ملامح من شخصية عبد الكريم الخطابي تُروى لأول مرة - تيلي ماروك

عبد الكريم الخطابي، الريف ، أنوال ملامح من شخصية عبد الكريم الخطابي تُروى لأول مرة

ملامح من شخصية عبد الكريم الخطابي تُروى لأول مرة
  • 64x64
    telemaroc
    نشرت في : 18/03/2022

«استغل الصحافي «شيين» وجوده أثناء الأسر لكي يسمع من الريفيين تفاصيل الحرب والمواجهات مع الإسبان، والتي حدثت قبل وصوله إلى المغرب. كان مهما جدا بالنسبة له أن يسمع ما وقع على لسان الريفيين الذين شاركوا في الحرب أو عاشوا فظاعات القصف الإسباني بالطائرات. فقد سبق له الاطلاع على الرواية الإسبانية في الصحافة. من جملة ما رواه له قائد قبيلة المطالسة:

«إن الريفي يقاتل بشكل أفضل من أي محارب آخر. فهو يقتل أعداءه حتى يصيبه الإعياء. ذات يوم، أتت طائرة إسبانية إلى بلاد المطالسة وكانت تحلق فوق سوق الثلاثاء على علو جد منخفض. صوبنا نيران بنادقنا نحوها، فسقطت واحترق من فيها بمشيئة الله. لا يملك الريفي أية طائرة لكنه ليس بحاجة إليها. فالطائرة ليست شيئا حسنا.

ثم استرسل قائلا:

يدخل الريفي الجنة مباشرة إن مات وهو يحارب الإسبان. سواء أكان رجلا صالحا أم لا. لا فرق بينهما. يرزق المحارب في سبيل الإسلام الجنة إذا استشهد. أما الإسبان فمصيرهم جهنم. مصير كل الإسبان وكل الذين يحاربون محمد بن عبد الكريم هو جهنم».

هكذا عمل صديق «همنغواي» وشاهد مقتل غاندي مراسلا في الريف

لا بد أن الباحث المغربي محمد الداودي كان منصهرا تماما في هذه المذكرات عندما ترجمها إلى العربية.

المذكرات تعود للصحافي الأمريكي «فنسنت شيين»، الذي حل بالمغرب وعاش فصولا من حرب الريف سنة 1925، مراسلا لـ«شيكاغو تريبيون».

ترجمة عمل بهذا الحجم وهذه الأهمية، لا بد وأنه احتاج «حربا» من التنقيب في المصادر الأخرى، خصوصا وأن محمد الداودي قدم في هوامش الكتاب الصادر باللغة العربية الشهر الماضي فقط، مجموعة من الملاحظات لتقييم شهادات ومغامرات المراسل الأمريكي في شمال المغرب وقارنها مع ما جاء في أرشيف من الوثائق الفرنسية والإسبانية، خصوصا التي تتعلق بمعطيات عن مواقع الثكنات العسكرية وأسماء الشخصيات التي لعبت دورا كبيرا في الأحداث.

التقى هذا الصحافي بالمجاهد محمد عبد الكريم الخطابي، والتقى أيضا مع أخيه امحمد ومع وزراء في حكومة الخطابي التي واجهت الاستعمار الإسباني، وقدم وصفا دقيقا لعدد من المواقع، وهو ما يؤكد أنه كان فعلا في قلب الأحداث.

يضع الباحث محمد الداودي ملاحظات مهمة على دفة الكتاب مقيما تجربة هذه الترجمة: «هذه أول ترجمة باللغة العربية لكتاب «مراسل أجنبي في حرب الريف». كان فنسنت شيين خلال رحلته عبر الريف وغمارة وجبالة في مطلع 1925 أول شاهد عيان على مخلفات انسحاب الإسبان من الشاون. والذي يعتبره بعض المؤرخين «أنوالا» ثانية. وأول صحافي يتحدث للشريف الريسوني بعد الأسر. وأول كاتب يروي قصة حياة جوزيف كليمس أو «الحاج ألمان». التقى شيين بالقيادات الريفية وتحدث لأسرى الإسبان والناس العاديين عن بحارة وفلاحين وقواد. وهو يقدم، في قالب شبه روائي، شهادات نادرة عن كل هذه النماذج. يراقب نظراتهم ويصف حركاتهم. وينقل أقوالهم ويقدم انطباعاته عن شخصياتهم. ورغم أن وصفه لا يخلو أحيانا من أحكام مسبقة وتعميمات ذات طابع استشراقي، إلا أن له عينا نافذة للملاحظة وقدرة على السرد المشوق الذي يعيد الحياة لهذه الشخصيات. وإلى جانب الأهمية التاريخية لهذه الشهادات، فهي لا تخلو أيضا من التفصيل الإثنوغرافي والسوسيولوجي.

