تحولت فرنسا إلى بؤرة سياسية، وشرع المرشحان للدور الثاني للرئاسيات الفرنسية، وهما الرئيس المنتهية ولايته إيمانويل ماكرون وزعيمة أقصى اليمين مارين لوبين، في تحركاتهما لمخاطبة الناخبين، وسط تنافس حاد ضمن جولة ستكون حاسمة خلال الأسبوعين المقبلين.
تتقارب نسبة امتلاك أصوات الناخبين بين ماكرون ولوبين في انتظار الحسم في الأسبوع الأخير من هذا الشهر، حيث يكثف كل طرف جولاته الانتخابية الميدانية، كل يحمل سطور برنامج لا تغيب عنه القضايا الاجتماعية والاقتصادية للبلاد.
في هذا السياق، يدور صراع خفي ومحموم بين المغرب والجزائر داخل أروقة قصر الرئاسة الفرنسي، والذي بدأت أصداؤه تتسرب إلى الصحافة الفرنسية والجزائرية، حيث يعمل البلدان على تقوية نفوذهما داخل قصر الإيليزي، والاقتراب أكثر من دائرة القرار.
وعلى الرغم من العلاقة التاريخية والوجدانية بين فرنسا والجزائر، ورغم أن الفرنسيين كانوا يعتبرون الجزائر ابنتهم بالتبني، إلا أن العديد من الماسكين بخيوط القرار السياسي في الإيليزي لهم روابط مع المغرب كرعايا سابقين أو كمهاجرين يفخرون بأصولهم.
تحتفظ العديد من الشخصيات النافذة في القصر الرئاسي الفرنسي، في دواخلها، بذكريات الطفولة والشباب، حين كانت تركض في أزقة مدننا، خلال فترة الحماية الفرنسية أو بعد انبلاج فجر الاستقلال، وتستحضر الأحداث التي تخللت هذا العبور من ذكريات تتجدد كلما لاحت فرصة السفر إلى المغرب. ومع مرور الأيام يتغير الفضاء، فتشكل هذه التحولات الخيط الناظم للذكريات.
ومن خلال تحليل معطيات نتائج التصويت في الانتخابات الرئاسية الفرنسية الأخيرة، نجد أن المصوتين من المغرب فضلوا منح أصواتهم لجون لوك ميلونشون، زعيم حركة فرنسا الأبية، وهو من أصول طنجاوية.
ويحتل فرنسيو المغرب المرتبة الثامنة عالميا من حيث الجالية الفرنسية المقيمة خارج الجمهورية، ويحمل 51 في المئة منهم الجنسيتين الفرنسية والمغربية وفق ما أكدته سلفا معطيات للخارجية الفرنسية.
حسن البصري
نجيب أزرقي.. مغربي خاض غمار الانتخابات الرئاسية بعباءة الدين
حين أعلن نجيب أزرقي، رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي لمسلمي فرنسا، عن ترشحه للانتخابات الرئاسية الفرنسية، قوبل قراره بالشك، واعتبره البعض مجرد أرنب سباق. لكن نجيب برر أسباب دخوله غمار الانتخابات في فيديو نشره على قناة الحزب، مؤكدا أن ترشحه جاء لـ»التصدي لحملة الكراهية التي يتعرض لها مسلمو البلاد، سيما مع ترشح شخصيات يمينية لسباق الرئاسة».
وحدد حزب الاتحاد الديمقراطي لمسلمي فرنسا، بعد ما يقارب عشر سنوات من تأسيسه في 2012، هدفا يتمثل في تقديم مئة مرشح للانتخابات التشريعية المقبلة، وأعلن أنه بالفعل قدم ما يزيد عن ستين مرشحا، معتبرا سياسة الرئيس ماكرون مسيئة للمسلمين والعرب.
وكان أزرقي قام بمحاولات سابقة لدخول غمار الانتخابات الرئاسية قبل ثماني سنوات، رغم إيمانه بأن المعركة ليست متكافئة، قبل أن ينال صفة المشاركة والاستئناس بصخب الحملات الانتخابية.
وتجدر الإشارة إلى أن نجيب البالغ من العمر 42 سنة، يشتغل مهندسا في قطاع الاتصالات، وتربطه بأصوله المغربية وشائج نوستالجيا ضاربة في عمق الزمان والمكان، خاصة حين يستعجل العودة إلى جذوره ليعيش حياة افتقدها في المهجر.
