الشهر الماضي عاش المغرب ومعه العالم، ضغطا رهيبا، في أثناء ترقب ومتابعة عملية إنقاذ الطفل المغربي ريان، الذي صار أيقونة عالمية، من بئر في قرية صغيرة نواحي مدينة شفشاون.كانت أنظار العالم كله تتجه نحو المغرب، ونظمت حملات تضامنية في كل أنحاء العالم، بل إن قنوات عالمية في اليابان وأمريكا الجنوبية اهتمت بالموضوع، ونقلت مستجدات عملية الإنقاذ أولا بأول.
العملية قادتها فرقة إنقاذ مغربية مائة في المائة، وأشاد خبراء دوليون تابعوا «القصة» بكفاءة الحفارين المغاربة والأطر، الذين تدخلوا لتسريع وتيرة الوصول إلى الطفل ريان.الأمر كان يتطلب خبرة كبيرة في إزالة الركام، وضمان عدم وقوع كارثة، في أثناء الحفر.
في هذا الملف، نقلب في الأرشيف، ونقترح عليكم العودة إلى أبرز المحطات التي اتجهت فيها الأنظار صوب المغرب، وقصة أولى فرق الإنقاذ المغربية التي وُلدت من رحم التعامل مع الكوارث».
عندما حقق ولي العهد بنفسه في كارثة بنواحي مراكش
ما بين سنتي 1954 و1955، كانت فرنسا قد أدمجت عددا من الشبان المغاربة المتفوقين، في جهاز الطيران، حيث جرى تكوينهم في فرنسا على قيادة الطائرات العسكرية، واعتبروا وقتها من الجيل الأول للطيارين المغاربة، الذين كان من بينهم كل من الطيار بامعروف والقباج، الذي اكتسب شهرة واسعة عندما كان يقود طائرة «البوينغ»، التي كان على متنها الملك الراحل الحسن الثاني، خلال الانقلاب الذي قاده الجنرال أوفقير، وتم استهداف الطائرة الملكية.
كان هذا الجيل من الطيارين المغاربة الأوائل، في تلك الفترة، مكلفين بالعمل في نقل البريد الملكي من القصر الملكي بالرباط إلى عدد من العمالات، من بينها الأقاليم الصحراوية. لكن أحد هؤلاء الطيارين عندما كان في مهمة بطائرة صغيرة تقل راكبين فقط، منطلقا من الرباط، قام بالتحليق على ارتفاع منخفض جدا في نواحي إحدى القرى، اتضح في أثناء التحقيق معه أنها مسقط رأسه، وأنه أراد فقط تحية سكان القرية بطريقته، لكنه عندما كان يحلق على ارتفاع منخفض لامست مروحية محرك طائرته الصغيرة أحد الأسلاك الكهربائية، وهو ما تسبب في اندلاع النيران في المزارع، وتسببت الواقعة في حريق مهول أدى إلى خسائر مادية فادحة جدا.
في البداية سجل الحادث ضد مجهول، لأن سكان القرية لم يرووا الواقعة كما حدثت. لكن نباهة أحد العاملين في القاعدة، حيث تجتمع الطائرات الفرنسية المستعملة في قضاء الشؤون الإدارية، انتبه إلى وجود قطعة من السلك في قمرة القيادة، وقام بالتبليغ عن الأمر، ومباشرة وقع الربط بين القطعة وبين الحريق الكبير الذي تسبب فيه سقوط سلك التيار الكهربائي، وتم استدعاء الطيار إلى لجنة ترأسها ولي العهد وقتها الأمير مولاي الحسن شخصيا، وسنت اللجنة في حقه إجراء عقابيا بالفصل من الطيران، نظرا لأن الحادث تسبب في كارثة، حيث كان من المستحيل السيطرة على النيران التي التهمت مساحة شاسعة من المزارع، وسجلت خسائر في ممتلكات الفلاحين، رغم تدخل فرق لإطفاء الحريق وتطويقه. وكانت تلك واحدة من أولى الحوادث التي سجلت خسائر، في مرحلة استقلال المغرب.