من بين كل الصحافيين الأجانب، يعتبر فنسنت شيين المراسل الذي أمضى أطول مدة في شمال المغرب أثناء الحرب الاستعمارية. لكن اسم شيين اقترن أيضا بأحداث كبرى بعد حرب الريف. إذ شهد أحداث الحرب الأهلية الصينية، ثم أحداث ثورة ثورة البراق في فلسطين سنة 1929. وكان أحد آخر الصحافيين الذين اضطروا إلى مغادرة كاتالونيا رفقة الروائي أرنست همنغواي بعد اجتياحها من طرف قوات فرانكو في الحرب الأهلية الإسبانية. تسلل بعد ذلك إلى فيينا عشية الاجتياح النازي للنمسا. وكان في لندن أثناء قصف المدينة في الحرب العالمية الثانية. كما كان على بعد عدة أمتار من المهاتما غاندي لحظة اغتياله. يعتبر شيين بحق شاهدا على استثنائيا على أهم أحداث النصف الأول من القرن العشرين».

مهمة صعبة بين الجبال وحرب خطوط الهاتف

إذا كان الصحافي الأمريكي «فنسنت شيين» قد نجح في الوصول إلى محمد عبد الكريم الخطابي في عز حرب الريف سنة 1925، فإنه نجح أيضا في فهم حياة المغاربة وقتها، واستطاع استمالة الذين رافقوه خلال هذه المغامرة، لكي يشاركوا في إنجاح مهمته الصحافية في المغرب. إذ أنه حل بيننا بصفته مراسل «شيكاغو تريبيون» من الشمال المغربي، حيث غطى أحداث حرب الريف ونقل منه إلى العالم حقيقة ما كان يقع من تجاوزات مارسها الإسبان في المنطقة. وحاز على حوار حصري مع محمد عبد الكريم الخطابي واستطاع نقل وجهة نظره إلى العالم الغربي، بعد أن كان الإعلام الإسباني يقدم الخطابي على أنه إرهابي دموي معادي لكل ما هو غربي.

من بين أقوى ما نقله «شيين» عن صعوبة مغامرته:

«كان ينتظرنا بعد ذلك صعود آخر بطيء وطويل على جانب جبل يسمح برؤية ممتازة بحيث يطل على كل المنطقة المحيطة بثيزي عزا التي استأنفت فيها المدافع دويها المتقطع. تبدأ على الجانب الشرقي لهذا الجبل المنطقة التي تفصل بين بلاد الريف بنظامها وحكومتها ومنطقة مليلية التي تخضع للحكم الإسباني. بدت المواقع العسكرية الإسبانية المتبقية مثل نقط سوداء بين التلال المنخفضة والقعور الخضراء والرمادية تحت شمس الربيع. كانت هناك حركة دؤوبة في تيزي عزا حيث دوت المدافع طيلة الصباح. لكن الفلاحين الذين يعيشون بين هذه المنحدرات الجبلية شمال شرق ميضار يشبهون الفلاحين الذين كانوا يعيشون في محيط جبل فيسوفيوس غير آبهين بخطر مألوف ومعتاد. المناسبة، ليس خط الهاتف أكذوبة اختلقها أحد من هؤلاء العرب هنا لغرض التبجح. يوجد بالفعل خط هاتف عسكري يبدأ من ميضار ويمتد تقريبا على طول الممر الذي سلكناه وصولا إلى أجدير وأيث قمرة. إنه نظام فرنسي، أي أن الأجهزة والأسلاك فرنسية، تم جلبها من الجزائر منذ أربعة شهور ثم نصبت بمجهودات مضنية على طول هذه القمم الصخرية منذ بضعة أسابيع فقط».