راهن هذا السياسي المغربي الذي عاش طويلا في مدينة نانت الفرنسية، على المساجد والمراكز الدينية لاستقطاب موالين له في الانتخابات الرئاسية، إلا أن الرهان على الدين وحده في تقويم اعوجاج السياسات العمومية الفرنسية لم يجد آذانا صاغية في حملته، لكنه، وحسب بعض خرجاته الإعلامية، مصر على الاستمرار في نهجة دون كلل.
أنس كازيب.. مراكشي سقط من الرئاسيات بسبب ضعف التزكيات
كان النقابي الفرنسي، من أصل مغربي، أنس كزيب يحلم بخوض غمار الانتخابات الرئاسية لشهر أبريل الجاري تتويجا لنشاطه السياسي، لكنه أخفق في الحصول على التوقيعات (التزكيات) الخمسمئة اللازمة لدخول السباق.
كان حلم المنافسة على كرسي الحكم في قصر الإيليزي يأسر أنس، وهو يراهن على أوراقه النقابية لصنع مجد سياسي، لكن اسمه سقط من لائحة الـ12 مرشحا للانتخابات الرئاسية وفق بيان المجلس الدستوري الفرنسي.
ولأن نقابة السككيين تعد مدرسة لتفريخ الزعماء النقابيين، فإن أنس كزيب كان وجها نقابيا وعامل سكة حديد، وابن مغربي هاجر إلى فرنسا في سبعينيات القرن الماضي، كما كانت له قبعة سياسية من خلال انتمائه إلى اليسار التروتسكي الثوري، وهو توجه شيوعي يسعى إلى وضع السلطة في يد الطبقة العاملة، ما يعني أنه يقف على أقصى يسار أبرز مرشحي اليسار المعتدل حاليا في فرنسا في دعوته إلى مناهضة الرأسمالية، وهو طبع عكس مواطنه نجيب أزرقي في توجهاته وتمثلاته للمشهد السياسي.
في حوار مع مجلة «جون أفريك» الفرنسية، كشف كازيب عن انتمائه إلى عائلة يسارية مكونة من خمسة أفراد، وقال إن والده، الذي أحيل على التقاعد ويقطن حاليا في مدينة مراكش، كان مؤيدا لليسار الفرنسي.
كان والده يعمل جنديا مغربيا، وقاتل إلى جانب فرنسا خلال الحرب العالمية الثانية، قبل أن يعبر إلى فرنسا في أوائل السبعينيات حيث حصل على وظيفة في الشركة الوطنية الفرنسية لسكك الحديد، بل إن والده كان مناضلا نقابيا ويعد من قادة معركة قضائية دامت 12 عاما، حين اتهم الشركة الوطنية الفرنسية لسكك الحديد بممارسة التمييز ضد العمال المغاربة. وكانت الشركة الفرنسية وظفت مئات المغاربة في سبعينيات القرن الماضي بصيغة تعاقدية، ليظهر لاحقا أنهم لا يتمتعون بكل الحقوق الوظيفية التي يتمتع بها زملاؤهم الأوروبيون، حسب ما جاء في الصحيفة الفرنسية.
ويعتبر حلم المغامرة الانتخابية تجسيدا للمسار النضالي لأنس كازيب، الذي رأى النور في سارسيل بمدينة سان دوني في الضاحية الشمالية للعاصمة الفرنسية باريس، وهناك تشبع بالعمل النقابي والسياسي.
وبشأن علاقته بالمغرب، قال أنس كزيب، لـ«جون أفريك»، إنه يذهب إلى هناك كل صيف منذ أن كان طفلا. وحاليا، يتردد باستمرار على مدينة مراكش لزيارة والديه المتقاعدين في المدينة الحمراء.
وعن برنامجه الانتخابي المجهض، قال أنس: «نحن نصر على ضرورة أن يأخذ العمال والشباب بزمام الأمور»، مؤكدا أن هذا البرنامج قريب من برنامج المرشحين الآخرين من اليسار المتطرف مثل فيليب بوتو مرشح «الحزب الجديد المناهض للرأسمالية»، وناتالي آرتو مرشحة حزب «النضال العمالي»، لكنهما ترشحا للمرة الثالثة.