كان الملك الراحل الحسن الثاني قد عاش تجارب، وجد فيها نفسه على رأس فرق إنقاذ، عندما تعلق الأمر بحادث اختفاء ضابط فرنسي في الصحراء، حيث أشيع أن بعض قدماء المقاومة وجيش التحرير، قد قاموا بعمليات في الصحراء ضد المستعمر الإسباني، واختطفوا ضابطا فرنسيا، وهو ما تسبب في أزمة بين المغرب وفرنسا، مباشرة بعد استقلال المغرب سنة 1956. حتى إن الصحافة الفرنسية وقتها كتبت في التعليق على تدخل ولي العهد الأمير مولاي الحسن، لإنهاء التوتر مع فرنسا، وكشف مصير الضابط الفرنسي وإعادته بأنها: «عملية إنقاذ يقودها الأمير مولاي الحسن».
زيوت مكناس المسمومة.. عندما حصد المغرب تعاطف العالم سنة 1959
تبقى واقعة زيوت مكناس المسمومة أحد أكثر الأحداث التي هزت الرأي العام المغربي والدولي أيضا، وأصبح المغرب خلالها موضوع اهتمام دولي غير مسبوق، حيث سُجل تعاطف كبير مع الضحايا وحلت فرق تدخل طبي، خصوصا في مجال الترويض، لتقديم يد المساعدة لأزيد من عشرة آلاف شخص، كان أغلبهم يقطنون بمدينة مكناس.
بدأ كل شيء عندما راجت في مدينة مكناس كميات من زيت الطبخ، كانت في الحقيقة تحتوي على نسبة مرتفعة جدا من زيت محركات الطائرات التي تبقت من مخلفات مستودع القاعدة الجوية الأمريكية، وتسربت في ظروف متداخلة، لكي تقع بين أيدي تجار الزيت الذين قاموا بمزجها مع زيت الطعام، وتوجيهها نحو الاستهلاك.
هذا الغش التجاري الذي تسبب في واحدة من كبريات الكوارث الإنسانية، خلال القرن الماضي، وضع المسؤولين المغاربة أمام لغز محير. إذ كان الضحايا يتساقطون أرضا بالآلاف، بوتيرة متسارعة جدا. وأعطى الملك الراحل محمد الخامس وقتها أمرا فوريا بفتح تحقيق في الموضوع. وعندما انتشر الخبر دوليا، بسبب تغطيات الوكالات الدولية للأنباء للكارثة، حلت فرق طبية أجنبية من ألمانيا وفرنسا وهولندا والولايات المتحدة الأمريكية، حيث احتملت في البداية أن يكون الأمر يتعلق بوباء غامض، فجاءت لمحاولة السيطرة عليه، قبل أن يتمدد إلى دول أخرى. لكن أحد الأطباء الأجانب انتبه إلى اللون الحائل لزيت الطبخ في بعض القنينات الزجاجية المعروضة في الأسواق، وأجرى عليه تحاليل مخبرية أثبتت على الفور أن الزيت يحتوي على كمية كبيرة جدا من زيت تنظيف المحركات، وهي التي تسببت في إصابة الضحايا بالشلل الفوري والتشوه على مستوى المفاصل.
انتشر الخبر في كل الصحف الدولية، وأصبح الضحايا موضوع اهتمام العالم، حيث أحدثت مراكز ميدانية لإيواء الضحايا وإخضاعهم لحصص ترويض على يد فرق متخصصة من مختلف الجنسيات. وسُجلت وقتها أوسع حملة تضامن مع المغاربة، حيث خصص الصليب الأحمر مساعدات مهمة للعائلات المتضررة، ووضع أجهزة للترويض رهن إشارة المركز، الذي فتح في مكناس لتقديم المساعدة إليهم.