بخصوص خطوط الهاتف في المنطقة، يتحدث عنها الباحث المغربي، محمد الداودي، شارحا الكثير من النقط على هامش الكتاب الذي قام بترجمته إلى العربية. حيث كتب يقول: « ما يذكره شيين عن مصدر أجهزة الهاتف يفتقد للدقة إلى حد ما. يذكر العميد غوديد الذي جال المنطقة المحتلة مباشرة بعد إخضاع المقاومة بأن الجزء الأكبر من الأجهزة فرنسية، وبعضها الآخر إسباني أو تم اقتناؤه من الخارج. ما يؤكد بأن بعض الأجهزة على الأقل إسبانية المصدر ما يذك غابرييلي بأن الجهاز الذي وجده في زاوية تيغزا بتمسمان (بفرع الزاوية الوزانية هناك) عند لقائه بابن عبد الكريم هو جهاز إسباني. يضيف غوديد بأن الأعمدة إسبانية تم غنمها في المواقع التي انسحب منها الإسبان، أما الأسلاك فكانت تغنم من الإسبان والفرنسيين لكن يتم اقتناؤها أيضا. يقدر غوديد عدد المحطات الموجودة في كامل الشبكة الهاتفية في الريف بسبع وسبعين محطة أو موقعا. لم تستعمل شبكة الهاتف لأغراض عسكرية فقط بل أيضا لأغراض مدنية في الإدارة والتسيير، بل كانت أداة محورية، حسب ريتشارد بينيل، في تسيير شؤون المناطق الواقعة تحت سلطة ابن عبد الكريم».

تجربة أسر «شيين» وكيف راسل الخطابي لإطلاق سراحه

لم يكن دخول الصحافي والمراسل الميداني الأمريكي فنسنت شيين منطقة الريف خلال الحرب ضد الإسبان أمرا سهلا. إذ أن المنطقة كانت تغلي وتتقاذفها الأحداث، رغم الهدوء «الخادع» الذي تبدو عليه الطبيعة المحيطة بالمكان. 

إذ أنه حكى في الصفحات الأولى عن قصة وصوله إلى المغرب وكيف دخل إلى المنطقة وعن بعض الشخصيات التي التقاها، وكيف انتقل مع القافلة ليقطع منطقة التوتر. لكن هذه الطريقة، أي التنقل الجماعي مع قافلة، لم تحمه من خطر الوقوع في الأسر. جاء في هذه الترجمة ما يلي: « 

استفقت على حركة امحمد وهو يهز كتفي بقوة لكي يوقظني. كان الوقت فجرا والبرد شديدا ولا يبشر بخير. ناداني امحمد قائلا:

-«تعال».

ردد امحمد نداءه على مسامعي مرتين أو ثلاثا بينما بقيت ممددا فوق الصخرة عاجزا عن الحركة. كان مسلحان من المطالسة واقفين بمحاذاة الصخرة حيث كنت مستلقيا. وسط الضوء الشاحب لليلة المقمرة، بدا لي المكان خاليا من أي منزل أو كوخ أو خيمة. إنه وضع يبعث على الإحباط. الربوة الصخرية جرداء وعلى حافتها منحدرات ينتهي عندها قاع الوادي الجاف الذي يحد الهضبة تحتنا. قلت وأنا أهبط إلى أسفل المنحدر متعثرا خلف امحمد:

- «ماذا حدث؟»

أجابني قائلا:

- «لقد تم إيقافنا هنا. لا أعلم ما يجري. يريد قائد المطالسة أن يراك». لم يكن جوابه ليوضح الأمور ويخلصني من حالة الارتباك والغموض». 

كانت الفكرة الوحيدة التي تبدو سليمة في ذلك الوقت، الاحتماء داخل مغارة وصفها الصحافي «شيين» وصفا دقيقا جدا. وهنا، يحكي عن الأجواء داخلها: «المكان عبارة عن مغارة صغيرة حفرت في الجرف بشكل غير متناسق بحيث إنه يصعب على طفل صغير الوقوف داخلها مستوي القامة. يصل أقصى علو حوالي أربعة أقدام، ويتناقص هذا العلو إلى ثلاثة أقدام كلما اقتربنا نحو عمق المغارة. أما العرض فيبلغ سبعة أقدام تقريبا حسب ما تبين لي فيما بعد، بينما يبلغ الطول حوالي عشرة أقدام. كانت الأرض مفروشة نبات الأسل. لم يكن ممكنا رؤية أي وجه وسط الظلام، لكن عندما اقتربت وأنا جالس القرفصاء متصالب القدمين نحو ركن خال، سمعت محمدا بن حدو يرفع صوته بنبرة لا تخلو من تشفي:

- «أرأيت الآن أين قادنا جنونك؟»

- «ماذا حدث؟»

- «إلزم الصمت. لا تتحدث بالفرنسية هنا». 