ميلونشون.. طنجاوي على أعتاب قصر الإيليزي
لفت النائب الفرنسي، جون لوك ميلونشون، نظر المغاربة، حين وجه عتابا صريحا إلى الحكومة الفرنسية، وظل يسمع صوت المغرب في كل جلسة للجمعية العمومية بحضور رئيس الوزراء الفرنسي، قبل أن يخوض غمار الرئاسيات ويراهن على الفرنسيين القاطنين في المغرب لرفع منسوب أصواته، لكنه لم يعبر للدور الحاسم.
واجه ميلونشون بعض الأصوات المرتفعة من بين بعض نواب الأغلبية بالقول: «نعم المغرب بلد ازديادي ويستحق تقديركم»، بشكل أثار إعجاب وتقدير الكثيرين بالجلسة وعلى مواقع التواصل الاجتماعي.
قصة هذا السياسي الذي يدخل غمار الانتخابات الرئاسية، تستحق أن نتوقف عندها، فقد ولد سنة 1951 في مدينة طنجة، وهو الابن الأصغر لجورج ميلونشون، المدير بمكتب للبريد حينها، وجانين بايونا، المعلمة في مدرسة ابتدائية. كلاهما ولدا بالجزائر الفرنسية، قبل أن ينجبا ابنهما جون لوك في مدينة تحت الوصاية الدولية.
ترجع أصول عائلة ميلونشون إلى منطقة مورسيا الإسبانية، قبل أن تختار الاستقرار في وهران ومنها انتقلت إلى طنجة، حيث استقرت الأسرة الصغيرة وخرج جون إلى الوجود ليتابع دراسته في مدينة متعددة الثقافات، وتحديدا في ثانوية «رينو سانت أولير» بطنجة، وبعد طلاق والديه عاد إلى فرنسا.
ظل ميلونشون يتردد على مدينة طنجة دون أن يلفت نظر الإعلام، إلى أن قرر دخول الانتخابات الرئاسية الفرنسية باسم اليسار الراديكالي، وأعلن نفسه مرشحا لخلافة فرانسوا هولاند، إلى جانب مرشحين آخرين كفرانسوا فيون، وهو وزير أول سابق، وماري لوبين عن الجبهة الوطنية، وإيمانويل ماكرون عن حركة «إلى الأمام»، وطبعا كان هذا «الطنجاوي» يمثل حزب «فرنسا غير الخاضعة»، أو «فرنسا المتحررة». ورغم أن ميلونشون استطاع التقدم بشكل مذهل في استطلاعات الرأي، إلا أن ماكرون ظفر بالأصوات، والأمر نفسه تجدد في سباق أبريل.
ويعتبر ميلونشون من السياسيين الذين يؤمنون بضرورة الدفاع عن العلاقات مع الدول العربية، وقال إن جزءا من مستقبل فرنسا مرتبط بالعرب وأمازيغ شمال إفريقيا.
دومينيك ستراوس.. الطفل الناجي من زلزال أكادير يصبح مؤثرا في الإيليزي
يعرف في الأوساط السياسية باسم «ديسكا»، وهو اختصار لاسمه الكامل دومينيك ستراوس كان. وهو واحد من الشخصيات النافذة في عالم المال والأعمال والاقتصاد والسياسة، وصاحب شعبية كبيرة وواسعة لدى الفرنسيين.
ولد في نويي سور سين، القريبة من باريس سنة 1949، من عائلة يهودية ترجع أصولها إلى مدينة تونس، لكنه عاش سنوات طفولته في المغرب، وبالضبط في مدينة أكادير، التي غادرها مباشرة بعد الزلزال الذي ضربها سنة 1960، متوجها نحو موناكو، حيث تلقى تعليمه الثانوي، قبل أن يغادرها نحو باريس، حيث درس في معهد «كارنو» الشهير، ثم يلتحق بمعهد الدراسات السياسية ويتخرج منه سنة 1972، وهو يتأبط الدكتوراه في العلوم الاقتصادية من جامعة غرب باريس.