كانت الأطر الطبية المغربية وقتها في طور التكوين، بحكم أنه لم تمض سوى ثلاث سنوات على استقلال المغرب. وشكل هؤلاء أول فريق إنقاذ طبي مغربي بعد الكارثة، حيث عهد الخبراء الأجانب إلى هذه الأطر بمواكبة حصص الترويض واستكمالها، بعد رحيل وحدات الصليب الأحمر. حيث يتذكر الناجون من تلك الكارثة كيف أن ممرضات سويسريات الجنسية، كن يشرفن على تدريب ممرضات ومسعفات مغربيات لتقديم المساعدة إلى الضحايا.
زلزال أكادير.. أول امتحان للمغاربة بعد الاستقلال
آخر أيام فبراير من سنة 1960. صادف تلك السنة أن يكون فبراير أطول بيوم، أي أن عدد أيامه كانت 29 يوما. وهو نفسه اليوم الذي شهد أحد أعنف الزلازل التي عرفتها الأرض خلال القرن الماضي. بل إن هناك من يصنفه ضمن لائحة أقوى الزلازل حتى اليوم.
تزامن رمضان مع التاسع والعشرين من فبراير في العام 1960، والنتيجة كانت هزة أرضية قوية استمرت لخمس عشرة ثانية مستمرة، سقطت فيها المدينة ببناياتها وطحنت سياراتها تحت الأنقاض، واختلط فيها الحابل بالنابل.
أكادير التي يعشقها الناس، كانت تستقبل ليلة رمضانية غير عادية، يتجول فيها الناس ليلا، ويصرون على إحياء ليلها على مشارف البحر في جو رمضاني يسمو بك إلى أزمنة أخرى..
لكن جولة المساء لم تتم، وقدر لها أن تنتهي مع تمام الساعة الحادية عشرة ليلا وأربعين دقيقة تماما. 15 ثانية هدمت كل شيء، ولن ينسى أرشيف المدينة منظر رجل حليق الوجه أسمر البشرة ينظر باستسلام إلى كاميرا التلفزين الفرنسي، يجيب عن أسئلة الصحفي الذي سأله ماذا وقع بأكادير؟ فكان جواب الرجل بعربية بريئة: «كنا جالسين.. وفجأة..». لم يجد الرجل ما يتم به الجملة ويحول دوي الانفجار إلى لغة مفهومة، وأحدث بفهمه أصواتا تشبه صوت الزلزال الذي صم الآذان. اللغة تبقى عاجرة في كثير من الأحيان على احتواء مشاعر الناس وتصوير القصص التي عاشوها.
سبق وأن تناولنا في «الأخبار» موضوع زلزال أكادير، لكن من زاوية السرقات التي وقعت بعد تلك الكارثة المدمرة.
لذلك كان الجيش المغربي أول متدخل لإعادة الأمن إلى المدينة التي تحولت إلى ركام وأنقاض. وكان وقتها الجنرال إدريس بن عمر، قد عهد إليه الملك الراحل محمد الخامس بمهمة الإشراف على مخيمات إيواء الناجين وإنهاء حالة الفوضى. ومما تنقله ذاكرة سكان أكادير القدامى، مزاعم تتعلق بإقامة الجنرال إدريس بن عمر لمنصات لتنفيذ أحكام الإعدام في حق الذين ألقي عليهم القبض متلبسين بسرقة أغراض ضحايا الزلزال ومحتويات منازلهم المهدمة. إذ تقول بعض الروايات إن الجنرال أعطى الأمر بإطلاق الرصاص على اللصوص وإعدامهم على يد فرقة عسكرية خاصة تجوب المدينة، وهو ما جعل على الأقل حالة الأمن تعود بعد ساعات من التسيب.