لم تكن لدي أية رغبة في الحديث. حينما اكتشفت بأن عمامتي تصلح لتكون وسادة، قمت بخلعها ووضعتها فوق كومة من البنادق ملقاة عند أبعد ركن داخل المغارة، واستسلمت مجددا لنوم عميق. مع اقتراب وقت الظهيرة، هزني محمد بن حدو وقال آمرا: 

- «قم وتناول الطعام. يريد قائد المطالسة أن يتحدث إليك بعد ذلك».

كان ضوء الشمس المتسلل عبر باب المغارة مائلا ولم يكن كافيا لإضاءة المكان، لكنه كان يضيء الغبار المتطاير في الهواء، وصار بمقدوري رؤية الجالسين الذين اجتمعوا على شكل دائرة. كان محمد بن حدو جالسا بجانبي، ويجلس إلى جانبه امحمد الميضاري. لم يكن هناك أثر لمرافقي سعيد راكب الدابة أو للرجال الثلاثة الذين كانوا يرافقون امحمد. كان هناك رجل عربي ذو مهابة في الأربعين من عمره على ما أظن جالسا أمامي مباشرة ».

تطول تفاصيل هذه المغامرة المثيرة، لكن مقابلة «شيين» مع قائد المطالسة كانت مادة صحافية مهمة له.

إذ حكى كيف أنه عندما قدم نفسه للقائد، سأله ماذا يفعل في المنطقة فأجابه بأنه صحافي يعمل في جريدة، ووجد نسخة من صحيفة إسبانية أظهرها له ليشرح له ما هي الجريدة، تصفحها القائد بيديه النحيلتين كما وصفهما «شيين».

 انتهاء تجربة الأسر، كانت بعد أن راسل الصحافي «شيين» محمد عبد الكريم الخطابي وشرح له وضعه وما حدث له أثناء الرحلة. وجود صحافي في الريف خلال سنة 1925، كان مكسبا لقوات الخطابي بدون شك، ولا بد أن الرجل فطن إلى الأمر، وهكذا تم إطلاق الصحافي ليصبح أول مراسل حربي أجنبي على الإطلاق يكتب عن حرب الريف وينقل للعالم ما حدث من مواجهات بين الجيش الإسباني وكيف تكبد خسائر فادحة على يد قوات الخطابي. 

 

تفاصيل غير مروية من أجواء حرب الريف والقصف الإسباني

استغل الصحافي «شيين» وجوده أثناء الأسر لكي يسمع من الريفيين تفاصيل الحرب والمواجهات مع الإسبان، والتي حدثت قبل وصوله إلى المغرب. كان مهما جدا بالنسبة له أن يسمع ما وقع على لسان الريفيين الذين شاركوا في الحرب أو عاشوا فظاعات القصف الإسباني بالطائرات. فقد سبق له الاطلاع على الرواية الإسبانية في الصحافة. من جملة ما رواه له قائد قبيلة المطالسة: 

«إن الريفي يقاتل بشكل أفضل من أي محارب آخر. فهو يقتل أعداءه حتى يصيبه الإعياء. ذات يوم، أتت طائرة إسبانية إلى بلاد المطالسة وكانت تحلق فوق سوق الثلاثاء على علو جد منخفض. صوبنا نيران بنادقنا نحوها، فسقطت واحترق من فيها بمشيئة الله. لا يملك الريفي أية طائرة لكنه ليس بحاجة إليها. فالطائرة ليست شيئا حسنا. 

ثم استرسل قائلا: 

يدخل الريفي الجنة مباشرة إن مات وهو يحارب الإسبان. سواء أكان رجلا صالحا أم لا. لا فرق بينهما. يرزق المحارب في سبيل الإسلام الجنة إذا استشهد. أما الإسبان فمصيرهم جهنم. مصير كل الإسبان وكل الذين يحاربون محمد بن عبد الكريم هو جهنم».