دخل ستراوس كان السياسة من باب الحزب الاشتراكي الفرنسي، وتقلد العديد من المناصب والوزارات، من بينها وزارة الصناعة والتجارة الخارجية، وعمودية مدينة سارسيل وحقيبة الاقتصاد والمالية والصناعة، قبل أن يقرر الترشح لرئاسة الجمهورية الفرنسية، ثم ينسحب ليترأس البنك الدولي، أقوى منظمة اقتصادية عالمية.
صحيح أن اسمه ورد بفضيحة فندق «كارلتون»، بعدما اتهمته عاملة فندق في الولايات المتحدة الأمريكية باغتصابها، وهي الفضيحة التي أطاحت بمستقبله السياسي، بعدما تم اعتقاله والحكم عليه بدفع تعويض للضحية.
ورغم أنه عاش طفولته في سوس، إلا أن دومينيك كان على امتداد حياته عاشقا لمدينة مراكش، التي اختارها لقضاء فترات استراحته، كما سبق أن زار المغرب بشكل رسمي، خلال منتدى التنمية البشرية في نونبر 2010 بأكادير، ورفض أن ينعت بصديق المغرب، بل أصر على كونه مغربيا.
ونقلت صحيفة «لو باريزيان» الفرنسية، عن أحد أقارب كان، تأكيده الزواج للمرة الثالثة من سيدة لها أصول مغربية.
نجاة بلقاسم.. من هضاب بني شيكر إلى قصر الإيليزي
في آخر ظهور إعلامي لها، هنأت نجاة فالو بلقاسم، التي شغلت منصب وزيرة حقوق المرأة ووزيرة التعليم في فرنسا سابقا، ثلاث نساء مغربيات تمكنّ من الفوز بعمودية ثلاث مدن مغربية كبرى، قبل أن تنشغل بالبحث الأكاديمي.
توقف القصف الذي استهدفها منذ سنة 2014، حين شنت وسائل الإعلام اليمينية الفرنسية حملة عنصرية ضد المغربية الأصل نجاة بلقاسم، مباشرة بعد تعيينها على رأس وزارة التعليم في الحكومة الفرنسية. تقول نجاة إن العنصرية تتربص بالناس ولا تتصدى لهم إلا إذا جلسوا على كراسي الشهرة.
شبهت مجلة «القيم الحالية» نجاة بـ«آية الله»، فقط لأصولها الإسلامية، واعتبرت تعيينها على رأس قطاع التعليم مخاطرة واستفزازا لمشاعر الفرنسيين. لكن الهجمات ضد نجاة بدأت سنة 2012، حين تم تعيينها وزيرة لحقوق المرأة وناطقة رسمية باسم الحكومة الفرنسية عقب فوز فرانسوا هولاند في الانتخابات الرئاسية.
كان لزوج بلقاسم بدوره نصيب من المناصب التابعة للحكومة الجديدة حيث تم تعيينه مديرا لديوان وزير التقويم الإنتاجي. بعد ذلك انتقلت الأسرة الصغيرة إلى شقة خاصة وضعت رهن إشارة الوزيرة الجديدة، التي، وبالرغم من حرصها الشديد على الفصل بين عملها ووظيفتها كربة أسرة وأم، إلا أنها لم تسلم من صحافة اليمين الفرنسي.
ولأنها وزيرة عربية فقد تعرضت لهجمات عنصرية وصلت حد ترويج خبر انفصالها عن زوجها بوريس فالو، بمبرر أن اسمها في «تويتر» لا يتضمن «فالو»، وهو اسم الزوج الذي سقط سهوا من حسابها على «تويتر» ففجر جدلا في مواقع التواصل الاجتماعي، لكنها ردت تلفزيونيا، حين قالت: «حسابي على موقع التواصل الاجتماعي يعود إلى ست سنوات، في الوقت الذي أنشأت الحساب لم تكن المساحة كافية لوضع اسمي الثلاثي بالكامل فاكتفيت بـ «نجاة بلقاسم»، لتختم بأنها لم تنفصل عن زوجها.