زلزال أكادير لم يكن فقط تحديا للحكومة المغربية وقتها، بل كان تحديا عالميا، إذ سرعان ما حلت فرق إنقاذ وطواقم طبية من فرنسا وألمانيا وهولندا وبلجيكا للمشاركة في إنقاذ الناجين وانتشال الجثث من تحت الركام. بالإضافة إلى عناصر الصليب الأحمر الذين رابطوا بالمدينة لأشهر لتقديم المساعدات الطبية للناجين وإيوائهم. كما أن فريقا من الولايات المتحدة الأمريكية حل بالمكان، وتم استعمال المروحيات وتجهيزات حديثة كانت تستعمل لأول مرة في المغرب، لإنقاذ الناجين ونقلهم إلى المستشفيات الميدانية التي انتشرت في محيط أكادير لإسعاف الناجين وإجراء العمليات الجراحية وتوفير الغذاء للعائلات والمسعفين.
لكن هذا لم يمنع من الإشادة بالسواعد المحلية، حيث سجل الأرشيف وجود فرق مكونة من مئات المغاربة الذين عملوا في فرق الإنقاذ المشكلة للقوات المساعدة، حيث قاموا بانتشال الضحايا من تحت الركام باستعمال الفؤوس وآليات البناء. وكان تدخلهم ناجعا جدا قبل وصول فرق الإنقاذ الأوربية.
إذ أن المنقذين المغاربة، كانوا يشتغلون بالتنسيق مع الجيش، وعندما حل الملك الراحل محمد الخامس وولي العهد الأمير مولاي الحسن في أكادير مباشرة بعد الزلزال، كانت الفرق المغربية تواصل الحفر ليل نهار لانتشال المصابين والمتوفين من تحت ركام الإسمنت.
1952.. أكبر حريق بالبيضاء وميلاد فريق إنقاذ مغربي
لم يتبق من حريق نشب في تجمع سكاني نواحي سيدي معروف بالدار البيضاء أواخر سنة 1952 سوى ورقة أرشيف للبوليس الفرنسي في الدار البيضاء. هذا الحريق المنسي كان فرصة لكي يولد أحد أوائل فرق الإنقاذ والتدخل في الكوارث مثل الحرائق وتهدم المنازل، المكون من بعض شبان مدينة الدار البيضاء «الفتوة» المشهود لهم بالقوة البدنية.
بدأ كل شيء عندما نشب حريق نواحي سيدي معروف. اعتقد الناس في البداية أن الأمر يتعلق بمحاولة للانتقام من الإدارة الفرنسية، لكن المكان الذي نشب فيه الحريق، كما تؤكد الوثيقة الفرنسية، لم يكن يعرف أي وجود سكاني للفرنسيين.
كان معروفا أن منطقة سيدي معروف كان يتردد عليها المقاوم محمد الزرقطوني وبعض أصدقائه. وفي عز أحداث 1953 التي اندلعت بسبب نفي الملك الراحل محمد الخامس، كان البوليس الفرنسي يبحثون عن رفاق الزرقطوني في سيدي معروف.
لكن خلال نشوب هذا الحريق، كان هناك فرضية أولية مفادها أن الأمر قد يتعلق بحريق تسبب فيه الوطنيون الذين كانوا يجتمعون سرا بعيدا عن أعين البوليس الفرنسي. بينما كان الأمر، حسب ما تم ترجيحه لاحقا، يتعلق بحريق نشب في منزل تقطنه أسرة مغربية فقيرة، وانتقلت النيران إلى بقيت المنازل الملاصقة لبعضها.
وكانت في المنطقة محلات تجارية لكنها كانت تخلو تماما من منازل فرنسية، وهو ما جعل البوليس يستبعدون في الأخير فرضية الحادث المدبر أو «الانتقام».
لماذا إذن وفروا وحدات لإطفاء الحريق؟ ما دام الأمر يتعلق بضحايا مغاربة فقط؟ يرجح أن الفرنسيين تدخلوا مخافة أن يتعاظم الحريق وينتقل إلى أحياء الفرنسيين، حيث كانت بعض «الفيلات» التي يقطنها فلاحون فرنسيون يملكون أراض فلاحية نواحي الدار البيضاء، متناثرة هنا وهناك.