قيل للصحافي «شيين» وقتها إن هناك احتمالا أن يجبره القائد على العودة إلى منطقة «حاسي ونزكا» في حالة ما إن قرروا إطلاق سراحه، لكنه كان يريد أن يتوغل في الريف ويلتقي الخطابي. 

يقول «شيين» ناقلا ما دار بينه وبين مرافقه «امحمد»:

سألته بدافع الفضول وأنا أتذكر عيون الفقيه المتقدة:

ـ «ماذا يريد سيدي علي أن يفعل بي؟»

قال امحمد:

- «يريد أن يرسلك عائدا لوحدك في اتجاه حاسي ونزكا. لكن القائد یری أن عليهم الانتظار. لا أعرف ماذا سيفعلون».

مشينا لبعض الوقت فوق قمة الربوتين. كانت الجروف التي تطل على الوادي مليئة بالكهوف والمغارات التي حفرها المطالسة في الجبل. ومن حين لآخر، كان يخرج من كل مغارة ملتح ما حاملا بندقيته أو مجموعة من رجال القبيلة يحدقون نحونا بفضول. لم يكن هناك ما يوحي بحالة الحرب في هذه المنطقة باستثناء انفجار القنابل الإسبانية التي كانت تلقيها الطائرات بوتيرة منتظمة. كانت القنابل تلقى في أماكن بعيدة عنا أحيانا، وقريبة منا أحيانا أخرى. ثمة سكون يعم هذه التلال والسهل تحت حرارة الشمس. يوجد في قاع الوادي النهر الوحيد الذي يمكن رؤيته قرب سوق الثلاثاء. مياه النهر معدنية عذبة فيها شيء من الكبريت لكنها نقية وباردة تنساب تحت الصخرة الموجودة عند قدم الجرف . 

لدى عودتنا إلى مغارة القواد، شهدت غارة جوية إسبانية لأول مرة. حلقت طائرة فوق بلاد المطالسة بعد أن قامت بغارات في محيط ثيزي عزا في جهة الشمال الغربي على الأرجح. مرت الطائرة مباشرة فوق المغارات حيث كنا متواجدين، وأسقطت قنبلة على جانب الربوة. دخلتُ المغارة فجلست مجددا في أقصى ركن متكئا على كوم البنادق بينما اجتمع قواد المطالسة على شكل دائرة قرب الجدار. كان من بينهم أربعة أو خمسة قواد جدد لم يسبق لي أن رأيتهم من قبل. لم يوح لي هؤلاء بخصائص تميزهم كثيرا عن بعضهم البعض كما كان الحال مع الخمسة الأوائل الآخرين. أخبرني محمد بن حدو بأن الخمسة كلهم قواد الخمسين. أي أن كل واحد منهم يتزعم فرقة مجندين تتكون من خمسين مقاتلا». 

 

أجدير.. من قلب قرية حيث أذاق الخطابي الويلات للإسبان

استغرق «شيين» صفحات كثيرة للحديث عن الطريقة التي غادر بها مكان «المطالسة» وكيف استطاع بأعجوبة أن يتغلب على رأي القائد الذي لم يكن متحمسا نهائيا في البداية للتعاون مع الصحافي الأمريكي لكي ينقل للعالم ما يقع في حرب الريف، من وجهة نظر الريفيين. 

من تجربة الأسر والبقاء في الكهف مخافة الإصابة خلال القصف الإسباني، مر «شيين» إلى تجربة أخرى أكثر إثارة هذه المرة. قطع الطريق صوب «أجدير»، لكي يلتقي بمحمد عبد الكريم الخطابي شخصيا، وهو سبق صحافي حقيقي في ذلك الوقت. يقول: 

