة أيام.
كان سي عبد الصادق يقضي معنا بضع ساعات بعد الظهيرة خلال يومنا الأول في ضيافته. بعد الشاي، كنا نتحدث عن تأثر المغرب بالحداثة، ولم أكن متفاجئا لكونه يعرف أمورا كثيرة عن الطرقات الحديثة والقناطر، وأشياء أخرى من معالم الحضارة الغربية، والتي علم بها عن طريق السمع.
كان أيضا يسمع بأن الأجانب يأتون إلى المغرب لأن لديهم أطماعا للسيطرة على الحكم واستعمار البلاد، لكن بدا عليه أنه يرحب بالأمر.
كان لديه فكر متقدم. وهذا الأمر لاحظه السلطان، لذلك عينه حاكما على الريف ومنحه سلطات واسعة لإدارة شؤون الريف والعلاقات مع المبعوثين الإسبان.
«جنتلمان». رجل سلام أكثر مما هو رجل حرب. يفكر أولا أكثر مما يتحرك. كان عبد الصادق يعلم أن العقل المنغلق لن ينفعه في التعامل مع «النصارى». وأثبت أيضا أن كرم أهل القصبة ليس ضعفا، وأن العرائشيين يحبونه فعلا ويحترمونه.
التقطنا له صورة أمام باب القصبة وهو يجلس على كرسي ويتلو تسعا وتسعين اسما من أسماء الله في سبحة يحملها بين يديه، في انتظار أذان المغرب بالمسجد الذي كان يقع أسفل الشارع.
في صباح اليوم الموالي، ومع انفتاح أول زهرة، كنا نستعد للخروج من العرائش».