خلال عملية إطفاء الحريق، سجل الفرنسيون أن شبانا مغاربة كانوا ينافسونهم في عملية إطفاء ألسنة النيران، وكانوا على قدر كبير من الشجاعة والخبرة أيضا رغم أنهم ليسوا مدربين ولا يرتدون بذلة واقية ولا خوذ تقيهم مخاطر سقوط الأسقف الخشبية المحترقة فوق رؤوسهم.
إذ كان هؤلاء الشبان يؤازرون السكان المحليين ويقتحمون النيران بعد أن يبللوا أنفسهم بالمياه رغم برودة الطقس، لاستخراج أغراض الأسر من داخل الغرف التي تلتهم النيران جنباتها.
حتى أنهم كانوا يقتحمون «البراريك» الخشبية التي كان يجمع فيها السكان مؤنهم من الحبوب ويستخرجون منها ما يقدرون عليه، وعناصر الوقاية الفرنسية يتابعونهم في اندهاش.
بل إن عملية استخراج المؤونة من تلك المخازن قلصت من خطورة الحريق. إذ أن التقرير يشير إلى وجود عبوات غاز الإنارة الذي كان يستعين بها بعض السكان لتوفير الإنارة ليلا في الأكواخ التي لم تكن مرتبطة بالتيار الكهربائي. ولو أن النيران انتقلت إليه لتضاعف خطر الحريق عشرات المرات.
لاحقا، بعد انتهاء مشكلة الحريق، انتقل الخبر إلى أطر حزب الاستقلال، خصوصا عبد السلام بناني الذي كان أحد أوائل سكان الدار البيضاء الذين ساهموا في إطلاق مبادرة تخصيص سيارة لنقل الموتى في الدار البيضاء، ومعه محمد بن جلون، الذي كان بدوره أحد أعيان الدار البيضاء الممثلين لحزب الشورى، قد دعموا فكرة إنشاء أول فريق إنقاذ مغربي للتدخل لإطفاء الحرائق، وتخصيص مقر لتدريبهم وسيارة كان مخططا جلبها من فرنسا بعد أن وعد عمال مغاربة في المناجم الفرنسية بتوفيرها من أجل مدينة الدار البيضاء، لكن الفكرة لم تتم نظرا لعرقلة فرنسية كبيرة حتى لا ينجح المشروع.
لا تتوفر للأسف أي معطيات عن فريق الشباب الذين كانوا مرشحين للاشتغال في فريق الإنقاذ المغربي، لكن تدخلهم في إطفاء حريق سيدي معروف المنسي، والذي تلته حرائق أخرى بعد نفي الملك الراحل محمد الخامس في غشت 1953، كان مُلفتا.
قبل قرن.. قصة فرقة إنقاذ متعددة الجنسيات لسلامة الأوروبيين
عندما دخلت سنة 1900، كانت الجاليات الأجنبية في المغرب تزداد نشاطا وشعبية أيضا. لكن في مدينة طنجة فقط حيث أصبحت هناك أكثر من ثلاث جاليات نشيطة بقوة، وهي الجالية البريطانية والإسبانية ثم الفرنسية. كما أن أعداد الأمريكيين الذين كانوا في طنجة عرف ازديادا كبيرا. ثم كان هناك نشاط كبير لأفراد من الجنسيات الألمانية والإيطالية. ثم بقية الجنسيات الأخرى مثل الروس..
هؤلاء جميعا كانوا يحاولون التأسيس لحياة عصرية في شمال المغرب، وكانت لديهم حاجة كبيرة إلى توفير جهاز شرطة عصري ومرافق ترفيه لأبناء تلك الجاليات.
كانت هناك حاجة كبيرة إلى فرق إطفاء الحرائق، خصوصا بعد واقعة اهتزت لها طنجة ما بين 1894 و1900. ولم يعرف تاريخها بدقة. لكنها وقعت بعد وفاة المولى الحسن الأول بفترة.