« أمضيت يومين في أجدير أتحدث إلى الوزراء والقواد قبل أن تصلني الأخبار عن قرار الخطابي إن كان سيستقبلني أم لا. في صباح اليوم الثالث من مقامي في أجدير على ما أظن، خرجت من منزل الخطابي لأبحث عن العفريت الصغير الفرجي الذي كان قد خرج بحثا عن السجائر في الكانتينا على الجانب الآخر من الطريق (توجد في أجدير كانتينا تباع فيها سجائر سانية من التبغ الكوبي، من المخزون الذي تم غنمه عند انسحاب الإسبان). وجدت أمام باب المنزل جماعة من الأشخاص اعتدت رؤيتهم بالجوار يجلسون القرفصاء. هي وصف حالتها. أحدهم رث وأشعث وتعيس لدرجة أنه قد يثير الانتباه حتى بين نزلاء منازل العزل التي يُحجر فيها المرضى المصابون بالجذام. كان شاحبا شحوب المريض بالحمى والإرهاق وعيناه الزرقاوان الهزيلتان شاردتان. استنتجت بأنه خادم أو مريض أو أحد أولئك الذين لا يصلحون للجيش. وإلا فإنه كانت ستعطى له الجلابة البنية الأنيقة والمرتبة والقميص الأبيض اللذان يشكلان اللباس الرسمي للحرس الريفي. اندهشت عندما تحدث الرجل إلي بالفرنسية. أن يتحدث أي ريفي بالفرنسية في حد ذاته تميز كبير، لكن أن يتحدثها بتلك الطلاقة فهي مسألة غير معهودة. سارع بالتحدث بحماس معلقا على حالة الطقس كما لو كان مشتاقا للحديث. خاطبته قائلا: 

-فرنسيتك جيدة جدا. 

فأجاب: 

-يا إلهي.. أنا فرنسي. 

إنه هارب من الجندية، أحد أولئك الكثيرين الذين فُقد أثرهم وانتهى بهم المطاف في الريف. بدأنا حديثا مطولا استمر بعد ذلك أثناء جولتنا في اتجاه الشاطئ. حكى لي قصة حياته كاملة. وهي قصة تشبه قصص كل المجندين مثله. عمره اثنا وعشرون سنة. وقد فر من الكتيبة الثانية للجيش الفرنسي في إفريقيا منذ سنتين إلى بلاد وراين». 

كان هذا جانبا من الحياة اليومية في محيط المنزل الكبير الذي كان يسكنه محمد بن عبد الكريم الخطابي في منطقة أجدير، حيث خُصصت غرفة داخله للصحافي الأمريكي «شيين» بينما كان الأسرى الأجانب، مثل حالة هذا الجندي الفرنسي، يستلقون قرب جدران المنزل وبعضهم كانوا مصابين بأوبئة خطيرة كانت منتشرة خلال الحرب، وبعض الناجين منهم أطلق الخطابي سراحهم لكي يعودوا إلى بلدانهم. 

 

هذه قصة الحوار الحصري مع محمد عبد الكريم:

«لا وجود للجامعة الإسلامية وهذه شروط السلام مع إسبانيا» 

يقول «شيين» إنه انتقل لإجراء الحوار مع محمد عبد الكريم الخطابي، وخصص صفحات مطولة للحديث عن مسار هذا المقاوم الريفي ما بين سنوات 1920 و1925، ولا حظ وجود حقول شاسعة لزراعة البطاطس في الطريق المفضية إلى حيث يقيم الخطابي، وقيل له إن زراعة البطاطس كان بأمر من الخطابي نفسه، وهو ما يكشف أنه كان يملك تكتيكا عسكريا متقدما جدا، لحماية السكان من المجاعة والحصار. 

يقول «شيين» متحدثا عن الخطابي، حيث يلقبه بـ«السلطان» في مواضع كثيرة من هذه المذكرات: 

«منزل السلطان مبني من الطين مثل كل المنازل الأخرى، لكنه أوسع، ويقع شمال شرق القرية. هناك طريق تؤدي نحو المنزل وتنتهي عنده. تمر سيارات محمد بن عبد الكريم على هذه الطريق، وهي أفضل من أية طريق أخرى في الريف.

ترجلنا أنا وسيدي محمادي عند الباب الخارجي، حيث ألقى أربعة حراس ريفيين التحية. تحدث إليهم سيدي محمادي فتقدمونا عبر فناء يشبه كثيرا فناء منزل السلطان في أجدير والذي كنت أقيم فيه. يوجد خلف هذا الفناء فناء آخر ينتهي عند باب غرفة حيث كان حارس آخر واقفا. دخلنا تلك الغرفة دون أن نخلع صنادلنا. هي غرفة مربعة وخالية، فيها طاولة وثلاثة أولى الكراسي التي أراها في الريف. على الطاولة أوراق كثيرة، وخلف تلك الأوراق كان يجلس محمد بن عبد الكريم.