ورغم أن نجاة هاجرت من قرية بني شيكر بالناظور في الريف المغربي، إلى فرنسا سنة 1982 وعمرها لا يتعدى الخمس سنوات، إلا أن هذه المدة لم تمكنها من المناعة التامة ضد الميز العنصري. حصلت نجاة سنة 1995 على شهادة الإجازة في علم الاجتماع الاقتصادي، لكنها قررت استكمال المشوار، حيث التحقت بمعهد الدراسات السياسية في أميان، وحصلت سنة 2000 على شهادة في القانون الدولي، ما جعلها تعبر صوب المحاماة ضدا على رغباتها وميولاتها، إذ كانت تمني النفس بمنصب حكومي لكنها فشلت مرتين في ولوج المدرسة الوطنية الإدارية.
مريم الخمري.. ابنة مدرسة اللغة الإنجليزية في غرفة القرار السياسي
شغلت مريم الخمري منصب كاتبة الدولة المكلفة بسياسة المدينة، وأصبحت ثاني وزيرة مغربية في حكومة فرنسا، إلى جانب نجاة فالو بلقاسم، وزيرة التعليم. ولدت مريم بالعاصمة الرباط سنة 1978، وترعرعت بمدينة طنجة، قبل أن تنتقل إلى فرنسا في سن العاشرة من عمرها، رفقة والدها المغربي وأمها الفرنسية.
ولدت مريم الخمري في العاصمة الرباط وانتهى بها المطاف وزيرة للتشغيل بالعاصمة الفرنسية باريس، بعد المرور عبر مجموعة من المحطات من طنجة إلى لي دو سيفر ثم بوردو. في 18 فبراير 1978، ولدت مريم بالرباط وسط أسرة ميسورة نسبيا، حيث كان والدها يمارس التجارة ويتطلع إلى البحث عن أسواق جديدة في أوربا، وعاشت في وسط يؤمن بالدراسة والتعلم لأن والدتها كانت فرنسية الجنسية، لكنها تدرس اللغة الإنجليزية. فقد ساد البيت جو التعلم، فيما كانت مريم تقضي وقتها في القراءة وممارسة هواية ركوب الدراجة.
انتقلت الأسرة الصغيرة المكونة من الأب والأم وثلاثة أبناء أوسطهم مريم، إلى مدينة طنجة، للضرورة المهنية. أمضت مريم كامل طفولتها بالمغرب، ثم سافرت وعمرها تسع سنوات مع والديها إلى فرنسا، بعد أن قررت الأم العودة إلى بلادها، ورافقها زوجها والأبناء، هناك تابعت البنت تعليمها الثانوي، ثم أتمت تعليمها العالي بجامعة «السوربون» في اختصاص القانون العام.
خلال وجودها في الحرم الجامعي تعرفت مريم على شاب يتحدر من بوردو يدعى لوييك جان، كان يدرس القانون ويتابع تكوينا في المسرح. لاحظت موهبته في الكوميديا ورغبته في دخول عالم التمثيل من بوابة الجامعة، ناهيك عن مواهبه في الكتابة المسرحية، بل إنه لم يكن يتردد في انتقاد المشهد السياسي دون أن يعلم أن صديقته المغربية ستصبح سياسية، وأن علاقتهما ستكلل بالزواج.
بعد ذلك، التحقت ببلدية باريس حيث أسندت لها مهمة الأمن والوقاية من المخاطر الأمنية من قبل العمدة السابق، برتران دو لانوي، قبل أن تتقلد منصب المتحدثة الرسمية باسم العمدة آن هيدالغو، خلال حملتها الانتخابية سنة 2014.
لا علاقة لزوج مريم الخمري بالسياسة، فهو يفضل الانشغال بالكمبيوتر، في عز الحملات الانتخابية، وكأنه غير معني بها، لكنه يحرص على الالتزام بدخول البيت مبكرا، لأنه يعرف انتظاراته كزوج لمسؤولة دائمة الأسفار، لهما ابنتان، إحداهما في الثامنة عشرة من عمرها، تحلم بأن تصبح ممثلة أو كاتبة مثل أبيها، علماً أن مريم الخمري لا تحب الأضواء ولا تثير الجدل وليست لها حياة شخصية صاخبة.
جاك شيراك.. رئيس فرنسي بدماء رودانية
كان لدى جاك شيراك أصدقاء مغاربة كثر، وكانت علاقته بمدينة تارودانت تعود إلى السنوات الأولى من حياته، ولديه أحباء مدفونون في مقبرة عائلية صغيرة هادئة تتوسط المدينة، بالكاد يعرف الناس بوجودها، وجل المحليين الذين يتذكرون الفرنسيين الذين كانوا يزورونها في المناسبات الدينية المسيحية، انتقلوا بدورهم إلى دار البقاء.
