منذ أيام مسيلمة وسجاح راج سوق المشعوذين والمنجمين، بل وفي كل عام يخرج علينا أناس يزعمون أنهم يقرؤون المستقبل. بل مما علمت أن كل رئيس دولة معه منجم يشير عليه. ومما نقل عن الإسكندر أنه حين أراد اجتياح الشرق، مر على مصر وكان ثمة كرة خيطان عليه أن يفكها، فما كان منه إلا أن ضربها بالسيف فانفلقت! فزع كهنة آمون وكان جوابه هذا هو الحل، كما قال شاعرنا: السيف أصدق أنباء من الكتب. وما زال التاريخ الإنساني يمشي ببطء نحو العقلانية، وحاليا لولا وجود سلاح الفناء الكامل، لدخلنا حربا كونية. مع ذلك فالجنس البشري مهدد بحماقات، من نوع ترامب وبوتين.
نحن الآن دخلنا عام 2022 ميلادية وسيكون رائعا لو أمكن قراءة المستقبل، ودأب المفكرون منذ القدم على محاولة سبر غور المستقبل؛ ففي القرن الثالث عشر للميلاد تصور الراهب الدومينيكاني «روجر بيكون ROGER BACON»، (1216ـ 1292م)، من مؤسسي المدرسة السكولاستيكية، تخيل الناس وهم يركبون عربات حديدية مبردة مقفلة تقطع المسافات على شوارع، تشنف الآذان بصدح فرقة موسيقية طول الرحلة، وهو واقع السيارات اليوم، كما تصور ذلك على قضبان حديدية، وهي القطارات التي وصلت إلى مستوى الطيران فوق وسادات مغناطيسية بارتفاع عدة سنتمترات، بسرعة 500 كلم/ ساعة.
وفي القرن الخامس عشر دشن عبقري النهضة الإيطالية «ليوناردو دا فينشي LEONARDO DA VINCI»، (1452ـ 1519م)، حزمة من الاختراعات العجيبة؛ من التلفون وغازات القتال السامة والتوربينات، وتصور «الباراشوت» على صورة هرم مقلوب مفرغ يتدلى منه إنسان بحبل.
وفي القرن السادس عشر قام الفلكي «يوهان كيبلر JOHANNES KEPLER»، (1571ـ 1630م)، بوضع تصاميم النزول على سطح القمر، وهو مشروع أبولو الأمريكي لاحقا.
وفي القرن السابع عشر، قام «جون ويلكينس JOHN WILKINS» بوضع تصميم الحاكي «الجراموفون GRAMMOPHON».
وبدأت موجة الخيالات العلمية «SCIENCE FICTION» تظهر على السطح بشكل مكثف، منذ بداية الثورة الصناعية، لتبلغ ذروتها مع الرسو على سطح القمر. وفي عام 1840 م وصف الشاعر الأمريكي (إدغار آلان EDGAR ALLAN » لأول مرة فكرة «السايبورغ CYBORG» شبه الكلي؛ على هيئة بشر بأعضاء صناعية، على غرار فيلم «يد من حديدHAND OF STEEL ».
وبعده بخمس سنوات عام 1845 نشر الكاتب الفرنسي «إيميل سوفيستر EMILE SOUVESTRE» نظرة مستقبلية، بعنوان «العالم كيف سيكون LE MONDE TEL QU, IL SERA»، وتجري أحداث القصة عام 3000 م.
وحسب نظرة الفرنسي «سوفيستر»، سيكون هناك «أوتوبيا» عالم مثالي بمصانع كاملة ذاتية الآلية، ومدن بشوارع تحت الأرض (تُنشأ الآن في اليابان أو فكرة أنفاق المترو عامة)، ومناخ ينظم باليد (قريبة منه اليوم مكيفات البيوت)، وأهم من ذلك تنبؤه بمناخ اجتماعي منظم بصرامة، تتحكم فيه تربية جماعية، مما يحوله إلى مجتمع حديدي بارد، في صلابة الحديد وبرودته، وتبخر العواطف الإنسانية والعلاقات الحميمة.
وفي نهاية القرن التاسع عشر، بدا عصر الازدهار لتخيلات المستقبل بكثافة أشد، ولعل أهمهم الكاتب الفرنسي «جول فيرن JULES VERN»، في روايات متعددة له، مثل «رحلة إلى مركز الأرض»، و«عشرون ألف فرسخ تحت الماء»، الذي مثله السينمائي الأمريكي «كيرك دوغلاس» في فيلم أخاذ، وطبعت الملايين من نسخ الروايات وبعدة لغات، ورواياته رائجة حتى اليوم. وفي بريطانيا وحدها ظهر قرابة 55 كتابا عن الرحلات إلى الكواكب، بين عامي 1889 ـ 1915 م. وكتب المؤرخ البريطاني «هربرت جورج ويلز H .G .WELLS» كتابه المشهور حول حرب العوالم وآلة الزمن.
ولكن بدأت صورة العالم المستقبلي الخلاب في الانكماش يجللها الفزع، عندما كتب ويلز قصته «العالم يعيش حرا THE WORLD SET FREE» عام 1914م، يصف فيها النتائج المروعة لتفجير القنبلة الذرية، ولم يخب ظنه فقبل موته اكتحلت عيناه برؤية ما وصفه بقلمه من آثار تفجير السلاح النووي فوق رؤوس اليابانيين؛ فكان أكثر المتنبئين صدقا، ولكن في الاتجاه السلبي القاتم.
ثم ظهرت روايتان، الأولى: لـ«جورج أورويل GEORGE ORWELLS»، وهي «1984»، التي يصف فيها نظاما توتاليتاريا مرعبا يمسك برقبة العالم، وهو مسلح بكل التقنيات الحديثة، إلى درجة التحكم في عواطف الحب بين الأنثى والذكر، مثله فيلم «قصة المزرعة THE FARM». والثانية: رواية «الدوس هكسليALDOUS HUXLEYS»، عن العالم الجديد الجميل، وفيها إشارة إلى فكرة الاستنساخ التي نجحت في عام 1996 م، وتم عرضها على الرأي العام العالمي للمرة الأولى في فبراير عام 1997م، على يد الأسكتلندي أيان ويلموت، قبل أن تقتل من الفريق العلمي نفسه للآثار غير المشجعة.
هاتان الروايتان فجرتا المخاوف الإنسانية في القرن العشرين لإمكانات حدوث تحولات مريعة في المجتمع، تبرر تشاؤمية الفيلسوف الدانماركي «كيركجارد»، التي أطلقها قبل أكثر من 150 سنة، بأن كل تقدم علمي سيوجه سلبا إلى صدورنا لاحقا، في انهيار كوني لا فكاك منه ولا خلاص. وهو ما حاوله الفيلسوف الألماني المحدث «يورغن هابرماز JUERGEN HABERMAS» من مدرسة فرانكفورت، شق الطريق فيه إلى عالم ما بعد الحداثة، في محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه من العقلانية الغربية.
نافذة:
بدأت موجة الخيالات العلمية «SCIENCE FICTION» تظهر على السطح بشكل مكثف منذ بداية الثورة الصناعية لتبلغ ذروتها مع الرسو على سطح القمر