نظر إلينا ابن عبد الكريم نظرة متأنية يعاين بلمحة ثاقبة من عينيه البنيتين هذا الزائر الرومي الواقف أمامه أخيرا. محمد بن عبد الكريم ريفي قصير وداكن البشرة، قد يحسب متوسط القامة في أي مكان آخر. يميل جسمه للبدانة. لباسه في منتهى البساطة، جلابة بنية منسوجة من الصوف وقميص من کتان نظيف وناصع البياض. مد يده إلي فلمستها ثم رفعت أصابعي إلى شفتاي كما هي العادة الريفية. قال سيدي محمادي:

 - «يفضل السلطان أن يكون الحوار بلغتنا، وسأقوم بالترجمة إلى الفرنسية».

فحص ابن عبد الكريم الورقة التي أمامه. إنها ورقة الفولسكاب التي كتبت عليها أسئلتي الستة. كانت الورقة مليئة بملاحظات وشروح بالخط العربي كتبت على الهوامش. سبق وأن أخبرني سيدي محمادي بأن وزراء الديوان قد قاموا بدراسة هذه الأسئلة البارحة، وبأنه يمكن اعتبار الأجوبة التي سأتوصل بها نهائية. في سؤالي الأول، طلبت تصريحا بخصوص موقف الريف من الجامعة الإسلامية والعلاقات مع الحركة الإسلامية، إن كانت تلك العلاقة موجودة أصلا.

«الحركة الإسلامية شيء لا وجود له». 

جواب نهائي وحاسم. تكلم عبد الكريم باللسان الريفي وكانت نبرته متوازنة وصوته منخفضا لكنه حازم. لم يحاول التهرب من الأسئلة بل كان كلامه واضحا وصريحا. 

- «لا وجود لحركة إسلامية. أما كل الحديث الدائر عن الجامعة الإسلامية فالهدف الوحيد منه هو بث الهلع في نفوس الفرنسيين والإنجليز لجعلهم يتخذون موقفا معارضا لحكومة الريف في كفاحها ضد إسبانيا. ليست لدينا أية علاقة بأية حركة في المنطقة الفرنسية أو الجزائر أو تونس أو مصر. وليست في نيتنا محاولة إقامة تلك العلاقات. كفاحنا هو كفاح وطني محض وعدونا الوحيد هو إسبانيا. إسبانيا هي التي أرادت ذلك، ولسنا نحن من رغب في الحرب. إذ لا شيء نريده أكثر من السلام مع إسبانيا ومع العالم بأسره.

أشار ابن عبد الكريم إلى أن الوضعية الجغرافية لشمال إفريقيا جعلت من المستحيل إقامة أي تواصل منظم بين المجتمعات الإسلامية. ونفى بإشارة فيها ازدراء، فكرة التحالف بين السلطات الريفية والجماعات الثائرة في الصحراء وسوس أو في المناطق الأخرى في إفريقيا التي تشهد حربا. ثم تابع مجيبا عن سؤالي الثاني حول شروط السلام:

-أما بالنسبة للسلام، فيمكن أن يتحقق كلما توفرت الإرادة لدى إسبانيا. نصبو قبل كل شيء إلى السلام وحرية العمل. ونحن أول من يتمنى من بين كل الأمم أن تعيش إسبانيا في سلام معنا، وأن تكون، إذا أمكن، صديقتنا وحليفتنا. لكن فيما يتعلق بشروط السلام،

لدينا مطالب غير قابلة للاختزال. أولا وقبل كل شيء، يجب إجلاء كل جندي إسباني في المغرب من الأطلسي حتى الحدود الشرقية والانسحاب إلى سبتة ومليلية أو إلى إسبانيا».  «لا شيء سيرضينا إلا الجلاء الكامل عن منطقة الحماية الإسبانية. نطالب بذلك باسم كل الأمة المغربية، فالحماية الإسبانية لم ولن تأتي إلا بالبؤس والخراب لشعبنا».


إقرأ أيضا