في 29 نونبر من سنة 1932، فتح جاك ريني شيراك، وهذا اسمه كاملا، عينيه في مصحة بالمقاطعة الخامسة في مدينة باريس، وأمسكته الممرضة الفرنسية لتقدمه إلى بقية أفراد العائلة الفرنسيين الذين كانوا من الجيل الأول للرعايا الفرنسيين الذين قرروا الاستقرار في الجنوب المغربي بعد إخماد الانتفاضات في وجه الفرنسيين مع بداية الثلاثينيات. وهكذا انتقل جاك إلى تارودانت ليقضي بها سنوات طفولته الأولى، قبل أن يعود من جديد إلى فرنسا.
في حي ضيق وسط المدينة العتيقة، تعلم شيراك أن يخطو أولى خطواته. فتحَ عينيه على المغاربة، فقد كان في منزل والده عدد لا بأس به من العاملات والعمال المغاربة الذين يشتغلون لصالح عائلة شيراك وجيرانهم. كان يتذكر بوضوح ملامح رجل في منتصف العمر كانت مهمته الوحيدة إعداد الشاي لضيوف العائلة.
في سنوات الأربعينيات، انتقل شيراك في ظروف متضاربة إلى فرنسا. وكانت تلك المرة الأولى التي يحط فيها الرحال في موطن أجداده، وربما لا أحد توقع أن ذلك الطفل الذي كبر في بيت صغير وسط الفلاحين والبسطاء في تارودانت جنوب المغرب، سيصبح الرئيس المستقبلي للجمهورية الفرنسية.
في سنوات الثمانينيات، وعندما كان شيراك في منصب عمدة مدينة باريس، كان يأتي إلى تارودانت لإحياء أعياد الميلاد والاحتفال بقداس رأس السنة الميلادية، مستحضرا شريطا طويلا من ذكريات سنوات الطفولة التي قضاها في تارودانت. وبُحكم أنه كان وقتها، أي خلال الثمانينيات، سياسيا فرنسيا بارزا، فإن الملك الراحل الحسن الثاني كان يأمر باستقباله من طرف رجال وزارة الداخلية على عهد إدريس البصري وتخصيص إقامة «الغزالة الذهبية» لكي تكون تحت تصرفه طيلة مدة إقامته في المغرب.
على قبر الرئيس الفرنسي الأسبق إقرار بأنه عاش من 29 نونبر 1932، وتوفي يوم 26 شتنبر 2019. سبع وثمانون سنة تقريبا كانت طويلة وحافلة بالأحداث والأماكن والذكريات، لكنها كانت أطول من ذلك.
في آخر زيارة سنوية له للمغرب، والتي تتزامن دائما مع احتفالات رأس السنة الميلادية، تناقل المقربون من إقامته ما مفاده أن الرجل لم يعد قادرا على المشي كثيرا، وأنه ربما لن يستطيع في تلك السنة زيارة الكنيسة الصغيرة ومقبرة العائلة.
في سنة 1995، شعر شيراك بأن وقت حصد ثمار شعبيته الكبيرة في الساحة السياسية قد حل. وهكذا وضع ترشيحه ليصبح الرجل الأول بعد أن كان الثاني في الصف. ويعلن رغبته في خوض غمار الرئاسيات. حصد شيراك أغلب الأصوات ومر بمبارزة انتخابية شرسة للغاية، لكنه استطاع اجتياز خط النهاية ووصل إلى الإليزي، وفي سنة 2002، أي ثلاث سنوات بعد وفاة الملك الراحل الحسن الثاني الذي كانت لشيراك علاقة مميزة به، جدد الفرنسيون لشيراك ولاية رئاسية أخرى ليستمر رئيسا لفرنسا إلى سنة 2007، ليتقاعد بعدها وتلاحقه تهم جرته إلى المثول أمام المحكمة حيث تابع الفرنسيون أطوار الاستماع لرئيسهم السابق بخصوص قضايا تتعلق بالنفوذ عندما كان رئيسا للجمهورية. لكنه تقاعد بسلام بعد ذلك وابتعد عن الأضواء ليعيش حياة هادئة كان يزور خلالها المغرب بانتظام.