إذ أن بعض أعيان نواحي طنجة، دخلوا في حرب ضروس ضد بعضهم للفوز باعتماد المخزن لاختيار خليفة سلطاني ينوب عن منطقة طنجة ونواحيها أمام «المخزن».
من بين أشكال تلك الحرب، إضرام النيران في الأراضي الزراعية التابعة للشخصين المتنافسين. وقد وثق لهذه الواقعة القنصل الأمريكي إدموند هولت الذي عمل في طنجة خلال الفترة ما بين 1900 و1910. إذ نقل أن حرائق كانت تضرم خارج طنجة في قلب الأراضي الزراعية في إطار المنافسة بين الرجلين حول منصب الخليفة السلطاني، وكان هناك خطر محدق يتمثل في احتمال انتقال النيران إلى المناطق السكنية خصوصا وأن الرياح القوية كانت تعمل أحيانا على نقل النيران في اتجاه مناطق مأهولة بالسكان.
أمام هذا التهديد كان هناك مطلب توفير فريق إنقاذ عصري ومتمرس للتدخل في حالات إضرام النيران في أحياء طنجة، إذ أن تلك الحرب بين أقطاب «المخزن» كانت غير مأمونة ولا أحد كان يستطيع تحديد السقف الذي قد تتوقف عنده.
في طنجة، لم يكن هناك أي تخوف للأجانب من الكوارث الطبيعية مثل الفيضانات والزلازل. إذ أن المدينة تاريخيا لم تسجل حالات عنيفة للزلازل، وموقعها الجغرافي المرتفع جعل الجاليات الأجنبية تستبعد أن تغرق يوما في سيول الفيضانات. لكنهم كانوا يعانون من العزلة في أيام المطر القوي، ويحتمون بمنازلهم وداخل الفنادق في قلب المدينة، دون أن يستطيعوا التنقل خارج طنجة لاكتشاف المناطق المحيطة بها.
كل هذه الإكراهات جعلت الجاليات الأوربية تفكر في إنشاء أولى فرق الإنقاذ، واختاروا أن تكون من الجنسيات المكونة لأغلبية السكان الأجانب في طنجة. وقد سجلت حالات لمتطوعين فقط، كانت لديهم خبرات سابقة في إطفاء الحرائق أو إنشاء القناطر المؤقتة خلال فيضانات الأودية، وعملوا على جمع أغراض التسلق والخيام لنصبها خارج المدينة في حالة حدوث كارثة ما.
الصحافي والتر هاريس، الذي عاش سنوات طويلة في طنجة خلال نفس الفترة، واشتهر اسمه في لندن مقرونا دائما بالمغرب، حيث كانت أول مرة جاء فيها إلى المغرب قبل 1894، أي أنه جاء إلى المغرب خلال فترة حكم المولى الحسن الأول، وآخر الأخبار عنه في المغرب تعود إلى ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، وثق لإنشاء أول فريق إنقاذ في طنجة حسب زعمه. إذ ذكر في كتابه «في بلاد سلطان افريقي» أن بعض الأوربيين شكلوا مجلسا من جنسيات أوربية وجمعوا معدات الإنقاذ وعربات لنقلها ووضعوا بعضها في مخزن فندق «كونتينونتال» الشهير الذي لا يزال قائما إلى اليوم، واتفقوا على استعمالها بغرض الإنقاذ إذا ما تعرضت أسرة أجنبية في طنجة لخطر مثل الحريق أو الهدم.
كما أنهم كانوا يصرون على أن ترافقهم واحدة من تلك العربات التي تحمل آليات إنقاذ بمعايير ذلك الوقت، خلال رحلات الصيد التي كانوا ينظمونها بين طنجة وأصيلة والعرائش، للتدخل والإنقاذ في حالة وقوع خطر ما.
أحداث مؤلمة شغلت المغاربة..
زلزال منطقة الريف سنة 2004 كان من أكبر الامتحانات أمام فرق الإنقاذ المغربية. إذ أن التعليمات التي أعطيت لمختلف المصالح الأمنية والعسكرية والمدنية، كانت تعطي الأولوية لإيواء سكان منطقة الناظور والحسيمة والقرى القريبة من البؤرة التي سجلها الزلزال وتوفير الأغطية والغذاء لمئات آلاف المغاربة الذين تركوا منازلهم ورابطوا بالقرب منها حتى لا تسقط فوق رؤوسهم.
لحسن الحظ لم تسجل خسائر بفظاعة زلزال أكادير الذي كان بشهادة الجميع أحد أعنف الكوارث الطبيعية في القرن الماضي، لكن زلزال منطقة الريف، الذي عرف لاحقا بـ «زلزال الحسيمة» كان أيضا من النوع الذي يصعب التنبؤ بهزاته الارتدادية، وهو ما جعل المغاربة جميعا يعيشون على أعصابهم خلال فترة نشاط الزلزال.
فيضان منطقة «أوريكا» في منتصف تسعينيات القرن الماضي كان أحد أكثر المحطات إيلاما، إذ أن المنطقة الجبلية في نواحي مراكش، والتي تصل إلى تارودانت عبر منعرجات «تيزي نتاست» الشهيرة، كانت موضوع حدث هز المنطقة التي لا تزال تحمل نذوبه إلى اليوم.
يتعلق الأمر بفيضان مفاجئ سببه سيل جارف أتى على المنازل والمقاهي السياحية المنتشرة على جنبات الطريق الجبلية وسحب معه منطقة سكنية بكاملها وسجل خسائر مادية فادحة وخسائر في الأرواح. وصلت فرق الإنقاذ من مراكش في زمن قياسي، لكن السيول كانت أسرع من الجميع، وتم العمل على ألا يتكرر سيناريو مشابه في المستقبل، ومنعت السلطات السكان من إقامة أي بناء على مقربة من مستوى فيضان الوادي وبعيدا عن مجرى السيول.
تحدثت وسائل إعلام أجنبية عن الواقعة ووصفتها بواحدة من أعنف السيول التي تسببت في خسائر فادحة في زمن قياسي جدا.
كان هناك تطور كبير في عمل فرق الإنقاذ المغربية ما بين سنوات الستينيات والسبعينيات. إذ أن مناظر الفؤوس وعمليات الإطفاء التقليدي للحرائق وغيرها من الكوارث، تداعت مع تقدم السنوات، ليصبح منظر القوات المتخصصة مألوفا لدى المغاربة.
إذ سرعان ما أصبحت هناك مراكز للتدخل ومتطوعون في الهلال الأحمر، بالإضافة إلى رجال الوقاية المدنية، وهو الجهاز الذي طوره الملك الراحل الحسن الثاني بعد تسجيل حوادث بعد الاستقلال، ليأتي القرار بتأهيل فريق وطني ينوء بمسؤولية توفير الحماية للمغاربة في الحالات الحرجة. حسب مصادر تحدثت إليها «الأخبار»، فإن الملك الراحل الحسن الثاني سنة 1962 انكب على مشروع تأهيل أطر أمنية لتشكيل أولى فرق الإنقاذ حتى يكون هناك تدخل سريع وفوري يغني عن انتظار فرق أجنبية مثل ما وقع في زلزال أكادير الذي وصفته منظمة الصليب الأحمر بأنه أحد أخطر زلازل القرن العشرين. عاما واحدا بعد الزلزال، كان الملك الراحل الحسن الثاني قد قرر تكوين أطر مغربية في الوقاية المدنية مهمتهم الأساسية التدخل في الكوارث الطبيعية وإطفاء الحرائق، ومع مرور السنوات تحقق فعلا مشروع توفير فرق مغربية محلية مُكونة في المجال.