ميشال جوبير.. سياسي فرنسي متنكر في زي مغربي
في مدينة مكناس يمكنك أن تجد لهذا الرجل فضاء يخلد اسمه ويحفر ذكراه في نفوس المغاربة، إنه المركز الثقافي ميشال جوبير الذي يجمع بين الفينة والأخرى المثقفين في لقاءات تطرد الكساد الفكري عن مدينة أفلست فيها الثقافة والرياضة.
ولد جوبير عام 1921 بمكناس، وكان والده مهندسا زراعيا شارك في الحرب العالمية الأولى، فتعرض لإصابة بالغة. لم يكن الطفل ميشال يعرف فرنسا إلا من خلال ما يرويه والده ووالدته من ذكريات، لكنه، مع مرور الأيام، بدأ يكتشف تدريجيا سر وجوده في بلد آخر، حيث عاش عن قرب معاناة المغاربة وفقرهم تحت الاستعمار الفرنسي، فأحب هذا الشعب العربي وأحسن عشرة الثقافة العربية ما طبع سلوكه ومواقفه حين تحمل المسؤوليات الكبيرة في بلاده، وإلى آخر لحظه في حياته.
قضى طفولته وشبابه في المغرب، ودرس في مؤسسات تعليمية بفاس مخصصة لأبناء الأعيان، وحين حصل على شهادة الباكلوريا سافر بقرار من أسرته إلى فرنسا ليتابع دراسته الجامعية في المدرسة الحرة للعلوم السياسية في باريس حيث اختار مهنة المحاماة، وخلال العطل الدراسية كان يعود مسرعا إلى مكناس.
تقلد جوبير عدة مناصب في فرنسا، ومن عجائب القدر أن جوبير فارق الحياة في مستشفى باريسي يحمل اسم جورج بومبيدو، وهو الرئيس الذي كان بمثابة ظله لسنوات طويلة، حيث شغل منصب مدير مكتب جورج، عندما كان هذا الأخير رئيسا للحكومة الفرنسية، في عهد الجنرال شارل ديغول. وبعد انتخاب بومبيدو رئيسا للجمهورية، أصبح جوبير أمينا عاما للرئاسة، وهو منصب استراتيجي من الطراز الأول لأنه يتيح لصاحبه الاطلاع على كل الملفات الداخلية والخارجية، بما في ذلك الملفات الحساسة. ومن هذا المنصب، انتقل ابن مكناس إلى وزارة الخارجية حيث أظهر براعة دبلوماسية نادرة ورؤية لدور فرنسا ولقدرتها على لعب دور دبلوماسي آخر.
عاد لممارسة المحاماة إلى أن اختاره فرانسوا ميتيران وزيرا للتجارة الخارجية، وكان له شرف المشاركة في تعديل دستور الجمهورية الفرنسية، وكلما غادر بوابة الحكومة توجه إلى مكتبه وارتدى بذلة المحاماة.
تختزل شهادة وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، هنري كيسنجر، شخصية جوبير، فقد قال عنه إنه الوحيد الذي يشبهه من بين وزراء الخارجية الذين يعرفهم، رغم أن ميشال وجه انتقاداته للولايات المتحدة ولسياستها في العالم، وكرس أحد كتبه، وهو بعنوان «الأمريكيون»، لنقد منهجي لا يرحم للتوجهات السياسية الأمريكية.
مرة سأل الرئيس ريتشارد نيكسون وزيره في الخارجية هنري كيسنجر وقال له بغضب: «من هو هذا الرجل الفرنسي قصير القامة الذي يقف كالشوكة في حلقي..؟»، فرد عليه كيسنجر: «إنه ميشيل جوبير وهو مولود بمدينة مكناس بالمغرب. وأنا أرتاب في أمره، فلعله عربي متنكر في زي فرنسي».
توفي ميشال جوبير في 25 ماي 2002، بسبب نزيف في الدماغ عن سن يناهز الواحد والثمانين عاما. وفي تأبينه حضر المغرب بعد الإجماع على كونه من أعز أصدقاء الحسن الثاني، بل إنه كتب الكثير عن المغرب وله مؤلف بعنوان: «المغرب في ظل يديه».